فَهْم أسباب تراجُع الجريمة
تُظهِر المعلومات المستمَدة من مجموعة متنوعة من المصادر أن الجريمةَ قد تراجعَت في عدد كبير من البلدان على مدار العشرين عامًا الماضية أو أكثر. فيشير «الاستقصاء الوطني لضحايا الجرائم» إلى أن الجرائم العنيفة في الولايات المتحدة قد انخفضَت بنحو ٧٠ في المائة بين عامَي ١٩٩٣ و٢٠١١، وعمليات السطو بما يزيد على النصف، والسرقة بما يزيد على ٤٠ في المائة. واكتُشفَت اتجاهاتٌ مماثِلة في كندا وإنجلترا وويلز، وعلى ما يبدو في أستراليا ونيوزيلندا. وتشير مقارنةٌ أوسَعُ نطاقًا، عقَدَها «الاستقصاء الدولي لضحايا الجرائم»، إلى أن دولًا مثل فرنسا، وهولندا، وفنلندا شهدت أيضًا انخفاضًا كبيرًا في معدَّلات الجريمة. وعلى الرغم من أن تقييم اتجاهات الجريمة محفوفٌ بالصعوبات، كما أوضَحَ الفصل الخامس، فقد خلصَت مراجعة دقيقة للغاية للأدلة إلى أنه «من المنطقي الإشارة إلى حدوث انخفاض عام في معدَّلات الجريمة في أوروبا». لذا، فإن الاتجاه قَيْد المناقشة لا يبدو أنه قد اقتصر على مدنٍ أو بلدان مُعيَّنة. كما أنه لم يكُن مجرَّد ظاهرة وقتية قصيرة الأجَل، بل استمرَّ مدةً طويلة، حتى خلال فترات الاضطراب الاقتصادي الكبير. إذَن كيف يمكن تفسير ذلك؟
الاقتصاد
بالرغم من وجود العديد من المؤلَّفات حول الروابط بين الظروف الاقتصادية السائدة والجريمة، فما يكتشفه المرء سريعًا هو أن العلاقات بين الدخل، والثروة، وعدم المساواة، والجريمة، والإيذاء بعيدةٌ كلَّ البُعد عن الوضوح، وإن كانت تُظهِر بعض الأنماط الواضحة إلى حدٍّ ما. لنأخذ السطو مثالًا على ذلك. فمعدَّلات السطو على المنازل أعلى بكثير في المجتمعات الأفقر، ولكن على المستوى القومي، تميل المعدَّلات الإجمالية للسطو إلى الزيادة مع زيادة الثروة العامة، وفقًا لإجمالي الناتج المحلي. ولكن لماذا قد يكون هذا هو الحال؟ إن أبسَط إجابة عن هذا اللغز على الأرجَح هي أن مقياسًا مثل إجمالي الناتج المحلي على المستوى القومي يُعتبر مؤشرًا بشكل عام لمستوى «الفرص» الإجرامية (مقدار الأشياء ذات القيمة التي يمكن سرقتها)، بينما على مستوى المنازل، تُحدد أنماط السطو من خلال عوامل أخرى تشمل مدى قُرب الأشخاص الذين لديهم «الدافع» للرغبة في السرقة، ووجود التدابير الأمنية الأساسية أو غيابها.
في الأبحاث المبكِّرة حول المؤشرات الاقتصادية والجريمة، مالَ خبراء علم الجريمة إلى النظر في تأثير البطالة: هل كان الارتفاع والانخفاض في أعداد العاطلين عن العمل مرتبطًا بالاتجاهات السائدة في الجريمة؟ ونتيجة لعدم وجود رسالة واضحة من هذه الدراسات وتزايد الشكوك حول بيانات البطالة، بدأ الباحثون في بحث العلاقة بين التغيرات في الاقتصاد الكلي ومستويات الجريمة بعدة طرُق مختلفة. ووجدت الدراسات في هذا السياق أن الاقتصاد القوي في الولايات المتحدة في التسعينيات قد حدَّ من عدد جرائم الملكية في تلك الفترة. وتعقَّد الموقف إلى حدٍّ ما بفعل وجود بعض الأدلة على وجود علاقة بين التغيرات القصيرة الأجل في مستويات جرائم الملكية والاستهلاك؛ إذ ترتبط معدَّلات نمو جرائم الملكية ارتباطًا وثيقًا بالنمو الاقتصادي. بشكلٍ أكثرَ تحديدًا، عندما ينمو الاستهلاك الكلي بسرعة، يميل تصاعد جرائم الملكية إلى التباطؤ أو انعكاس المسار؛ إذ يقلُّ عدد الأشخاص ممَّن لديهم حافزٌ للسرقة، وتميل معدَّلات جرائم الممتلكات إلى الارتفاع خلال فترات الركود الاقتصادي. وعلى الرغم من هذه العلاقة الواضحة، تشير أبحاث علم الجريمة التي أُجرِيَت حتى الآن إلى أنه لا توجد صِلة بسيطة بين التغيير الاقتصادي الواسع النطاق ومستويات الجريمة على المدى الطويل.
يوجد الآن عددٌ كبير من الدراسات التي تبحث العلاقة بين العوامل الاقتصادية والانخفاضات الأخيرة في الجريمة، ويشير الجزء الأكبر منها إلى وجود تأثيرات محدَّدة بشكل عام. على سبيل المثال، أشارت تقديرات دراسة أجراها مركزُ برينان التابع لجامعة نيويورك إلى أن الزيادات في الدخل في التسعينيات والألفينيات ربما كانت مسئولة عن انخفاض الجريمة بنسبة تتراوح بين خمسة وبين عشرة في المائة، وأن انخفاض البطالة في التسعينيات كان مسئولًا عن انخفاض الجريمة مرة أخرى بنسبة تصل إلى اثنين في المائة في ذلك العَقد. وتُقدِّم دراسات أخرى صورًا مماثلة. وعلى الرغم من أن القليل منها يركِّز بشكل خاص على الأزمة المالية التي حدثَت في العَقد الماضي، يبدو أن الانخفاضات الحادة في الجريمة التي حدثت على مدى عقدَين على الأقل لم تتراجع بفعل الأزمة المالية التي حدثت في الآونة الأخيرة، ويبدو أنه لا يوجد تفسير اقتصادي واضح — أو بسيط — لانخفاض معدَّلات الجريمة.
