الفصل الثاني عشر
أين صديقي الذي حدثتك عنه عندما بدأت هذه الرواية؟ ألا ترى معي أنه تأخَّر كثيرًا عن الظهور. لا عليَّ ولا عليك ولا عليه، فما كان صديقي حتى الآن ذا مكان في الحياة حتى يمثل مكانًا في هذه الرواية. وأنت على كل حال قد تعرَّفت عليه، ولكنك لم تلتفت إلى أمره ولا عُنيت به، فهكذا أنت أيها القارئ تريد من الروائي أن يضع لك كل شخصية في إطارٍ، ويلح عليك أن تتعرف بها، والروائي عادة لا يفعل ذلك إلا إذا كان يحتاج إلى هذه الشخصية، وهو أيضًا لا يفعل ذلك إلا حين يرى أن الموقف قد حان لشخصيته أن تظهر. وقد ألمحت لك عن عدلي قبل الآن، متى كان ذلك؟ عليك أنت أن تتذكر. إن عدلي هو الابن الوحيد الذي أنجبه حلمي الذي أصبح حلمي باشا، وقد كان عدلي يحبو في حنايا السنين ليتعلم، وحين تعرَّف حامد وحسن الصحفيان إلى أبيه الباشا كانت سنُّه تقارب سنَّهما؛ فلم يكن غريبًا أن يسعى كلٌّ منهما إلى التعرُّف إليه وتوثيق هذه المعرفة، وكان عدلي من ذلك النوع من الناس الذين يحبون أن يعرفوا الناس، وينزلوا كلَّ إنسان في منزلته. وأدرك حامد أن عدلي لا يمكن أن يكون متفقًا معه في الرأي، فهو من الفئة التي لا تحقد، وإنما يحقد عليها الحاقدون، فعمل جهده أن يجعل الجانب الذي يبدو لعدلي منه مناقضًا تمامًا لوجهه الحقيقي، واستطاع في نفس الوقت أن يجتذب عدلي إليه بما قرأ من كتب في الفلسفة والسياسة والتاريخ. أما حسن فقد علم أن عدلي لا يحتاج إلى فتيات المواخير، وهو في نفس الوقت لا يحب أن تكون هذه الصفة معروفة عنه في بيت حلمي، ولكنه استطاع أن يجتذب عدلي بحديثه المنمق وبنفاقه ويسكب المديح من غير تحفُّظ على والده حلمي باشا.
وقد أثمرت هذه الصداقة منفعة لحامد وحسن على السواء.
أما حامد فقد كان يريد أن يسافر إلى الخارج بأي وسيلة من الوسائل، وقد أدرك أن حفني لا يستطيع أن يكون شفيعًا له عند فايز ليأمر له برحلة إلى العالم الخارجي ليرى ما لا يستطيع أن يراه بماله الخاص.
وقد استطاع هو أن يقنع فايز أنه لو جعل له مراسلًا في لندن وآخر في باريس لسبق المجلات المصرية في عرض أنباء العالم. وقد اقتنع فايز بهذه الفكرة، وخاصة بعد أن أصبحت مجلته عامة لا تقصر اهتمامها على الفن وحده. وطمع حامد أن يكون هو واحدًا من هذين المراسلَين. ولكنه وجد في فايز فتورًا عن الاستجابة لمطلبه، وفي دربة الكلاب على الشم أدرك أن حلمي باشا لو أوصى به عند فايز فإن فايز لن يستطيع أن يتغاضى عن رجاء الوزير. وتكلم حامد مع صديقه عدلي وأصبح حامد مندوب المجلة في باريس.
أما حسن فقد أراد أن يكون مندوب المجلة في حرب فلسطين، ولكن فايز لا يستطيع أن يستغني عن خدمات حسن في القاهرة، فهو الذي يؤجر له الشقق وما ينتفع به في هذه الشقق، وهو الذي يُعِد له كل ما يحتاجه الأمر في أمسياته، ولكن حسن كان مصرًّا على أن يقفز حواجز الزمن، وكان يدرك أنه إذا لم يصنع في الصحافة ما يخشى الآخرون أن يصنعوه فلا فَلَاح له. وما دام قد صنع ما يخجل الآخرون أن يقوموا به فمن الطبيعي ألا يقف شيء أمامه بعد ذلك.
وتوجَّه إلى عدلي برجائه وتقرَّر أن يكون حسن مندوب المجلة في الحرب.
