مَن يرتكب الجريمة؟
كيف يمكن الإجابة عن هذا السؤال؟ لعل الأمرَ الأكثر بداهةً هو النظر إلى مَن تعتقله الشُّرطة، ومَن يُقاضى ويُعاقب. وهذا يعني أنه لكي نفهم «مَن» يرتكب الجريمة، يمكننا أن ننظر إلى مَن يَمْثُل أمام منظومة العدالة الجنائية. والواقع أن هناك الكثيرَ من الأسباب الوجيهة للبدء على هذا النحو. إن منظومة العدالة الجنائية — وما يمثِّلها من شُرطة، ومحاكم، وسجون، ومُراقَبة، وما إلى ذلك — هي المؤسسات التي أنشأناها في العصر الحديث للتصدي إلى «الجريمة».
يُعزِّز استخدام السجلات الجنائية النقطةَ التي أُثيرَت في الفصل السابق من أن نسبةً كبيرة من السكان سيحصلون على حُكم إدانة في حياتهم. وقد اكتشفَت إحدى الدراسات البحثية الكلاسيكية الطويلة المبكِّرة أن حوالي ثلث الذكور المولودين في عام ١٩٤٥ في فيلادلفيا قد تعرَّضوا للاحتكاك بالشُّرطة في سن الثامنة عشرة. وتوصَّلَت «دراسة جامعة بيتسبرج عن الشباب» التي أُجريَت في فترةٍ أحدَث بكثير من سابقتها أن حوالي ربع المجموعة التي أُجريت عليها الدراسة قد اعتُقلوا بسبب العنف في سن التاسعة عشرة، وحوالي ٢٠ في المائة منهم اعتُقلوا بتهمة السرقة بالإكراه. ووجد تحليلٌ ضخم أجرَتْه الحكومة البريطانية أن ما يقرُب من ثلث الذكور (٣٣ في المائة) وأقل من ١٠ في المائة من الإناث أُدينوا جنائيًّا في منتصف الثلاثينيات من عمرهم.
مرة أخرى، ينبغي أن نتوقف هنا؛ لأن هذه الأرقام تستحق مزيدًا من التدقيق. إذا سألتَ أفرادًا من عامة الناس عن نسبة الرجال الذين يعتقدون أنهم قد أُدينوا جنائيًّا — أي قُبض عليهم، وحوكموا، وثبتَت إدانتهم في محكمة جنائية — أظن أن معظمهم سيتوصَّل إلى نسبةٍ أقل من الثلث، وربما أقل من ذلك بكثير. كما أن ارتفاع النسبة إلى هذا الحد يثبت عدمَ صحة فكرة أن «المجرمين» هم «نوع آخَر» من البشَر يختلفون عن عامة الناس. بل على العكس تمامًا في واقع الأمر. فكما لاحظنا في الفصل الثاني، لا بد أن نركِّز على الجريمة عمومًا. هل من المحتمل أن نتوصَّل إلى إجابة مختلفة لو ركَّزنا على أنواع معيَّنة من الجرائم؟ سنعود إلى هذا السؤال عندما نتناول موضوعَ الجناة الخطِرين ومعتادي الإجرام في موضع لاحق من هذا الفصل.
على الرغم من أن استخدام بيانات الاعتقال أو الإدانة يقدِّم بعض النتائج المثيرة للاهتمام، فبوصولك إلى هذا الجزء من الكتاب، ربما تكون قد لاحظتَ بالفعل وجودَ مشكلة — أو على الأقل قَيْد — في الاعتماد على مثل هذه المعلومات. فنحن نعلم أنه ليست كل الجرائم تتنامى إلى علم الشُّرطة، ومن ثَم تشق طريقَها داخل منظومة العدالة الجنائية (وسنبحث في هذا الموضوع بمزيد من التفصيل في الفصل الرابع). في الواقع، أظهرَت البيانات الرسمية الواردة من المملكة المتحدة أن هُوية الجاني لا يتم التعرُّف عليها إلا في نسبةٍ تقل عن ستة في المائة من إجمالي الجرائم. إذَن ما البديل في ظل هذه القيود؟ الإجابة هي أساليب الاستقصاء، أو ما يُسمى بنهج «الإبلاغ الذاتي»، حيث يُستجوَب الأفراد حول سلوكهم الإجرامي. قد تتساءل: إلى أي مدًى يَصدُق الناس في مثل هذه الأمور؟ وهو تساؤل مشروع. في الواقع، عادةً ما تخلُص التقييمات العلمية التي تُجرى على مدى سنوات عديدة إلى أن دراسات الإبلاغ الذاتي، إذا أُجرِيَت بشكل سليم، تكون موثوقة وصحيحة عمومًا.
ولعل من أقدَمِ الأبحاث المتعلِّقة بالإبلاغ الذاتي دراسةً بريطانية بعنوان «دراسة كمبريدج عن تطوُّر الجانحين»، التي كانت تتابع حياةَ أكثر من ٤٠٠ رجل على مدى أكثر من نصف قرن، بالجمع بين المقابلات الشخصية وتحليل سجلاتهم الجنائية. جاء الصبية جميعًا من منطقة فقيرة نسبيًّا في لندن تسكنها الطبقة العاملة. وكما هو متوقَّع، كان معدَّل انتشار ارتكاب الجرائم المبلَّغ عنها ذاتيًّا مرتفعًا؛ إذ وَجدَت دراسة كمبريدج أن ثلاثة أرباع الذكور ممَّن تتراوح أعمارهم بين العاشرة والثامنة عشرة قد ارتكبوا جريمةً واحدة على الأقل من الجرائم الثماني المحدَّدة. وأبلغَت الغالبية العُظمى من الذكور (٩٤ في المائة) عن جريمة واحدة على الأقل في حياتهم حتى أواخر الأربعينيات من العمر. تتكرَّر هذه النتائج على نطاقٍ واسع في دراسات كبرى أخرى من دراسات الإبلاغ الذاتي وتُبيِّن ببساطة أن ارتكابَ الجرائم شائع جدًّا ولا يقتصر على قلةٍ قليلة من السكان.
