الفصل الرابع عشر
حين عاد حسن من الجبهة كانت تحيط به أجواء غريبة كل الغرابة على الذين يعرفونه؛ فقد أصبح يحاول أن يضفي على نفسه نوعًا من الأهمية، وأصبح فايز يهتم بأمره بعض الاهتمام، الأمر الذي لم يكن أحد يتصور أن يحدث أبدًا، بل والأعجب من ذلك أنه أصبح يشارك فايز سهراته بعد أن كان يعدها له فقط دون أن يجرأ على التفكير في مشاركته فيها.
وقد أصبح شديد العناية بملبسه في الحدود التي تتيحها له دخوله المختلفة، والتي ما زالت قليلة مع ذلك.
وقد توثقت صلة حسن بالأميرالاي وهبي عبد المولى، وصار يتردد على بيته في انتظام. وكان للأميرالاي وهبي ابنة في الثلاثين من عمرها وكانت تكبر حسن ببعض سنوات، ولكنه وجد أن فرصة زواجه منها لن تتكرر، ومن أين له أن يجد ابنة أميرالاي إلا أن تكون زوجة سابقة مات عنها زوجها وترك لها طفلًا.
– يا ترى يا سعادة البك أطمع في هذا الشرف.
– والله يا حسن يا ابني تعرف أن بنتي كانت متزوجة، وقد أصبح لها وحدها الحق أن تقبل الزواج مرة أخرى أو ترفضه.
– البركة فيك يا سعادة البك.
ووافقت الست بديعة وهبي على الزواج، وطبعًا لم يفكر حسن أن يدعو أباه إلى العرس، ولكنه دعا إليه — طبعًا — حلمي باشا وأخاه حفني وعبد الفتاح صدقي وعدلي. ودعا أيضًا شخصًا ربما تكون قد نسيته وهو حامد العراقي الذي عاد من فرنسا ومعه زوجة فرنسية، فقد انتهز فرصة وجوده في باريس ووثق أنهم هناك لن يعرفوا شيئًا عن جده أو جدته أو الطريقة التي تعلَّم بها، وأين يمكن أن تتوه هذه الأعراق العميقة الجذور في تربة وش البركة إذا لم يدركها التيه في باريس؟
وهكذا تزوج هو أيضًا وشهدت زوجته مادلين زواج زميله حسن. وقدَّم فايز إلى حسن مائة جنيه هدية زواج له استطاع أن يشتري منها حلة العرس. وبدأت مطالع حياة جديدة تسفر عن وجهها الحسن بعد وجهٍ شائهٍ لم تكن الحياة تطالعه إلا به. وحين انتهى العرس جلست أسرة الأميرالاي وهبي بك تذكر ما كان من المدعوين ومن أمر الراقصة ومن أمر النقوط. وإن لم يكن الحفل كبيرًا ولكن الحديث عنه كان موفورًا. وغمزت الست حكمت اليازرجي زوجة وهبي لزوجها بعينها، وتلقى الإشارة وأحسن فهمها.
– ألَّا قل لي يا حسين يا بني.
– نعم يا سعادة البك.
وقالت الست حكمت: يا أخي قل يا عمي.
وقال حسن في نفاق يجري في عروقه مجرى الدم: لا يمكن يا ست هانم، أين أنا من كلمة عمي هذه؟
وضحك الأميرالاي وهبي، فقد كان لقب بك حبيبًا إلى نفسه دائمًا، وأكمل حديثه.
– متى تحب أن تتم الدخلة؟
– متى تأمر بديعة هانم.
وقال وهبي: بيدك أن تكون الليلة وبيدك أن تكون بعد أشهر.
– اجعلها الليلة أنا في عرضك يا سعادة البك.
وضحك الجميع ووضعت بديعة على وجهها خمارًا من حياء، وقال وهبي: هل تصر على أن تسكن في شقة وحدك أنت وعروسك؟
– والله الأمر إليها وإليك.
– أنت تعرف أن ابنها نبيه محتاج لمن يرعاه، وهنا سته تستطيع أن تكون إلى جانبه دائمًا، والبيت هنا كبير وتستطيع أن تعيش معنا، وهكذا لا تحرم خالتك حكمت من بنتها الوحيدة ومن حفيدها.
– وهل يمكن أن أتمنى أحسن من هذا؟ كل ما في الأمر أنني مواعيدي صعبة كصحفي، وسعادتك تعرف وأخشى أن أزعجكم.
– لا إزعاج في الأمر، سنجعل حجرتك على السُّلم مباشرة لتخرج وتدخل وقتما تشاء.
– وهو كذلك أمركم.
– اذهب إذن وأحضر ملابسك.
– في لمح البصر يا سعادة البك، في لمح البصر.
– ألم أقل لك أن الحياة أصبحت تطالعه بوجهٍ لم يكن يتصور أنه سيراه من هذه الحياة؟