ولكن يمكن القول إن الكلمة المفتاحية هنا هي «بسيط». فلماذا قد نتخيَّل أن شيئًا كالتحول الطويل الأجل في مستويات الجريمة، لا شك أنه مُعقَّد، يمكن تفسيره بشيء مباشِر نسبيًّا مثل ثقة المستهلك، أو مستويات البطالة، أو معدَّلات التضخم؟ قد يكون لمثل هذه الأشياء تأثير، وكما هو موضَّح، توجد أبحاثٌ تشير إلى ذلك بالفعل. ولكن مع تزايد عدد المعلِّقين المجادلين، يتعيَّن على المرء بالتأكيد وَضْعُ مثل هذه العوامل الاقتصادية الضيِّقة في سياق أوسَع. وهذا يعني عودةً إلى دراسة الاقتصاد السياسي — وهي دراسة متعدِّدة التخصصات للعلاقة المتبادلة بين السياسة، والسياسة العامة، والاقتصاد — والنظر في طرق اندماج سَيْر النظم الاقتصادية الرأسمالية وعلاقتها بالسياسات والممارسات الاجتماعية والسياسية لتشكيل العالَم الاجتماعي الذي نعيش فيه، بما في ذلك مستويات الجريمة.
العِقاب
غالبًا ما يحرص السياسيون على وجه الخصوص على الادعاء بأن أفضلَ حل للجريمة هو العِقاب. فكلما زاد العِقاب (إما عن طريق معاقبة عدد أكبر من الناس أو بمعاقبة الجناة بمزيد من القسوة، أو كليهما)، سيؤثِّر ذلك بالضرورة على الجريمة. والسؤال الأول هنا — وهو السؤال الذي سنعود إليه في الفصل السابع — هل كنا نبالغ في العِقاب؟ والجواب هو بلا شك: نعم، رغم وجود استثناءات. والمثال الأوضح على ذلك هو أمريكا.
كيف يمكن لهذا أن يفسِّر تراجُع مستويات الجريمة؟ من الواضح أن هناك «ردعًا». ويقسِّم خبراءُ علم الجريمة هذا الردع إلى فئتَين: الردع «العام» والردع «الفردي» (أو المحدَّد). ويتضح معنى كلٍّ منهما من الاسم: فالردع العام يشير إلى فكرةِ أن وجود نظام للعقاب والإلمام به له تأثير عام على السكان عمومًا. فنحن نعلم أننا نواجه احتماليةَ القبض علينا ومعاقبتنا إذا انتهكنا القانون، وهذا كافٍ بالنسبة إلى الكثيرين منا لردعنا عن القيام بذلك. أما الردع الفردي (أو المحدَّد) فيشير إلى تأثير العقوبة على الفرد. فبعد تغريم الشخص، أو وضعه تحت المراقبة، أو إرساله إلى السِّجن، وما إلى ذلك، يُردع عن ارتكاب أفعال مستقبلية.
إن هذه الأفكار منطقيةٌ، وعادةً ما تصبح جزءًا من فهْمنا العام للعالَم منذ سن مبكِّرة. ولسوء الحظ، فإن الأدلة البحثية لدعم مثل هذه الأفكار ليست قوية على الإطلاق. فما تظهره هذه الأدلة، بادئ ذي بدء، هو أن معظمنا يستجيب جيدًا إلى حدٍّ ما للتهديدات العامة فيما يتعلَّق بالأشياء «الأقل أهمية». لذلك، على سبيل المثال، فإن انتظار السيارات بشكل غير قانوني، أو تجاوُز السرعة، أو إلقاء القمامة كلها أمثلة لسلوكيات تثبت أن زيادة احتمالية الاعتقال أو تغليظ العقوبة، حال القبض على شخصٍ ما، تميل إلى التأثير على احتمالية ارتكاب تلك الأشياء. أما عندما يتعلَّق الأمر بجرائم أخرى — كل شيء من بيع المخدرات إلى العنف — فإن الأدلةَ على تأثير الردع ليست قوية على الإطلاق. لماذا؟ لأن العديد من هذه الجرائم تُرتكَب بعيدًا عن أعين العامة، ممَّا يعني عدم وجود «رقيب كفء». وفي بعض الأحيان قد تُرتكب تحت تأثير المشروبات الكحولية أو المخدرات، أو في لحظةِ غضب. باختصار، قد تكون غيرَ مقصودة وأقلَّ فاعلية بشكل واضح من بعض تلك السلوكيات الأخرى المذكورة آنِفًا.
هذا لا يعني أن مثل هذه السلوكيات لا يمكن التأثير عليها، بل يعني فقط أن التلويح بالعِقاب قد لا يكون الأداةَ الأكثر فاعلية للتأثير فيها. في الواقع، تشير الأدلة البحثية إلى أن «التيقُّن» من وجود العِقاب له التأثير الأكبر. بتعبيرٍ أدقَّ، بالنظر إلى اعتماد العقوبة على الاعتقال، والمحاكمة، والإدانة، يجب تحليل هذه النتيجة بشكل أكبر. في الواقع، تشير الأبحاث إلى أن احتمالية الاعتقال هي التي تتمتع بالتأثير الأكبر؛ فقلقُنا بشأن القبض علينا يفوق قلقَنا بشأن حجم العقوبة التي ستتبع ذلك، وعلى أي حال نحن جاهلون بشكل عام بكيفية تصرُّف المحاكم عند إصدار الأحكام. الحقيقة هي أن معظمنا لا يرتكب جرائم في معظم الأوقات، ولكن حقيقة أننا ملتزمون بالقانون بشكل عام لا علاقةَ لها بالردع بقَدْر ما ترتبط ارتباطًا وثيقًا بما نشير إليه عمومًا ﺑ «الرقابة الاجتماعية غير الرسمية»، الذي يكمُن بشكل أساسي في تأثير العائلة، والأصدقاء، والمجتمع كله على سلوكنا (انظر الفصل السابع).