قد يكون الأمر شائعًا جدًّا ولكنه أيضًا، بشكل عام، شبابي بالتخصُّص. في الواقع، إن وجود «منحنًى للعلاقة بين العمر والجريمة» هو أمر يُشعِر خبراء علم الجريمة أن بإمكانهم التحدُّثَ عنه بدرجة عالية من اليقين. يشير منحنى العمر والجريمة إلى حقيقةِ أن احتمالية التورُّط في نشاط إجرامي وغيره من أشكال السلوك المعادي للمجتمع تزداد خلال فترة المراهقة، وعادةً ما يبلغ الأمر ذُروتَه في أواخر مرحلة المراهقة، وينخفض بسرعة كبيرة بعد ذلك، مع استمرار عدد قليل نسبيًّا من الأشخاص في ارتكاب جرائم حتى الثلاثينيات أو الأربعينيات من عمرهم، أو بعد ذلك. وقد وُجد هذا النمط العام في أبحاثٍ أُجريَت في بلدان مختلفة، وفي مراحلَ زمنية مختلفة، وبين الرجال والنساء، وضمن جميع الفئات العِرقية. في الواقع، إن العلاقة بين العمر والجريمة قوية جدًّا لدرجة أن منحنى العمر والجريمة غالبًا ما يُوصف بأنه «نتيجة عالَمية».
بالإضافة إلى العمر، وكما رأينا بالفعل، ثمَّة اختلافاتٌ كبيرة للغاية في أنماط ارتكاب الجريمة بحسب النوع. فللرجال النصيب الأكبر من ارتكاب الجرائم ويُهيمنون على جميع مراحل منظومة العدالة الجنائية. وتشير بيانات «تقرير الجريمة الموحَّد» من الولايات المتحدة — التي جُمعت من أجهزة إنفاذ القانون — إلى أن النساء يشكِّلْن نسبةً تتراوح بين ١٠ و٢٠ في المائة من إجمالي عدد المعتقلين ضِمن معظم فئات الجرائم. ويمثِّل الاحتيال النسبةَ الأعلى، والتي تقلُّ قليلًا عن الخُمسَين. والتخريب المتعمَّد للممتلكات والاعتداء المشدَّد هما الفئتان الأخريان الوحيدتان اللتان تُشكِّل فيهما النساء أكثرَ من خُمس المعتقلين. أما بالنسبة إلى جرائم القتل، فتزيد النسبة قليلًا على العُشر.
مرة أخرى، تتكرَّر مثل هذه الاختلافات في الدراسات المعتمِدة على الإبلاغ الذاتي. فقد طرحت دراسةٌ قديمة جدًّا أُجرِيَت في مدينة شيفيلد في المملكة المتحدة، أسئلةً على الأحداث حول مجموعة من الأنشطة. كان بعضهم مجرمين، والبعض الآخَر منحرفين لكن ليسوا مجرمين. لم يكُن هناك سوى اختلافات طفيفة بين الأولاد والبنات في بعض الأمور، مثل التهرُّب العرَضي من المدرسة، والتخريب المتعمَّد للممتلكات، والسرقة من المدرسة. غير أن نسبة الأولاد الذين أبلغوا عن تورُّطهم في جرائمَ جنائية واضحة، مثل السطو، وسرقة المتاجر، والعنف، كانت أعلى بكثير. ووَجدَت دراسة أحدَث وأكبر أُجرِيَت في نيوزيلندا على مجموعة مكوَّنة من ألف ذكر وأنثى، اختلافاتٍ ثابتةً بينهم طوال فترة حياتهم المبكِّرة حتى سن الحادية والعشرين، مع هيمنة الذكور في جميع المراحل العمرية، على الرغم من وجود قَدْرٍ أكبر من أوجُه التشابه بين الجنسَين فيما يتعلَّق بالسلوك المعادي للمجتمع خلال فترة منتصف المراهقة، والجرائم المتعلِّقة بالمخدرات والكحول. غير أن الصورة المتسقة التي قدَّمَها البحث تُشير إلى أن ارتكابَ الجرائم في الأساس نشاط شبابي، يقوم به فتيان أو رجال بلا تَناسُب.
ماذا عن العِرقية والانتماء العِرقي؟ تُظهِر دراساتُ الإبلاغ الذاتي وجودَ مستويات أعلى من التورُّط في ارتكاب الجرائم بين بعض الأقليات السكانية، لا سيَّما بين أصحاب البشَرة السوداء، على الرغم من أن هذه الاختلافات تميل إلى الاختفاء عند الأخذ في الاعتبار الوضعَ الاجتماعي والاقتصادي. فنحن نعلم أن بعض الأقليات العِرقية عادةً ما تُمثَّل على نحوٍ غير متناسب على الأرجح في معظم مراحل إجراءات العدالة الجنائية، إن لم يكُن كلها، بدءًا من الاعتقال وحتى السَّجن. على سبيل المثال، تعادل احتماليةُ القبض على أصحاب البشَرة السوداء بتهمة السطو احتماليةَ القبض على الأشخاص ذوي البشَرة البيضاء في الولايات المتحدة بنحو ست مرات، بينما تصل احتماليةُ التعرُّض للاعتقال بتهمة القتل إلى خمس مرات، وتزيد احتمالية التعرُّض للاعتقال بسبب جرائم الممتلكات عمومًا على الضعف. وعمومًا، يوجد نوعان مختلفان من التفسيرات لمثل هذه التبايُنات الضخمة. فيقترح البعض أن هذا التبايُن هو نتاج زيادة تورُّط أصحاب البشَرة السوداء في الجريمة، وخاصة في أنواع الجرائم التي تصل إلى الشُّرطة. وقد يكون هذا التورُّط الزائد نتيجةً لعديد من الأشياء، بدءًا من الحرمان الاجتماعي والتعليمي العام الذي تُعانيه هذه الفئات، وصولًا إلى تطويرِ ثقافةِ شارعٍ مُعارِضةٍ تزيد من احتمالية نشوب نزاع مع ذوي السُّلطة مثل الشُّرطة.
