كيف نقيس الجريمة؟
في الفصل الثاني، ناقشنا سؤالَ «ما هي الجريمة؟» ومع مراعاة جميع التحفظات التي أُثيرت في تلك المناقشة — لا سيما فيما يتعلَّق بأن مصطلح «الجريمة» الفضفاض يخفي بين طيَّاته مجموعةً ضخمة من السلوكيات، وفي أفضل الأحوال، غالبًا ما يكون من الصعوبة بمكان تحديدُه — نوجِّه انتباهنا الآن إلى مسألة القياس. إن ما يريد العامة والسياسيون معرفته عمومًا هو «كم يبلغ حجم الجرائم؟» هل معدَّل الجريمة — سواء بشكل عام أو فيما يتعلَّق بجرائمَ مُعيَّنة — في صعود أم هبوط؟ أودُّ فيما يلي أن أتحدَّث قليلًا عن المقاييس الأساسية التي تُستخدَم عمومًا لحساب عدد الجرائم، وإلقاء نظرة على إيجابيات النُّهُج المختلفة وسلبياتها، وتوضيح سلسلة من الشروط أو المحاذير — «المحاذير الصحية» بالأساس — لتذكيرنا مرةً أخرى بأنه لا يوجد شيء كما يبدو.
في كثير من أنحاء العالَم، تُعتبر الأرقام الصادرة عن أجهزة إنفاذ القانون — التي عادةً ما تتمثَّل في الشُّرطة — هي أقرب تقدير يمكن الوصول إليه لقياس معدَّل الجريمة. وبالنظر إلى أن قوات الشُّرطة تتباين إلى حدٍّ كبير في درجةِ احترافيتها وتنظيمها، فإن أي إحصاءات من هذا القبيل ستتباين أيضًا في طرُق إنشائها؛ ومن ثَم في درجة الموثوقية التي قد تُمنَح لكلٍّ منها. وحتى في الولايات القضائية التي تتمتَّع بقوَّات شُرطة محترفة للغاية، وقواعد واضحة لجمع مثل هذه الإحصاءات والحفاظ عليها، فإنها لا تزال عُرضة لأوجُه قصور كبيرة. ونتيجةً لذلك، جرى البحث عن مصادرِ أدلةٍ بديلة في بعض البلدان في الآوِنة الأخيرة نسبيًّا. ويتمثَّل البديل الأكثر شيوعًا في استخدام طرُق الاستقصاء الحديثة لسؤال عيِّنة كبيرة وتمثيلية من الناس عمَّا إذا كانوا قد وقعوا ضحايا لجرائم، ثم استخدام التقنيات الإحصائية لتقدير معدَّلات الجريمة المحتملة لكل السكان. وعلى الرغم من ميلِ خبراء علم الجريمة إلى اعتبار هذا النَّهج الأخير الوسيلةَ الأكثر موثوقيةً لتقدير الاتجاهات السائدة بمرور الوقت، فإنها أيضًا لا تخلو من المشاكل. وسنبحث تلك النُّهُج أيضًا.
بداية القياس
ولكن لنبدأ أولًا بسردٍ مُوجَز من التاريخ. متى وأين جُمعت ونُشرت أول إحصاءات جنائية وطنية؟ كان ذلك في فرنسا في فترةِ ما بين أوائل القرن التاسع عشر ومنتصفه. كانت نُظُم العِقاب الفرنسية آخِذة في التغيير، وكانت هناك قوة درَك احترافية في طريقها للظهور، وظلَّ هناك قلق كبير بشأن الجريمة وما يُطلق عليه «الطبقات الخطِرة» في فتراتِ ما بعد الثورة. اعتُمدت جوازات السفر وبطاقات الهُوية، وطوَّرَت الدولة الفرنسية تدريجيًّا وسائلَ أخرى لتوثيق السكان، بما في ذلك هذه «الطبقات الخطِرة»، وكان ذلك في البداية من خلال دراسات عن أحوال السجون. بدأت الاستقصاءات الإحصائية الأولى عن الجريمة في عام ١٨٢٥ ونُشرت في عام ١٨٢٧. واستندَت هذه الاستقصاءات الأولية إلى معلوماتٍ مُستمدَّة من المدَّعين العموميين، وتناولَت تفاصيلَ جميع المحاكمات، والأحكام الصادرة عن مختلف المحاكم، بما في ذلك محاكم الجُنَح والمخالفات. وتدريجيًّا، أُدرجت أيضًا معلومات عن الجناة والضحايا، أينما توافرَت.