ماذا عن الردع الفردي؟ لا شكَّ أن العِقاب له تأثير حتمي على الفرد الذي يُعاقَب، أليس كذلك؟ حسنًا، هذا صحيح، لكن الأرجح أن هذا التأثير قد يكون أقلَّ ممَّا تعتقد. تأثير العقوبة بشكل عام باستخدام ما يسمَّى ﺑ «معدَّلات العود» أو «معدَّلات تكرار الإدانة». يشير القياس في الإجراء الأول عمومًا إلى نسبة الجناة الذين يُعاد اعتقالهم بعد سنتَين أو ثلاث سنوات من انتهاء عقوبتهم (سواء بالسَّجن، أو المُراقَبة … إلخ)؛ بينما يشير الإجراء الآخَر إلى نسبة الأشخاص الذين لم يُقبض عليهم فحسب، بل أُعيدَت إدانتهم بعد فترة مماثلة. وللأسف كانت النِّسب مخيِّبة للآمال.
في الولايات المتحدة، كشفت دراسة أجراها مكتب إحصائيات وزارة العدل، والتي تتبَّعَت أكثرَ من ٤٠٠ ألف سجين أُفرج عنهم من سجون الولايات خلال عام ٢٠٠٥، أنه في نهاية فترة المتابعة التي استمرَّت خمس سنوات، بلغَت نسبة الذكور الذين تعرَّضوا للاعتقال مرَّة أخرى على الأقل ٧٨ في المائة، وبلغَت نسبة الإناث ٦٨ في المائة. ووجدَت الدراسة نفسها أنه من بين جميع السجناء المُفرَج عنهم في عام واحد، أُعيدَت إدانة ما يقرُب من نصفهم (٤٧ في المائة) في غضون ثلاث سنوات. وتراوحت معدَّلات إعادة الإدانة من ٤٠ إلى ٤٢ في المائة لمرتكبي جرائم العنف وجرائم الإخلال بالنظام العام، و٤٧ في المائة لمرتكبي جرائم المخدرات، و٥٣ في المائة لمرتكبي جرائم الممتلكات. عِلاوةً على ذلك، وجدَت الدراسة أن أكثر من نصف السجناء (٥٢ في المائة) أُعيدوا إلى السِّجن في غضون ثلاث سنوات إمَّا بسبب جريمة جديدة أو لانتهاكهم شروط الإفراج المشروط. وبالطبع، لا شيء من هذا من شأنه أن يشير إلى أن العقوبة ليس لها تأثير، بل يشير فقط إلى أن «نجاحها» ليس مرتفعًا قياسًا على تأثيرها على احتمالية ارتكاب الجرائم في المستقبل. وهذا كلُّه قبل أن نبدأ في التفكير في التكاليف — الشخصية، والاجتماعية، والمالية — وإمكانية أن تكون العقوبة في حدِّ ذاتها محفِّزة للسلوك الإجرامي.
سينخفض معدَّل الجريمة إذا ظلَّ الأشخاص الذين عادةً ما يرتكبون معظم الجرائم الوحشية في السِّجن مدة معقولة … لأنهم لن يكونوا حينها أحرارًا لارتكاب المزيد من الجرائم … فأحد الآثار البديهية للسَّجن هو فصل منتهكي القانون عن المجتمع الملتزم بالقانون.
ومع أنَّ هذه الفكرةَ تحظى بقَدْر من الجاذبية ظاهريًّا، هناك عدد من الأمور تحتاج إلى توضيح. أولًا: علينا قبول فكرة أن مجرد وجودِ شخصٍ ما في السِّجن لا يعني أنه لا يمكنه ارتكاب «جرائم». فقد يعتدي على الموظفين أو السجناء الآخَرين — وعادةً ما يحدُث ذلك — ويمكنه استخدام موادَّ غير مشروعة، والكثير منهم يستطيع أن يفعلَ ذلك وسيفعله. عِلاوة على ذلك، يصعُب معرفةُ كيفية تمكُّن بعض الجناة من الاستمرار في أعمالهم الإجرامية الخارجية أثناء قضاء عقوبة السَّجن. ويصف ديفيد سكاربيك، في واحد فقط من الأمثلة العديدة التي أوردَها في كتابه عن عصابات السجون الأمريكية، أنشطةَ عصابة المافيا المكسيكية في السِّجن في كاليفورنيا، التي تضمَّنَت توزيعَ المخدرات، والسطو المسلح، والقتل. فهُم أبعَدُ ما يكون عن الشعور بالوحدة في نظام السجون الأمريكية.
ثانيًا: ترتكز فكرةُ تأثير التعويق على افتراض أن جميع هؤلاء المسجونين كانوا سيستمرون في ارتكاب الجرائم لو ظلُّوا أحرارًا. وعلى الرغم من أن هذا قد ينسحب على كثيرين، فإنه لا ينسحب على الجميع؛ ومن ثَم فإن تقييمَ أي تأثير تعويقي ينبغي أن يأخذَ ذلك في الاعتبار. ثالثًا: يرتكب الجناة الجرائمَ بمعدَّلات مختلفة جدًّا وعلى فترات زمنية مختلفة. وفي حالِ كانوا من معتادي الإجرام ويُسجنون في ذُروة «مسيرتهم» الإجرامية، فقد يتم منعُ العديد من الجرائم نظريًّا. في المقابل، إذا كانوا مجردَ مجرمين عرَضيين، أو إذا كانوا يقتربون من نهايةِ ما يمكن أن يكون «مسيرتهم» الإجرامية، فإن عددَ الجرائم التي سيتم منعُها سيكون أقلَّ بكثير. رابعًا: هناك مسألةُ طول مدة الحكم. غالبًا ما يكون النظر إلى «متوسط» مُدد الأحكام المفروضة على الجناة مضلِّلًا. ففي إنجلترا وويلز، على سبيل المثال، في عام ٢٠١٦، كان متوسط مدة الحكم يزيد قليلًا على ١٦ شهرًا؛ أيْ أطوَل من متوسط المدة قبل عشر سنوات بأربعة أشهر. غير أن ما يخفيه هذا الأمرُ هو المعدَّل المرتفع للغاية لخروج ودخول السجناء المحكوم عليهم بأحكامٍ قصيرة نسبيًّا. ففي عام ٢٠١٦، كان ما يقرُب من نصف إجمالي عددِ مَن دخلوا السِّجن (ما يعادل ٤٧ في المائة) يقضون عقوبةً مدتُها ستة أشهُر أو أقل. وسيترتَّب على ذلك قِصر المدة التي يقضيها هؤلاء الجناة، مما يحُدُّ بالمثل من إمكانية التعويق الناجمة عن الحكم.