سعى روبرت سامبسون وزملاؤه في دراستهم عن أحياء مدينة شيكاغو إلى الوصول إلى تفسيرٍ لارتفاع احتمالات ارتكاب أعمال عنف بنسبة ٨٥ في المائة بالنسبة إلى أصحاب البشَرة السوداء مقارنةً بأصحاب البشَرة البيضاء، في حين أن ذوي الأصول اللاتينية الذين ارتكبوا أعمال عنف كانوا أقل بنسبة ١٠ في المائة. ووجدوا أن السياق الاجتماعي للحي يمثِّل عاملًا مهمًّا للغاية في تفسير مثل هذه الفوارق. وخلَصوا إلى أن الفصل الاجتماعي كان مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالتعرُّض للعديد من عوامل الخطر الرئيسة (مثل الفقر، والتفكُّك الأُسَري، وضَعف فرص التعليم، وما إلى ذلك) وعوامل الحماية (كارتفاع التطلُّعات التعليمية، والارتباط بأقرانٍ غيرِ منحرفين، وما إلى ذلك) المرتبطة بالجريمة. إيجازًا، كان الشبابُ أصحابَ البشَرة السوداء الفقراءُ أكثرَ تعرُّضًا لعوامل الخطر الرئيسة وأقل تعرُّضًا لعوامل الحماية الرئيسة، نتيجةً للمكان الذي يعيشون فيه.
وبدلًا من التركيز على الفوارق في التورُّط في الجريمة، يعتمد أحد التفسيرات البديلة على الرأي القائل إن الطريقة التي تُدار بها منظومة العدالة الجنائية تنطوي على عمليةِ انتقاء من شأنها تركيزُ الاهتمام الرسمي على جماعات مُعيَّنة. ومن هذا المنظور، وبشكل أكثر تحديدًا، يُقال إن طريقة إدارة الشُّرطة وعملها تؤدِّي إلى استهداف الملوَّنين، وأن ما يتبع ذلك من ممارسات شُرطية، وادعاء، وإصدار أحكام يؤدي إلى ارتفاع معدَّلات الاعتقال، والإدانة، والعِقاب؛ باختصار، إنها قصة معاملة تفضيلية وتمييزية في إطار سير عملية العدالة الجنائية. ثمَّة احتمالٌ ثالث وهو أن مزيجًا من هذين الموقفين — أي التورُّط التفاضلي وانتقائية المنظومة — يفسِّر التمثيل الزائد للأقليات في منظومة العدالة. وعلى الرغم من عدم وجود توافُق في الرأي بين خبراء علم الجريمة في محاولتهم لتفسير مثل هذه الاختلافات، فإن الاحتمال الثالث هو الذي يحظى بأكبر قَدْر من الدعم فيما يبدو.
لذلك، قبل أن ننتقلَ إلى النقطة التالية، دعونا نلخِّص سريعًا ما سبق. نعلمُ من بيانات كلٍّ من العدالة الجنائية الرسمية والإبلاغ الذاتي أن ارتكابَ الجريمة أمرٌ شائع للغاية، بمعنى أن معظمنا، في مرحلةٍ ما من حياتنا، قد ارتكب بعضَ الجرائم، وإنْ لم تكُن جرائمَ خطيرة للغاية. عِلاوةً على ذلك، تُدانُ نسبة كبيرة من السكان بإدانة جنائية واحدة على الأقل مع بلوغ مرحلة منتصف العمر. لكننا نعلم أيضًا أن هناك أنماطًا أخرى لارتكاب الجريمة. أولًا، وقبل كل شيء: تُرتكَب معظم الجرائم من قِبل الشباب، وبدءًا من أواخر مرحلة المراهقة فصاعدًا، تميل نسبة ارتكاب الجرائم إلى الانخفاض في حياة معظم الناس. ثانيًا: تُعتبَر الجريمةُ في الأغلب نشاطًا ذكوريًّا أيضًا. فبالنظر إلى معظم أنواع الجرائم، تزيد نِسَب تورُّط الفتيان/الرجال عن الفتيات/النساء. ثالثًا، يبدو أن بعض جماعات الأقليات العِرقية ترتفع فيها معدَّلاتُ ارتكاب الجريمة عن غيرها، وإن كان يبدو من المرجَّح أن مفتاح تفسير قَدْر كبير من الاختلافات يكمُن في مزيجٍ ما، يجمع بين عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية، وآلية عمل منظومة العدالة الجنائية ونظام العقوبات.
