فهمُ الاتجاهات الحديثة السائدة في الجريمة
ماذا يحدث للجريمة؟ يُعتبر هذا السؤال واحدًا من الأسئلة البديهية التي تشغَل اهتمامَ العامة. هل تتحسَّن الأمور أم تسوء، وعلى أيِّ نحو؟ تتمثَّل الخطوة الأولى في معرفةِ ما تخبرنا به أنواعُ القياس المختلِفة لدينا عن الاتجاهات السائدة في الجريمة. وفي حال قدَّمت هذه القياسات صورًا متشابهة، فسيكون لدينا درجةٌ من الثقة في أن الاتجاهات السائدة المحدَّدة تحمل علاقةً ما بالواقع. وإذا اختلفت في جوانبَ مهمة، فعلى الأقل سيجعلنا ذلك نفحص الاتجاهات السائدة بعناية أكبر.
ثمَّة صعوبة أكبر إلى حدٍّ ما في تجميع الاتجاهات السائدة في أستراليا نظرًا لصعوبة الحصول على أرقام متسقة على مستوى البلاد. وتشير البيانات المتاحة إلى أن جرائم العنف والممتلكات المسجَّلة قد ارتفعت خلال السبعينيات والثمانينيات. وكانت عمليات السطو وسرقة السيارات مستقرةً إلى حدٍّ ما، بل وانخفضت في بعض الولايات في التسعينيات، ثم تدنَّت مستوياتها بسرعة في بداية الألفينيات. ويبدو أن جرائم القتل والسرقة بالإكراه آخِذة في الانخفاض منذ مطلع القرن الحالي، مما جعل معدَّل الجرائم المسجَّلة أقلَّ في عام ٢٠٠٩ ممَّا كان عليه في منتصف التسعينيات بنحو ٣٠ إلى ٤٠ في المائة.
بالنظر إلى أن مصدَري البيانات الرئيسَين يبدوان، بوجه عام، متفقَين، وأن الاتجاهات العامة السائدة في الأنظمة الديمقراطية الغربية الأربعة المدروسة تبدو جميعها متوافقة على نطاق واسع، يتبقَّى لنا على الأقل سؤالان مهمان: أولًا: لماذا ارتفعت معدَّلات الجريمة في العقود الأولى بعد الحرب العالَمية الثانية؟ ولماذا انخفضت خلال ١٥ إلى ٢٥ عامًا الماضية؟
أولًا: هناك اعترافٌ محرِج، أعني محرِجًا لخبراء علم الجريمة! إن ارتفاع الجريمة ارتفاعًا مطردًا في سنواتِ ما بعد الحرب كان بمنزلة مفاجأة للكثيرين. فقد كان المتوقَّع أن تنخفض معدَّلات الجريمة، مع زيادة ازدهار المجتمعات، واستقرار اضطرابات الحرب، ومع تحقيق العمالة الكاملة أو شِبه الكاملة. ولكن كما نعلم الآن، لم تزددِ الجريمة فحسب، بل ارتفعت ارتفاعًا صاروخيًّا، وذلك بالطبع وفقًا لإحصاءات أجهزة إنفاذ القانون. حينها كرَّس خبراءُ علم الجريمة الكثيرَ من اهتمامهم في أواخر القرن العشرين لمحاولات تفسير الارتفاع الشديد في معدَّلات الجريمة في سنواتِ ما بعد الحرب. وسنتحدَّث عن هذه التفسيرات بعد قليل. غير أنه في هذه المرحلة، لا يتحسَّن الوضعُ كثيرًا. وعلى غرار الاقتصاديين والانهيار المالي في الآوِنة الأخيرة، فشل خبراءُ علم الجريمة أيضًا في توقُّع انخفاض الجريمة. وبدا معظمهم مقتنعين بأن الآمال في انعكاس مسار الجريمة التصاعُدي ضئيلة، وربما ليس لها وجود على الإطلاق. لكن يبدو أن هذا هو بالضبط ما حدث. ويتسابق الجميع الآن لتفسيرِ سببِ انخفاض الجريمة — بافتراض موافقة المرء على أنها كذلك (فلا يوافق الجميع على ذلك) — وسنبحث هذا الأمرَ في الفصل السادس. لكن أولًا علينا طرح السؤال التالي: لماذا يبدو أن هناك زيادةً ضخمة كهذه في الجريمة بدءًا من الخمسينيات والستينيات فصاعدًا؟
الارتفاع الشديد في الجريمة بعد الحرب
لا بد أن نتساءل لماذا زادت معدَّلات جرائم العنف في المدن زيادةً كبيرة خلال العَقد الماضي بالرغم من عدم تدهوُر الظروف التي من المفترض أن تتسبَّب في حدوثِ جرائمَ عنيفة، بل إنها قد تحسَّنَت بشكل عام؟ يشير مكتبُ الإحصاء، في تقريره الأخير عن الاتجاهات السائدة في الظروف الاجتماعية والاقتصادية في المناطق الحضرية، إلى أن معظم «مؤشرات الرفاهية تشير إلى حدوث تقدُّم في المدن منذ عام ١٩٦٠».
