أساطير وطقوس التجديد
التتويج وولادة الكون
في الحقبة التاريخية، لم يَعُد يُمارَس طقس «راجاسويا» غير مرتين؛ الأولى من أجل مسح الملك أو تنصيبه، والثانية من أجل ضمان السيادة له على العالم. لكن في الزمن البروتو-تاريخي، ربما كان يؤدَّى طقس «راجاسويا» سنويًّا ويُحتفَل به من أجل ولادة جديدة للكون.
تجديد العالم
ولعله يسهل علينا أن نفهم لماذا كان مسح الملك يكرر ولادة الكون التي كان يُحتفل بها في العام الجديد، إذا عرفنا أن الملك كان يجدد الخلق كلَّه. والتجديد بامتياز إنما هو التجديد الذي يجري في العام الجديد، عند مباشرة دورة زمنية جديدة؛ لكن التجديد الذي يتم بواسطة طقس العام الجديد هو، في العمق، تكرار لولادة الكون. كل عام جديد فإنما يعيد بدء الخلق. والأساطير — الكوسموغونية والأصولية — هي التي تذكِّر الناس بقصة خلق العالَم وبما حدث بعد ذلك.
لذلك إن «العالم» دائمًا هو العالم الذي نعرفه، العالم الذي نعيش فيه. عالمٌ يختلف من نموذج ثقافة إلى آخر، وتبعًا لذلك يوجد عدد كبير من «العوالم». لكن الذي يهم بالنسبة إلى البحث الذي نحن بصدده هو اعتقاد الأقوام القديمة أن العالم؛ على الرغم من الفَرق في المباني الاجتماعية-الاقتصادية وعلى الرغم من تنوع السياقات والسباقات الثقافية، يجب تجديده سنويًّا، وأن هذا التجديد يتم وفق نموذج: كوسموغونيا أو أسطورة أصول تلعب دور أسطورة كوسموغونية.
طبعًا، «السَّنة» يفهمها البدائيون فهمًا مغايرًا، وتواريخ «العام الجديد» تتفاوت تبعًا للمناخ والوسط الجغرافي، ونموذج الثقافة … إلخ. لكن الأمر يتعلق دائمًا بدورة، أي بحقبة زمانية لها بداية ونهاية. ففي نهاية الدورة وبداية الدورة التي تليها، تؤدَّى سلسلة من الطقوس يُراد منها تجديد العالم. كما قلنا لتوَّنا، هذا التجديد هو إعادة خلق يتم وفقًا لنموذج الكوسموغونيا.
وإننا لنجد أبسط الأمثلة على إعادة خلق العالم لدى الأوستراليين الأصليين؛ حيث أساطير الأصول هي التي يجري تحيينها سنويًّا. فالحيوانات والنباتات التي خلقتها «الكائنات العليا» في ذلك الزمان، يُعاد خلقها بواسطة الطقس. في «الكمبرلي»، الرسومات المعمولة على الصخر التي يُعتقد أن الأسلاف الميطيقيين هم الذين رسموها، يُعاد رسمها من جديد بُغية إعادة تنشيط قدرتها المبدعة، كما تجلَّت في المرة الأولى في الأزمنة الميطيقية، أي في بداية العالم.
هذا الخلف الجديد للحيوانات والنباتات الغذائية يساوي، في نظر الأوستراليين، إعادة خلق للعالم، وهذا، ليس لأنهم يأملون أن يعيشوا سنة أخرى؛ إذ لديهم من الطعام ما يكفيهم، إنما لأن العالم وُلد فعلًا عندما ظهرت الحيوانات والنباتات أول مرة في «أزمنة الحلم». ولما كانت الحيوانات والنباتات تندرج في جملة الأعمال التي خلقتها الكائنات العليا، لم يكن تناول الغذاء مجرد فعل فيزيولوجي، بل هو أيضًا فعلٌ «دينيٌّ»: إذ تؤكل خلائق الكائنات العليا، وتؤكل كما أكلها الأسلاف الميطيقيون للمرة الأولى، في بداية العالم.
