الفصل التاسع عشر
سمعنا عن قصة ذلك المهندس الذي استدعاه صاحب أحد المصانع ليرى رأيه في آلةٍ توقفت عن العمل وكانت الآلة تساوي ملايين الجنيهات، وكان المصنع قد أخذ قراره بالاستغناء عنها وشراء غيرها إلا أن القائمين بأمر المصنع أرادوا أن يكونوا على ثقة من قرارهم فاستقدموا هذا المهندس ليعطي رأيه وليصدر قرار المصنع النهائي. ورأى المهندس الآلة وقال في بساطة: أستطيع إصلاحها، ويمكن أن تعمل بعد ذلك عدة سنوات أخرى.
ووافق صاحب المصنع ولكن المهندس طلب أجر إصلاحه للآلة خمسين ألف جنيه، ولم يجد صاحب المصنع بدًّا من الموافقة.
ولبس المهندس حلة العمل وأمسك بعض المفاتيح وواجه الآلة وربط مسمارًا هنا وآخر هناك، واستغرق عمله ساعة أو بعض الساعة وضغط على زر الآلة فعملت وعادت وكأنها قادمة لتوها من مصنعها. وخلع حُلَّته وذهب إلى صاحب الآلة وطلب أجره. ولكن صاحب المصنع بعد أن دارت الآلة ذات الجنيهات الملايين استكثر أن يدفع خمسين ألف جنيه من أجل ساعه عمل واحدة وقال للمهندس: أتريد خمسين ألف جنيه من أجل عمل ساعة واحدة.
ولكن المهندس قال له في ثقة: لا يا سيدى إنني أتقاضى خمسين ألف جنيه من أجل عمل خمسين سنة، فالخبرة التي قدمتها لك في ساعة واحدة اكتسبتها أنا في خمسين سنة.
وأمام هذا المنطق الحاسم لم يجد صاحب المصنع مناصًا أن يدفع الأجر الذي اتفق عليه.
ولكن بعض الدول العربية ما زالت تفكر بتفكير صاحب المصنع، وقليلة هي الدول التي تفكر بتفكير المهندس؛ فالخبرة التي تقدمها مصر إلى الدول العربية هي خبرة آلاف السنين تلقوها من أجدادهم الذين بنوا الأهرام مارين بكل ما مرت به مصر من تجارب، فالصانع المصري لا مثيل له في العالم، والعلماء المصريون يقفون مع علماء العالم على قمة واحدة، والمثقف المصري هو منارة العالم العربي أجمع.
فما لي أرى الناس في الكويت تعاملنا نحن المصريين المقيمين فيها هذه المعاملة وقد شهدتهم يستقبلون الأدباء المصريين والعلماء والفنانين أعظم استقبال ويحتفون بهم كل الاحتفاء ويجلُّونهم غاية الإجلال.
ولكن المقيم عندهم لا يلقى من هذا شيئًا. وأعرف أن الشعب الكويتي مثله مثل الشعوب العربية جميعًا يحب مصر والمصريين غاية الحب، ولم لا وقد تعلموا على مدرسيهم وحفظوا شعرهم وغنَّوا غناءهم! فما بالهم إذن إذا أقام معهم المصريون تكبروا وشمخوا عليهم بأنوف عربية من شأنها أن تعرف الكبرياء ولا يجوز لها أن تعرف التكبُّر. يذكروننا ببيت الشعر القديم:
وعلم الله ما أصبحت مصر مُعدَمة إلا بظروف قاهرة فُرضت عليها فرضًا ولم نخترها، وعلى أية حال فقد أنفقت مصر على الحروب العربية ما أبهظ مقدَّراتها بقدْر ما أبهظها المتلفون الذين أضاعوا أموالها، وأذكر البيت القديم أيضًا:
أكان ذنبنا أن حاربنا نحن وخلطنا بالمال دماءنا دفاعًا عن العرب؟ أم كان ذنبنا أن تولى أمرنا مَن جلب علينا هزيمة ٦٧. ولماذا اعتُبرت هزيمة ٦٧ هزيمة لمصر وحدها ولم تُعتبر هزيمة للعرب أجمعين؟
يعيروننا في الكويت وفي العراق وفي دول الخليج بالهزيمة، ونصلى نحن المصريين مرارة الخجل والهوان، وأصيح في نفسي:
أمن أجل هذا اللقاء تركت وحيدي حلمي وزوجتي الحبيبة حورية وأمي التي تتلهف عليَّ في غيبتي وتخشى أن يوافيها الأجل وأنا عنها بعيد؟
ولكنني قبِلت ما عرَضه علي الدكتور فكري، وإن كنت أستطيع أن أضيع حق نفسي فما أنا بمستطيع أن أضيِّع حق رجل وهب لي ثقته واعتمد علي. فما هكذا نشأت وما بهذا يرضى أبي.