ماذا عن الدخل/الثروة، والوضع الاجتماعي، والطبقة الاجتماعية؟ كيف ترتبط هذه العواملُ بارتكاب الجرائم؟ نحن نعلم أن الغالبية العُظمى من الجرائم التي تتعامل معها المحاكم الجنائية يرتكبها أشخاص يعيشون في أوضاعٍ فقيرة نسبيًّا. في الواقع، يمكن ملاحظة هيمنة الأشخاص ذوي المكانة الاجتماعية المتدنية في ارتكاب الجرائم، بغضِّ النظر عن كيفية قياس ارتكاب الجرائم. وكما أشار ببساطةٍ عالِمُ الجريمة الأسترالي، جون بريثويت: «يَرتكب البالغون من الطبقة الفقيرة تلك الأنواعَ من الجرائم التي تتعامل معها الشُّرطة بمعدَّلٍ أعلى من البالغين من الطبقة المتوسطة.» لكن أهم ما وردَ في هذه الملاحظة هو «تلك الأنواع من الجرائم التي تتعامل معها الشُّرطة». وماذا عن الجرائم المُرتكَبة على يد المتميِّزين اجتماعيًّا؟ كما ذكرنا سابقًا، سعَت مجموعةٌ من الأعمال والدراسات البالغة الأهمية في مجال علم الجريمة خلال السنوات الأخيرة إلى وَضْع «الأضرار الاجتماعية» — سواء كانت أضرارًا جسدية، أو نفسية، أو عاطفية، أو اقتصادية — في بؤرة الاهتمام الأكاديمي (والاجتماعي). ويذهب البعض إلى أن مِثل هذا النهج يسمح بإيلاء الاهتمام للمشاكل المُتجاهَلة مثل إصابات العمل التي قد تؤدِّي إلى الوفاة، والجرائم البيئية، و«مخالفات» المؤسسات، وغيرها من أشكال جرائم كبار الموظفين، و«الجرائم» التي ترتكبها الدول.
جرائم الموظفين الإداريين
عادةً ما تميل الدولة، وكذا الخبراء الأكاديميون في علم الجريمة، إلى التركيزِ على جرائم معدومي السلطة، دون أصحاب النفوذ والسُّلطة، على الرغم من الأضرار الجسيمة التي تسبِّبها الفئة الأخيرة. لكن ماذا نعرف عن أولئك الذين يرتكبون جرائمَ الموظفين الإداريين؟ من المتوقَّع أن تختلف خصائصهم الديموجرافية إلى حدٍّ ما عن الصورة النمطية للشخص المُدان بالسطو، والعنف، والسرقة، والأضرار الجنائية؛ بعبارة أخرى، تلك الجرائم التي تضِجُّ بها محاكمنا الجنائية. وفي إطار هذا النقاش سنطلق على هذا النوع الأخير من الجرائم «جرائم الشوارع». عادةً ما يكون الجناة من الموظفين الإداريين أكبرَ سنًّا — على الأقل قياسًا على أعمارهم عند صدور أول إدانة جنائية لهم — ويبدو أنهم يشرعون في ارتكاب جرائمهم في مرحلةٍ متأخرة من حياتهم، غالبًا في أواخر الثلاثينيات أو أوائل الأربعينيات. قد يعكس هذا جزئيًّا التعقيدَ النسبي لبعض الجرائم، والدرجةَ الوظيفية في مكان العمل أو الأقدمية المهنية اللازمين قبل التمكُّن من ارتكاب الجريمة. إن البيانات المتعلِّقة بالانتماء العِرقي للجناة من الموظفين الإداريين قليلةٌ للغاية وتشير بالأساس إلى أن المذنبين من ذوي البشَرة البيضاء في الغرب يميلون إلى الهيمنة، لا سيَّما في أشكال الجريمة الأكثر خطورة.
أحدُ المتغيرات الثابتة إلى حدٍّ كبير في كلٍّ من «جرائم الشوارع» وجرائم الموظفين الإداريين هو النوع؛ إذ تشكِّل النساء إلى حدٍّ كبير الأقليةَ في المجرمين في كلتا الحالتَين. وعند تورُّط النساء في جرائم الموظفين الإداريين، تشير الأبحاث إلى أنها في الغالب تكون على مستويات أقلَّ انخفاضًا، وتنطوي بالأخص على جرائم مثل الاختلاس الضيِّق النطاق. وقد يعكس هذا إلى حدٍّ ما الفُرص المتاحة نتيجةً للخلفيات المهنية المختلفة للرجال والنساء في عالَم الأعمال. أما فيما يتعلَّق بالخلفية الطبقية للمجرمين، فيُصنَّف معظم الجناة من الموظفين الإداريين، بطبيعة الحال، على أنهم من «الطبقة الوسطى» بحكم أنهم يعملون في مناصبَ ذات راتب جيد نسبيًّا. غير أنه مع بدء معرفتنا المزيدَ عن أشكال الاحتيال التي ييسرها الإنترنت والتي يبدو أنها تتم الآن بوتيرة متزايدة، فإن تصوُّرنا عن الخلفيات الاجتماعية للمحتالين هو ما قد يتغير (أما ما إذا كنا سنظل نعتبر مصطلح «جرائم الموظفين الإداريين» وصفًا مفيدًا، فتلك نقطة أخرى).
دعونا نختتم هذا الجزء بتأمُّلٍ موجز لحجم الضرر الذي يمكن أن ينجُم عن مثل هذه الجرائم. من المعروف أن تقدير تكاليف جرائم الموظفين الإداريين أمرٌ صعب؛ لا سيَّما أن الضحايا لن يعرفوا في كثير من الأحيان أنهم تعرَّضوا لجريمة. غير أن الأرقام المتوافرة صاعقة. فتُقدَّر تكلفة عمليات الاختلاس الوظيفي واحتيال الموظفين في الولايات المتحدة ﺑ ٨٠٠ مليار دولار سنويًّا، وهذه فقط التكاليف التي يتكبَّدها الضحايا وليست التكاليف المرتبطة بمنع هذه الجرائم ومقاضاة مرتكبيها. ويزيد الرقم الخاص بتزييف المنتجات والقرصنة على ٢٠٠ مليار دولار وتتراوح بين ٤٠ و٨٠ مليار دولار لكلٍّ من الاحتيال التأميني، والاحتيال في البيع بالتجزئة، والاحتيال في التأمين الصحي.
