الفصل الحادي عشر
طغى الملك واستكبر وتجمعت حوله ثلَّة من أصاغر الناس وحقرائهم الباحثين عن المال لأنفسهم وللملك عن أي طريق وبأي وسيلة، أما هم فوضعاء ويعلمون أن بقاء أي فرد إلى جانب السلطان أمر لا يطول أمده، وأنهم إن كانوا نجومًا اليوم فهم في غدٍ قريبٍ مبعدون، فهم يهتبلون فرصة قربهم هذا ليشفطوا ما يُتاح لهم وما لا يُتاح من أموال، أما الملك فقد كان يشعر في بيته بالمهانة وحقارة الشأن، وكان يريد أن يثبت لنفسه أنه ذكي وخطير، وأنه يستطيع أن يسخر ممن يشاء، وما درى المسكين أنه يسخر أول ما يسخر من نفسه، فإن أحدًا مهما يكن ذكاؤه لا يستطيع أن يسخر من شعب أي شعب، فما الخطْب إن كان هذا الشعب هو الشعب المصري الذي خاض من أهوال الحياة ما لم يخضه شعب آخر، والذي اقتعد قمة التاريخ في صدر التاريخ ودوَّخ الطغاة ودوَّخوه على مر الآلاف من السنين. فليس في العالم أجمع شعب خبرَ الحياة وخبرته الحياة مثل الشعب المصري، فهيهات أن يسخر منه ساخر.
قد يخدعه مخادع، ولكن هيهات أن يستطيع المخادع أن يخدع المثقفين منه والمتعلمين، أما الذين لم يتلقوا من التعليم حظًّا فهم يتقنون من الحياة صنعتَهم في الحياة؛ فالفلاح المصري يزرع بأدوات قدماء المصريين وينتج إنتاج القرن العشرين. رأيت فلاحًا يمسك بقطعة الطين من الأرض ويضعها على لسانه، ثم يقول وكأنه أستاذ في أعلى الجامعات: هذه الأرض لا تصلح لزراعة القطن.
ورأينا الصانع المصري يجتاز فترة الحرب العالمية وسيارات مصر جميعها تسير بغير قطع غيار من الخارج، والمباني تقوم دون أن يستقدموا لها الحديد أو أدوات السباكة من الغرب الذي كان مشغولًا بحربه، ولا عبور بالبحر الأبيض المتوسط الذي كان لا يخدم إلا سفاكي الدماء من الجانبين المتحاربين.
فإذا ظن سياسي أنه يخادع هؤلاء فلأنهم كانوا مشغولين عنه بإتقان صنعتهم وليس يعنيهم أمره في قليل أو كثير، وكأنهم كانوا يريدون أن يقولوا له في تلك الابتسامة الطيبة العذبة: أتريد أن تضحك علينا وماله؟ اضحك ولكن اتركنا نحن لنقوم بواجبنا نحو صنعتنا.
وهكذا أصبح الملك لصًّا وهو في غير حاجة إلى مال، وحلا له أن يُذاع عنه أنه في ميدان النساء صنديد لا يُشق له غبار ليخفي بذلك حقيقة أمره. وما كان في حاجة إلى إخفائها، فما يعني الناس عنه في هذا الميدان شيء، ولكنه غباء تمكَّن منه وخرج به عن طبيعة الأمور، وربما كان له العذر في ذلك بما كان يلقاه في أسرته من أهوال.
حاول الملك أن يعدو على أموال الدولة في الوزارة التي كان يحمل عبئها حلمي باشا. وكان الملك يظن أن إنعامه عليه بالباشوية سيجعله يقبل محاولة الملك أن ينال أموال الدولة، ولكن فأله خاب. ورفض حلمي أن تتنازل وزارته عن حقِّها في المال العام فيصبح مالًا خاصًّا للملك.
وأصر الملك وأصر حلمي. وأحرج رئيس الوزارة، ولكن حلمي الذي لم يأبه بغضب الملك كان أكثر إهمالًا لحرج رئيس الوزراء.
وأوشك رئيس الوزراء أن يستقيل، ولكن الأحداث تلاحقت.
واضطُر الملك أن يتراجع ليتظاهر أنه يواكب الأحداث.
