أساطير الأصول وأساطير نشأة الكون (كوسموغونيا)
كل قصة ميطيقية تحكي لنا أصل شيء لا بد لها من أن تكون مسبوقة بقصة أخرى عن نشأة
الكون، تكون استطالة لهذه الأخيرة. من وجهة نظر البنية، تكون أساطير الأصول تصديقًا
للأسطورة الكوسموغونية. باعتبار أن خلق العالم هو الخلق بامتياز، تصبح الكوسموغونيا
النموذج المثالي لكل أنواع الخلق. لكن هذا لا يعني أن أسطورة الأصول تحاكي أو تستنسخ
النموذج الكوسموغوني؛ لأن الأمر ليس موضوع تفكير منسق ومنظم. فكل ظهور أو خلق جديد
—
حيوان أو نبات أو مؤسسة — ينطوي على وجود عالم. حتى حين تكون المسألة مسألة أن نفسر
كيف
وصلنا إلى الوضع الراهن، انطلاقًا من حالة للأشياء مختلفة (مثلًا كيف ابتعدت السماء
عن
الأرض أو كيف أصبح الإنسان كائنًا فانيًا)، يظل العالم مع ذلك موجودًا، على الرغم
من أن
بنيته قد اختلفت، وأنه لم يَعُد عالمنا بعدُ. كل أسطورة أصولية إنما تحكي وتبرر «وضعًا
جديدًا» — جديدًا بمعنى أنه لم يكن موجودًا منذ بدء العالم — فأساطير الأصول تتابع
وتكمل الأسطورة الكوسموغونية: تروي لنا كيف طرأت تعديلات على العالم، وهل اغتنى أو
افتقر.
هذا هو السبب الذي من أجله تبدأ بعض أساطير الأصول بموجز يشتمل على نشأة الكون. يبدأ
تاريخ كبار العائلات والأسر المالكة في التيبت بذكر كيفية ولادة الكون من بيضة. «من
جوهر العناصر الخمسة الأصلية، طلعت بيضة كبيرة … ثماني عشرة بيضة خرجت من محِّ (صفار)
هذه البيضة. الوسطى بين هذه البيضات الثماني عشرة، وهي بيضة من الصَّدف، انفصلت عن
الأخريات. نبت لهذه البيضة أطراف، ثم نبت لها خمس حواس بالتمام والكمال. ثم أصبحت
غلامًا شابًّا ذا جمال خارق حتى لكأنه تحقيق لنذر «ييدلا سمون». فسُمي الملك يي-سمون.
أما الملكة تشولشاغ، وهي زوجته، فقد أنجبت له ابنًا قادرًا على التحول بالسحر، دبانغ
لدان.»
١ ثم تمضي الأسطورة في تعداد الذرية وحكاية أصل مختلف العشائر
والأُسر.
الأناشيد التي تعدِّد الأنساب البولينيزية تبدأ أيضًا على هذا النحو. والنص الطقسي
الهاواياني المعروف باسم «كوموليبو» هو «ترنيمة أنساب تربط العائلة المالكة لا بالآلهة
التي تعبدها جميع القبائل البولينيزية المتحالفة وحسب، ولا بالشيوخ المؤلَّهين
المولودين في هذا العالم الذي نعيش فيه وحسب، وهم «الآوو»
AO الذين يندرجون في شجرة العائلة، وإنما تربطها
أيضًا بنجوم السماء وبالنبات وبالحيوانات التي يُسخرها الناس يوميًّا في الحياة الأرضية
…»
٢ تبدأ الأنشودة كما يلي:
«في الوقت الذي تغيرت فيه الأرض تغيرًا عنيفًا
في الوقت الذي تغيرت فيه السموات على حدة
في الوقت الذي كانت تطلع فيه الشمس
مثل هذه الأناشيد الطقسية الأنسابية إنما يؤلفها الشعراء الجوَّالون
عندما تحبل الأميرة، ويعلمونها الراقصين لكي يحفظوها عن ظهر قلب. وهؤلاء، رجالًا
ونساءً، يرقصون ويتلُون الأنشودة بلا توقف حتى يولد الوليد، كما لو أن النمو الجنيني
لشيخ المستقبل كان مصحوبًا بتكثيف ولادة الكون وتاريخ العالم وتاريخ القبيلة. وبمناسبة
الحبل بشيخ القبيلة. «يعاد خلق» العالم رمزيًّا. والتكثيف هو، في نفس الوقت، تذكير
وإحياء طقسي للحوادث الميطيقية الأساسية التي حصلت منذ الخلق، بواسطة الأناشيد
والرقص.