في هذه المرحلة، ظهَر عالِم الفلك البلجيكي أدولف كوتلي على الساحة. تأثَّر كوتلي كثيرًا بالحركة الإحصائية المتنامية خلال فترة وجوده في فرنسا؛ لذا بدأ العمل على موضوعات ديموجرافية مختلفة وفي الوقت المناسب أسَرَ موضوع الجريمة اهتمامه. وفي غضون فترة قصيرة، كان قد بدأ في دراسة معدَّل حدوث فئات مختلفة من الجرائم، والتكهُّن بأن العلاقة بين تلك الجرائم المعروفة وتلك غير المعروفة (سنعود إلى هذه النقطة لاحقًا) من المحتمل أن تتباين وفقًا لخطورة الجرائم المعنية ومدى اجتهاد منظومة العدالة في سعيها لتحديد المذنبين. واستخدم كذلك الإحصاءات المتاحة بوصفها الأساس للتكهُّنات بأسباب الجريمة — كالفقر على سبيل المثال — ولتحديد أنماط الجرائم حسَب العمر والنوع. وقد كان شخصية متطرِّفة بالفعل، وذلك بسبب إصراره على أن الميول الإجرامية مُوزَّعة على جميع السكان، ولا تقتصر على الطبقات الخطِرة كما كان يُعتقد في العموم.
في الولايات المتحدة، بدأت نيويورك في جمْع الإحصاءات القضائية منذ عام ١٨٢٩ وتبِعها العديدُ من الولايات الأخرى في العقود التالية. استُمدت هذه الإحصاءات أساسًا من التقارير التي كان يرسلها المدعون العموميون أو كتَبة المحاكم الجنائية إلى أحد كبار المسئولين الحكوميين، ولم تكُن عمومًا ذات أهمية تُذكَر. وبدأت الإحصاءات الجنائية الفيدرالية بصفتها جزءًا من التَّعداد السكاني لعام ١٨٥٠، وكان الهدف منها تضمين معلومات حول كلٍّ من السجناء وأعداد المواطنين ذوي الإدانات الجنائية. ولكن، مرة أخرى، لم يُجمع سوى القليل من المعلومات المفيدة عمليًّا في هذه المرحلة.
لم يكُن قبل عام ١٩٢٩ حين نَشرت «الجمعية الأمريكية الدولية لرؤساء الشُّرطة» مجلدًا بعنوان «تقرير الجريمة الموحَّد»، الذي فحص «جميع مراحل سجلات الشُّرطة وإحصاءاتها في إطار ارتباطها بالتقارير الوطنية والحكومية». وبصفتها جزءًا من عملها، فقد وضعَت تصنيفًا «للجرائم المعروفة للشُّرطة» — بإجمالي سبع جرائم — وهي القتل، والاغتصاب القسري، والسرقة بالإكراه، والاعتداء المسلَّح، والسطو، والسلب، وسرقة السيارات. وبدعمٍ من الكونجرس، بدأت التقارير المنتظمة في عام ١٩٣٠، وإن كانت حينها نشاطًا تطوعيًّا، وأُرسلت التقارير في البداية من نحو ٤٠٠ جهاز شرطة عَبْر ٤٣ ولاية إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) الذي كان بمثابةِ مركز لتبادل المعلومات. وفي عام ١٩٧٩، أمَرَ الكونجرس بإضافةِ جريمة ثامنة إلى قائمة برنامج تقرير الجريمة الموحَّد وهي جريمة الحرق العمد. الشيء المهم أن جرائم المخدرات لم تُدرَج على قائمة الجرائم، فيما يُعد استثناءً مهمًّا للغاية عند التفكير في الادعاءات المتعلِّقة بارتفاع معدَّلات الجريمة وانخفاضها. أُجريت تغييرات أخرى في الثمانينيات من القرن الماضي، عندما اجتمع عدد من المنظمات، من ضمنها وزارة العدل، والجمعية الدولية لرؤساء الشُّرطة، ومكتب التحقيقات الفيدرالي، ومكتب الإحصاءات القضائية الذي تشكَّل حديثًا نسبيًّا واقتُرِح عددٌ من التعديلات بما في ذلك تقسيم البيانات إلى فئتَين: تضم الأولى قائمةَ الجرائم التي تغطِّي فئات الجرائم الرئيسة الثماني؛ وتضم الثانية قائمةَ الجرائم التي تغطِّي ٢١ جريمة أخرى يُبلَّغ عنها بوتيرة أقل. وبحلول أوائل القرن الحادي والعشرين، جُمعت بيانات تقرير الجريمة الموحَّد الخاص بمكتب التحقيقات الفيدرالي، على الرغم من أنه لم يكُن مَطلبًا إلزاميًّا على المستوى القومي، من أكثر من ١٨ ألف هيئة تمثِّل أكثرَ من ٩٠ في المائة من السكان.
