الفصل التاسع
أما أخي فقد أصبح عضوًا بالبرلمان منذ سنوات وسنوات، وأصبح له ابنه عدلي، فماذا أنا في هذه الحياة؟ مقامر صاحب نساء ثم ماذا؟ وماذا تريد بعد ثم؟ هو يجاهد في سبيل الوطن ويشق الحياة بمخالبه ليحقق الاستقلال لبلاده لأن استقلاله هو ممثل في استقلال مصر، أما أنا فمتمتع باستقلالي دون البحث عن استقلال مصر، هو سينال مكافأته وسعادته إذا جلا الاحتلال وأنا أنال مكافأتي من كل لحظة حياة والدفع فوري، المتعة مع اللحظة بلا أجل ولا تسويف ولا تعطيل ولا تأخير. أنا واثق أنني تقاضيت ثمن جهدي، أسهر على المائدة وأتمتع وأنال متعتي مع سهرتي. أو أسهر مع صاحبتي وأنال متعتي في الصحبة نفسها، أما هو فمن يعلم أينال ما يرجوه أم هو جهاد بلا نتيجة، وشقاء بلا ثمن، وتعب بلا فائدة.
أهو هكذا حقًّا أم تُراه يجد لذته في أنه يؤدي واجبه الذي اقتنعت به نفسه واطمأن إليه ضميره؟ أشهد أنه لا يهتم بالشهرة ولا يسعى إليها ولا يفكر فيها، وإنما هي تسعى إليه كنتيجة طبيعية لجهاده، ولكنها أبعد ما يكون عن آماله.
أينا خيرٌ من صاحبه؟ وفيمَ التفكير؟ وهبني أردت أن أكون مثله، أبيدي هذا؟ إنما أحسن ما لا يحسن، ويحسن هو ما لا أحسن. هل أستطيع أن أتكلم بالبرلمان وأحارب الإنجليز وأؤيد الحكم أو أعارضه؟ وهل يستطيع هو أن يلعب البوكر أو الكونكان كما ألعب؟ هل يستطيع أن يجعل أجمل سيدات مصر يتقن إلى ابتسامة منه أو موعد؟ هيهات له هيهات!
بالمناسبة ما قصة هذه الأميرة المقبلة عليَّ، وماذا تريد مني، وماذا أستطيع أن أقدِّم لها؟ جمالي وشبابي! ألم تجد شابًّا جميلًا غيري؟ أعجبتُها؟ وأي عجيبة في ذلك! ومهما تكن أميرة فإنها ما زالت امرأة. ولكن الملك معجب بها. وماذا في ذلك؟ هل جننت؟ إنه الملك. وأنا ما شأني به؟ لتكن أنت لا شأن لك به، أليس أخوك مرشحًا أن يكون وزيرًا؟ وما شأن الوزارة وأميرة أرادها الملك وأرادت هي غيره؟ أنسيت كيف تُحكَم مصر؟ لا، ولكن أستطيع أن أتناسى أنها أميرة، وأنها امرأة. كيف ستبدو؟ كما تبدو النساء. أكل النساء متساويات هيهات! لو كان الأمر كذلك ما بحثت عن بديلات دائمًا. كل امرأة لها مذاقها الخاص وطعمتها الخاصة ولونها المتميز. صوت كل امرأة له تهدُّج مختلف، ولكل صوت وقْعه في الأذن نغمات تتقاصر بجانبها موسيقى عبد الوهاب وأم كلثوم. والله ولا مائة ملك سيمنعني عن الأميرة فضيلة، فضيلة، مصيبة لو كان لها من اسمها نصيب!
•••
كان الحفل في قصر الأميرة فضيلة غايةً في البهاء والروعة، ولكن حفني أصبح متمرسًا على هذه الحفلات، إلا أنه فوجئ بشوقي سلام ضابط الجيش بين المدعوين.
– أهلًا شوقي.
– أهلًا حفني.
– ماذا أتى بك؟
– مأمورية.
– ماذا؟
– ألم تسمع أم أنت مندهش؟
– كنت أظن هذا من عمل البوليس.
– أصبحت وجوههم معروفة، وأصبحنا نحن نُكلَّف من حينٍ لآخر بهذه المهمات.
– في أي سلاح أنت؟
– ألم تدرك؟
– أريد أن أتأكد.
– في الحرس الملكي.
– أهلًا، تشرفنا.
– حفظت؟
– وأنت ماذا أتى بك؟
– مأمورية.
– أنت الآخر؟
– هذا عملي الرسمي.
– حسبتك صحفيًّا.
– هذا عملي غير الرسمي.
– وقعتك هباب، مأموريتك ألعن من مأموريتي.
– ربنا يستر.
– أنا عليَّ أن أراقب أما أنت …
– ما دمت أنت الرقيب فمهمتي سهلة بإذن الله.
– ولمَ لا؟ لولاك ما جئت أنا هنا الليلة.
– كيف؟
– وصلت إخبارية أن هناك حبيبًا جديدًا، ومهمتي أن أعرفه.
– لا تتعب نفسك.
– وفيمَ التعب؟ المأمورية تمت والحمد لله.
– إياك أن تؤدي المأمورية بأمانة.
– المسألة كلها لا أمانة فيها، وما دمت أنت المقصود فأنت أولى بالمحاباة.
– والله صاحب.
– هل رأيت شيئًا بعدُ؟
– الناس لبعضها البعض.
– هيص أنت وانسَ أمري تمامًا.
– تعيش.
•••
الأميرة فضيلة ذات نوع من الجمال المبهر الذي لا يستطيع إنسان مهما يكن زاهدًا أن يعبره دون أن يقف أمامه حائرًا ذاهلًا، وفي أحيانٍ كثيرة يتولى الذي يراها للمرة الأولى نوع من الخشوع والرهبة. قوام فارع مياد، إذا مشت خُيِّل إليك أن العالم كله يعزِف موسيقى إلهية من نوع خاص لا تعرفها الأرض ولم تسمع بها. شَعرها ثورةٌ كل شعرة منه تقوم بوظيفة لا يستطيع أن يؤديها غيرها، عيناها الخضراوان الضاربان إلى الزرقة بحرٌ وشلال ونمير وجدول ومطر وبرق ورعد وناي وعود وكمان وقانون تعزِف جميعها ألحانَ باخ وبتهوفن وشوبان وليست. أنفها أمر، وفمها إشراقة ابتسامة وكبرياء سيد. جِيدُها قصيدة تشابكت البحور فيها فإذا هي بحر جديد يجمع فن الغرب والشرق جميعًا، وجهها أنواع شتى من وجوه الجمال في أنحاء العالم كله، إذا طالعه إنسان لم يستطِع أن يطيل إليه النظر خاشيًا أن تصيبه منه صاعقة ترديه، وفي الوقت نفسه لا يستطيع أن يصرف عنه عينيه، فهو عائد إليه، فالصاعقة أهون بكثير من أن يُحرَم النظر إلى هذا العالم المتفرد من الفن والجمال والطيبة والقسوة والإسماح والجبروت والقبول والرفض.
كل ما كان يحسه حفني أنها ذات جمال رائع، ولكن هيهات له أن يصل من جمالها إلى أعماقه، ومن أين له؟! وكل ما يعنيه منها ما يفكِّر فيه رجل من محترفي النساء عند امرأة تحب دائمًا أن ترى أثر جمالها الفادح على المحترفين قبل الهواة.
في لحظة أو هنيهة من لحظة استطاعت أن تهمس في أذنه آمرة في دلال وحزم حاسم: تأتي غدًا الساعة الواحدة ظهرًا.
– أمر سموك.