قُدِّر إجمالي تكاليف ضحايا «جرائم الشوارع» — أي جرائم العنف الأكثر شيوعًا، والسطو، والسرقة، وما إلى ذلك، التي تهيمن على المحاكم الجنائية — في الولايات المتحدة بنحو ٨٣٤ مليار دولار، أو ما يقارب التكلفة الإجمالية المذكورة سابقًا للاختلاس الوظيفي واحتيال الموظفين. في الواقع، من المقترح أن يتجاوز إجمالي تكاليف الأضرار المترتبة على جرائم الموظفين الإداريين ١٫٦ تريليون دولار، وأن حتى هذا الرقم يتجاهل الخسائرَ الناتجة عن التأثير النفسي لمثل هذه الجرائم. باختصار، يبدو مُرجَّحًا بشدة أن تكاليف جرائم الموظفين الإداريين تفوق تكاليف جرائم الشوارع بكثير، ولكن تأثيرها أقل بكثير في العدالة الجنائية ولا تحظى بأهمية كبيرة فيما يتعلَّق بشواغلنا أو مخاوفنا بشأن الجريمة، أو الجدل السياسي حولها، أو، في الواقع، محاولات علم الجريمة لقياس مدى انتشار الجريمة.
توزيع الجرائم
لقد أوضحنا أن الكثيرَ من الناس قليلًا ما يرتكبون جرائم، وإنْ كان على مستوًى منخفض. غير أن الأبحاث تُبيِّن أيضًا أن عددًا قليلًا سيرتكب الجرائمَ بشكل متكرِّر وعلى مدى فترات زمنية طويلة، وسيميل إلى ارتكابِ جرائمَ أكثرَ خطورة. إذَن، ماذا نعرف عن توزيع الجرائم وماذا نعرف عن هؤلاء المجرمين؟ إحدى النتائج الثابتة لأبحاث علم الجريمة أن ثمَّة نزعةً إلى استمرارية السلوك المعادي للمجتمع من مرحلة الطفولة والمراهقة وحتى سن الرشد. وعلى حدِّ تعبير أحد الباحثين: «السلوك المعادي للمجتمع في سن الرشد يكاد يتطلَّب فعليًّا سلوكًا معاديًا للمجتمع في مرحلة الطفولة.» قليل من الأشخاص هم مَن يبدءون الانغماسَ في الإجرام في سن الرشد (مع اعتبار الجناة من الموظفين الإداريين استثناءً بديهيًّا)، ولكن، وبالمثل، فإن غالبيةَ الأطفال المعادين للمجتمع لا يمضون قُدمًا ليصبحوا معادين للمجتمع في سن الرشد. غير أن عددًا قليلًا من أولئك الذين يفعلون ذلك سيكون مسئولًا عن قَدْرٍ غير متناسب من الجرائم عمومًا. فقد أشارت دراسةُ فيلادلفيا الكلاسيكية الآنِفة الذكر إلى أن ستة في المائة من إجمالي عدد الذكور المشاركين في الدراسة (ما يعادل نحو ١٨ في المائة من الجناة) شكَّلوا ما يزيد على نصف إجمالي المعتقلين من الأحداث، وكانوا مسئولين عن نسبةٍ أعلى من الجرائم الخطيرة. ووجدت دراسة كمبريدج المذكورة آنِفًا أيضًا أن ستة في المائة من الذكور شكَّلوا ما يصل إلى نصف إجمالي الإدانات حتى سن ٣٢ عامًا.
ويحظى هؤلاء الذين يُسمَّون بالمجرمين «الدائمين» أو «معتادي الإجرام» بقَدْر كبير من اهتمام خبراء علم الجريمة والساسة؛ إذ يُفترض أنه إذا كان من الممكن التعرُّف عليهم مبكرًا والتدخُّل في حياتهم بطريقةٍ ما، إما عن طريق إبعادهم عن طريق الجريمة أو منْعهم من ارتكابها عن طريق سَجنهم، فإن تداعيات ذلك على الحد من الجريمة ستكون مؤثِّرة للغاية. إذَن ماذا نعرف عنهم؟ نحن نعلم أن هؤلاء الذين يُطلق عليهم «معتادي الإجرام» يميلون إلى ارتكاب الجرائم في سنٍّ مبكرة، والانخراط في الجريمة بوتيرة عالية، وعادةً ما يكون لديهم «سجلات إجرامية» طويلة. وتتراوح عواملُ الخطر للانخراط في الجريمة في سنٍّ مبكرة من العوامل الفردية (مثل: انخفاض مستوى الذكاء، وانخفاض التحصيل المدرسي/التعليمي، وفرط النشاط، والاندفاع والمجازفة، والسلوك المعادي للمجتمع في مرحلة الطفولة مثل التنمُّر)، والظروف الأُسَرية (مثل: ضعف الإشراف الأبوي، وأساليب التأديب القاسية، والإيذاء الجسدي للأطفال، وإهمال الأطفال، والنزاع بين الأبوين، والتفكُّك الأسري، والأشقاء الجانحين)، والأقران (وجود أقران يعانون هم أنفسهم من مشاكلَ أو مرفوضين من أقرانهم/غير محبوبين)، إلى عوامل مجتمعية مثل العيش في منطقةٍ ترتفع فيها معدَّلات الجريمة.