فلأصلاها إذن أيامًا قاتمة، ولأقضي للدكتور فكري حقَّه علي، بل إن هنا في الكويت أيضًا قومًا وضعوا ثقتهم فيَّ، ما أحسب أنه يجوز لي أن أتخلى عن ثقتهم قبل أن أربي هنا ممن يساعدونني من يطيق أن يحمل هذه الثقة ويؤدي الأمانة التي أؤديها. وليظن منهم من يظن أنني إلى المال أسعى، فأنا أعرف ما في نفسي، وحسبي هذا إرضاءً لها.
وليس السعي في سبيل المال أمرًا تأباه الكرامة.
أنا هنا أعرف كيف أعامل مَن يسيء إليَّ، فإن من كان عزيزًا في قومه يعرف كيف يكون عزيزًا في أي قوم.
وأنا أضع كرامتي في مكانٍ لا يستطيع أن يرقى إليه إنسان، فإذا تطاول أحد علي فإنما إلى نفسه يسيء وليس إلي. وتعجبني كلمة قالها معاوية لابنه يزيد حين رآه يضرب غلامًا له: «أتعلِّمه الأدب بأن تضيِّع أنت أدبك؟» ولم يضرب يزيد غلامًا له بعد ذلك قطُّ. وأنا هنا لست على استعداد أن أعلِّم أحدًا الأدب وأفقد في سبيل ذلك أدبي، فلأتذرع بالحِلم، وليقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
•••
تتابعت الأحداث في مصر، وكان عدلي يعود إلى أهله أسبوعًا في كل شهر، وكان يَعُد مكتبه في الكويت ليقلب الأمر ويزور بعد ذلك مكتب الكويت أسبوعًا في كل شهر؛ فقد كان حلمي يشب عن الطوق، وكان عدلي مصرًّا أن يكون إلى جانب ابنه في هذه الفترة التي يتكون فيها أساسه، فقد كان عدلي يرى أن يقوم هو بواجبه نحو ابنه ويترك المستقبل لمن عنده أم الكتاب.
حدثت ثورة مايو واسترد شعب مصر قدرًا كبيرًا من حريته، وبدأ الناس يتنفسون جهرًا بعد أن كانوا يتنفسون خفية، وأصبح كل فرد في مصر يحاول أن يذكِّر الآخرين بنفسه بعد أن كان كل فرد في مصر يتمنى لو ينساه الآخرون.
كان عدلي في مكتبه بالكويت حين طلبته السيدة ألفت حشمت بنت أخي الدكتور فكري لتخبره أن الدكتور فكري قد عاودته الأزمة القلبية، وأنها تكلِّمه دون علم عمها، ولكنها تدرك العلاقة بينهما، وأحست أنه ينبغي عليها أن تخبره.
ووصل عدلي إلى القاهرة في أول طائرة، ولم يقصد إلى بيته وإنما سارع من فوره ومعه حقائبه إلى بيت أستاذه. وكان الأطباء قد منعوا الدخول إلى حجرته، ولكن السيدة ألفت استثنت عدلي من هذا المنع، وطفرت إلى وجه الرجل فرحةُ حبٍّ لا تطفر إلا على وجه أب يرى ابنه.
