الفصل العاشر
مجلة الفن التي يعمل بها حفني تجمع فيها كل أصناف الناس، وكذلك شأن الصحافة منذ وُلدت الصحافة في العالم؛ فهي تجتذب بسحرٍ لها عجيب ألوانًا من الناس شتى تضاربت مشاربهم واختلفت أهواؤهم وتعددت ثقافاتهم وجهالاتهم، وكثيرًا ما يكون الجهل في الصحافة رأس مال. ولا تحسب أني أغالي أو أحاول إثارة التعجب في نفسك، وإنما أقصد تمامًا ما أقول، فإذا كان محرر الشئون الفنية للممثلين في ذلك الزمان عالمًا — لا قدَّر الله — يسقط بابه سقوطًا فاحشًا، فالمفروض في محرر هذا الباب أن يكون قمة في السطحية؛ لأنه ينبغي عليه أن ينقل إلى القراء أين تصنع الممثلة ملابسها وأين تسهر ومع مَن، كما يتحتَّم عليه أن يذكر أحداثها الغرامية ومغامراتها، فإذا لم يكن لها أحداث فعليه أن يختلقها اختلاقًا. والخبطة الصحفية تتحقق عنده إذا ذكر أن ممثلًا وقع في حب ممثلة. وليس يعنيه أن يكون الممثل متزوجًا ولا يعنيه أن تكون الممثلة كذلك، إنما المهم أن يمتِّع القراء. ولو كان — لا قدَّر الله مرة أخرى — على شيء من الثقافة لأصابه بعض الحياء، فإن أصابه هذا الداء الوبيل المسمَّى بالحياء لما استطاع أن يقدِّم الباب الناجح الذي يريده صاحب المجلة أن يقدمه.
وهكذا تجدني لم أبتعد عن الحق، بل التزمته حين قلت لك إن الجهل يكون في كثير من الأحيان رأس مال خطيرًا في عالم الصحافة.
وكما تجتذب الصحافة هؤلاء تجتذب أيضًا مَن يريد أن يظهر اسمه منقوشًا بحروف المطبعة ولا يهم على أي مادة يظهر هذا الاسم، إنما المهم أن يظهر حتى ليضطر بعض الذين على شيء من العلم أن يخفوا علمهم هذا وكأنه سبَّة حتى يقبل صاحب الأمر في الصحافة أن ينشر له.
ومن الصحفيين مَن يريد أن يتصل بصاحب سلطة أو صاحب جاه أو صاحب شهرة.
ومنهم مَن يريد أن يكون كاتبًا فيبدأ حياته ناقل خبر حتى يصل الزمن به يومًا أن يكون صاحب قلم.
ومنهم غير ذلك. في بعضهم الإخلاص لمهنته، وفي بعضهم الرغبة أن يركب مهنته وسيلة إلى غاية أخرى.
ومنهم مَن يتخذ مهنته — كما ينبغي لها أن تكون — مهنة الأمانة والشرف والصدق والنقد الراغب في الإصلاح والتأييد المنبعث في الحق.
ومنهم مَن يتخذ مهنته — كما ينبغي لها أن تكون — سلاحًا لقطع الطريق وفرض إتاواته على كلِّ من لا يطيع رغباته الشخصية، فإذا هاجم هاجم لينال، وإن مدح مدح لينافس … و…
في كل مهنة في الحياة أخبارها وأشرارها، وهل المهن جميعًا إلا بنات الحياة، صنَّاعها هم أبناء الدنيا، والدنيا خير وشر، وشرفاء ولصوص، وأتقياء وفَجرة، وأنقياء وقَذرة.
•••
شاع في الصحافة جميعًا تلك الصلة التي استحكمت حلقاتها بين الأميرة فضيلة وحفني. ورأى حفني عجبًا، راح الصحفيون من جميع الجرائد يتقاطرون على حفني. ولكن سبقهم جميعًا إليه اثنان من العاملين معه في المجلة. لم يكن واحد منهما يلقي إليه اهتمامًا أو يحاول أن يتعرف به. ولكنهما فجأة حين عرفَا بتلك الصلة الجديدة أقبلا عليه إقبالة غير قادرة ولا متمرسة؛ فقد كان كلاهما في أول حياته الصحفية، وإن شئت قلت في أول الحياة كلها، ولكنْ هذان الصحفيان حقيقان أن نعرف عنهما كل شيء، وإني بأمرهما على علم اليقين.
فأما أولهما فهو حامد العراقي. وليست كلمة العراقي تلك جنسيته وإنما هي اسم، والسبب فيه غاية في الغرابة!