كانت اللجنة، بطرحها السؤال بهذه الطريقة، تضع افتراضًا اجتماعيًّا ضخمًا وتعكس أيضًا الرؤيةَ التي كان يتبنَّاها معظم الخبراء في أمريكا وخارجها في ذلك الوقت بشأن الجريمة. كان مُفاد هذا الافتراض أن معدَّلات الجريمة مرتبطة، بطريقةٍ ما، بالفقر وفرص الحياة، وأنه كلما زاد الازدهار بعد الحرب، حتمًا ستنخفض الجريمة. وبحلول أواخر الستينيات، كان من الواضح أن هناك ارتفاعًا ملحوظًا في الجريمة آخِذًا في الظهور. ولم تكُن اللجنة تعلم أن معدَّلات الجريمة في أواخر الستينيات ستتضاءل مقارنةً بما كان يلوح في الأفق.
وعلى الرغم من وجود أدلة على أن شركات التأمين قد عملَت بجِد، لا سيَّما في إنجلترا، للترويج للتأمين ضد عمليات السطو في أوائل القرن العشرين، فإنها لم تنتشر إلا في النصف الثاني من القرن العشرين. كان التأمين يغطي عددًا قليلًا من المنازل قبل ذلك، وبالفعل، أشار تقدير تقريبي للغاية أُجرِيَ في عشرينيات القرن الماضي إلى أن حوالي خمسة في المائة فقط من جميع مخاطر السطو في الولايات المتحدة كانت مُغطَّاة بالتأمين. تستلزم معظم المطالبات التأمينية الناجحة الاتصال بالشُّرطة للإبلاغ عن الخسارة، ومن ثَم فإن انتشار التأمين يضمن زيادةً في معدَّل «الإبلاغ» عن الجرائم. ولا توجد طريقةٌ سهلة لتقدير إسهام التأمين، ولكن مرَّة أخرى يبدو منطقيًّا أن عنصرًا، وربما عنصرًا كبيرًا، من عناصر ارتفاع جرائم الملكية بعد الحرب، كان ناجمًا عن توافُر قَدْر أكبر من التغطية التأمينية على المنازل. برغم ذلك، يظل من المحتمل إلى حدٍّ كبير أنه كانت لا تزال هناك ارتفاعات كبيرة في معدَّلات الجريمة في العقود الثلاثة بدءًا من منتصف الخمسينيات حتى أواخر الثمانينيات. والسؤال التالي هو: ما السبب وراء ذلك؟
في مقالٍ من الطراز الأول نُشر عام ١٩٧٩، قدَّم كلٌّ من لورانس كوهين وماركوس فيلسون ما أطلقا عليه تفسير «الأنشطة الروتينية» لعناصر ارتفاع مستوى الجريمة الذي كان يحدُث. حينها، كان التركيز مُنصَبًّا على ما أشارا إليه بأنه «انتهاكات وحشية مباشرة» حيث «يستولي شخصٌ ما على ممتلكات شخص آخَر أو يُلحق بها أو به الضرر بشكل واضح ومتعمَّد»، ولكن أفكارهما كانت تتمتَّع بمجال تطبيقي واسع. يحدِّد نهج الأنشطة الروتينية ثلاثة مكونات في مثل هذه الوقائع الإجرامية: جانٍ له دافع (شخص يريد ارتكابَ الجريمة)؛ هدف مناسب (شخص ما/شيء ما سيتعرض للهجوم/السرقة)؛ وغياب «رقيب كفء» (أنظمة مراقبة غير ملائمة). وباستخدام مجموعة متنوِّعة من مصادر البيانات، استطاعا أن يوضِّحا كيف أن التغييرات التي طرَأت على تنظيم الحياة اليومية في فترةِ ما بعد الحرب ربما أسهمت في ارتفاع معدَّلات مثل هذه الجرائم الوحشية. وفيما يتعلَّق بالجريمة، قد يُنظر بشكلٍ مباشر إلى حدٍّ ما إلى التوسُّع الهائل في توافُر السلع الاستهلاكية المعمرة وانتشارها في هذه الفترة بصفتها زيادة جوهرية في «الأهداف المناسبة». ففي منتصف سبعينيات القرن الماضي، أشارت بيانات مكتب التحقيقات الفيدرالي إلى أن ما يقرُب من ٧٠ في المائة من جميع السرقات كانت لسيارات أو درَّاجات أو لمحتوياتها. إيجازًا، كانت السرقات منحصرةً في أشياءَ لم تكُن متوافرة على نطاق واسع قبل ثلاثين عامًا. عِلاوةً على ذلك، لم يكُن العديد من هذه الأشياء مرغوبًا فيها للغاية فحسب، بل كانت أيضًا قابلة للحمل، على الأقل نسبيًّا.