فقد حدث في ذلك الحين أن بدأ اليهود في انتهاب دولة فلسطين مؤيدين بالإمبراطورية التي كانت ما تزال حتى ذلك الحين تغطي بشمسها المظلمة العالم أجمع، وأصبحت مصر في موقفٍ غاية في الحرج؛ فهي من ناحية زعيمة العالم العربي والإسلامي، وها هي ذي دولة عربية بأكملها يحاول عدو وقح أن يستولي عليها ويقيم عليها دولة يهودية، ومن ناحية أخرى كانت مصر هذه الزعيمة دولة محتلة بالإمبراطورية البريطانية التي تحمي العدوان اليهودي الذي لم يسبق له مثيل في التاريخ.
وحاول الملك أن ينتهز الفرصة ليلهي الناس عن فضائحه ويحيي الحلم القديم الذي راود أجداده أن يصبح خليفة على العرب جميعًا متناسيًا طبيعة التاريخ والدول، ورفْض كل دولة أن تكون تابعة في حكمها إلى أي دولة أخرى مهما تكن هذه الدولة حبيبة وصديقة، بل وزعيمة أيضًا.
أراد الملك أن يجبر الوزارة على دخول الحرب بغير أي استعداد، وعرض الأمر على مجلس الوزراء، وانقسم الرأي، وكان رأي حلمي أن نسأل وزير الدفاع، وكان وزير الدفاع من أتباع الملك فإذا هو يقول وهو يعلم أنه كاذب: إن هذه الحرب نزهةٌ حربية للجيش المصري، وأنه يستطيع أن يقضي على القوات الإسرائيلية فيما لا يزيد عن أسبوعين.
وحينئذٍ قال حلمي: ما دام الأمر كذلك فإن الجيش المصري لن يجد فرصة مثل هذه ليمحو عن نفسه ذلك الاسم المقيت من أنه جيش المحمل الذي لا عمل له إلا الخروج في الاستعراضات ليكون أشبه شيء بعارضات الأزياء. ومصر عليها أن تواجه قدْرها الذي ألقاه التاريخ على كاهلها، فهي زعيمة العالم العربي والإسلامي، ومصر يجب أن تجعل المحتل يحس أنه غير آمن في احتلاله، ولعله يعجِّل بالرحيل بعد أن انتهت المفاوضات الأخيرة بالفشل، شأنها شأن كل المفاوضات السابقة عليها.
ورُفعت الجلسة دون أخذ الرأي، فإذا حلمي يقدِّم استقالته إلى رئيس الوزراء، ويطلب إليه رئيس الوزراء أن يؤجلها إلى فترة قصيرة، ويقول حلمي: أنا أعلم أن الوزير عليه أن يخضع لرأي الأغلبية في مجلس الوزراء، ولكني أعلم أيضًا أن موضوع الخلاف إذا كان من الخطورة بهذا المكان، فإن ضميري يحتِّم عليَّ أن أقدِّم استقالتي لأنني مصمم على رأيي، وأرى أن بقائي في الوزارة يُعَد خيانة مني للوطن ولنفسي.
ويقول رئيس الوزراء: إنك محق فيما تقول، ولكن لا تنسَ أن مجلس الوزراء لم يقل رأيه بعدُ، فأبقِ عليك استقالتك حتى يصدر المجلس قراره، فإن كان مخالفًا لرأيك أصبح من حقك أن تقدِّم استقالتك، وأصبح من واجبي أن أقبلها.
وانتظر حلمي وقطع الشعب المصري الطريق على أي رأي؛ فقد تطوَّعت الألوف من الشباب، بل تطوَّع أيضًا الكثيرون من رجال الجيش، ووجدت الحكومة نفسها مرغمة أن تعلن الحرب حتى تستطيع أن تقدِّم لهم السلاح علانية، وقامت الحرب واكتسح الجيش المصري أعداءه، ولكن الإمبراطورية البريطانية أدركت أنها لو أتاحت هذا النصر لمصر فمصيرها في مصر أصبح مقضيًّا عليه، وهي في الوقت نفسه كانت تريد لدولة إسرائيل أن تقوم لتكون قاعدة لها في المنطقة إذا اضطرتها الظروف أن تجلو عن البلاد التي تحتلها، وكانت تدرك في نفس الوقت أن شمسها تنحسر عن العالم، وأن شمس الإمبراطورية الأمريكية الجديدة تطفئ أضواءها، فكان من الطبيعي أن تحاول لندن وهي تلملم ثيابها من الشرق أن تغرس فيه هذه الشوكة لتستعملها عند الحاجة إليها.
وتتابعت الأحداث …