خامسًا: هناك ما يُطلق عليه اسم «تأثيرات الاستبدال». ماذا لو ارتُكِبت الجرائم في مجموعات؟ فربما تعمل مجموعة من ثلاثة لصوص معًا. فيُقبَض على أحدهم ويُسجَن. ماذا سيكون أثرُ ذلك؟ هل سيوقِف ذلك عمليات السطو نهائيًّا لأن السجينَ كان زعيم العصابة؟ هل سيقلِّل من عمليات السطو بمقدار الثلث؟ أم إنه لن يكون له أي تأثير؛ لأن الاثنين الآخَرين سيواصلان نشاطهما بغضِّ النظر عما حدث أو سيستقطبان ببساطة شخصًا آخَر للانضمام إلى مجموعتهما؟ ماذا عن تجارة المخدرات؟ في ذُروة «الحرب على المخدرات» في التسعينيات، كتب ديفيد سايمون، مؤلِّف مسلسل «ذا واير» إنتاج شبكة «إتش بي أو»، أن اعتقالات جرائم المخدرات في مدينة بالتيمور كانت ثلاثة أضعاف معدَّل المدن ذات الحجم المماثل، وأن هذا لم يكُن له أي تأثير ملحوظ في أسواق المخدرات المحلية. أخيرًا، ماذا لو كان العلاج هو سببَ المرض، ولو جزئيًّا على الأقل؟ هل يمكن أن يكون السِّجن السبب في ارتكاب الجرائم؟ ربما يكون السِّجن، مثلما وصفتْه إحدى وثائق الحكومة البريطانية ذات مرة، مجردَ وسيلة مكلِّفة لمفاقمة سلوك الأشرار، من خلال إبقائهم على مقرُبة من مجرمين آخَرين، ربما كانوا أكثرَ خبرة منهم؛ أو نتيجةً للظروف الوحشية في بعض السجون؛ أو عن طريق تقليص فرصهم في العمل عند إطلاق سراحهم من بين احتمالات أخرى؟ وتقدِّم الأدلة البحثية على الأقل بعضَ الدعم المحدود لهذا الرأي. على سبيل المثال، اكتشفَت دراسةٌ أسترالية أُجرِيَت بعناية حول معاودة ارتكاب الجرائم أنه لم يكُن هناك تأثيرٌ رادع فيما يتعلَّق ببعض الجرائم، ولكن الأسوأ من ذلك أنه في حالاتٍ مثل الاعتداء غير المسلح، أدَّى السِّجن في واقع الأمر إلى زيادة احتمالية ارتكاب الجرائم في المستقبل.
وعلى الرغم من أن التكاليفَ الباهظة للسِّجن قد بدأت في الآونة الأخيرة في إقناع البعض بالحاجة إلى اتباع نهج جديد، فإنه يبدو عمومًا أن القليل فقط من التحذيرات المتعلِّقة بأوجه القصور التي تشوب آثارَ السَّجن الرادعة أو المعيقة كان لها تأثير ملموس على الساسة أو صنَّاع السياسات. بل على العكس تمامًا. ففي العديد من البلدان، على رأسها الولايات المتحدة، خُصِّصت مبالغُ ضخمة من المال لتوسيع نطاق استخدام السجون. والسؤال هو: هل أثَّرَت الزيادة الهائلة في أعداد المساجين في الولايات المتحدة منذ عام ١٩٨٠ على معدَّل الجريمة؟ والجواب المباشر هو: نعم. ولكن المسألة التي يصعُب حلُّها هي كم يبلغ حجم هذا التأثير؟
الأداء الشُّرَطي
هناك طريقتان رئيستان يمكن من خلالهما أن تؤثِّر التغييرات في الأداء الشُّرَطي على معدَّلات الجريمة، هما: زيادة عدد ضباط الشُّرطة والتغيرات في طرُق أداء الشُّرطة لعملها. فيما يتعلق بالاحتمال الأول، لدينا الآن عدد كبير من الدراسات، المختلِفة التصميم، لاستكشاف هذا الأمر. ماذا عن نتائج هذه الدراسات؟ أولًا: على الرغم من أن زيادة عدد الضباط قد تؤدي فيما يبدو إلى انخفاضات في معدَّل جرائم الممتلكات، فمن الصعب جدًّا العثورُ على دليل قاطع على وجودِ علاقة مماثلة بين أعداد الضباط وجرائم العنف. ومع ذلك، فإنَّ بعض المعلِّقين الأكثر موثوقيةً في هذا المجال يشكِّكون إلى حدٍّ ما في احتمالية أن يكون لعدد أفراد الشُّرطة دورٌ مهم في انخفاض الجريمة.
ماذا عن التغيُّرات التي طرأت على ممارسات الشُّرطة؟ مرة أخرى، شهِدت بعض المدن بعضَ التغيرات الجوهرية للغاية في طرق عمل الشُّرطة. اشتملت هذه التغيرات على أشياءَ مثل «الأداء الشُّرَطي في المناطق الحَرِجة أمنيًّا»، حيث تحلِّل الشُّرطة مشاكلَ الجريمة وتركِّز مواردَها حيث تتمركز هذه المشاكل، ويُطلَق على انتشار الشُّرطة في المجتمع أو الحي، وتطبيقِ نظام للإدارة والمساءلة بين القوات، اسم «كومبستات» في الولايات المتحدة أو الشُّرطة الإحصائية، ويَستخدم هذا النظام بيانات الجرائم المحلية أساسًا لتحليل المشكلات ووسيلةً لمحاسبة قادة الشُّرطة المحليين المسئولين عن معالجة تلك المشكلات. ويشير التحليل المنهجي «للأداء الشُّرَطي في المناطق الحَرِجة أمنيًّا» إلى أنه مع التنظيم الجيد لهذا الأداء، يؤدِّي بالفعل إلى انخفاضات «متواضعة» في الجريمة، وأن بعض هذه الفوائد ينتشر في المناطق المجاورة بشكلٍ مباشر للمناطق التي يرتفع فيها معدَّل الجريمة، حيث تتمركز مثلُ هذه الممارسات الأمنية الموجَّهة. ووفقًا لمجموعةٍ من الحسابات، قد يكون تمركز أنشطة الشُّرطة باستخدام أشكال للإدارة على غرار «كومبستات» قد أسهم في انخفاض الجريمة في الأماكن التي استُخدِمَت فيها بنسبة تتراوح بين ٥ وبين ١٥ في المائة، على الرغم من قلة عدد المعلِّقين الذين يبدو أنهم يعتقدون أن نطاق تأثيرها كان كبيرًا إلى هذا الحد.