عند الأوستراليين، تتحول ولادة الكون إلى خلق منظر برِّيتهم المألوف. إن هذا هو «عالمهم»، ويجب أن يتجدد دوريًّا وإلا لعُرِّض للدمار، وقد أوحت فكرة كون العالم مهددًا بالخراب — إن لم يتجدد خلقه سنويًّا — أوحت بالعيد الرئيسي الذي تحتفل به قبائل كاليفورنيا وهم الكاروك والكوبا واليوروك. ويُدعى هذا الاحتفال في لغات هذه القبائل «إعادة إنشاء العالم»، وهو في الإنكليزية «السنة الجديدة». والهدف هو إعادة إنشاء أو توطيد الأرض من أجل سَنة تالية أو سنتين. وعند بعض قبائل اليوروك، يُعاد تثبيت دعائم العالم ببناء كوخ البخار بواسطة طقس ذي بنية كوسموغونية، سنجد أمثلة أخرى عليه فيما بعدُ. الأساسي في الاحتفال يتألف من حجات طويلة قام بها الكهان إلى جميع المواقع المقدسة، أي إلى الأماكن التي ابتدر فيها الخالدون بوادر بعينها. وتدوم هذه الحجات الطقسية عشرة أيام أو اثنَي عشر يومًا. وطوال هذه المدة يكون الكاهن تجسيدًا للخالدين. وفيما هو يمشي يقول: «هكذا كان يمشي إكسكاريا أنبماس (أحد الخالدين) في الأزمنة الميطيقية.» حتى إذا وصل إلى أحد المواقع المقدسة، يشرع في تكنيسه قائلًا: «إكسكاريا يا كام (خالد آخر) يكنس من أجلي. هذان الاثنان كلاهما مريض سوف تتحسن صحته من الآن فصاعدًا.» ثم يرتقي جبلًا حيث يبحث عن غصن يتخذه عصًا ويقول: «العالم يتصدَّع، لكن ما إن أجُرُّ هذه العصا على الأرض حتى تلتئم جميع الشقوق وتغدو الأرض صلبة مثلما كانت من قبل.»
ثم ينحدر إلى ساقية حيث يجد حجرًا فيثبِّته بقوة قائلًا: «الأرض التي وقعت سوف تنهض من جديد. والناس سوف يعيشون (مدة أطول) ويصيرون أشد قوة.» ثم يجلس فوق الحجر، ويُبين المغزى من ذلك قائلًا: «عندما أجلس فوق الحجر، لا يعود العالم يعلو ويهبط. هذا الحجر موجود هنا منذ أزمنة الخالدين، منذ بدء العالم.»
تؤلف جملة الطقوس التي أتينا على ذِكرها سيناريو كوسموغونيًّا. في جميع الأزمنة الميطيقية، خلق الخالدون العالم الذي سوف يعيش فيه أهالي كاليفورنيا: رسموا له ملامحه، وثبتوا مركزه، ووطدوا أركانه، وضمنوا له وفرة السلمون والأصداف، وطردوا الأمراض. لكن هذا العالم لم يَعُد هو العالم اللازمني الذي لا يتغير، الذي يعيش فيه الخالدون. إنه عالمٌ حيٌّ؛ تسكنه وتسخِّره كائنات من لحم وعظم، تخضع إلى ناموس الصيرورة والشيخوخة والموت. أيضًا يتطلب تصليحًا وتجديدًا وتثبيتًا دوريًّا. لكن العالم لا يتجدد إلا بتكرار ما فعله الخالدون «في ذلك الزمان»، أي بتكرار الخلق. إن هذا يُفسر لنا لماذا يعمد الكاهن إلى رسم طريق السفر المثالي الذي سلكه الخالدون، يكرر بوادرهم، ويُردد كلماتهم. ملاك القول، إن الكاهن تجسيد للخالدين. بعبارة أخرى، الخالدون يأتون إلى الأرض ثانيةً بمناسبة العام الجديد. وهذا يفسر لنا أيضًا لماذا كانت هذه القبائل تُولي أهمية عظمى لطقس تجديد العالم سنويًّا؛ إذ كان أهم احتفال ديني عندها. بهذا الطقس يعود العالم أكثر أمنًا واستقرارًا، يعود مولودًا من جديد، ليس هذا وحسب، وإنما يعود عالمًا قدَّسه حضور الخالدين فيه رمزيًّا. فالكاهن، الذي يجسِّد الخالدين، يصبح — في غضون مدة معينة — «شخصًا خالدًا»، وبما هو كذلك يجب ألا ينظر إليه الناس وألا يلمسوه. لذلك عليه أن يؤدي طقوسه بعيدًا عن الناس، في عزلة تامة عنهم؛ لأن الخالدين عندما ابتدروا بوادرهم (التي أصبحت فيما بعد طقوسًا)، أول مرة، لم يكن بعدُ إنسان موجودًا على الأرض.