•••
لم يكن حفني ليُعنى بهذه الحرب في شيء، إلا أنه فوجئ بشوقي سلام يأتي إليه على غير موعد ببيته.
– أنا وقعت من السما.
– وأنا ألقاك.
– أنا مسافر إلى فلسطين بعد يومين.
– يا نهار اسود!
– ولا اسود ولا حاجة، كل اخواني مسافرون.
– من اخوانك هؤلاء؟
– ليس هذا هو المهم.
– فما هو المهم إذن؟
– صاحبتي.
– أحلام؟
– طبعًا، وهل أعرف غيرها!
– الآن لا.
– إذن هي.
– وما شأن أحلام بفلسطين.
– هي عندي منذ ثلاثة أيام.
– عندك! ألست متزوجًا؟
– ماذا جرى لك؟ يا أخي أنت تفهمها وهي طائرة.
– ولكن هذه ليست طائرة، هذه غير واضحة الرؤية مطلقًا.
– في شقتي الخاصة طبعًا.
– عظيم.
– بل هباب!
– لماذا؟
– كانت قالت لزوجها أنها ستذهب إلى أمها في الإسكندرية، بسلامته أخذ إجازة أمس وذهب إلى الإسكندرية ولم يجدها! أحد أصدقائي … ماذا أقول … أحد إخواني وشى بي.
– أحد إخوانك.
– ضابط زميلي كل نفسه حقد يحقد على أي سعادة مهما يكن مصدر هذه السعادة. المهم ليس هذا وقته، أرسل ورقةً مجهولة إلى الزوج يخبره عن عنوان الشقة.
– وكيف عرفت أن صديقك هذا الذي أرسل الورقة؟
– من حظي الأسود له صديق في نفس العمارة التي بها الشقة، ومن حظي الأسود أنه جاء يزور صديقه هذا فرآني مع أحلام، فهو الوحيد الذي كشف أمري. يا أخي ليس هذا هو المهم.
– وما هو المهم؟
– أن نختفي.
– أين؟
– في أي داهية.
– ألم يأتِ الزوج إلى الشقة؟
– تنيل، أتى.
– وأين كنتما؟
– كنا في أول الشارع قادمين إلى العمارة حين رأينا سيارته أمام الباب فادركت كل شيء.
– والآن؟
– أبحث لي عن مخبأ.
– هيا بنا.
– إلى أين؟
– إلى العزبة.
– هيا.
– أين أحلام؟
– تحت في السيارة.
– سأذهب أنا في سيارتي وتلحق بي أنت في سيارتك.
– لماذا؟
– حتى تكون عندنا حرية الحركة.
– لك حق فإن صديق الحقد الذي كلمتك عنه يعرف صلته بك، ولا تستبعد أن يرسل ورقة ليرشد الزوج عن العزبة.
– هيا.
وقبيل الغروب شهد منزل الوسيمي ببلدتهم الرمايحة سيارتين ينزل عنهما ثلاثة نفر، وجرى عبد المعين خادم المنزل ففتح الباب وقال حفني: كيف حالك يا عبد المعين؟
– بخير يا سعادة البك، ربنا يبارك فيك.
وصاح شوقي: اسمه عبد المعين.
وقال عبد المعين: خادمك يا سعادة البك.
قال شوقي: ربنا يستر. أخشى أن يكون هو عبد المعين صاحب المثل المشهور.
وضحك حفني قائلًا: لا تخف، فهو عند الشدة يعجبك. اعمل لنا عشاء يا عبد المعين.
– أمرك يا بك.
– وجهِّز حجرتي لشوقي بك والست زوجته، وأنا جهِّز لي حجرة من حُجَر الضيوف.
– أمرك يا بك. سعادتك ستتعشى هنا أم في الدور الأعلى.
– هنا.
– وصاح شوقي: في الدور الأعلى، في الدور الأعلى أنا في عرضك.
ونظر إليه حفني وسكت لحظة، ثم أدرك ما يعنيه وقال: وهو كذلك في الدور الأعلى، واسمع يا عبد المعين، قل لسعدون يفتح الجراج.
– أمرك يا بك.
وحين انصرف عبد المعين قال حفني: أدخل سيارتك في الجراج وقل لهم أن يتركوه مفتوحًا.
– معقول! الجراج بعيد عن مدخل البيت.
– طبعًا.