تُميِّز مجموعةٌ مؤثرة من الأبحاث، تُنسب في المقام الأول إلى اختصاصية علم النفس الأمريكية تيري موفيت، بين الغالبيةِ العظمى من المجرمين التي يشكِّلها الشباب — أولئك الذين سيرتكبون الجرائمَ بوتيرة متكررة نسبيًّا خلال سنوات المراهقة، ولكن مع نضوجهم ستنخفض نسبةُ ارتكابهم للجرائم ومن المحتمل جدًّا أن يتوقَّفوا — وبين أقليةٍ صغيرة ستستمر في ارتكاب الجرائم خلال سنوات النضج. وتُطلِق موفيت على النوع الأول مجرمي «فترة المراهقة» والنوع الثاني مجرمين «مستديمين مدى الحياة». تتغيَّر طبيعةُ الجريمة التي يرتكبها المجرمون «المستديمون مدى الحياة» بمرور الوقت؛ فربما تبدأ بالتهرُّب من المدرسة وسرقة المتاجر، ثم تتطوَّر لاحقًا عبْر بيع المخدرات، وسرقة السيارات، والسطو، والعنف. ويُقال إن النزعة الأساسية لدى هؤلاء الأفراد تظل ثابتة نسبيًّا، ويتحوَّل مسارها إلى الإجرام مع ظهور فرص جديدة مع تقدُّم الأفراد في العمر. واحتمالات صلاح هؤلاء الأفراد ضعيفة؛ في ظل احتمال إدمان المخدرات والكحول، وضَعف فرص العمل، والتشرُّد، وارتفاع مستويات الإيذاء والإضرار بالغير، وبالطبع، وجود احتكاك ملحوظ مع منظومة العدالة الجنائية.
بخلاف الأنماط الإجرامية المختلفة، ما الذي يميِّز المجرمين «المستديمين مدى الحياة» عن مجرمي «فترة المراهقة»؟ ثمَّة رأيٌ يذهب إلى أن الجناة المستديمين عادةً ما يُعانون عددًا من الاختلالات العصبية والنفسية. والرأي المقترَح في هذا الشأن أن الاضطرابات الدماغية الناتجة عن سماتٍ وراثية، أو سوء التغذية قبل الولادة، أو تعاطي المخدرات، أو التعرُّض لغيرها من المواد السامة، أو نتيجة للتعرُّض إلى اعتداء، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتطوُّر ميول معادية للمجتمع في وقت لاحق. عِلاوة على ذلك، فإن أيَّ خطر ناجم عن السلوك الإجرامي المعادي للمجتمع الذي يظهر في مرحلةٍ لاحقة من العمر يزداد بين هذه الفئة؛ لأنهم أكثرُ عُرضة إلى حدٍّ كبير لأنْ يُولدوا في بيئات، ويعيشوا في ظروف، عادةً ما تُفاقِم المشكلات السلوكية بدلًا من تخفيفها. بإيجاز، تتوالى سلسلة من الأحداث في السنوات الأولى يصعب للغاية تعطيلها أو تجاهلها في مراحلَ لاحقة من الحياة. وقد اعترض عدد من خبراء علم الجريمة على هذا التصنيف النوعي المزدوج بحجة أن معدَّل ارتكاب الجريمة لدى معظم الأفراد، من ناحية، ينخفض على مدار الحياة، حتى لدى مَن يُسمَّون بالمجرمين «المستديمين مدى الحياة»، ومن ناحية أخرى، أنه يمكن تحديدُ أكثر من نمطَين عامَّين أو مسارَين لارتكاب الجريمة. عِلاوة على ذلك، وهو الأهم، لا يزال هناك جدلٌ كبير حول مدى إمكانية «التنبؤ» بالأنماط المستقبلية لارتكاب الجرائم بين المراهقِين الجانحِين المُعرَّضِين لمخاطرَ عالية.
ولكن لا تزال أبحاثُ موفيت مؤثِّرة بشكل كبير وهي جزء من اهتمامٍ متنامٍ في مجال علم الجريمة بالعوامل البيولوجية الاجتماعية التي تؤثِّر على السلوك الإجرامي. ويُستخدم مصطلح «البيولوجي الاجتماعي» للإشارة إلى أنه حيثما يمكن العثور على أساس بيولوجي من نوعٍ ما للنشاط الإجرامي، يتفاعل تأثيره عمومًا مع البيئة الاجتماعية. وباستخدام مجموعة متنوِّعة من الأساليب، بدءًا من دراسات التوائم المتطابقة، مرورًا بتصوير الدماغ، ووصولًا إلى علم الوراثة الجزيئي، نجد توسُّعًا سريعًا في الأبحاث المتعلِّقة بالأساس البيولوجي للعنف على وجه الخصوص. وقد استُخدِمت الأبحاث القديمة، التي تضمَّنَت دراسات عن توائمَ متطابقة، خاصةً الحالات التي جرى فيها فصلٌ للتوائم، لتقييم درجة «قابلية التوريث» التي تنطوي عليها العدوانية والسلوكيات المعادية للمجتمع، وتوصَّلَت بعض الدراسات إلى أن ما يصل إلى نصف التباين في مستويات السلوك المعادي للمجتمع قد يفسِّره التكوين الجيني للأفراد.
واعتَبرت الأبحاثُ التحليلية التي تُستخدم فيها تكنولوجيا التصوير الحديثة قشرةَ الفص الجبهي للدماغ محورَ تركيزٍ مهمًّا للغاية للأبحاث المتعلِّقة بالجرائم العنيفة الخطيرة. وقد اكتشفَت الدراسات وجودَ ضَعف في وظائف الفص الجبهي في أدمغة القتَلة، على سبيل المثال، عند مقارنتها بأدمغة الآخَرين. والسؤال هنا: ما أهمية هذا الأمر؟ يذهب العلماء المَعنِيُّون إلى أن انخفاض وظائف الفص الجبهي مرتبِطٌ بعدد من السمات السلوكية، من بينها انخفاضُ التحكم في العواطف والانفعالات، وزيادة الإقبال على المخاطرة، وفقدان التحكم في النَّفْس، وسوء التقدير، وانخفاض القدرة على حل المشكلات بنجاح، وقد تدفع هذه السماتُ جميعها شخصًا ما إلى الميل نحو العنف. غير أن الكلمة الحاسمة هنا هي «الميل». فلا يمكن ادعاء أن الأداء الوظيفي للدماغ هو العامل المحدِّد للسلوك العدواني أو العنيف، بل هو مجرد عنصر واحد، وإنْ كان على الأرجح عنصرًا مهمًّا ولا يزال لم يُفهم بما فيه الكفاية. لا أحدَ يجادل حقًّا في أن العوامل البيئية أو الاجتماعية تلعب أيضًا دورًا كبيرًا. وبالنسبة إلى البعض، تظلُّ هذه منطقةً مثيرةً للجدل إلى حدٍّ كبير، ولكن لا يوجد ثمَّة شكٌّ في أنها منطقة ستشهد اهتمامًا متزايدًا وتطوُّرات ضخمة في السنوات القادمة.