في إنجلترا، بدأ جمْع الإحصاءات القومية للجريمة في أعقاب صدور قانون إنشاء شرطة المقاطعات والبلديات لعام ١٨٥٦، وهو التشريع الذي أنشأ أخيرًا قواتٍ شرطية محترفةً في جميع أنحاء البلاد. في وقت سابق من ذلك القرن، أدَّت المخاوف المتزايدة بشأن الجريمة إلى دعوات لجمع المعلومات، وابتداءً من عام ١٨١٠ صدرَت تعليماتٌ إلى كتَبة المحاكم بتجهيزِ تقاريرَ سنوية سُجِّل فيها تفاصيلُ ما يقرُب من ٥٠ جريمة. وبعد مزيد من التطورات في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، التي تأثَّرَت كثيرًا بالحركة الإحصائية المرتبطة بأعمال كوتلي في فرنسا، وسَّع قانون عام ١٨٥٦ نطاقَ التقارير الإحصائية لتشمل الجرائم (الخطيرة) التي يُعاقِب عليها القانون والمعروفة للشُّرطة بالإضافة إلى تقارير المحاكم والسجون. وقُسِّمت الجرائم إلى ست فئات: جرائم ضد الأشخاص، وجرائم ضد الممتلكات تنطوي على عنف، وجرائم ضد الممتلكات لا تنطوي على عنف، وجرائم تخريب للممتلكات (الحرق العمد، وتحطيم الآلات، وما إلى ذلك)، وجرائم العملة، وجرائم متنوِّعة (بما في ذلك الشغْب، والتحريض، والخيانة). وبحلول نهاية القرن، استندت التقارير السنوية إلى السنوات التقويمية، وتضمَّنَت ملاحظاتٍ من أمين السجلات الجنائية، وشملت أرقامًا تتعلَّق بالجرائم المرتكَبة في كل ١٠٠ ألف من السكان بما يسمح بالمقارنة بمرور الوقت. وقد كانت الأساس للشكل العام للإحصاءات الجنائية «الرسمية» التي لا تزال تُجمع حتى اليوم.
طُرُق جديدة
في فرنسا، والولايات المتحدة، والمملكة المتحدة ودول أخرى، ظلَّت التقارير الإحصائية الواردة من أجهزة إنفاذ القانون — التي كانت شديدة التبايُن وغيرَ موثوق بها في البداية بلا شك، لكنها خضعت تدريجيًّا لرقابةٍ وإدارةٍ صارمتَين بشكل متزايد — هي المقياس الإحصائي القانوني الوحيد للجريمة حتى الربع الثالث من القرن العشرين. ولكن في هذه المرحلة، تزايدت الشكوك المُثارة حول جدواها. واستُخدمت تقنيات الاستقصاء الحديثة لبعض الوقت لدراسةِ جوانبَ معيَّنة من الجريمة. وبحلول عام ١٩٤٠ في فنلندا، طُرح سؤال في استطلاع للرأي بشأن جرائم الممتلكات. وحدث التطوُّر الأهم في الولايات المتحدة حيث أوصَت «لجنة إنفاذ القانون وإقامة العدل» التي أنشأها الرئيس جونسون بإنشاء مصدر جديد لإحصاءات الجريمة، بعد اكتشاف وجود مجموعة من القيود تُحدِق بنظام تقرير الجريمة الموحَّد الحالي. وأوصت اللجنة بإجراء مسح استقصائي عن ضحايا الجرائم، بسؤال الناس عن تجاربهم مع الجريمة، بدلًا من الاعتماد على تلك الأمورِ التي وصلَت إلى علمِ أجهزة إنفاذ القانون، وسجَّلتها.
بعد تطبيقِ هذا الاستقصاء تجريبيًّا في أواخر الستينيات، أشارت النتائج الأولية إلى ارتفاعِ مستويات الجريمة بكثير عن المستويات التي رُصِدت بواسطة الوسائل القياسية. أُطلق «الاستقصاء الوطني للجرائم» في عام ١٩٧٢، وبعد القليل من إعادة التصميم في عام ١٩٩١ صار معروفًا باسم «الاستقصاء الوطني لضحايا الجرائم». يُجرى الاستقصاء الوطني لضحايا الجرائم سنويًّا، ويُطبَّق على الأشخاص من سن ١٢ عامًا أو أكثر على مستوَى ما يقرُب من ٩٠ ألف أسرة. تظل الأُسَر في الاستقصاء ثلاث سنوات وتُجرى مقابلات مع جميع الأشخاص المُؤهَّلين كلَّ ستة أشهر، إما شخصيًّا أو عبْر الهاتف، بإجمالي سبع مقابلات. في هذا الاستقصاء، يُسأل الناس عن عددِ أيِّ حالات إيذاء، قد يكونون تعرَّضوا لها خلال الأشهر الستة السابقة، وسِماتها. ويجمع «الاستقصاء الوطني لضحايا الجرائم» معلوماتٍ عن الجرائم الشخصية (الاغتصاب/الاعتداء الجنسي، والسرقة بالإكراه، والاعتداءات المسلَّحة وغيرها من الاعتداءات، وسرقة الممتلكات الشخصية)، وجرائم الممتلكات المنزلية (السطو، وسرقة السيارات، والسرقات الأخرى) بغضِّ النظر عمَّا إذا كانت أُبلغت الشُّرطة بهذه الأمور أم لا.