وإننا لنجد مفاهيم وطقوسًا مماثلة عند الأقوام البدائية في الهند. فعند قبيلة
«سانتالي»، مثلًا، يتلو «الغورو» أسطورة ولادة الكون لمنفعة كل واحد، لكن مرتين فقط:
مرة «عندما يُعترف للفرد بحقوقه الاجتماعية كاملةً … وبهذه المناسبة يتلو «الغورو»
قصة
البشرية منذ خلق العالم، ويختمها برواية مولد مَن يُؤدَّى الطقس لأجله.» تُكرر نفس
الحفلة في أثناء خدمة الجنَّاز، لكن هذه المرة، يقوم «الغورو» بنقل نفس المتوفَّى
طقسيًّا إلى العالم الآخر. وعند قبيلتَي «غوند» و«بيجاس» يتلو الكاهن، بمناسبة الطقوس
التي تؤدَّى على شرف «ذارتي ماتا» و«ثاكور»، أسطورة ولادة الكون ويذكِّر المستمعين
بالدور الكبير الذي لعبته قبيلته في خَلق العالم. وعندما يقوم سحَرة «موندا» بطرد
الأرواح الشريرة، يَتلُون الأناشيد الميثولوجية، المعروفة باسم أناشيد «أسور».
و«الأسور» ابتدءوا حقبة جديدة لدى الآلهة والأرواح كما لدى الناس أيضًا، ولهذا السبب
يمكن اعتبار قصة مآثرهم جزءًا لا يتجزأ من أسطورة كوسموغونية.
أما عند البيل Bhils فيختلف الوضع بعض الاختلاف.
فلديهم أنشودة واحدة من الأناشيد السحرية ذات الأغراض الطبية تكشف عن خاصية أسطورة
كوسموغونية، هي «أنشودة الرب». لكن معظم هذه الأناشيد هي في الحقيقة أساطير أصول.
مثلًا، أنشودة «كازومور دامور»، التي يُعتقد أنها تشفي من جميع الأمراض، تحكي هجرات
جماعات «البيل دامور»، من كجرات إلى جنوب الهند الوسطى. هي، إذَن، أسطورة إقامة الجماعة
في إقليم جديد. بعبارة أخرى، هي قصة بدء جديد، نسخة من خلق العالم. وهناك أناشيد
سحرية
أخرى تكشف عن أصل الأمراض. الأمر يتعلق بأساطير غنية بالمغامرات حيث نصل إلى تعلُّم
الظروف التي ظهرت فيها الأمراض، وهو حدث غيَّر من بِنية العالم في الحقيقة.
دور الأساطير في شفاء الأمراض
في طقس الشفاء عند «البيل» جانب يسترعي الاهتمام على وجه الخصوص. يقوم الساحر ﺑ
«تطهير» المكان الذي يلي سرير المريض ويرسم «مندولًا»
mandol (دائرة سحرية) بطحين الذرة. وفي قلب
«المندول» يرسم بيت «سفور وبهاغوان». وتظل الصورة المرسومة على هذا النحو حتى يبرأ
المريض من علَّته تمامًا. إن مصطلح «المندول» نفسه يكشف عن أصل هندي؛ طبعًا الكلمة
مستمدة من «المندلة»، mandala، وهي رسم مركب يلعب دورًا
هامًّا في الطقوس الطانطرية الهندو-تيبتية. لكن المندلة. هي، قبل كل شيء، صورة للعالم
Iamago mundl. تمثل، في نفس الوقت، الكون مصغرًا
كما تمثل مجمع الآلهة (البانتيون)، يساوي تشييدها تجديدًا سحريًّا لخلق العالم. تبعًا
لذلك، إن الساحر البهيلي؛ إذ يرسم المندول عند قائمة سرير المريض؛ فإنما يكرر خلق
العالم، حتى ولو كانت الأناشيد الطقسية المرتلة لا تشير صراحة إلى الأسطورة
الكوسموغونية. إن العملية غرضًا شفائيًّا؛ فالمريض، إذ يصبح رمزيًّا معاصرًا لخلق
العالم، فإنما ينغمس في الامتلاء البدئي، يُترك لكي تشيع فيه القوى الهائلة التي
جعلت
من الخلق أمرًا ممكنًا، في ذلك الزمان.