إذَن، ما الذي تغيَّر؟ كان أحد عناصر انخفاض الجريمة هو عدد أفراد الشُّرطة في الشوارع في أوائل التسعينيات، حيث فاق عددُ ضباط شُرطة نيويورك مثيلَه في أي مدينة رئيسة أخرى بكثير، وحيث شاركت نسبة كبيرة جدًّا منهم في أعمال الدوريات المرئية والموجَّهة. استخدمت إدارة شُرطة نيويورك أيضًا كلًّا من «المناطق الحَرِجة أمنيًّا» المذكورة آنِفًا ومبادرات «كومبستات»، وأولت اهتمامًا خاصًّا للقضاء على أسواق المخدرات العامة، واستخدمت برنامجًا عنيفًا بشكلٍ خاص لحملات التوقيف في الشوارع واعتقالات الجنح. وكان ذلك مما قاد زيمرينج إلى استنتاجِ أن «الشُّرطة لها أهمية» وأنها «ينبغي أن تتمركز في المناطق التي تشتد فيها الجرائم ذات الأولوية». إذَن إلى أي مدًى أحدثَت إدارة شُرطة نيويورك فارقًا؟ وفقًا لزيمرينج، يمكن القول إن مبادرات الأداء الشُّرَطي هي الشيء «الوحيد» الذي يساعد في تفسير «الاختلاف» في مستوى انخفاض الجريمة بين نيويورك وغيرها من المدن الأمريكية الكبرى، على الرغم من أن العواقب الأمنية للتغييرات في الأنشطة الروتينية في مدينة ترتفع فيها معدَّلات الجريمة ستكون على الأقل احتمالًا إضافيًّا آخَر.
الأمن ومنعُ الجريمة
على مدار الجزء الأكبر من القرن العشرين، كان الاهتمام السياسي والإداري فيما يتعلَّق بالجريمة يميل إلى التركيز على طرُق التدخُّل في حياة المجرمين من أجل إصلاحهم أو إعادةِ تأهيلهم. وقد حقَّقَت هذه الجهود نتائجَ مختلطة. فمع تزايد الجريمة عامًا بعد عام في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، سادت درجةٌ من خيبة الأمل بشأن جهود الإصلاح هذه. وخلَص عالِم الاجتماع الأمريكي، روبرت مارتينسون، في مراجعةٍ نقدية مؤثِّرة أجراها عام ١٩٧٤، بعنوان: «ما الذي يصلح؟ أسئلة وأجوبة حول إصلاح السجون»، إلى أن «جهودَ إعادة التأهيل التي أُبلغ عنها حتى الآن، مع بعض الاستثناءات القليلة والمنفصلة، لم يكُن لها تأثير ملموس على العودة إلى الإجرام.» وكانت هذه النتائج المخيِّبة للآمال إيذانًا بفترةٍ أصبحت فيها أعمالُ مارتينسون مرتبطةً بفكرة «لا شيء يصلح» بدلًا مِن «ما الذي يصلح؟»
منذ ذلك الوقت، صبَّ خبراءُ علم الجريمة جزءًا من اهتمامهم على ما يُشار إليه ﺑ «المنْع الظرفي للجريمة»، وهو ما يتم بشكل عام من خلال اكتشاف طرُق تجعل ارتكابَ الجريمة إمَّا أكثرَ صعوبة وإمَّا أقلَّ جاذبية. وسنبحث في موضوع منْع الجريمة بمزيد من التفصيل في الفصل الثامن. لعل من أكثرِ الخصائص المشتركة وضوحًا لتلك المجموعة الكبيرة من البلدان التي شهِدت انخفاضًا كبيرًا في الجرائم أنها جميعًا استثمرت بشكل كبير في توفير الأمن في عدد من جوانب الحياة اليومية، وقد كلَّلت هذه الاستراتيجيات بنجاح كبير لدرجةِ أنها أسهمت إسهامًا جوهريًّا للغاية في انخفاض معدَّل الجريمة.
غالبًا ما يُستخدم انخفاضُ جرائم السيارات بصفته واحدًا من الأمثلة المهمة لفرضية الأمن. فقد انخفضت سرقةُ السيارات في الولايات المتحدة بنسبة ٦٠ في المائة خلال السنوات العشر من عام ١٩٩١. وبعد بضع سنوات فقط، حدث انخفاضٌ مشابه جدًّا في سرقة السيارات في إنجلترا وويلز، وفي وقت لاحق انخفض النوع نَفْسه من الجرائم بنسبة ٥٥ في المائة بين عامَي ٢٠٠١ و٢٠٠٧ في أستراليا. وخلال هذه الفترات، انتشرت على نطاق واسع مجموعةٌ متنوِّعة من التقنيات الأمنية. ففي إنجلترا وويلز، على سبيل المثال، زادت نسبة السيارات ذات القفل المركزي من ٣٥ في المائة في عام ١٩٩١ إلى نحو ٩٠ في المائة بحلول عام ٢٠٠٧. وخلال الفترة نفسها ارتفعت نسبةُ السيارات المزوَّدة بموانعِ حركة إلكترونية من ٤٥ إلى ٦٩ في المائة. كما أصبحَت مجموعةٌ كبيرة من وسائل التأمين الأخرى متاحةً وشائعة نسبيًّا. وتُقدِّم الزيادة في متوسط عمر السيارات المسروقة دليلًا واضحًا على تأثير التدابير الأمنية؛ إذ أصبحَت السيارات القديمة التي لا تحتوي على وسائلِ تأمين أكثرَ جاذبية للصوص، مع تزايد صعوبة سرقة السيارات الجديدة. بالمثل، تُشير الأدلة الواردة من كلٍّ من أستراليا وإنجلترا وويلز إلى أن أسلوبَ فَتْح الأقفال بالقوة انخفض انخفاضًا كبيرًا؛ إذ كان واحدًا من مجالات تأمين السيارات التي خضعَت لتحسين سريع مع تزايد التركيز على تدابير منْع الجريمة.