يقترح نهجُ الأنشطة الروتينية أيضًا أن احتمال التعرُّض لجرائمَ وحشية يرتبط بعناصر الحياة اليومية للفرد. إلى أيِّ مدًى يكون المرء محاطًا بما يُطلق عليه «الرقباء الأكفاء» خلال الأنشطة اليومية؟ يفترض نهج الأنشطة الروتينية أن أولئك الذين يقضون وقتًا أطول مع العائلة، على سبيل المثال، أقل عُرضة لخطر الإيذاء الوحشي من أولئك الذين يقضون وقتًا أطول بعيدًا عن المنزل أو بعيدًا عن العائلة أو غيرها من المجموعات الأساسية. وعلى المستوى المجتمعي، يذهب الباحثان إلى أنه في الفترة التي أعقبت الحربَ العالمية الثانية، شهدَت الولايات المتحدة زيادةً كبيرة في الابتعاد عن الأنشطة المنزلية والتوجُّه نحو الأنشطة غير المنزلية وغير الأسرية. وتغيَّرت طبيعة سوق العمل، على سبيل المثال، مع خروج النساء للعمل بأعدادٍ أكبرَ بكثير عن ذي قبل، وكذلك الالتحاق بالكلية أو الجامعة على نطاقٍ مختلف تمامًا عن مستوياتِ فترةِ ما قبل الحرب. وأدَّى الالتحاق بالكليات أو الذهاب إلى العمل إلى زيادات ملحوظة للغاية في شراء السيارات، أو «الأهداف المناسبة» كما قد ننظر إليها الآن في هذا السياق. وغالبًا ما ينطوي العمل والسفر أيضًا على شراء المزيد من السلع الاستهلاكية المُعمِّرة التي يمكن أَخْذها واستخدامها بعيدًا عن المنزل، حيث كانت أكثرَ عُرضة للخطر. كذلك أدَّى دخول النساء إلى سوق العمل بأعداد كبيرة إلى تقليل عدد الأشخاص الموجودين في المنزل أثناء النهار، والمتاحين لأداء دور «الرقباء الأكفاء» في المناطق المحلية.