ليس من الأمور غير الهامة أن نذكر، بهذه المناسبة، بأن الأسطورة الكوسموغونية التي
تعقبها، عند الناواهو، أسطورة انغماس الآدميين الأوائل في حضن الأرض، تُتلى خصوصًا
بمناسبة الشفاء، أو في أثناء استلام شامان. «تتركز جميع الاحتفالات على مريض، هترالي
(الذي يُتلى عليه)، قد يكون مريضًا، أو مجرد مريض عقلي، كأن يكون قد روَّعه حُلم،
أو لا
يحتاج إلا إلى احتفال واحد، بغرض تعليمه له في أثناء المسارة التي يخوَّل بموجبها
سلطة
الاحتفال بهذا النشيد، ذلك أن العراف لا يستطيع أداء احتفال شفائي ما دام هو نفسه
لم
يخضع للاحتفال.» كذلك يتألف الاحتفال من تنفيذ رسوم مُركبة على الرمال ترمز إلى مختلف
مراحل الخلق والتاريخ الميطيقي للآلهة، والأسلاف والبشرية جمعاء. هذه الرسوم (التي
تشبه
شبهًا غريبًا المنادل الهندية-التيبتية) تحين الحوادث التي جرت في الأزمنة الميطيقية
حادثًا بعد آخر. والمريض، إذ يُصغي إلى تلاوة الأسطورة الكوسموغونية (تعقبها تلاوة
أساطير الأصول)، وإذ يتأمل الرسوم المُنفَّذة على الرمل؛ فإنما يُقذف به إلى خارج
الزمان الدنيوي ويُزجُّ به في امتلاء الزمان الأصلي: يُعاد به «إلى الخلف» حتى أصل
العالم، وبذلك يشهد ولادة الكون.
التلازم بين الأسطورة الكوسموغونية وأسطورة أصل الداء والدواء من جهة، وبين طقس
الشفاء السحري من جهة ثانية، يمكن أن نفهمه بصورة أفضل عند «النا-خي»، وهم قوم ينتمون
إلى الأسرة التيبتية، لكنهم يعيشون منذ قرون في الصين الجنوبية الشرقية، وخصوصًا
في
مقاطعة يون-نان. تروي مأثوراتهم أنه في بداية العالم قُسم العالم نصفين بين «الناغا»
والبشر. لكن عداوة دبَّت فيما بين الفريقين فافترقوا. كان من جرَّاء غضب «الناغا»
أن
نشروا الأمراض والعقم وجميع أنواع الأوبئة في العالم. ثم إلى هذا يستطيعون أن يسرقوا
نفوس الناس إذ يُنزلون بها العلل. فإذا لم يُصالحوا طقسيًّا، يموت المريض. لكن
الكاهن-الشامان، بقوة تعازيمه السحرية، قادرٌ على إجبار «الناغا» على تحرير النفوس
المسروقة والمأسورة. والشامان نفسه غير قادر على منازلة «الناغا» إلا إذا قام الشامان
الأصلي، بمساعدة «غارودا»، بنقل هذا النزال إلى الزمن الميطيقي. ثم إن طقس الشفاء
يتكوَّن تحديدًا من التلاوة الرسمية لهذا الحدث البدئي. وكما جاء صراحة في نص ترجمة
روك.
٤ «إذ لم يُروَ أصل غارودا، لا يجوز الكلام عنه.» يتلو الشامان أسطورة أصل
«الغارودا»، التي تحكي كيف خُلقت البيضات بالسحر فوق جبل كيلاسا، وكيف وُلد «الغارودا»
من هذه البيضات، ثم هبطوا السهل بعد ذلك من أجل وقاية البشر من الأمراض التي أوجدها
«الناغا». لكن، قبل رواية مولد «الغارودا»، تروي الأنشودة الطقسية بإيجاز قصة خلق
العالم: «عندما ظهرت الجبال والأودية والأشجار والصخور، في هذا الوقت ظهر «الناغا»
والتنانين … إلخ.»
٥
أغلب هذه الأناشيد الطقسية ذات الغرض الشفائي تبدأ بذكر ولادة الكون. إليكم هذا
المثال: «في البدء، في الوقت الذي لم تكن قد ظهرت فيه السموات والشمس والقمر والنجوم
والنباتات والأرض، حين لم يكن قد ظهر شيءٌ … إلخ.»
٦ ثم تُروى قصة خلق العالم، وولادة الشياطين وظهور الأمراض، ثم ظهور الشامان
البدئي الذي جاء معه بالأدوية الضرورية. ويبدأ نصٌّ آخر
٧ بذكر الزمن الميطيقي: «في البدء، عندما كان كل شيء غير متمايز … إلخ.» لكي
يروي بعد ذلك ولادة «الناغا» و«الغارودا». ثم يأتي على ذِكر أصل المرض (ذلك أنه لا
يجوز
استعمال الدواء إذا لم تُروَ حكاية أصله – كما رأينا فيما تقدم)، وكيف انتقل من جيل
إلى
آخر، ثم تروى حكاية الصراع بين الشياطين والشامان: «الروح ينقل المرض إلى الأسنان
والفم
برمية سهم، والشامان ينزع السهم … إلخ. والشيطان ينقل المرض إلى الجسم برمي سهم على
الجسم، فينتزعه الشامان … إلخ.»