والسؤال التالي هو ما إذا كان هذا الاتجاه العام يَسري على أنواعٍ أخرى من الجرائم. لا شك أن ثمَّة أسبابًا وجيهة للاعتقاد بأن معدَّلات السطو قد تأثَّرت على الأرجح بتغيُّرات أمنية مماثلة. ويرى المؤيدون «فرضية الأمن» هذه أنه من المحتمل أن يكون لها تأثير أكبر مما هو مُقترَح حتى الآن. فهم يذهبون إلى أن جرائمَ مثل جرائم سرقة السيارات والسطو هي ما يطلقون عليها اسم «الجرائم الأولية». وهي أشياءُ يرتكبها أشخاصٌ يُعتبرون مبتدئين نسبيًّا في النشاط الإجرامي. ومن ثَم يُتوقَّع أن يؤدي الحد من هذه الجرائم إلى منْع المجرمين من الانتقال إلى أشكال أخرى من الجرائم. بالإضافة إلى ذلك، فهي ليست جريمةً أولية فحسب، بل من المحتمل أيضًا أن تسهِّل أشكالًا أخرى من الجرائم؛ إذ تجعل المجرمين أكثرَ قدرةً على التنقُّل، وتسمح لهم بنقل البضائع المسروقة، والهروب بسرعة من العنف أو غيره من أنواع جرائم الاستيلاء والسلب. وباعتبارها «جريمةً أساسية»، فمن المحتمل أن يؤدي منْعها إلى منْع الأعمال الإجرامية الأخرى.
ثمَّة حاجةٌ إلى المزيد والمزيد من الأبحاث في هذا المجال بالذات، ولكن يبدو مقبولًا بشكلٍ واضح أن التطورات الأمنية قد أدَّت دورًا بالِغَ الأهمية في انخفاض أنواعٍ معينة من الجرائم، وأسهمت — على الأرجح بشكل كبير، على الرغم من عدم وجود تقديرات لهذا الإسهام — في انخفاض الجريمة عمومًا. وقبل أن نختتمَ هذه النقطة، لدينا تفسيران محتملان آخَران يجب تناولهما: تأثير إصلاح قانون الإجهاض والتغييرات الناتجة عن انخفاض الانبعاثات الصادرة من البنزين/الغاز نتيجةَ إزالة الرَّصاص منهما. ربما لا يبدو أيٌّ منهما التفسيرَ الأكثر ترجيحًا، ولكنَّ كليهما اكتسب قدْرًا كبيرًا من الشهرة في السنوات الأخيرة.
إصلاح قانون الإجهاض
أولى هاتَين الحُجَّتَين، التي طرحها كلٌّ من الصحفي جون دونوهيو والاقتصادي ستيفن ليفيت، تشير إلى أن القرار الذي اتخذَته المحكمة العُليا الأمريكية في عام ١٩٧٣ في قضية «رو ضد ويد» التاريخية التي شرَّعَت الإجهاضَ مرتبط بتراجع الجريمة. يرى دونوهيو وليفيت أن أولئك الذين من المُرجَّح أن يستفيدوا من هذه الحرية الجديدة هم أولئك الذين كانوا أكثرَ عُرضة لخطرِ إنجاب أطفال سيمضون قُدُمًا للانخراط في الجريمة، مثل المراهقين، والنساء غير المتزوجات، والأشخاص ذوي الظروف الاقتصادية الأسوأ. لذلك من المتوقَّع أن تكونَ إحدى النتائج المترتِّبة على حدوث زيادة في حالات الإجهاض هي انخفاضُ عددِ الأطفال الذين يُحتَمل، بنسبٍ كبيرة ومتفاوتة، انخراطُهم في الجريمةِ فيما بعدُ. ثم ينتقلان إلى إثبات أنَّ تراجعَ الجريمة قد حدث بعد ثمانية عشر إلى تسعة عشر عامًا من صدور القرار في قضية «رو ضد ويد»، وهي فترةٌ يقولون إنها شبه متوافقة مع ذُروة سن ارتكاب جرائم العنف أو، استكمالًا لحجَّتهما، الوقت الذي وصل فيه أولُ جيل وُلد بعد التغيير الذي طرأ على قانون الإجهاض إلى هذه الذُّروة. ويذهبان إلى أن استمرار انخفاض الجريمة من هذه المرحلة فصاعدًا هو مؤشِّر على التأثير المستمر لغياب الأجيال الجديدة التي وصلت إلى ذُروة سن الإجرام.
غالبًا ما كانت هذه الحُجة تُقابل بالرفض، على الرغم من خضوعها بين الحين والآخَر إلى تدقيقٍ أكاديمي جاد. وقد أُثير عددٌ من الانتقادات الواسعة النطاق إلى حدٍّ ما. فهناك شكوك جادة حول ما إذا كان الحكم في قضية «رو ضد ويد» له أيُّ تأثير جوهري على المواليد الذين يحملون مؤشراتِ خطَرٍ كبيرة (مثل الأمهات العازبات والأمهات المراهقات). فهناك أدلةٌ قوية على أن أعداد الأطفال المولودين لأمهات عازبات، على سبيل المثال، استمرَّت في الزيادة خلال السبعينيات من القرن الماضي. ولم تدعم الأدلةُ فكرةَ انخفاض عدد الأطفال المولودين في براثن الفقر. ولكن لا تميل البياناتُ الواردة من أجزاءٍ أخرى من العالَم إلى دعم هذه الفكرة أيضًا، على الأقل لا تدعمها بالشكل الساحق الذي تدعَمُها بها هذه النظرية. فقد حدَث إصلاح قانون الإجهاض في عام ١٩٦٧ في إنجلترا وويلز؛ أي قبل قضية «رو ضد ويد» بخمس سنوات، ومع ذلك يمكن القول: إن انخفاضَ الجريمة بدأ في حوالي عام ١٩٩٤ / ١٩٩٥؛ أيْ بَعد بضع سنوات من انخفاضها في الولايات المتحدة وعندما كان أيُّ «جيل أول» على وشْك بلوغ سن الثلاثين، وهي سنٌّ تتجاوز بكثير أيَّ ذُروة لسن الإجرام. عِلاوةً على ذلك، على الرغم من أن معدَّلات الإجهاض تبدو شِبه متماثلة في إنجلترا وويلز وأمريكا، فإن انخفاضَ مستويات الجريمة — فيما يتعلَّق بجرائم القتل بالتأكيد — كانت أقلَّ حِدَّة في إنجلترا وويلز. مرَّة أخرى، لا شيء من هذا يستبعد تمامًا فكرةَ أن إصلاح قانون الإجهاض ربما كان له تأثير؛ إذ هناك ببساطة أسبابٌ وجيهة للاعتقاد بأن أيَّ تأثير كان على الأرجح أقلَّ بكثير مما يُزعم في بعض الأحيان.