أجرَت أستراليا استقصاءً عن ضحايا الجرائم في عام ١٩٧٥، ثم في عام ١٩٨٣، و١٩٩٣، و١٩٩٨، و٢٠٠٢، و٢٠٠٥. وأشارت مراجعةٌ أُجريت عام ٢٠٠٦ / ٢٠٠٧ إلى حاجة الاستقصاء إلى مرونةٍ أكبر ومزيد من المعلومات المؤاتية أو المنتظمة، وبدأ في عام ٢٠٠٩ استقصاءٌ مُعاد تصميمُه. أُجرِيَ الاستقصاء عَبْر مقابلة شخصية، وكما هو الحال مع الاستقصاءات الأخرى المماثلة، كان يطرح على الناس أسئلةً عن تجربتهم مع الإيذاء نتيجةَ تعرُّضهم لجريمة، مستخدمًا مجموعةً من الجرائم الشخصية وجرائم الممتلكات. وفي المملكة المتحدة، على الرغم من إجراء استقصاء مُصغَّر عن ضحايا الجرائم في ثلاث مناطق من لندن في مطلع سبعينيات القرن الماضي، أُجرِيَ أول استقصاء وطني، يغطِّي إنجلترا وويلز، في عام ١٩٨٢. كان حينها يُطلق عليه «الاستقصاء البريطاني للجريمة»، ومنذ عام ٢٠١٢، بات يُعرف باسْم «استقصاء الجريمة في إنجلترا وويلز»، وأصبح لدى اسكتلندا وأيرلندا الشمالية استقصاءاتهما الخاصة. وأصبح استقصاء الجريمة في إنجلترا وويلز، الذي يُجرى كلَّ عامَين إلى ثلاثة أعوام منذ إطلاقه، استقصاءً سنويًّا متداولًا في السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين. وأخيرًا، ومنذ عام ١٩٨٩، يُجرى «استقصاء دولي لضحايا الجرائم» كلَّ بضع سنوات، ممَّا أتاح لخبراء علم الجريمة رؤيةً متعمقة للمستويات المتباينة للجريمة عَبْر مجموعة من البلدان المتقدمة.
ما مدى موثوقية مقاييسنا؟
على الرغم من وجود مصادر أخرى للبيانات، فإن أجهزة إنفاذ القانون واستقصاءات ضحايا الجريمة هما الطريقتان الأساسيتان لدينا لقياس مستويات الجريمة واتجاهاتها السائدة، من خلال ما توفِّران من معلومات. ومن ثَم ستكون وجهتنا التالية هي النظر بمزيد من التفصيل في سبب الشعور بضرورة إجراء استقصاءات ضحايا الجريمة — ما المشكلات التي لُوحِظت في إحصاءات الشُّرطة/أجهزة إنفاذ القانون — وما الإيجابيات والسلبيات العامة لكلتا طريقتَي القياس؟ لنبدأ بالطريقةِ الأقدَم وهي: تقارير الجريمة الموحَّدة التي جمعها مكتب التحقيقات الفيدرالي في الولايات المتحدة (برنامج تقرير الجريمة الموحَّد)، وإحصاءات الجريمة المسجَّلة من قِبل الشُّرطة في المملكة المتحدة، وما يناظرها في الدول الأخرى. يوجد ما لا يقل عن خمسة «محاذير صحية» رئيسة يجب أخذُها في الاعتبار عند استخدام مثل هذه الإحصاءات.
أولًا: إنها لا تشمل جميعَ الجرائم. فتقارير الجريمة الموحَّدة في الولايات المتحدة وإحصاءات الجريمة التي تسجِّلها الشُّرطة في المملكة المتحدة، على سبيل المثال، تَستبعِد مجموعةً من الجرائم الأقل وطأة، من بينها عددٌ من المخالفات المرورية. ثانيًا: هناك مسألة الاتساق. ففي إنجلترا وويلز على الأقل، لا يوجد سوى ٤٣ منطقة تُشرف عليها الشُّرطة وجميعها يخضع لقَدْرٍ كبير من الرقابة المركزية. لذا من الممكن، على الأقل من حيث المبدأ، أن يكون ثمَّة قَدْر معقول من التشابُه بين القواعد التي تحكم كيفية تسجيل الجرائم عَبْر قوات إنفاذ القانون. ففي الولايات المتحدة، لا يقتصر الأمر على اختلاف القوانين الجنائية في الولايات فحسب، بل يوجد حرفيًّا الآلافُ من أجهزة إنفاذ القانون، يجوز لكلٍّ منها اتخاذ إجراءات مختلفة قليلًا لتسجيل الجرائم. ويسعى نظام «تقرير الجريمة الموحَّد» إلى فرض نظام ممنهج على هذه المجموعة من الأجهزة والإجراءات، ولكن ما يمكن تحقيقه في هذا الصدد محدود.