ينبغي أن يكون واضحًا الآن أن نموذجَ الأنشطة الروتينية يُشير أيضًا إلى أن هذه العوامل المختلفة — زيادة الأهداف المناسبة، وقلة توافُر الرقباء الأكفاء — قد يؤثِّر بعضها على بعض بطريقةٍ تُضاعف فرص الجريمة. والآن، وتكرارًا للنقطة التي أُثيرت سابقًا، لم يقدِّم كوهين وفيلسون أيَّ شيء يقترب من التفسير الكامل لارتفاع معدَّلات الجريمة في فترةِ ما بعد الحرب. ولكن ما أسهم به عملهما بشكلٍ مفيد هو تذكيرنا بأن ثمَّة جوانبَ من الحياة اليومية توفِّر فرصًا لارتكاب الجريمة، وأن عناصر الحياة اليومية هذه ليست مستقرة. فقد تتغيَّر بطرقٍ تستدعي ارتفاعًا (أو انخفاضًا، بالطبع) في النشاط الإجرامي، وفي حالة فترةِ ما بعد الحرب، فإن مثل هذه التغييرات تحديدًا هي التي قد تساعدنا على فَهْم واحد على الأقل من العناصر المهمة لارتفاع الجريمة. وبناءً على ذلك، يشيران إلى أنه: «من المثير للسخرية أن العوامل التي تزيد من فرصة الاستمتاع بمميزات الحياة قد تزيد أيضًا من فرصة التعرُّض للانتهاكات الوحشية». فمثلما تُوفِّر السيارة حُرية الحركة، ويوفِّر الالتحاق بالكلية، ومشاركة الإناث في القوى العاملة، وزيادة فرص السفر لقضاء العطلات مَهربًا للخروج من المنزل، يَزيد كلُّ هذا أيضًا من مخاطر التعرُّض لجرائم وحشية. ويركِّز نهج الأنشطة الروتينية، في جوهره، على فرص النشاط الإجرامي والمخاطر التي ينطوي عليها استغلال تلك الفرص. ولا ينطوي هذا النهج على الكثير عن الدوافع البشرية بخلاف الإشارة إلى أننا جميعًا منخرطون في شكلٍ من أشكال حساب المخاطر مقابل المكافآت.
غير أن أولئك المهتمين بقضايا الاقتصاد السياسي سيرغبون في رؤيةِ حُجَج كوهين وفيلسون من منظورٍ أوسَع نطاقًا إلى حدٍّ ما. هذا من شأنه أن يشيرَ إلى التغيرات الهائلة في القدرات الصناعية والتصنيعية للعديد من الدول الغربية، والعواقب الوخيمة على التوظيف، والدخل، والأمن الاقتصادي العام التي تسبَّبَت بها هذه التغيرات لأولئك الذين يعملون في وظائف تتطلَّب مهارات منخفضة إلى متوسطة. لقد أدَّت التغيرات السياسية المصاحبة التي شجَّعَت على مزيد من الفردانية، والخصخصة، واللجوء إلى السوق، وسَعَت إلى وضعِ قيودٍ أكبرَ من أي وقت مضى على الإنفاق على الرعاية الاجتماعية، إلى تزايد عدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية منذ أواخر السبعينيات على الأقل فصاعدًا. باختصار، من شأن مثل هذا المنظور أن يضعَ أيَّ نظرية قائمة على الفرص ضمن نطاقٍ أشمَل تعمل فيه الظروف السياسية والاقتصادية المتغيرة على محو العديد من الفرص المشروعة لتحقيق مكاسب شخصية كانت موجودة في السابق وفي الوقت ذاته تقويض العديد من الأشكال المجتمعية للتضامن والرقابة التي ساعدت في الحفاظ على الانضباط والنظام.
ماذا لو اتخذنا أيضًا منظورًا أطولَ مدًى؟ من خلال تبنِّي منظور تاريخي، والتأثُّر الشديد بنظرية عالِم الاجتماع الألماني، نوربرت إلياس، عن «عملية التمدُّن»، يذهب عالِم النَّفْس ستيفن بينكر إلى أن ما حدث خلال العقود من الستينيات إلى الثمانينيات كان في الواقع انعكاسًا لاتجاه تاريخي طويل المدى. ويرى أن أفضل التحليلات التاريخية تشير فيما يبدو إلى أن معدَّلات جرائم القتل آخِذة في الانخفاض منذ القرن الثالث عشر أو الرابع عشر. والقتل هنا يُستخدَم مؤشِّرًا لاتجاهات الجريمة الأوسَع نطاقًا؛ لأن البيانات الخاصة به أفضل؛ إذ يشيع الإبلاغ عن جرائم القتل وتسجيلها أكثرَ من الجرائم الأخرى، حتى جرائم العنف. فلماذا ارتفعت الجريمة عمومًا، والقتل خصوصًا، خلال هذه العقود؟ وفقًا لبينكر، تُعَد هذه الاتجاهات مؤشرًا على «اتجاه نحو تراجُع التمدُّن»، وحدوث انتكاس — ربما مجرَّد انتكاس قصير المدى — لعملية التمدُّن الطويلة المدى. ويزعم إلياس، مؤسِّس هذه النظرية، بأن عملية تشكيل الدول القومية الحديثة جلبَت معها تغيُّرات في العلاقات بين الناس داخل التسلسلات الهرمية الاجتماعية التي تشمل، من بين أمور أخرى، التدفُّق التدريجي لبعض الأعراف والتطلعات الاجتماعية. إيجازًا، تسبَّب تزايد الاعتماد المتبادل على مدى قرون في ظهور مزيد من القيود على السلوكيات الاندفاعية والعدوانية، ممَّا أدَّى إلى تشديد الضغوط الاجتماعية عمومًا نحو ضبط النَّفس. وكانت النتيجة، على مدى هذه الفترة الممتدة، زيادة تدريجية للحساسية إزاء المعاناة بأشكالها المختلفة، وتناقص تحمُّل العنف ومظاهره. يستخدم العديد من المُعلِّقين، ومن بينهم بينكر، أفضلَ البيانات التاريخية المتوافرة لدينا من خلال خبراء علم الجريمة مثل مانويل إيزنر، لتوضيح مثل هذا الانخفاض الطويل المدى في السلوك العنيف بدقة. ويبدو أن هذا الانخفاض قد اتخذ اتجاهًا عكسيًّا منذ الستينيات.