الرَّصاص في البنزين
الاحتمال الأخير الذي أريد أن أتناوله بإيجازٍ لم يظهر فعليًّا إلا في السنوات الأخيرة، مع الأخذ في الاعتبار أن أيًّا من هذَين العاملين لا يستبعِد الآخَر. والفكرة في جوهرها بسيطةٌ للغاية وتتعلَّق بالتسمُّم بالرَّصاص. ففي مطلعِ القرن العشرين، بدأت إضافةُ الرَّصاص الرباعي الإيثيل إلى الجازولين في زيادةِ كفاءة محرِّكات السيارات بشكل كبير. ولكنه للأسف كان له تأثيرٌ سامٌّ أيضًا، وبمجرد امتصاصه في العظام والدم يمكن أن يتسبَّب في تلفِ الكلى، وأمراض القلب، ومجموعة متنوِّعة من المشاكل الأخرى، على الرغم من عدم اكتشاف مدى فداحة هذا الأمر إلا في وقت لاحق. وأدَّت زيادة الوعي بهذه المشكلات إلى تحرُّك الحكومات لإزالة الرَّصاص بالكامل تقريبًا من الجازولين/البنزين في الفترةِ ما بين منتصف السبعينيات ومنتصف الثمانينيات.
أظهرت الأبحاثُ أن التعرُّض للرصاص في مرحلة الطفولة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمجموعةٍ متنوِّعة من السِّمات السلوكية بما في ذلك الاندفاع، والعدوانية، وانخفاض معدَّل الذكاء. وكما ذكرنا سابقًا، كلُّ هذه العوامل هي عواملُ خطورة رئيسة لارتكاب الجرائم. وهذا يعني أنها مرتبطة بتصاعُد احتمالية تورُّط الفرد المعني في نشاط إجرامي، خاصة عند اجتماعها معًا. لذلك فإن الاقتراح هو أن الأطفال الذين وُلدوا في الثمانينيات، والذين كانوا أقلَّ تعرُّضًا بكثير للرصاص من الأجيال السابقة كانوا أقلَّ عُرضة بكثير لارتكاب جرائم عند إدراكهم سن الرشد في أواخر التسعينيات ومطلع القرن الحادي والعشرين. والأمر المثير للاهتمام حقًّا في نظرية التسمُّم بالرَّصاص هو أن قبولَ منطِقها العام لا يساعد فقط في البدء في تفسير سببِ تراجُع الجريمة في التسعينيات، ولكنه سيسهِم أيضًا في فهْمِنا للزيادة الهائلة في معدَّلات الجريمة في فترةِ ما بعد الحرب، الأمر الذي حدث بالتوازي مع زيادة عدد السيارات على الطريق والكمية المستهلَكة من الوقود المشبَّع بالرَّصاص. إذَن ما مدى قوة الأدلة على هذه النظرية؟
هناك مجموعة متنامية من الأعمال التي يبدو أنها تُظهِر بعضَ أوجه التشابه الوثيق في أنماط انبعاثات الرَّصاص في الغلاف الجوي، وارتفاع مستويات الجريمة وتراجعها. عِلاوةً على ذلك، فإن الكثيرَ من هذه الأعمال تشمل عدةَ بلدان ممَّا يبيِّن أن دولًا ممتدة المساحة مثل الولايات المتحدة، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا تُظهِر على ما يبدو نمطًا واضحًا يربط مستويات انبعاثات الرَّصاص باتجاهات الجريمة. لكنَّ ثمَّة عددًا من المشاكل في هذا الإطار. أولًا: على افتراض أن إزالة الرَّصاص كانت لها تلك الآثار المزعومة، فستكون الفائدةُ محدودة زمنيًّا. وستنخفض الجريمة عندما يصل إلى سن الرشد جيلٌ جديد لم يَعُد يتأثر بالتسمُّم بالرَّصاص. ولكن بالنظر إلى منحنى العمر والجريمة، سيصل هذا التأثير إلى ذُروته عندما يصلون إلى ذُروة سن الإجرام. وسينخفض بعد ذلك بشكل طبيعي. وهكذا فإن أيَّ انخفاض إضافي في الجريمة — الأمر الذي يبدو أننا ما زلنا نشهده — لن يُفسَّر بحقيقةِ أن البنزين/الجازولين كانا أقلَّ سُمِّية. ثانيًا: لم تعثُر الدراسات الوبائية على الكثير من الاختلافات بين مستويات الرَّصاص في الدم في مجموعاتٍ من المجرمين وغير المجرمين، وبالتأكيد لم تكُن كافيةً لتفسيرِ أكثرِ من اختلاف واحد صغير جدًّا. عِلاوة على ذلك، تمكَّنَت الدراسات من رَبْط انخفاض انبعاثات الرَّصاص بالاتجاهات السائدة في جرائم العنف بسهولةٍ أكثرَ من جرائم الممتلكات. في الواقع، توضِّح دراسةٌ حديثة أُجرِيَت في أستراليا القليل جدًّا من الدعم للأطروحة بشكل عام. فقد انخفضت مستويات الرَّصاص منذ أواخر السبعينيات فصاعدًا، لكنَّ الأنواع الأساسية لجرائم الممتلكات لم تبدأ في الانخفاض حتى مطلع الألفينيات؛ أيْ، مرةً أخرى، عندما كان المتأثرون في أواخر العشرينيات/أوائل الثلاثينيات من العمر وبعيدين كلَّ البُعد عن أي ذُروة لسن الإجرام. ويعترف المؤلفون بأنه من المحتمل أن يكون لانخفاض مستويات الرَّصاص في الغلاف الجوي بعضُ التأثير على انخفاض معدَّلات الاعتداء، لكنهم لم يجدوا أدلةً كافية على أي صلة ذات دلالة جرائم الممتلكات.