إنَّ فهْمَ العلاقة بين التأثيرات البيولوجية والاجتماعية أمرٌ بالِغ الأهمية بالطبع. وبصفة عامة، يمكن التفكيرُ في الأمر بطريقتَين. الطريقة التي سبَقَ ذكرُها، التي تُعتبَر الرأي السائد بين معظم الكتابات حاليًّا، هي فكرةُ أن العوامل البيولوجية والاجتماعية تتفاعل بطريقةٍ ما. وهذه هي الفكرة المباشرة القائلة إن عوامل الخطر البيولوجية — على سبيل المثال، تركيب جيني مُعيَّن أو ضَعف في الأداء الوظيفي للفص الجبهي — تتَّحد مع عوامل الخطر الأُسَرية أو الاجتماعية — مثل سوء التربية أو العلاقات مع أقرانٍ مجرمين — بما يؤدِّي إلى زيادة كبيرة في احتمالية انخراط شخصٍ ما في سلوكٍ مُعادٍ للمجتمع. والفكرة الثانية هي ما أطلق عليه اختصاصي علم الجريمة وعلم الأعصاب، أدريان رين، منظورَ «الدافع الاجتماعي». يستخدم رين هذا المصطلحَ للمساعدة في تفسير تلك الحالات، الموجودة في عدد من الدراسات، حيث يفتقر الأطفال إلى عوامل الخطر الاجتماعية التي «تدفعهم» لانتهاج سلوك معادٍ للمجتمع، أو تجعلهم عُرضةً له، ويستخدم مثال القتلة الذين يَنشئون في بيئاتٍ منزلية غير خطِرة. ويرى أنه في هذه الظروف، من المحتمل أن تكون العوامل البيولوجية، على الأرجح، السببَ وراء السلوك المَعنيِّ. يقول رين: «لا يمكنك إلقاءُ اللوم على الفقر، أو الأحياء السيئة، أو سوء معاملة الأطفال طَوال الوقت، أو الحرمان الاجتماعي الذي يُعانيه بشدة العديدُ من القتَلة الذين على الرغم من أن منازلهم لم تكُن مثالية في مرحلة الطفولة، فهي لم تختلف كثيرًا عن منزلي ومنزلك.» ويضيف أنه على النقيض من ذلك، عندما يتعرَّض الشباب بوضوح لعدد من عوامل الخطر الاجتماعية الرئيسة، فقد يُعزى السلوكُ المعنيُّ بالأساس إلى هذه العوامل وليس للعوامل البيولوجية. وحجَّته في ذلك ليست أن علم الأحياء غير ذي صلة في مثل هذه الحالات، بل مجرَّد أن تأثيره يُخفِّف أو يختفي بفعل تأثيرات أخرى.
الإقلاع عن الجريمة
أدَّى اهتمام خبراء علم الجريمة المتزايد بأنماط الجرائم المرتكَبة على مدار الحياة أيضًا إلى تحوُّل اهتمام بعض الممارسين إلى السؤال المهم حول كيفية فَهْم وشرح عملية الكف عن ارتكاب الجرائم، أو ما يُشار إليه بشكل متزايد باسم «الإقلاع عن الجريمة». رأت الأبحاثُ المبكرة في هذا المجال أن التناقُص في مستويات ارتكاب الجرائم بمرور الوقت يمكن تفسيره بالتقدُّم في السن أو عملية النضج — أي إن الأمر يتعلَّق، لعددٍ من الأسباب المحتملة، بمسألة «التوقُّف عن ارتكاب الجرائم لتقدُّم العمر» — أو حتى «الإنهاك». وبالفعل، يحدُث الإقلاع بشكلٍ أساسي في أواخِر فترة المراهقة وأوائل سن الرشد. ولكن يجب توخِّي بعض الحذَر؛ لأن حقيقة أن الإقلاع عن ارتكاب الجرائم سيحدُث قبل هذه المرحلة بالنسبة إلى بعض المجرمين وبعدها، وربما بعدها بكثير، بالنسبة إلى آخَرين، تعني أن العلاقة بين العمر، وعمليات النضج، وأنماط ارتكاب الجرائم هي علاقة مُعقَّدة. إذَن، ما الذي نعرفه في هذا الشأن؟
كما ذكرنا سابقًا، فإن الإقلاع عن الجريمة جزءٌ من معظم «المسيرات» الإجرامية؛ أي إن معظم المجرمين يتوقَّفون بالفعل في النهاية عن ارتكاب الجرائم. فبمرور الوقت ينخفض معدَّل ارتكاب معظم أنواع الجرائم، ولكن ليس بالضرورة جميعها. وكما رأينا، فقد أظهر الكثيرُ من الأبحاث أن ارتكاب الجرائم في مرحلة الطفولة هو أفضل مؤشِّر لنمط ارتكاب الجرائم لاحقًا في سن الرشد، وأنه كلما بدأ الناس في ارتكاب الجرائم في وقت مبكِّر من حياتهم، طالت مسيرتهم الإجرامية المحتملة. وقد أدَّى ذلك إلى مجموعة كبيرة من الأبحاث التي تطرح حُجة «تطورية» واسعةَ النطاق؛ إذ تشير إلى وجود مجموعة من العوامل التي تلعب دورًا في مراحلَ مختلفةٍ من الحياة وتؤثِّر على العمليات التي تهدُف إلى الإقلاع عن الجريمة.