– كيف أنت يا عدلي؟
– طمأننا الله عليك يا دكتور.
– اطمئن.
– أرجو ألا تتكلم.
– إذا مت ذهبت إلى مكانٍ سعيت عمري أن أذهب إليه، وإن عشت فأنا مطمئن بوجودك إلى جانبي.
– أطال الله عمرك.
– لا يهم. مصر الآن بخير، وما بنيته أنا سيصبح في يدٍ أمينة. لم أعش عبثًا يا عدلي يا بني، وهل هناك أجمل من أن يحس الإنسان أنه لم يعش عبثًا!
– سأتركك لأنك تتكلم كثيرًا.
– وما له دعني أتكلم فإنني سأصمت طويلًا.
– أتركك بخير، هل تأمر بشيء؟
– خذ بالك من نفسك ومن ابنك حلمي، اجعله يصبح مثل أبيك أو مِثلك على الأقل.
– وهل بيدي؟
– حاول.
– أنا سعيد أنني رأيتك.
– وستراني دائمًا.
– ربما، وإنما أعتقد أنك أنت لن تراني.
– وخرج عدلي وكأنما كان الرجل يطلع على وجه الغيب، فقد كان هذا آخر لقاء بينهما.
واستمرت أعمال المكتبين في مصر والكويت على حالها لم تتغير، فقد كان زبائن المكتب قد عرفوا عدلي واطمأنوا إلى عمله، فلم يترك أحد منهم أيًّا من المكتبين.
وكانت ألفت ميسورة الحال، وكان زوجها ميسور الحال أيضًا، ولكن عدلي أصرَّ أن يكون لها مرتب ثابت من المكتب، فإذا هي تلقاه: ما هذا المبلغ الذي أرسلته إلي؟
– أهو قليل؟
– هو غير مفهوم.
– إنه مرتب شهري أعتقد أنك تستحقينه من مكتب عمك.
– لم يصبح المكتب مكتب عمي.
– هو الذي أنشأه.
– ولكنك الآن تقوم بشأنه، وأنت تعلم أنني والحمد لله غير محتاجة.
– أعلم ذلك كل العلم، ولكن أنا أقوم بما أراه عدلًا.
– هل من العدل أن تعمل أنت وأتناول أنا مرتبًا؟
– لولا عمك ما عملت.
– لقد ورثت كل أمواله، فقد باعها لي منذ سنوات دون أن يتلقى ثمنًا لها، أما المكتب فقد كانت إرادته أن يئول إليك.
– أعلم ذلك.
– فما هذا المرتب الذي تريد أن تجريه علي؟
– أريح به ضميري.
– فهل فكرت في ضميري؟
– اسمعي يا ألفت هانم، هذا نقاش أشعر معه بنوع من السعادة انقطعت عن الشعور بها منذ سنوات.
– والعجيبة أنني أنا أيضًا أشعر بجوٍّ أصبح غريبًا على زماننا.
– فما رأيك أن يكون هذا المبلغ الذي قدرته لك نواة شيء طيب بيننا.
– كم هو؟
– ألم تعديه؟
– لا والله، وجدت نقودًا في ظرف ومعها بطاقة منك فجئت إليك من فوري.
– أنت ست عظيمة.
– وأنت رجل عظيم.
– المبلغ مائة جنيه.
– هذا كثير.
– اسمعي، ما رأيك لو أنك ادخرت المبلغ ثم نلتقي كل عام في مثل هذا الشهر ونقرر جهة البر التي نقدمه إليها؟
– موافِقة.
– عظيم.
– ولكن انتظر، باسم مَن يكون التبرع؟
– باسمك طبعًا.
– أكون قد ادعيت لنفسي فضلًا ليس لي.
– وجدتها!
– فقلها.
– باسم المرحوم الدكتور فكري الدهشان.
– هو ما قلت.