٨
وتبدأ أنشودة طقسية أخرى على النحو التالي: «يجب حكاية أصل الدواء، وإلا لا يجوز
التكلُّم عنه. في الوقت الذي ظهرت فيه السماء والنجوم والشمس والقمر والنبات، وظهرت
الأرض … إلخ.» «في هذا الوقت وُلد تسُو–دزيه–بر–دو.»
٩ يعقب ذلك أسطورة طويلة جدًّا تحكي أصل الأدوية. بعد غياب ثلاثة أيام عن
البيت، يعود «تسُو–دزيه–بر–دو ليجد أبويه ميتين؛ فيعتزم الذهاب بحثًا عن علاج يمنع
الموت، فيصل إلى بلاد رئيس الأرواح. بعد أن ينجو من مخاطرات كثيرة، يسرق الأدوية
العجيبة، لكن الروح تطارده فيقع أرضًا وتتناثر الأدوية، وبذلك وُجدت النباتات
الطبية.»
تكرار ولادة الكون (كوسموغونيا)
على أن النصوص التي نشرها هرمانز نصوص ذات دلالة أبلغ. في أثناء أداء الطقس الشفائي
لا يقف الشامان عند حد إيجاز قصة ولادة الكون، بل يدعو الله ويضرع إليه أن يخلق العالم
من جديد. تبدأ إحدى هذه الصلوات بذكر خلق الأرض والماء والكون كله، وكذلك خلق الجعة
الطقسية «شي» وقربان الرز «سُو»، وتنتهي بهذا النداء: «ألا هُبِّي، أيتها الأرواح.»
١٠ ثم هناك نصٌّ آخر يبين ولادة «شي»،
١١ وولادة المشروب الكحلي «ديو». بحسب مأثور قديم، إن مكان نشأة هذين
المشروبين هو نفس مكان الشجرتين سانغلي وسانغلوغ. من أجل صالح العالم كلِّه، ومن
أجل
صالحنا أيضًا، هبَّ إلينا يا رسول الله. تاك بوتنغ، الإله ذو القوى الخارقة، نزل
في وقت
مضى من أجل خلق العالم. انزل الآن ثانيةً من أجل خلقه من جديد.»
١٢ واضحٌ أنه، من أجل تحضير المشروبات الطقسية «شي» و«ديو»، يجب معرفة أسطورة
أصلهما، الذي يرتبط أوثق الارتباط بأسطورة نشأة الكون، لكن الأهم من ذلك هو أن الخالق
يُدعى إلى النزول من جديد من أجل خلق جديد للعالم، لمصلحة المريض.
رأينا في هذه الأناشيد السحرية ذات الغرض الطبي أن أسطورة أصل الأدوية هي دائمًا
جزءٌ
مُتممٌ من أسطورة ولادة الكون. وكنا ذكرنا في الفصل السابق بضعة أمثلة يتبين منها
أن
الدواء، في الشفائيات البدائية، لا يصبح ناجعًا إلا إذا تُليت قصة نشأته طقسيًّا
أمام
المريض. وفي الشرق الأدنى وأوروبا عدد كبير من التعازيم يحتوي على قصة المرض أو قصة
الشيطان الذي أورثه؛ إذ تستحضر في نفس الوقت تلك اللحظة الميطيقية التي أفلح فيها
إله
أو قديس في السيطرة على المرض. هناك تعويذة آشورية تُتلى من أجل الشفاء من أمراض
الأسنان جاء فيها: «بعد أن خلق مانو السموات، وخلقت السموات الأرض، وخلقت الأرض
الأنهار، وخلقت الأنهار الأقنية، وخلقت الأقنية المستنقعات، وخلقت المستنقعات الدودة.»
ثم تروح الدودة تذرف «الدمع» أمام شمس وإيا Ea، وتلتمس
منهما ما يعطيانها لكي تأكله، لكي «تخربه». يقدم لها الإلهان الفاكهة، لكنها تطلب
منهما
أسنان الآدميين. ثم تُختم التعويذة بعبارة: «أيتها الدودة، ما دُمتِ قد تكلمتِ هكذا،
فليدهَسكِ إيا بيده القوية!». نحن هنا (أولًا) أمام خلق العالم، و(ثانيًا) نشأة الدودة
ومرض الأسنان، و(ثالثًا) البادرة الشافية الأصلية والنموذجية (دهس الإله إيا للدودة).