فروقٌ وأشباه
العام الجديد وولادة الكون في الشرق الأدنى القديم
ومما له مغزًى عظيم أن نجد أفكارًا مماثلة في أديان الشرق القديم، مع الاعتراف بداهةً بالفروقات التي نتوقعها بين مجتمعات المرحلة قبل الزراعية أو الزراعية الأولية والمجتمعات الزراعية والبلدانية كمجتمعات ما بين النهرين ومصر، ومع ذلك فهناك هذه الحقيقة الجوهرية: المصريون والرافدينيون والعبران، وأقوامٌ آخرون غيرهم في الشرق الأدنى القديم، كانوا يُحسون الحاجة إلى تجديد العالم دوريًّا. وكان هذا التجديد يتألف من سيناريو عبادي، يرمز طقسه الرئيسي إلى تكرار ولادة الكون. وكان خلق العالم يتكرر طقسيًّا في بلاد الرافدين بمناسبة أعياد العام الجديد (أكيتو)، وكانت تؤدَّى سلسلة من الطقوس تحين الصراع بين مردوخ وتعامات (التنين الذي يرمز إلى: المحيط البدئي)، وانتصار الإله وعمله الكوسموغوني.
تبعًا لذلك، إن الفروقات الكبيرة بين الأنظمة العبادية الرافدينية والعبرانية لا تنفي أن هذه الأنظمة يجمعها أمل مشترك يتمثل في تجدد ولادة العالم سنويًّا أو دوريًّا. باختصار، هناك اعتقاد باستعادة «البدء» المطلق، وهو ما ينطوي عليه دمار العالم القديم وإلغاؤه رمزيًّا. الغاية، إذَن، متضمنة في البدء والعكس بالعكس. وليس في هذا ما يبعث على الدهشة، ذلك أن الصورة المثالية لهذا البدء المسبوق والمتبوع بغاية هي السنة، الزمن الكوني الدائري، كما يمكننا إدراكه في إيقاع الفصول وانتظام الظاهرات السماوية.
لكن هنا يقتضي أن نقول شيئًا محددًا: إن كان من المحتمل أن يوجد حدس «السنة» بما هي دورة في أصل فكرة كون يتجدد دوريًّا، في السيناريوهات الأسطورية-الطقسية التي تقام بمناسبة العام الجديد؛ فإن فكرة جديدة تعترضنا، ذات أصل ومبنًى يختلفان اختلافًا بيَّنًا. هذه الفكرة هي فكرة «كمال البدايات»، وهي تعبير عن خبرة دينية أكثر صميمية وأبعد غورًا، تُغذيها الذكرى الخيالية ﻟ «فردوس مفقود»، لغِبطة سبقت الشرط البشري الراهن. هذا، ولربما لعب السيناريو الأسطوري-الطقس للعام الجديد دورًا هامًّا إلى أبعد حدود الأهمية في تاريخ البشرية؛ لأنه إذ يضمن تجديد الكون قد منح الإنسان الأمل باستعادة غبطة «البدايات». أن صورة «السنة-الدائرة» محمَّلة برمزية كونية-حياتية، ثنائية أليمة، «تشاؤمية» و«تفاؤلية» في نفس الوقت. ذلك أن انقضاء الزمان ينطوي على ابتعاد مطرد عن «البدايات»، وبالتالي على فقدان الكمال الأوَّلي. كل ما يمضي في الزمان يُضوي ويضمر وينتهي إلى هلاك. بديهي أن الأمر يتعلق بتعبير «حياتي» عن الواقع؛ لكن يجب ألا ننسى أن الكائن، بالنسبة للبدائي، يتكشف — ويعبِّر عن نفسه — بلغة الحياة. الامتلاء والقوة نجدهما في البدء؛ ما يمكن أن ندعوه «تشاؤمًا» مرتبط بهذا المفهوم. لكن يجب أن نضيف على الفور: الامتلاء، على الرغم من أننا سرعان ما نفقده، إلا أنه قابل للاستعادة دوريًّا، للسنة نهاية، أي أنها متبوعة ببدء جديد تلقائيًّا.