قدِمت قبل مولد أبيه جارية من العراق أدركها قانون منْع الرق فصارت راقصة في الأفراح والموالد، واستعملت معها مغنية مصرية كان لا بد لها منها حتى يُتاح لها أن تسمع سيدات هذا العصر الغناء، فقد كان لا يغني عند الحريم إلا المغنيات، وكان من الطبيعي أن تُطلِق على هذه المغنية اسمًا فنيًّا فأطلقته، فإذا هو سعاد العراقية. وحين تزوجت سعاد نُسِب ابنها إلى الجانب الأكثر شهرة، فإذا اسم ابنها وجيه العراقي لا وجيه القمَّاش، كما كان ينبغي أن يكون. مع أن القمَّاش كان أيضًا من أهل الفن، فقد كان طبَّال الفرقة التي تغني فيها العراقية، ولكن أين الطبال من مغنية الفرقة!
أنجب وجيه العراقي الذي عمل قاهيًا بوش البركة فوزي العراقي الذي صمَّم أبوه أن يبعده عن الوسط تمامًا، فعلَّمه حتى نال الشهادة الابتدائية، وسعى له عند زبائن بالمقهى حتى عُيِّن موظفًا بوزارة الأوقاف، وأصبح يحمل اسم فوزي أفندي العراقي، وأنجب فارس حديثنا هذا حامد العراقي. وقد لقي حامد من شظف العيش ما جعله يكره الدنيا جميعًا، فجوانحه كلها حقد وسخيمة، ونفْسه تأكل نفسه حتى شب ولم يشب، فهو مشروع إنسان لم يكتمل خلْقه ولم تكتمل نفسه، فهو قصير غاية القِصَر، ضامر كل الضمور، وإن تهيَّأ لك أن تطلع على داخله لوجدته أعظم قماءة من جسمه.
أصرَّ أبوه أن يعلمه ويتم تعليمه، وكانت دون ذلك أهوال. واستنجد فوزي أفندي بكل ذي أكرومة حتى استطاع أن يحصل على إعانة من الأوقاف كانت هي أحد المصدرَين اللذين كان لهما الفضل في تعليم حامد، أما المصدر الثاني فقد كان مبلغًا من المال يجود به كل شهر وجيه العراقي على حفيده حامد. وهكذا شبَّ حامد وتعلَّم على موردَين من المال عجيب أن يقترب أحدهما من الآخر، وعجيب أن ينسجما في مجرًى واحد، وكلٌّ منهما قادم من مصدر بعيد كل البعد عن المصدر الآخر؛ فقد اجتمع على تنشئته وتربيته وتعليمه مال الصدقة قادمًا من الأوقاف، ومال السُّحت قادمًا من وش البركة.
وأكمل حامد العراقي تعليمه وتخرَّج في كلية الحقوق، وكان ترتيبه متقدمًا، فكان طبيعيًّا أن يسعى جهده ليُعيَّن في النيابة العامة أمل خريجي الحقوق جميعًا، ولكن وقفت دون ذلك عقبات لا يستطيع أن يتخطاها به أحد حتى ولا زبائن جده بوش البركة. وكيف لمن كان جَده قاهيًا وجَدته راقصة أن يصبح عضوًا بالنيابة؟ هيهات! راح حامد يبحث عن وظيفة أخرى، ولكن الوظائف لم تكن ميسورة في ذلك الحين، فالأبواب أمامه مغلقة. كان الحقد قد تمكَّن من نفس حامد وعظُم سخطه على المجتمع. فأيُّ ذنب جناه هو حتى تحيطه الحياة بكل هذا القَذَر الذي يحيط به والذي يحول بينه وبين أن يبلغ من المكانة ما يصل إليه مَن هم أقل علمًا.
راح حامد في هوة الفراغ التي تطالعه من الحياة يقرأ، وكان بروح الحقد التي طمت على نفسه يعرف ما يريد أن يقرأ. وبدأ يكتب واتجه بكتابته إلى مجلة الفن؛ فقد كان فيها أبواب لا تخلو من الجرأة، وهو يريد حقده أن يفشو في كتاباته ومقالاته بعد أن فاضت به مشاعره.
ومهاجمة المجتمع والمستقر من شئونه أمرٌ حبيب إلى نفس أصحاب الصحف؛ فكل هجوم حبيب إلى القراء، فالفاشلون في المجتمع أكثر من الناجحين، وقديمًا قال الشاعر:
والفاشلون يحبون دائمًا أن يعلِّقوا أسباب فشلهم على أقرب مِشْجَب، وليكن المِشجب فساد المجتمع أو الوساطة التي تأخذ بيد الناجحين أو هم يبالغون فيدَّعون أن الذين أفلحوا إنما أفلحوا بالنفاق والسفالة وبيع الضمير. ليكن المِشجب أي شيء إلا أن يكون الناجح أهلًا للنجاح وهم أهلًا للفشل بغبائهم أو جهلهم.
وهكذا نشر صاحب المجلة مقالات حامد، وما هي إلا بضع مقالات حتى عُيِّن حامد محررًا لباب المجتمع في مجلة الفن، ومن هذا الباب كتب في السياسة. وحين تقرَّب إلى حفني طلب إليه أن يعرِّفه بأخيه حلمي. ولم يجد حفني مانعًا وتعرَّف حامد بحلمي.