وإنما تكمن الفعالية الشفائية للتعويذة المنطوقة طقسيًّا في تحيينها للزمن الميطيقي،
زمن «الأصل»، أصل العالم وأصل مرض الأسنان وعلاجها.
يحدث أحيانًا أن يُستفاد من التلاوة الرسمية للأسطورة الكوسموغونية في شفاء أمراض
معينة أو التخلص من عيوب معينة. لكن، كما سنرى بعد قليل، أن استخدام الأسطورة
الكوسموغونية على هذا النحو ليس إلا واحدًا في جملة استخدامات أخرى. والأسطورة
الكوسموغونية، بما هي النموذج المثالي لكل «خلق»، قادرة على إعانة المريض على أن
يبدأ
حياته من جديد؛ إذ بفضل العودة إلى الأصل، يؤمل أن يولد ولادة جديدة. وجميع الطقوس
التي
درسناها توًّا تستهدف العودة إلى الأصل. الانطباع الذي نكوِّنه عن المجتمعات القديمة
هو
أن الحياة بالنسبة إليهم لا يمكن «تصليحها»، بل تُجدد خلقها بالعودة إلى المنابع
الأصلية. و«المنبع» بامتياز هو انبجاس الطاقة والحياة والخصوبة عند «خلق
العالم».
كل هذا يظهر على شيء من الوضوح في الاستخدامات الكثيرة للأسطورة الكوسموغونية
البولينيزية. بحسب هذه الأسطورة، لم يكُن موجودًا في البدء إلا المياه والظلمات.
يقوم
الإله إيو
IO، وهو الإله الأعلى، بفصل المياه بقوة فكره
وكلامه فيخلق السماء، والأرض. قال: «لتنفصل المياه، ولتتشكل السموات، ولتصر الأرض!»
هذه
الكلمات الكوسموغونية التي صدرت عن إيو
IO، وهي الكلمات
التي بفضلها جاء العالم إلى الوجود، كلمات مبدعة، محملة بقدرة مقدسة. كذلك هي كلمات
ينطقها الناس في جميع الظروف كلما كان هناك ما ينبغي عمله وخلقه. يكررونها في أثناء
أداء طقس إخصاب رحم عقيم، وفي أثناء أداء طقس شفاء الجسد والروح، لكن بمناسبة الموت
والحرب وتعداد الأنساب أيضًا. وإليكم الطريقة التي يعبر بها بولينيزي معاصر عن نفسه:
يقول هاري هونغي: «الكلمات التي بفضلها وُلد العالم وأدَّى إلى ولادة عالَم من نور؛
هي
نفسها الكلمات التي تُستعمل في طقس إخصاب رحم عقيم. والكلمات التي بفضلها بدد إيو
الظلمات بالنور تُستخدم أيضًا في الطقوس المُعدة لإدخال البهجة على القلوب الحزينة
المحطمة، وفي معالجة العجز والشيخوخة، وتوضيح الأشياء والأمكنة الخفية، وإلهام الذين
يؤلفون الأناشيد، وفي انقلاب وجهة الحرب، وكذلك في جميع الظروف الأخرى التي تدفع
الإنسان إلى اليأس. من أجل جميع الحالات المشابهة التي يُؤدَّى فيها هذا الطقس، الذي
يهدف إلى إشاعة النور والبهجة، تُستعاد نفس الكلمات التي استخدمها إيو عندما قهر
وبدَّد الظلمات.»
١٣
هذا النص بالغ الأهمية لأنه شهادة مباشرة من الطراز الأول على وظيفة الأسطورة
الكوسموغونية في مجتمع تقليدي. مثلما رأينا توًّا، تُستخدم هذه الأسطورة باعتبارها
نموذجًا لكل أنواع «الخلق»: لإنجاب طفل أو لإعادة تأسيس وضع عسكري قلق، أو لإعادة
التوازن إلى نفس استولت عليها الكآبة واستبد بها اليأس. هذه القابلية التي تتمتع
بها
الأسطورة الكوسموغونية للتطبيق على أصعدة مختلفة ذات أهمية خاصة في نظرنا، ذلك أن
إنسان
المجتمعات التقليدية يشعر بالوحدة الأساسية التي تضم جميع أنواع «الأعمال» أو
«الأشكال»، لا فرق إن كانت من صعيد بيولوجي أو سيكولوجي أو تاريخي. فحرب سيئة الحظ
مُماثلة لمرض أو لقلب محطم حزين أو لامرأة مصابة بالعقم، أو فتور الإلهام عن شاعر،
أو
لكل وضع وجودي دقيق آخر يدفع الإنسان إلى اليأس. جميع هذه الأوضاع السلبية ميئوس
منها
ظاهريًّا بدون أن يكون فيها منفذ للنجاة، تقلبها تلاوة الأسطورة الكوسموغونية، خصوصًا
بتكرار الكلمات التي بفضلها وَلد إيو العالم وجعل الظلمات تسطع بالضياء. فالكوسموغونيا
هي النموذج المثالي لكل وضع مبتكر: كل صنع يصنعه الإنسان هو تكرار «للصنع» بامتياز،
تكرار للبادرة البدئية التي ابتدرها الله الخالق، ألا وهي خلق العالم.