ثالثًا: لا تحتوي إحصاءات الجرائم المسجَّلة إلا على الأمور التي تبلغ إلى علم الشُّرطة أو أجهزة إنفاذ القانون. وإذا لم يُبلَّغ عن الأمر مطلقًا فلن يُدرج أبدًا في الجدول الإحصائي في نهاية المطاف. لماذا يمكن ألا يبلِّغ الناسُ عن الجرائم؟ ثمَّة مجموعة من الأسباب. فهناك تلك الجرائم التي ليس لها ضحايا مباشرون، مثل: القيادة تحت تأثير الكحول، وحيازة المخدرات، والجرائم المخلَّة بالنظام العام، والتهرُّب من دفْع الأجرة. في هذه الحالات، من غير المحتمل أن يقدِم أحدٌ على إبلاغ الشُّرطة عن الجريمة، وعادةً لا يتم الكشف عن مثل هذه الجرائم إلا نتيجةً لنشاط أجهزة إنفاذ القانون. وهناك أمورٌ يمكن ببساطة اعتبارها تافهةً لا تستحق الاهتمام؛ مثل سرقة مبلغ صغير من المال. وقد يكون السبب ببساطة هو عدم اعتقاد الضحية بأن الشُّرطة يمكنها فعْلُ أي شيء حيال الجريمة، فلماذا يكلِّف نفسه عناء الإبلاغ عنها؟ وأحيانًا يساور الناس الشكوك إزاء الإبلاغ حتى عن الجرائم الخطِرة، مثل السطو/اقتحام المنازل، بسبب قلقهم بشأن وجود أي احتمال لاكتشاف الجاني من الأساس. وبدلًا من ذلك، قد يشعر الضحيةُ ببساطة أن الشُّرطة لن تكون على استعداد لمتابعة الإبلاغ، ربما لشعوره بأن لا أحد سيصدِّقه أو أن الأمر لن يُعتبر بالأهمية الكافية. وقد يخشون الانتقامَ حال الإبلاغ عن الجريمة، أو قد يشعرون بالحرج. وهذا يعني، فيما يتعلَّق بالإحصاءات، أن عددًا كبيرًا جدًّا من الجرائم لا يصل أبدًا إلى أجهزة إنفاذ القانون. ولكن الأسوأ من ذلك، أن رغبةَ العامة في الإبلاغ عن الجرائم ليست مستقرة — إذ تتباين بمرور الوقت — ومن ثَم، وحتى مع الوضع في الاعتبار مسألة عدم الإبلاغ، سيصبح التوصُّل إلى رأيٍ بشأن الاتجاهات السائدة أمرًا بالغ الصعوبة بمرور الوقت.
في اعتقادك، كم يبلغ إجمالي نسبة الجرائم التي تحدُث ولا تُبلَّغ الشُّرطةُ بها مطلقًا؟ الإجابة هي أكثر من النصف. نعم، من كل جريمتين تُبلَّغ أجهزةُ إنفاذ القانون بجريمة واحدة. ولهذا السبب وحده، سنحتاج إلى توخِّي الحذرِ الشديد بشأن استخدام مثل هذه الإحصاءات أساسًا لتقديراتنا للجريمة. لكن، مهلًا، أسمعك تتساءل: «إذا لم تُبلَّغ بها الشُّرطة، فكيف نعرف بوجودها؟» والإجابة: من استقصاءات ضحايا الجريمة، وسنعود لمناقشة هذه النقطة بعد قليل. أما الآن، فلنعُد إلى مواطن القصور التي تشوب هذه البيانات الخاصة بالجريمة.
يتعلَّق «التحذير الصحي» الرابع بتسجيل الشُّرطة للجرائم. لا يمكن افتراضُ أنه سيتم بالضرورة تسجيلُ أمرٍ ما لمجرَّد إبلاغ الشُّرطة به. وتتنوَّع أسباب عدم التسجيل أيضًا؛ إذ تشمل كلًّا من احترافية الشُّرطة في اتخاذ القرارات والتحريف أو «التضليل» غير المقبول في الإحصاءات. فيما يتعلَّق بمسألة التقدير الاحترافي للأمور من قِبل الشُّرطة، غالبًا ما سوف يتعيَّن على الضباط تقييمُ الرواية التي يقدِّمها لهم الضحية، وقد يستنتجون أن هناك إما أسبابًا لعدم تصديق روايته أو ببساطة عدم وجود أدلةٍ كافية تشير إلى حدوث أي جريمة. وقد يشعرون ببساطة أن الأمر قد تم التعامل معه بالفعل على نحوٍ مُرضٍ. وبخلاف هذه الأسباب، فهناك مجموعةٌ من ممارسات الشُّرطة الغامضة من المعروف أنها تؤثِّر على معدَّلات التسجيل، أو على الأقل أثَّرَت عليها في الماضي. ففي إنجلترا، دائمًا ما كان يتبيَّن إخفاقُ ضباط الشُّرطة — أو بالأحرى قوات الشُّرطة — على نحوٍ ممنهج في تسجيل الجرائم ليوفِّروا على أنفسهم عناء العمل أو بهدف تحسين مظهرهم. وكما قال عالِم الجريمة الأمريكي الشهير، دونالد كريسي، ذات مرَّة: «الشُّرطة ملزَمة بحماية سُمعة مُدنها، وعند عجزها عن تحقيق ذلك بكفاءة في ظل الآليات القانونية والإدارية القائمة، فإنه يتحقق إحصائيًّا في بعض الأحيان.» وفي إطار مماثل، تشير أبحاث جيانخوا تشو بشأن صدور إحصاءات الجريمة في مدينة كوانجتشو الصينية إلى أن الانخفاض الكبير في معدَّلات الجريمة في القرن الحادي والعشرين في المنطقة لم يحدُث فعليًّا قط، ولكنه كان نتيجةً للتلاعب بالبيانات، الذي كان يهدُف جزئيًّا إلى المساعدة في تعزيز شرعية الحزب الشيوعي الصيني.