أفكارٌ أخيرة
ماذا نستنتج من كل هذا؟ حسنًا، يبدو أولًا أن هناك إجماعًا واسعَ النطاق على أن معدَّلات الجريمة ارتفعت ارتفاعًا حادًّا في الفترة التي تلَت الحربَ العالمية الثانية، وازدادت بشدة من الستينيات فصاعدًا، حتى وصلَت إلى ذُروتها في وقتٍ ما في أواخر الثمانينيات أو التسعينيات، ثم انخفضَت بعد ذلك. ثانيًا: لا يوجد تفسيرٌ بسيط «لارتفاع» الجريمة أو «انخفاضها»؛ الأمر الذي لا أعتقد أنه يجب أن يكون مثيرًا للدهشة على الإطلاق. وأغلب الظن أن ثمَّة مجموعةً من العوامل، تشمل مسائلَ الاقتصاد السياسي، وعدمَ المساواة الاجتماعية، والتغيراتِ في أنشطتنا الروتينية، ومؤخَّرًا، إيلاءَ الأمن ومَنْع الجريمة اهتمامًا أكبرَ، تقدِّم لنا المجموعةَ الأكثر اتساقًا من المتغيرات التفسيرية في تحليل الاتجاهات السائدة التي رصدناها.
ولكن قبل الختام، ثمَّة شيءٌ آخَر نحتاج إلى تناوله ألَا وهو: شبكة الإنترنت. ربما يكون هناك جانبٌ آخَر للتغيرات التي طرأت على أنشطتنا الروتينية لم نأخذه بعين الاعتبار بشكلٍ وافٍ، وهو أن حياتنا، وحياة الشباب على وجه الخصوص، تُنظَّم الآن بشكلٍ مختلف تمامًا عمَّا كانت عليه من قبل، ممَّا ترتَّب عليه قضاءُ وقتٍ أقلَّ بكثير في الشوارع أو في أماكنَ أخرى حيث قد ينخرطون في الأنشطة ذات النوعية التي تجذِب انتباه الشُّرطة بطبيعة الحال. هذا لا يعني أن هؤلاء الشباب لا يرتكبون «جرائم»؛ لأن الإنترنت يوفِّر العديدَ من الفرص الأخرى للنشاط الإجرامي. كلُّ ما في الأمر أن هذه الأنشطة لا تخضع لمراقبة الشُّرطة الرسمية بنَفْس الطريقة التي تُراقَب بها أنشطةُ الشباب في الشوارع.
لكنَّ هذه النقطة الأخيرة تقود إلى مسألةٍ أخطَر بكثير. فإذا كان صحيحًا أن نقول إن هناك قدْرًا معيَّنًا من الجرائم المرتكَبة باستخدام تقنيات المعلومات والاتصالات الحديثة، أبرزُها الإنترنت، وإذا كان صحيحًا أيضًا أن نقولَ إن هذه الأمور تقلُّ درجةُ تنظيمها الرسمي عن مفاهيمنا التقليدية للجريمة، إذَن فربما تكون مقاييسُنا الرئيسة للجريمة قد قلَّلَت من تقدير حجم الجرائم التي تحدُث. وربما لم يكُن معدَّل انخفاض الجريمة كبيرًا كما اعتقدنا؟
لحُسن الحظ، بدأ «استقصاءُ الجريمة في إنجلترا وويلز» للتوِّ في متابعة هذا الأمر. ومنذ عام ٢٠١٤، كان يحاول قياسَ حجمِ جرائم الاحتيال والجرائم الإلكترونية بشكلٍ أدقَّ. وفي عام ٢٠١٦ المنتهي في شهر سبتمبر، قدَّرَ «استقصاءُ الجريمة في إنجلترا وويلز» أن هناك ٦٫٢ ملايين حادث إجرامي؛ أيْ أقل من الذُّروة التي بلغَت ١٩ مليونًا في منتصف التسعينيات. غير أنه مع إضافةِ أسئلة تجريبية جديدة لأول مرَّة، قدَّرَ الاستقصاءُ أيضًا أن هناك ٣٫٦ ملايين جريمة احتيال إضافية ومليونَي جريمة إساءة استخدام الكمبيوتر. وبإضافةِ هذه التقديرات إلى التقدير الأساسي البالغ ٦٫٢ ملايين جريمة، وَصَل عدد الجرائم إلى ١١٫٨ مليونًا؛ أي ما يقرُب من الضِّعف. وبالرغم من أن هذا الرَّقم لا يزال أقلَّ بكثير من ذُروة منتصف التسعينيات، لكن في بعض النواحي كان انخفاض الجريمة أقلَّ نوعًا ما ممَّا كنا نعتقد. ونحتاج الآن إلى طرحِ المزيد من هذه الأسئلة الاستقصائية على مدارِ سنوات عديدة، مع دعمِها بمزيد من الأبحاث حول تأثير الإنترنت على الجريمة، قبل أن ينتابَنا أيُّ شعور بالثقة بشأن المرحلة التي وصَلْنا إليها. وعلى الأرجح أننا كنا بالفعل نشهد انخفاضًا في الجريمة خلال العشرين عامًا الماضية، ولكن يبدو من المؤكد إلى حدٍّ ما أيضًا أن حتى إجراءاتنا الأكثر تعقيدًا قد بالغت في تقديرِ مدى هذا الانخفاض. وكما ذكرنا في نهايةِ الفصل الخامس، حين يتعلَّق الأمرُ بالإحصاءات، وإحصاءات الجريمة على وجهِ الخصوص، دائمًا ما يكون الشكُّ الحذِر نقطةَ انطلاق صحية.