لقد رأينا من قبل أن الأسطورة الكوسموغونية تُتلى أيضًا بمناسبة الموت؛ لأن الموت،
هو
أيضًا، يشكِّل وضعًا جديدًا يجب اتخاذه لكي نجعل منه وضعًا مُبدعًا. قد «نخفق» في
الموت
مثلما نخفق في معركة أو نفقد التوازن النفسي أو بهجة الحياة. ثم إنه لأمر بالغ الأهمية
أن يُصنف «هاري هونغي» العجز والمرض والشيخوخة في جملة الأوضاع المفجعة والسلبية،
وألا
يقف عند هذا الحد بل يتعداه إلى فتور الإلهام عن الشعراء وعجزهم عن خلق أو إنشاد
القصائد وتعداد الأنساب بالطريقة الملائمة، يستتبع ذلك أن الخلق الشِّعري، عند
البولينيزي، مماثلٌ لكل خلق هام آخر. بل أكثر من هذا … بما أن هاري هونغي يشير إلى
تعداد الأنساب … إن ذاكرة المنشدين تؤلف، بحد ذاتها، «عملًا» وقد يؤمن إنجاز هذا
«العمل» التلاوة الرسمية للأسطورة الكوسموغونية.
ولعلنا نستطيع أن نفهم لماذا كان لهذه الأسطورة مثل هذه الأهمية عند البولينيزيين.
فالكوسموغونيا هي النموذج المثالي لكل نوع من «الفعل»: لا لأن الكون هو النموذج الأصلي
المثالي لكل وضع مُبدع ولكل خلق وحسب، وإنما لأنه عملٌ إلهيٌّ أيضًا؛ فهو متقدس إذَن
في
بنيته نفسها. توسعًا، كل ما هو تام، «ممتلئ»، منسجم، مخصب، بكلمة واحدة: كل ما هو
«متكوِّن» cosmise، كل شيء يشبه الكون، فهو مقدس. كذلك
أن إتقان عمل شيءٍ ما، صنعه أو بناءه، خلقه أو تركيبه، إعطاءه الشكل أو الإخبار عنه،
وتشكيله – كل هذا معناه الإتيان بهذا الشيء إلى الوجود، وبالتالي منحه «الحياة»،
وجعله
مماثلًا للتنظيم المنسجم بامتياز، ألا وهو الكون
cosmos. والكون هو العمل النموذجي للآلهة، هو قمة
أعمالهم.
أن تُعتبر الأسطورة الكوسموغونية النموذج المثالي لكل «خلق»، إن هذا ما تبيِّنه بوضوح
شديد هذه العادة التي درجت عليها إحدى قبائل أميركا الشمالية، المعروفة باسم «الأوزاج»
osages. عندما يولد طفل، يُستدعى «رجل تكلم مع
الآلهة». وعندما يصل إلى بيت المرأة الواضع، يتلو أمام المولود الجديد قصة خلق العالم
والحيوانات الأرضية. بعد هذه التلاوة يجوز للأم أن تُرضع ابنها. وعندما يبدأ الطفل
التعبير عن رغبته في شرب الماء، يُدعى الرجل مرة أخرى لكي يتلو قصة الخلق ثانية،
لكن
يُكملها هذه المرة بتلاوة قصة أصل الماء. حتى إذا بلغ الطفل عمرًا يستطيع معه تناول
الأطعمة التي يتناولها الكبار، يعود «الرجل الذي تكلم مع الآلهة» لكي يتلو مرة أخرى
قصة
الخلق، مضيفًا إليها تلاوة قصة أصل الحبوب والأطعمة الأخرى.
