الفصل الثامن
توقَّع حفني كل شيء إلا هذا الذي فاجأه به أخوه حين ذهب إليه بعد الظهر يحمل مبلغ الخمسة آلاف جنيه التي ادَّعى أنها كل ما بقي له.
– أتعرف من اشترى الأرض؟
– لا والله.
– ألم تقرأ عقدًا واحدًا من عقود البيع؟
– وفيما أقرأ؟ الحاج علي هو الذي يقوم بالبيع، وكلانا يعرف أمانته كل المعرفة.
– هيه، النهاية، أنا الذي اشتريت الأرض.
ووجم حفني في ذهول.
– تقول من؟!
– ألم تسمع؟
– ولكنك … ولكنك …
– نعم، وأنا في السجن اشتريتها.
– كيف؟
– لا يهم، المهم.
– أرجوك … انتظر، أرجوك يا سي حلمي انتظر لم يعد في رأسي عقل ليسمع.
– ضياع عقلك أمر يحدث كثيرًا.
– في عرضك انتظر قليلًا.
وصفَّق وجاء بخيت أمين المنزل وطلب منه كوب ماء وانتظر الصمت كوب الماء حتى حضر. وخرج بخيت بالكوب الفارغ.
– أهذا ذهول الفرح أم العجب أم السخط؟
– كل هذا معًا.
– والسخط أيضًا؟
– على نفسي.
– أهذا فقط ما يسخطك على نفسك؟
– لماذا لم تقل لي هذا من قبل؟
– وماذا كنت تفعل إذا قلت لك؟
– أهدأ وأستريح.
– وهل كنت مضطربًا حتى تهدأ؟
– ومَن أدراك أنني لم أكن مضطربًا؟
– لأن الله وهب لك أعصابًا من حديد.
– كيف تعرف؟
– بِعت أرضك كلها ومع ذلك لم يهمك شيء.
– وماذا يمكن أن يهمني؟
– ألا تخاف المستقبل؟
– وأنت موجود … لا، لا أخاف شيئًا.
– نعم تعودت أن تجدني دائمًا.
– وسأجدك دائمًا.
– فهل يا تُرى سأجدك أنا؟
– أنت لا تحتاج إليَّ ولن تحتاج إليَّ.
– مَن يدري؟
– أنا أدري.
– تستطيع أن تكون قمة في الذكاء، ولكنك أبدًا لن تستطيع أن تعرف الغيب.
– أرجو ألا تحتاج إليَّ أبدًا، ولكن على كل حال أنت أبي وأخي وأستاذي ومثلي الأعلى، فإن خنت واحدًا من هؤلاء فلن أخون الآخر.
وعاد الصمت مرة أخرى وبدأ حلمي الحديث: على كل حال، الأرض ستظل ملكًا لك وسأسدد لنفسي ما دفعته لك ثمنًا لها من الرَّيع حتى إذا استوفيته عادت إلى إدارتك مرة أخرى، وفي هذه المرة لن تستطيع أن تبيعها ثانية.
– أطال الله عمرك وأبقاك.
– وفي فترة السداد سأعطيك خمسين جنيهًا شهريًّا لتظل محافظًا على مظهر البذخ الذي عرفك الناس به.
– هذا كثير، كثير جدًّا.
– الجنيه في يدك مليم، أرجو أن تقدِّر أن المبلغ كثير حقيقةً ولا تبالغ في الإنفاق.
– مرة أخرى وثالثة وعاشرة وألفًا أطال الله عمرك، أريد أن أقبِّلك ولكن لن أقبِّل وجهك كما يفعل الأخ مع أخيه وإنما …
واختطف يده وقبَّلها وأكمل الحديث: كما يفعل الابن مع أبيه.
واضطرب حلمي هنيهة، ولكنه تمكَّن بقوة السياسي أن يكبت عواطفه ويغيِّر مجرى الحديث: أنا مسافر غدًا لأبدأ الحملة الانتخابية.
ولكن حفني عاجله: لا تغيِّر الموضوع، هناك أمر لم يتم.
– ما الذي لم يتم فيه؟
– هذا المبلغ.
– ما هذا؟
– ألفا جنيه.
– إذن فقد كانت سبعة!
– لم أكن أعرف فيم تريد المبلغ، قلت إن كان يريد أن يعاقبني فالخمسة كافية، أما إذا كان يريد المبلغ للانتخابات فالسبعة كلها له.
– مهما تكن أعمالك سيئة في حق نفسك إلا أنك كأخ تُعتبر من أبر الأخوة.
– الآن غيِّر الموضوع إذا شئت.
– أنا مسافر غدًا للانتخابات.
– أسافر معك.
– لماذا؟
– لأكون معك.
– كما تشاء، ولو أنني أفضِّل أن تبقى.
– أبقى لماذا؟
– أخشى أن تحتاج وصفية إليك.
– هل اقترب موعد الوضع؟
– أظن ذلك.
– البلد ليست بعيدة، وأنا قادر إن شاء الله على أن أكون على علم بأخبارها دائمًا.
– كما تريد، وعلى كلٍّ أخوها أحمد ووالدتها سيقيمان معها هنا.
– إذن فأنا معك.
– على بركة الله.
•••
في مولد فجر من عام ١٩٢٤م وُلد صديقي عدلي حلمي الوسيمي الذي بدأت به ومعه هذه الرواية التي أرويها لك، وأصبح والده الأستاذ حلمي الوسيمي عضوًا بمجلس النواب، وبدأتْ بالأب وابنه حياة جديدة، وربما أيضًا بدأت مصر نفسها حياة جديدة.