إن فكرة «كمال البدايات»، تبدو قديمةً نوعًا ما. وهي فكرة واسعة الانتشار، على كل حال. ثم هي فكرة قابلة للتفسير على نحو غير محدود، مثلما هي قابلة لأن تلتحم بعدد لا حصر له من المفاهيم الدينية. ولسوف نتطرق إلى مناقشة بضع من هذه التقويمات. ولنقُل من فورنا أن فكرة كمال البدايات قد لعبت دورًا هامًّا في صياغة منتظمة للدورات الكونية التي تتسع باطراد. «السنة» العادية تتمدد تمددًا كبيرًا؛ إذ تلد «سنة عظمى»، أو دورات كونية من دهر لا يمكن حسابه. وكلما أصبحت الدورة الكونية أوسع وأرحب، مالت فكرة كمال البدايات إلى انطوائها على هذه الفكرة التكميلية: لكي يبدأ شيء جديد حقًّا، يجب القضاء نهائيًّا على بقايا وأطلال الدورة القديمة. بعبارة أخرى، إن كنا نرغب في الحصول على بداية مطلق، لا بد من أن تكون نهاية العالم نهاية جذرية. وما الإسكاتولوجيا (= نهاية العالم) إلا تصور سابق لولادة الكون (= كوسموغونيا) في المستقبل. لكن كل إسكاتولوجية تؤكد هذه الحقيقة: لا يحدث الخلق الجديد إلا بعد القضاء نهائيًّا على هذا العالم. لم يَعُد الأمر يتعلق بتجديد قوى ما قد ضمرت قوته ووهنت عظامه، بل بالقضاء على العالم القديم لكي يمكن خلقه من جديد كلية. إن امتلاك غبطة البدايات يتطلب القضاء على جميع ما كان موجودًا، وبالتالي على ما أصابه الانحطاط منذ خلق العالم؛ إنها الإمكانية الوحيدة للعودة إلى الكمال الأوَّلي.
والحق أن جميع مظاهر الحنين هذه، وجميع هذه الاعتقادات، نجدها ماثلة في السيناريوهات التي تصف تجدد العالم في كل سنة. لكن تدريجيًّا، وانطلاقًا من المرحلة الزراعية الأولى من الثقافة، وجدت هذه الفكرة طريقها، وهي أنه يوجد أيضًا دمار حقيقي (ليس دمارًا طقسيًّا وحسب)، وخلق جديد للعالم، وأنه يوجد «عود إلى الأصل» بالمعنى الحرفي للكلمة، أي انكفاء للكون إلى حالة اللاشكل، إلى الحالة العمائية، تعقبها ولادة كونية جديدة.
وليس كأساطير نهاية العالم ما يوضح لنا هذا المفهوم بصورة جلية. ولسوف نتناولها بالدرس في الفصل التالي، لا من أجل ما فيها من قيمة ذاتية، بل لأنها تكشف لنا عن وظيفة الأساطير عمومًا. حتى الآن، انصبَّ اهتمامنا على أساطير ولادة العالم وأساطير الأصول، على الأساطير التي تروي لنا ما قد حدث فعلًا. إن ما يهمنا الآن أن نعرف كيف قُذف بفكرة «كمال البدايات» إلى مستقبل غير زماني. لقد لعبت أساطير نهاية العالم دورًا هامًّا في تاريخ البشرية. لقد جعلت من «دينامية الأصل» أمرًا بديهيًّا، في الحقيقة، انطلاقًا من لحظة معينة، لا يوجد «الأصل» وحيدًا في ماضٍ ميطيقي وحسب، وإنما يوجد أيضًا في مستقبل خرافي. يقال إن هذه هي النتيجة التي توصَّل إليها الرواقيون والفيثاغوريون الجدد؛ لصياغتهم فكرة العود الأبدي صياغة منتظمة. لكن مفهوم «الأصل» خصوصًا مرتبط بفكرة الكمال والغبطة. إن هذا هو السبب الذي من أجله أننا نجد في المفاهيم الإسكاتولوجية التي تعتبر ولادة جديدة للعالم في المستقبل مصادر جميع المعتقدات التي تقول بالعصر الذهبي، لا في الماضي وحسب (ولم تَعُد تقول به كذلك)، وإنما أيضًا (أو فقط) في المستقبل.