ألا يطيب لك الآن أن نترك حامد قليلًا لنذهب إلى زميله الذي سعى إلى حفني حين بلغه اتصاله بالأميرة. إنه حسن هنداوي.
أما أبوه فسمسار غلال تمكَّن من تعليمه حتى نال الابتدائية، ثم تقطَّعت أنفاسه وأعلنه أبوه هنداوي: الابتدائية على أيامنا كانت تجعل الحاصل عليها أفندي قد الدنيا.
– ولكنها على أيامنا لا تزيد عن الآخرة في شيء.
– يا ابني ألا تعرف ماذا أعمل؟
– تاجر غلال.
– يا ليت! يا ابني أنا سمسار، أوصل البائع إلى المشتري أو المشتري إلى البائع وآخد العمولة والسمسرة.
– ولماذا لا تكون تاجرًا؟
– أولًا أنا لا أملك رأس المال، وهذا وحده سببٌ كافٍ، ثم إن التاجر عرضة للخسارة، أما السمسار فلا يخسر أبدًا.
– ولكنك لا تملك شيئًا حتى تخشى الخسارة.
– حتى وإن كنت أملك المال فأنا لا أملك الجرأة.
– الجرأة هي الحياة.
– وهي الموت أيضًا.
– المهم أنا لا أستطيع إكمال تعليمك.
– حاول أن تعيني في وظيفة إذن، فعملك جعلك تعرف الكثيرين.
وكان عضو النواب بالدائرة ممن يبيعون قمحهم عن طريق أبيه، فزكَّاه عند صاحب الجريدة فعُيِّن بها، وراح يحاول الالتصاق بالأستاذ فايز وهبي صاحب الجريدة.
وكان الأستاذ فايز يحب الليالي الحمراء، وأدرك حسن هذا فيه، فإذا هو يتقرَّب إليه عن طريق النساء. وأصبح هو الصلة بين الأستاذ فايز وبنات المواخير اللاتي وجد حياته تقوم على الاتصال بهن، وأصبح من أقرب المحررين إلى صاحب المجلة. ولكن حسن كان ذا طموح كبير ضخم وليس فايز بالنسبة إليه إلا أول الدَّرج، وربما كان حفني وحلمي هما السُّلَّمة الثانية في هذا الدَّرج. وهو دَرجٌ من نوع عجيب يراه حسن يؤدي إلى السماء السابعة من الشهرة والمجد والجبروت، ويراه المجتمع الشريف يؤدي إلى أسفل حمأة من السفالة، ويبيع القلم والضمير والشرف وكل ما يتصل بالخُلُق الكريم.
ولكن حسن حين جال بعينيه فيمن حوله أدرك أنه لا سبيل له أن ينال مكانة مرموقة في الصحافة التي رمته المقادير إليها إلا بأن ينال شهادة وأن يتقن لغة أخرى. وإن كانت صلته بفايز تمكِّنه اليوم من نشر مقالاته وتقرِّبه مما يظن أنه شهرة ومجد فقد كان من الذكاء بحيث يدرك أن الكتابة هي عرض عقل الإنسان على بشرٍ كثير، وإذا لم يكن ما يُعرض عميقًا ذا قيمة فلا بد على الأقل أن يكون جذابًا، فإذا هو ظلَّ محصورًا في دائرة الثقافة الابتدائية وما يكتبه الآخرون في شتى الصحف فلا مستقبل له. التحق حسن بمدرسة من مدارس اللغات وراح يتعلم اللغة الإنجليزية، وفي نفس الوقت راح يذاكر لينال شهادة التوجيهية أو البكالوريا من المنزل؛ فقد كان حسن يعلم أنه إذا لم يتسلح بالشهادة وباللغة فلا سلاح له في الحياة، وحين تعرَّف بحفني كان قد نال شهادة البكالوريا، وكانت أنفاسه قد تقطعت فاكتفى بها وانصرف عن إكمال الجامعة، واعتمد على أن إتقانه للغة الإنجليزية قد يعوِّضه عن الشهادة العالية، واعتمد أيضًا على أن الناس مع الزمن ينسون ما حصل عليه الإنسان من شهادات، وخاصة إذا كان هذا الإنسان يعمل في الصحافة وليس في وظيفة رسمية في حكومة.
كان كل من حامد وحسن أصغر كثيرًا من حفني. وهكذا استطاعا أن يلازماه ملازمةَ الظل، وتعرَّف كلاهما بحلمي الذي أصبح وزيرًا، فكان مصدر معلومات سياسية لكليهما، وكانا يقسِّمان المعلومات بينهما، ويعرض كلٌّ منهما معلوماته ويعلِّق عليها كلٌّ بطريقته. أما حامد فبخبث الحاقدين، وأما حسن فبديماجوجية التجار الباحثين عن الإبهار عن طريق تضخيم الهائف وتعظيم التافه، وإكساب هين الأمور ما لا تستحقه من أهمية وخطورة.