اعتُبر الإخفاق في تسجيل الجرائم على النحو الملائم قصورًا كبيرًا في مثل هذه الإحصاءات في عدد من الولايات القضائية. ففي عام ٢٠٠٩، خلَص تحقيقٌ أجراه أمين المظالم في ولاية فيكتوريا الأسترالية إلى أن النظم والممارسات الإدارية السيئة كانت مسئولة عن انخفاض كبير في تسجيل الجرائم. وفي المملكة المتحدة، وصل الأمر بلجنة برلمانية مختارة إلى نشرِ تقرير بعنوان «حالة تلبُّس: لماذا لا نستطيع التعويل على إحصاءات الجرائم المسجَّلة من قِبل الشُّرطة». باختصار، كشف التقرير عن أدلة موثوقة على عدم تسجيل الشُّرطة للجرائم كما ينبغي؛ ونتيجةً لذلك، طُلب من الجمهور ألا يثقَ في هذه الإحصاءات.
التحذير الصحي الرئيس الخامس والأخير يتعلَّق ببساطة بممارسات الشُّرطة عمومًا. وأقصد بهذا أنه من الممكن أن تخبرنا الإحصاءات التي تجمعها أجهزةُ إنفاذ القانون عن حجم أجهزة إنفاذ القانون وممارساتها وطبيعة عملها، أكثرَ ممَّا تخبرنا عن طبيعة الجريمة ومداها. على سبيل المثال، إذا زاد حجم قوات الشُّرطة لدينا بشكل كبير، فهل سيحد ذلك من الجريمة — عن طريق الكشف والردع — أم سيزيدها من خلال المبدأ البسيط الذي يتمثَّل في وجود المزيد من الضباط المتاحين لكشف الجرائم وتسجيلها؟ الأدلة على هذه الأسئلة مختلِطة. ففي الوقت الحالي، تبدو المؤشرات قليلةً على أن وجودَ المزيد من رجال الشُّرطة يعني مزيدًا من الجرائم المُسجَّلة. وعلى الرغم من وجود بعض الأدلة التي تشير إلى احتمالية أنْ تؤديَ زيادة عدد رجال الشُّرطة إلى تقليل الجرائم، فهذا الأمر بعيدٌّ كلَّ البُعد عن كَوْنه استنتاجًا قائمًا على أساس صلب. الفكرة هنا ببساطة هي أنه لا بد أن يتقبَّل المرء، على أقل تقدير، حقيقةَ أن الإحصاءات من هذا النوع تتأثَّر حتمًا بطبيعة ممارسات الشُّرطة، خاصة فيما يتعلَّق بتلك الجرائم التي تميل إلى الاعتماد على عمل الشُّرطة — بدءًا من جرائم المخدرات إلى مخالفات المرور — أكثرَ من بلاغات الضحايا.
كلُّ هذا يعيدنا إلى السؤال الذي أُثير سابقًا. من أين لنا بنسبة الجرائم التي تُبلَّغ بها الشُّرطة؟ والإجابة هي أننا قادرون على استخدام مقياسنا الرئيس الآخَر — ألَا وهو استقصاءات الجرائم — بوصفه أساسًا لمثل هذا التقدير. فمن خلالِ طرحِ أسئلة على عيِّنة كبيرة وتمثيلية على نطاق واسع من السكان عن الجرائم، إن وُجدَت، التي تعرضوا لها خلال الأشهر الستة إلى الاثنَي عشر الماضية، وطرحِ مجموعة من أسئلة المتابعة التي تتضمَّن ما إذا كانوا قد أبلغوا الشُّرطة بالجريمة أم لا، يمكن حسابُ المستويات الإجمالية للجريمة.