•••
كان الليل حالك الظلمة، وكانت آلة الإنارة قد توقَّفت تمامًا في عزبة الوسيمي، وأصبح البيت قطعة من ظلام لم تجرؤ الأشعة المتخافتة من ضوء مصباح الغاز المتروكة في البهو أن تعدو على حلكته أو أن تبدِّد شيئًا من قتامته.
ولكن ضوء سيارة اخترق الظلامَ واعتدى على هذه الحلكة بنورٍ جريء جرأة صاحب الحق، وهبَّ الثلاثة في بيت الوسيمي وهم يعرفون مَن صاحب السيارة والنور.
واقتحم حفني الحجرة على شوقي وأحلام وألقى أوامره في سرعة وحسم: أحلام خذي بدلتي هذه والبسيها، وأنت البس هدومك وانزلا فورًا من باب الخدم إلى الجراج، وسأشغل أنا عبد الصادق حتى تخرجا بالسيارة إلى مصر، واذهب أنت يا شوقي إلى بيتك، أما أنتِ يا أحلام فعودي إلى بيتك واتفقي مع صديقة لك في أي بلد أن تقول إنها دعتك فذهبتِ إليها. أسرِعا. اسمعي أليس لك صاحبة ليست في القاهرة.
– المنصورة.
– حلوة، هيا.
وبسرعة نادى عبد المعين وأمره أن يرتِّب فراش شوقي، وأن يترك فراشه مهوشًا كما هو، ونزل إلى الطابق الأول.
– أهلًا عبد الصادق بك.
– أهلًا بك يا حفني بك. أهكذا؟
– أهكذا ماذا؟
– أتقبل أن تكون هذه صنعتك؟
– يا ترى أنت متأكد أنك قصدت إلى الشخص المطلوب؟
– لا شك في هذا.
– ومَن هو الشخص المطلوب؟
– حفني الوسيمي.
– في عزبتي والساعة تقترب من الثانية صباحًا؟
– أتظن أنني أفعل مثل هذا إلا لسبب خطير؟
– متصل بي أنا؟
– طبعًا. أين زوجتي يا حفني؟ أين أحلام؟
– أحلام! معي أنا؟
– مع صاحبك شوقي.
– وأنا ما شأني؟
– أنت تخفيهم عندك.
– وإذا كان هذا صحيحًا فكيف عرفت؟
– اقرأ.
ولم يكن حفني في حاجة إلى أن يقرأ، فقد أدرك أن توقُّع شوقي قد صح، فأخذ الورقة ثم رفع بصره إلى عبد الصادق: ورقة من مجهول تجعلك تأتي في الثانية صباحًا إلى بيت وزير من وزراء الدولة لتتهم أخاه أنه يتستر على جريمة زنا؟!
– كان على أخي الوزير أن يبقي بيته وبيت أخيه شريفًا.
– وهل سمعت عن حلمي غير ذلك؟
– عن حلمي لا. أما عن أخي حلمي فإنه يستطيع أن يصنع أي شيء.
– تهمة مثل هذه عندنا نحن الفلاحين لا يمحوها إلا الدم يا عبد الصادق بك.
– إذا لم تكن صحيحة.
– أنت تحتاج إلى إثبات.
– اسمح لي أن أمرَّ بغرف البيت.
– الطابق الأسفل نعم، أما الطابق الأعلى فهيهات أن تخطو إليه رِجلٌ غريبة.
– ما غريب إلا الشيطان يا سعادة البك يا أخا سعادة الباشا.
– اخرس.
– تخفيهما في الطابق الأعلى وتقول لا تطؤه رِجلٌ، لا وحياة والدك لئن لم أصعد إلى الطابق الأعلى لأبلغن البوليس فورًا.
– أتظن أن البوليس يجرؤ على التهجم على بيت وزير وعضو نواب دون أمر بالتفتيش ورفع الحصانة من مجلس النواب أيضًا؟
– أبلغ وزير الداخلية ووزير الحقانية، شرفي يا هوه، شرفي يا عالم.
– أتظن أنك تصون شرفك بهذه الضجة؟
– هذا شأني أنا.
– اسمع يا عبد الصادق، أنا لا أخشى التهديد، ولكن لأنني إنسان وأدرك الحالة التي أنت فيها سأصعد معك إلى الطابق الأعلى، ولكن قل لي، إذا لم نجد أحدًا كيف ستعتذر؟
– الذي جعلك تقدِّر حالتي من الثورة سيجعلك تقدِّر حالتي من الخجل.
– وهو كذلك، تفضل.
وطبعًا لم يجدا أحدًا.