الفصل الأول
هذه هي المرة الأولى التي أمسك فيها بالقلم وأنا لا أدري إلى أين سأرمي به ولا إلى أين سيرمي هو بي، أهي رواية طويلة؟ أهي قصة قصيرة؟ أهي شيء بين هذه وتلك أم هي شيء جديد بالنسبة لي أنا؟ ولك أن تسألني — وما لك لا تفعل — ولماذا لا تصبر على قلمك وتنتظر حتى تعرف إلى أي الوديان أنت متخذ سمتك، ومستقبل وجهتك؟ ولي على سؤالك إجابة.
لقد خرجنا من فترة سياسية قلبت الموازين الاجتماعية كلها، وانقلب معها ما استقر عليه مألوف الناس، وما تعارفوا عليه في مضطرب حياتهم.
وقد وقف بنا هذا الاضطراب على أبواب حياة جديدة أصبحنا نرى فيها ما تعتبره بعض الأجيال عجبًا وما تعتبره أجيال آخرون أمرًا طبيعيًّا لا يدعو إلى دهشة أو تعجُّب.
وقد شاء لي تزاحم الحياة حولي أن أرى الكثير. وشاء لي قدري أن أكون من أهل الرواية والقصة. فليس عجيبًا إذن أمري إذا أنا أمسكت بالقلم ورحت أفكِّر به فيما رأيته حولي من زحمة الحياة، وليس عجيبًا من أمري ولا من أمرك أن أقدِّم إليك ما انتهى إليه حديثي إلى قلمي أو حديث قلمي إلي. قد يكون بعض الناس قد شاهد ما شاهدت، وسيجد هؤلاء أن ما خبره من الحياة لم ينفرد وحده بخبره، وقد يكون بعض آخرون قد سمع ولم يختبر، ونُقل إليه الأمر ولم يرَه، أو قد يكون بعض ثالث بمعزل عن مضطرب الحياة وزحمتها، فلا هو رأى ما رأيت، ولا هو حتى سمع عنه.
وأيًّا ما يكون الأمر، فقراءة الشيء غير مشاهدته وغير الاستماع إليه؛ لأن القارئ حين يقرؤه يجده نابضًا بنبض الكاتب ورؤيته. فلست حكَّاءً أروي لك الخبر دون أن أنفذ إلى العميق العميق من أغواره، ثم أنا ألُفُّ حوله وأدور فأرى ما يحيط به من كل جانب، فأنت لن تقرأ حديثًا هامدًا لا حياة فيه ولا حركة؛ فليست القصة أو الرواية مجرد مجموعة من الأحداث أو من ملامح الشخصيات أو تطور التآلف بين الحدث والشخص، وإنما القصة أو الرواية هي رؤية فنان، وهي حياة كاملة ولعلها الحياة الوحيدة في الحياة التي نعرف سرها؛ فسرُّ الحياة لا يعلمه إلا الله.
وما أنا بسبيلي إلى تقديمه إليك الآن لا أدري — كما قلت لك — كيف أنا سائر به أو كيف سيسير هو بي؛ فهذا الذي أكتبه لم أضع خطوطه العريضة، وإنما أنا مسَلِّم أمري إلى ذكرياتي وتفكيري وقلمي، وهذه الذكريات فيها كثيرٌ تهادى إليَّ من أفواه ناسٍ عن ناس، وأنا أعرف الحاكي والمحكي عنه. وهذه الذكريات فيها ما عرفته عن مشاهدة أو ما عرفته من مشاركة، ويتمازج هذا جميعه في نفسي وعلى سن قلمي، فإذا أنا لا أدري كيف يمكن أن تؤدي البداية فيه إلى النهاية.