استقصاءات الجرائم
تتمتَّع استقصاءات ضحايا الجرائم بعدد كبير من المزايا مقارنةً بإحصاءات الجرائم التي تسجِّلها الشُّرطة/تقارير الجريمة الموحَّدة وما شابَه. لعل أبرزَ هذه المزايا أنها تتلافى معظمَ عيوب الأرقام المستمَدة من أجهزة إنفاذ القانون. فاستقصاءات الجرائم لا تعتمد على البلاغات التي يقدِّمها العامة إلى الشُّرطة. ولا تتأثر بما إذا كان مسئولو إنفاذ القانون يسجِّلون الجرائمَ بدقة أم لا. كما أنها تشمل مجموعة واسعة من الجرائم — استنادًا إلى تقييمات الضحايا للجريمة وليس ضباط الشُّرطة — على الرغم من أننا سنرى أن مثل هذه الاستقصاءات لا تشمل بأي حال من الأحوال جميعَ الجرائم. ولا تتأثَّر تقديرات استقصاءات الجرائم بشكلٍ مباشر سواء بممارسات الشُّرطة وسياساتها، أو بعدد ضباط الشُّرطة المتاحين لكشف الجرائم أو تسجيلها. أخيرًا، ونظرًا لكونها تستند إلى منهجية قوية ومستقرة — إذ تُجرى بالطريقة ذاتها عامًا بعد عام — فهي تمنح الإحصائيين درجةً عالية من الثقة في دقة قياس التغييرات التي تطرأ بمرور الوقت. ولهذه الأسباب يميل خبراء علم الجريمة إلى الاعتماد على بيانات استقصاءات الجرائم أكثرَ من المصادر الأخرى عند السعي لتقدير مستويات الجريمة واتجاهاتها.
بالرغم من كل هذا، وكما هو الحال مع أي مجموعة من البيانات، هناك أيضًا «محاذير صحية» يجب إقرارها وفهْمها فيما يتعلَّق باستقصاءات الجرائم. أولًا، كما أشرنا سابقًا: لا تُحصي استطلاعاتُ الجرائم أيضًا جميعَ الجرائم. فجرائم القتل أو القتل العمد، بالطبع، لا يمكن قياسها بحُكم طبيعتها من خلال استقصاء لضحايا الجرائم! ثم هناك تلك الجرائم التي أشرنا إليها سابقًا والتي قد يُعتقد عمومًا أنها «بلا ضحايا»، مثل حيازة المخدرات أو حتى بيعها. وفي هذه الحالات، لا يوجد أحد من المحتمل أن يخبرَ باحثًا بأنه كان «ضحية» لجريمة، وفي هذه الحالات نميل إلى الاعتماد على دراسات الإبلاغ الذاتي من أجل وضع تقديراتنا. وهناك أيضًا تلك الجرائم التي تظل مَخفيَّة جزئيًّا عن الأنظار. فالاعتداءات المنزلية، على سبيل المثال، ظلَّت لمدة طويلة مُحاطةً بسياج من الخِزي والسِّرِّية لأسباب متنوِّعة. قد يكون ذلك في طَوْر التغيير الآن، وإن كان ببطء، ولكن المؤكَّد أنه لا يزال هناك انخفاض كبير في حالات الإبلاغ عن مثل هذه الأشكال من الإيذاء في استقصاءات الجرائم.
أدَّى انتشار الإنترنت في العقود القليلة الأخيرة إلى ظهورِ مشكلة أخرى تتعلَّق باستقصاءات الجرائم، والتعرُّف عليها. إيجازًا، يبدو أن استقصاءات الجرائم قد أخفقَت ببساطة في مواكبةِ ما قد يمثِّل تغييرات مهمة جدًّا في طبيعة الجريمة. فهناك عددٌ ضخم من حالات السرقة والاحتيال، على سبيل المثال، تحدُث الآن عَبْر الإنترنت وليس «وجهًا لوجه» أو داخل أماكنَ حقيقية. ففي العموم لم تَطرح استقصاءاتُ الجرائم أسئلةً عن مثل هذه الأنواع من الجرائم «على وجه التحديد»، وعلى أي حال، لا يَعرف الناس دائمًا أنهم قد وقعوا ضحايا لمثل هذه الجرائم. لقد بدأت استقصاءات الجرائم في اللحاق بالرَّكب، وإن كان ببطء، لكن يبدو أنها ربما كانت تسجِّل عددًا أقلَّ من العدد الفعلي للجرائم بشكل خطير لبعض الوقت. وسنتطرَّق إلى هذه المسألة في الفصل الخامس.
المجموعة الثانية من الإشكاليات الرئيسة لاستقصاءات الجرائم تتعلَّق بإجراءاتِ أَخْذِ العينات. باختصار، على الرغم من الحرص الشديد على محاولة التأكُّد من أنَّ عددَ الأشخاص الذين تُجرى معهم مقابلاتٌ كبيرٌ بما يكفي للسماح بالتعميم، وتمثيلية بما يكفي للتعبير عن السكان بشكل عام، لا يزال هناك عددٌ كبير من أوجُه القصور. بادئ ذي بدء، عادةً ما تستبعد الاستقصاءات أولئك الذين يعيشون في مساكنَ غير مألوفة، بمَن في ذلك أولئك الذين ينامون في العراء، أو يعيشون في كرفانات، أو نُزُل، أو دُور مسنين، وأفراد القوات المسلَّحة المقيمين في الثكنات العسكرية، والطلاب الذين يعيشون في السَّكَن الجامعي، ونزلاء السجون. فباستبعاد نزلاء السجون في الولايات المتحدة، يُستبعد جزء كبير إلى حدٍّ ما من السكان — أقل بقليل من واحد في المائة — وبالطبع، تمثِّل هذه النسبة جزءًا صغيرًا من السكان من المرجَّح أن تكون لديه تجربةٌ خاصة جدًّا مع الجريمة. ثالثًا، مثل هذه الاستطلاعات هي استطلاعات للأفراد. أي إنها لا تشمل المؤسسات. فهناك مجموعة من الجرائم لن تغطيَها استطلاعات الإيذاء القياسية، تتراوح من الجرائم العادية ولكنها شائعة مثل سرقة المتاجر، إلى الجرائم الأقل شيوعًا ولكنها قد تتسبَّب في حدوث أضرار بالِغة مثل الاحتيال الواسع النطاق. وتُجري بعضُ البلدان — من بينها أستراليا، وإنجلترا، وويلز — استقصاءاتٍ عرَضية عن ضحايا الجرائم التجارية أو جرائم المؤسسات، ولكن هذه الاستقصاءات غير منتظمة ومحدودة النطاق نسبيًّا.