ولعله من الصعب جدًّا أن نجد مثالًا أبلغ من الاعتقاد بأن كل ولادة جديدة إنما تمثل
تكثيفًا رمزيًّا لولادة الكون ولتاريخ القبيلة الميطيقي. هذا التكثيف
recapitulation يرمي إلى إدخال المولود الجيد
طقسيًّا في الحقيقة القدسية التي ينطوي عليها العالم والثقافة. وهو إذ يفعل هذا فإنما
يُكسبه فعلُه مشروعية وجوده، بإعلان مطابقته للنماذج الميطيقية. لكن هناك ما هو أكثر
من
هذا: هناك الطفل الذي يولد يوضع أمام سلسلة من «البدايات». لا يمكن «ابتداء» شيءٌ
إلا
إذا عُرف «أصله»، إلا إذا عُرف كيف جاء هذا الشيء إلى الوجود. عندما يبدأ الطفل الرضاع
أو شرب الماء أو تناول أطعمة الكبار؛ فإنما يُقذف طقسيًّا في الأصل، إلى الزمان الذي
ظهرت فيه الواقعة وظهر الماء والحبوب.
العودة إلى الأصل
الفكرة التي ينطوي عليها هذا الاعتقاد هي «أن الظهور الأول لشيء هو المهم وهو
المشروع، لا ظهوراته المتعاقبة.» كذلك، ليس ما فعله الأب والجد هو ما يتعلمه الطفل،
بل
ما فعله الأسلاف في الأزمنة الميطيقية أول مرة. ذلك أن الأب والجد لم يفعلا غير تقليد
الأسلاف؛ وقد يذهب بنا الظن إلى أن الطفل إذ يُقلد أباه؛ فإنما يحصل على نفس النتيجة.
لكن إن فكَّرنا على هذا النحو نكون قد تنكرنا للدور الجوهري الذي يلعبه «زمن الأصل»،
الذي هو زمنٌ «قويٌّ»، كما قد رأينا، لا لشيء إلا لأنه كان على نحو من الأنحاء «الوعاء»
أو الظرف الذي حصل فيه «خلق جديد». أما الزمن الذي انقضى بين الأصل واللحظة الراهنة
فليس زمنًا «قويًّا»، ولا زمنًا «هامًّا» (ما عدا الفترات التي يتحين فيها الزمن
البدئي، طبعًا)؛ ولهذا السبب لا يؤبه له ويُصار إلى إلغائه.
١٤
في هذا المثال يتعلق الأمر بطقس تُتلى فيه الأساطير الكوسموغونية وأساطير الأصول
لمنفعة فرد واحد، مثلما هو الحال في طقوس الشفاء. لكن «العودة إلى الأصل»، التي تسمح
بإحياء الزمن الذي ظهرت فيه الأشياء لأول مرة، تكوِّن خبرة ذات أهمية عظمى في المجتمعات
القديمة. سوف نتعرض لهذه الخبرة مرات عديدة في الصفحات التالية. لكن حسبنا هنا أن
نورد
مثالًا على التلاوة الرسمية للأساطير الكوسموغونية والأصولية في الاحتفالات الجماعية
التي تُقام في جزيرة «سومبا». في الحوادث الهامة في حياة الجماعة — حصاد وفير، وفاة
عضو
بارز … إلخ — يُشيَّد بيت احتفاليٌّ، ويروي القصاصون، بهذه المناسبة، حكاية الخلق
والأسلاف، «بمناسبة جميع هذه الحوادث، يستحضر القصاصون البدايات بمنتهى الاحترام.»
أي
اللحظة التي تشكَّلت فيها مبادئ الثقافة. من أبرز مظاهر الاحتفال هذه التلاوة التي
تتخذ
شكل أسئلة وأجوبة بين اثنَين من عشيرتَين بينهما وشيجة مصاهرة
exogame. في هذه اللحظة العظمى، يمثل المنشدان جميع
أفراد الجماعة من الفريقَين، بما فيهم الأموات، وهذا ما يجعل تلاوة أسطورة القبيلة
(التي يجب أن تتمثل في نفس الوقت كأسطورة كوسموغونية) تحمل الفائدة إلى الجماعة كلِّها.
١٥
ملاك القول إننا بصدد طقوس جماعية تؤدَّى في أوقات غير منتظمة، قوامها تشييد بيت
عبادة وتلاوة رسمية لأسطورة أصل ذات بنية كوسموغونية. والمستفيد عن هذه الطقوس الجماعية
كلِّها، أحياؤها وأمواتها فبمناسبة تحيين الأساطير، تتجدد الجماعة كلُّها؛ تعود لكي
تجد
«منابعها»، وتعيش «أصولها» ثانيةً. وإننا لنجد فكرة التجديد العالمي، الذي يُحدِثه
التحيين الطقسي لأسطورة كوسموغونية، في كثير من المجتمعات التقليدية. لقد عالجنا
هذا
الموضوع في «أسطورة العود الأبدي»، وسوف نعود إليه في الفصل القادم. فالسيناريو
الأسطوري-الطقسي الذي يظهر فيه التجديد الدوري للعالم قادرٌ على أن يكشف لنا وظيفةً
لعلها من أهم وظائف الأسطورة في المجتمعات القديمة وحضارات الشرق القديم.