والآن، في حين أن الدولة لم تُقوَّض فجأةً منذ الستينيات فصاعدًا؛ فوفقًا لبينكر، هناك ركيزتان أخريان من نظرية إلياس قد تراجعتا إلى حدٍّ ما. كان التضامن الاجتماعي متأثرًا بمجموعة متنوِّعة من القوى شأنُه شأن الضغط لممارسة ضبط النَّفْس والامتثال للقواعد. وفي هذا الصدد، يشير بشكلٍ خاص إلى ظهور ثقافة الشباب، التي دعمها انتشار التليفزيون والراديو، والتغيرات في هياكل الفُرص للشباب، والنساء، والطبقات العاملة، التي حفَّزَت رفضًا جزئيًّا لبعض عناصر السُّلطة، ممَّا أدَّى إلى زعزعة بعض الروابط الاجتماعية، وتفكك العديد من روابط الرقابة الاجتماعية غير الرسمية. باختصار، يشير بينك إلى أن عمليات تجاوز الرسميات وإلغاء التبعية — مما يعطي إحساسًا بالتحرُّر من القيود التقليدية — هي ما تدعم الاتجاه التصاعدي في منحنى الجريمة خلال عقود الحِقبة التي يُطلَق عليها «الحِقبة المتساهلة»، وما بعدها. إن بينكر في تبنِّيه لهذا الرأي ليس بعيدًا بشكل كبير عن بعض التحليلات التي قدَّمَها أولئك الذين ينتمون إلى التيارات السياسية اليمينية، مثل المعلِّق الأمريكي تشارلز موراي، الذي ركَّز على صعودِ ما يُطلق عليه «الطبقة الدنيا» في الولايات المتحدة وبريطانيا، وألقى بمسئولية ارتفاع الجريمة على عاتقِ أوضاع الرعاية الاجتماعية بعد الحرب. فقد ساعد هذا، وفقًا لرأي موراي وآخَرِين، في تقويض الهياكل الاجتماعية التقليدية مثل الزواج والأسرة، وأضعف القيم الاجتماعية التقليدية مثل الاحترام، والعمل الجاد، والانضباط.
يمكن القول إن هذه التفسيرات، سواء في شكلها الأكثر تقدُّمية كما قدَّمَها ستيفن بينكر، أو شكلها الأكثر تحفُّظًا كما صاغها تشارلز موراي، إنما تقلِّل من أهمية التحولات الاجتماعية والاقتصادية الهيكلية المُوضَّحة أعلاه، وتركِّز تركيزًا كبيرًا للغاية على التغيير «الثقافي» و«الأخلاقي». ونتيجةً لذلك، فإنها أيضًا تعاني بعض الشيء للتعامل مع ما يبدو أنه تحوُّل مفاجئ إلى حدٍّ ما في اتجاهات الجريمة في وقتٍ ما بين أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات. إذَن لماذا بدأَت الجريمة في الانخفاض واستمرَّت تنخفض، دون سابق إنذار نوعًا ما بالنسبة إلى معظم خبراء علم الجريمة؟ استغرق الأمر بعضَ الوقت، لكن اللغز أصبح مؤخَّرًا محورَ اهتمام مجموعة متزايدة من العلماء، وهذا ما سنوجِّه له انتباهنا في الفصل التالي.