تتعلَّق الإشكالية الرئيسة الأخيرة في استقصاءات الجرائم بالمشكلة المزدوجة المتمثِّلة في مدى تذكُّر الضحايا ومعدَّل تَكرار الجريمة. كيف تتعامل الاستقصاءاتُ مع حقيقةِ أن بعض الناس لن يتعرضوا لأي جريمة، أو جرائم قليلة للغاية، وأن أقلية محدودة ستقع ضحيةً لجريمة مرات عديدة وقد تعاني لتتذكَّر بأي قَدْر من الدقة متى وقعَت الأحداث وبأي وتيرة؟ على سبيل المثال، قد تتعرَّض النساء المعنَّفات للعنف والترهيب باستمرار نوعًا ما، بحيث يصبح التمييز بين الحوادث الفردية مستحيلًا. وتستخدم الاستقصاءاتُ المختلفة تقنياتٍ مختلفة للتعامل مع ما يُشار إليهم بضحايا الإيذاء «المتعدِّد»، أو «المتكرِّر»، أو «المتسلسِل»، لكنَّ محصلة كلٍّ منها هي تسجيلُ الجرائم بأقلَّ من عددها الفعلي، وفي بعض الحالات يصِل ذلك إلى حدٍّ خطير. في الواقع، أدَّت إعادةُ تقييم «الاستقصاء الوطني لضحايا الجرائم» في محاولة لمراعاة هذا الإحصاء المنقوص إلى زيادات تقديرية في معدَّل جرائم العنف بشكل عام بنسبة تتراوح بين الربع والثلث، وزيادة تقديرات الاغتصاب والاعتداء الجنسي بأكثرَ من النصف. ومؤخرًا ظهرَت نتائجُ مماثلة في إنجلترا.
إذَن، ماذا نستنتج؟ من الواضح أننا في الآونة الأخيرة قد استثمرنا قدرًا كبيرًا من التفكير والمال في قياس الجريمة. فقد صارت إحصائيات أجهزة إنفاذ القانون الآن محكومةً بعناية أكبرَ بكثير من أي وقت مضى. ونتيجةً لذلك صارت أيضًا أدقَّ بكثير من ذي قبل. بالمِثل، كلما زاد حذرُنا في إدارة مثل هذه الإحصاءات وفحصِها، كشفنا المزيدَ من أوجُه قصورها. وعلى الرغم من الجهد الذي بُذل لتحسين موثوقية مثل هذه الإحصاءات، ثمَّة حاجةٌ واضحة لمصادرَ بديلةٍ للمعلومات، وهنا يأتي دور استقصاءات الجرائم أو الإيذاء. ورغم أن مصادر البيانات هذه أكثرُ موثوقية على عدة أصعدة، فهي أيضًا لا تخلو من المشاكل.
باختصار، دائمًا ما تكون صورتنا عن مستويات الجريمة واتجاهاتها السائدة منقوصة. ونحن الآن لدينا درايةٌ أفضل بكثير ممَّا كنا عليه في السابق في هذا الصَّدَد، وفي تعبيرٍ موازٍ لمقولة دونالد رامسفيلد، نحن نعرف المزيدَ عمَّا نعرفه وما لا نعرفه. ومن المؤكد أن امتلاك عدة مصادر للبيانات أفضلُ من امتلاك مصدر واحد فقط، واعتماد نظرة دائمة الشك تجاه أي ادعاءات تُقدَّم هو بلا شك موقفٌ عقلاني. لكنَّ الشك لا يعني رفْضها. ففي حين أن الإحصاءات ليست موثوقة إلى حدٍّ تام، ويمكن بالتأكيد التلاعبُ فيها بشكل طفيف، فهناك الكثير من بيانات الجريمة لدينا ذات قيمة كبيرة، خاصة في مساعدتنا على فهمِ الاتجاهات العامة السائدة في الجريمة على مَرِّ الزمن. وفي الفصل التالي، سنوجِّه اهتمامنا إلى هذه الاتجاهات السائدة.