«هيبة» البدايات
تُتيح لنا الأمثلة القليلة التي أوردناها فهمًا أفضل للعلاقة بين الأسطورة
الكوسموغونية وأساطير الأصول. تبدأ أسطورة الأصل، في أحوال كثيرة، بإيجاز قصة ولادة
للكون: تورد باختصار اللحظات الجوهرية التي خُلق فيها العالم، لكي تروي من بعدُ نسب
الأسرة المالكة أو تاريخ القبيلة أو تاريخ نشأة الأمراض والأدوية، وهلُمَّ جرًّا.
١٦ في جميع هذه الحالات، تكون أساطير الأصول استطالة أو تكملة للأسطورة
الكوسموغونية. وعندما يتعلق الأمر بالوظيفة الطقسية لبعض أساطير الأصول (مثلًا في
طقوس
الشفاء أو كما عند الأوزاج الأساطير التي يُراد منها إدخال المولود الجديد في قدسية
العالم والمجتمع)، يحصل لدينا الانطباع بأن «قوتها» متأتية جزئيًّا من اشتمالها على
مبادئ قصة خلق العالم. يؤكد هذا الانطباع أن الأسطورة الكوسموغونية، في ثقافات معينة،
(مثلًا في بولينيزيا)، ليست ذات قيمة شفائية داخلية وحسب، وإنما تكوِّن أيضًا النموذج
المثالي لكلِّ نوع من أنواع «الخلق» و«العمل».
ولعلنا نفهم اعتماد أساطير الأصول على الأسطورة الكوسموغونية فهمًا أفضل لو أخذنا
في
الحسبان أن المسألة، في هذه الحالة كما في تلك، إنما هي مسألة «بداية» والبداية المطلقة
هي خلق العالم. إن الأمر لا يتعلق أبدًا بمجرد فضول نظري. ليس يكفي أن نعرف «أصل»
الشيء، بل يجب أن نُعيده إلى اللحظة التي خُلق فيها. وهذا يُترجَم ﺑ «العودة إلى
الخلف»
حتى يُستعاد الزمن الأصلي القوي المقدس. وكما سبق لنا أن رأينا، وكما سوف نرى أيضًا
بصورة أفضل فيما يلي، أن استعادة الزمن البدئي، التي هي وحدها القادرة على ضمان التجديد
الكلي للكون والحياة والجماعة، إنما نحصل عليها بواسطة تحيين «البداية المطلقة»،
أي خلق
العالم.
مؤخرًا ذهب رافائيل بتاتزوني إلى اعتبار الأسطورة الكوسموغونية تنويعًا على أسطورة
الأصل. «يترتب على هذا أن أسطورة الخلق تشترك مع أسطورة الأصل في طبيعتها بالذات
… لقد
أتاح لنا تحليلنا تجريد أسطورة الخلق من عزلتها الرائعة، وإدراجها في جملة الوقائع
المشابهة، أعني أساطير الأصول.»
١٧ للأسباب التي ذكرناها توًّا، يبدو لنا من الصعب أن نشاطر بتاتزوني وجهة
نظره. إن حالة جديدة من الأشياء تنطوي دائمًا على حالة متقدمة عليها، وهذه، في التحليل
الأخير، هي العالم. وانطلاقًا من هذه «الكلية» البدئية تنشأ التعديلات الأخيرة. إن
الوسط الكوني الذي نعيش فيه، وهو وسط بالغ المحدودية إلى الحد الذي يمكنه أن يقف
عنده،
هذا الوسط يشكل «العالم»، و«أصله» و«تاريخه» يتقدمان كل تاريخ مخصوص آخر. إن فكرة
«الأصل» الميطيقية مركوزة في سر «الخلق». إنما يكون لشيء «أصل» لأنه قد خُلق؛ أي
لأن
قدرة قد تجلَّت بوضوح في العالم، أي أن حدثًا قد حدث. باختصار، أن «أصل» الشيء يبين
عن
«خلقه».
الدليل على أن الأسطورة الكوسموغونية ليست تنويعًا على الجنس الذي تُشكِّله أسطورة
الأصل، هو أن أساطير ولادة الكون، مثلما رأينا ذلك لتوَّنا، تقوم بوظيفة النموذج
لجميع
أنواع «الخلق». والأمثلة التي سوف نتولى تحليلها في الفصل القادم، سوف تؤيد ما نذهب
إليه.