غير أن المسارات المؤدِّية إلى الإقلاع عن الجريمة بعيدةٌ كلَّ البُعد عن البساطة. فيربط أحدُ التفسيرات البالغة التأثير الإقلاعَ عن الجريمة بالاختلافات في أنماط الرقابة الاجتماعية غير الرسمية والروابط الاجتماعية التي لا ترتبط بالعمر بأي حال. وتشير الروابط الاجتماعية إلى تعلُّق الأفراد بالأهداف المقبولة اجتماعيًّا ومدى التزامهم بتحقيق هذه الأهداف بشكلٍ مشروع. ويُشار إلى أن احتمالية ارتكاب الجرائم تتزايد عندما تكون هذه الروابط ضعيفة، وتقل احتماليةُ حدوثها مع زيادة قوة هذه الروابط. ويمكن أن تحدُث «نقاط التحول» المهمة، التي يمكن أن تكون سلبية وكذلك إيجابية، في أي مرحلة من مراحل الحياة. وتشمل الأمثلة الإيجابية أحداثًا مثل الحصول على وظيفة، أو الزواج، أو الدخول في علاقة، أو إنجاب أطفال، مما يساعد على تعزيز الروابط الاجتماعية. وهذه الروابط بدورها تخلُق أنظمةً للالتزام وضَبْط النَّفْس، وتجعل تكاليف التورُّط في الجريمة أو الآثار المترتبة عليه أكبرَ بكثير. ومن هذا المنظور، يضع البالغون محظوراتٍ أكبرَ فيما يتعلَّق بارتكاب الجرائم مع اكتسابهم رأسَ مال اجتماعي نتيجةً لتزايد روابط العمل والأسرة، بغض النظر عن تاريخهم الإجرامي. قد يبدو هذا إلى حد كبير أقربَ إلى حجةٍ مباشرة وبسيطة حول التطور أو «النضج». غير أنه يختلف في جانب واحد على الأقل بالغ الأهمية. فبدلًا من الإشارة إلى نمط من أنماط النضج المباشر والمتوقع، يعتمد هذا المنظور على فرضية أن مسار الحياة لا يمكن التنبؤ به، وأن السياقات الاجتماعية التي تسهِّل أو تُعرقِل الإجرامَ هي متغيرات موجودة دائمًا قد تؤثِّر على حياة الأفراد في مراحلَ مختلفةٍ وبطرق مختلفة.
مَن يرتكب الجريمة؟
يخالف معظمنا القانونَ في مرحلةٍ ما من الحياة، علمًا بأن عدد الرجال الذين يفعلون ذلك يفوق بكثير عددَ النساء، إلى جانب عدد كبير من الشباب، خاصة خلال سنوات المراهقة، على الرغم من أن الغالبية العظمى منهم يتوقَّفون بعد ذلك. هناك بعض المجرمين يستمرون في ارتكاب الجرائم حتى سنوات النضج، بل وربما لمعظم حياتهم. ونظرًا للتأثير غير المتناسب الذي تخلِّفه هذه الفئة الصغيرة على مستويات الجريمة، فغالبًا ما يُعتقد أن أحدَ سبل الحد من مستويات الجريمة يكمُن في تحديد هؤلاء الأفراد والتدخُل في حياتهم بطرُق من شأنها مَنْع جرائمهم أو تقليلها بطريقةٍ ما. لكنَّ قول ذلك أسهلُ من تنفيذه؛ لأن التحديد المُسبق لمَن يُحتمَل أن يمضوا قُدُمًا ليصبحوا مجرمين غزيري الجرائم مُهمةٌ أبعَدُ ما تكون عن البساطة. ويثير تزايدُ الاهتمام بالعوامل الوراثية وغيرها من العوامل البيولوجية الأخرى احتماليةَ استخدام مجموعة متنوعة من تقنيات الفحص لمحاولة تحديد المجرمين الخطِرين المستقبليين المُحتمَلين. وهنا، لا تقل المشاكل الأخلاقية فداحةً عن المشاكل العملية.
وللإجابة عن سؤالنا: «مَن يرتكب الجريمة؟» علينا مرةً أخرى توخِّي الحذَر عند استخدام مصطلحاتنا. ما الذي نعنيه عندما نتحدَّث عن الجريمة هنا؟ في الحقيقة، وفي معظم الأوقات، عندما نطرح مثل هذه الأسئلة، إنما نفكِّر في الواقع في تلك الأنواع العريضة من الجرائم التي غالبًا ما تُحال إلى محاكمنا الجنائية، أيْ جرائم السرقة، والضرر، والعنف المختلفة، تلك التي أطلَقنا عليها (على نحوٍ غير دقيق، في الواقع) اسم «جرائم الشوارع».
وبالتركيز على هذه الجرائم فقط، نميل بالتبعية، مثل منظومات العدالة لدينا، إلى تجاهُل الجرائم التي ترتكبها الشركات والأثرياء. ولا تختلف الإجابة عن سؤالنا اختلافًا كبيرًا فيما يتعلَّق بهذه الجرائم التي يسمِّيها البعضُ «جرائم الموظفين الإداريين» في مقابل جرائم الشوارع. أما فيما يتعلَّق بالجناة، فما زالت الغالبية من الرجال، لكن في مثل هذه الحالات عادةً ما يكونون أكبرَ سنًّا، وأكثر ثراءً (بالطبع)، وأقل عُرضة بكثير للاعتقال، والمحاكمة، والعقوبة. وحقيقةُ أن خضوعهم لعقوبات جنائية أمرٌ مُستبعَد نسبيًّا، على الرغم من الضرر العام الجسيم الذي قد يبدو أنهم مسئولون عنه في كثير من الأحيان، قد لا تخبرنا فقط بالكثير عن أنظمة العدالة الجنائية لدينا، بل تخبرنا بالكثير أيضًا عن أنفسنا.