إسكاتولوجيا وكوسموغونيا
نهاية العالم – في الماضي والمستقبل
يمكننا القول بإيجاز إن نهاية العالم، بالنسبة للبدائيين، قد حدثت على الرغم من أنها يجب أن تحدث في مستقبل بعيد يطول أو يقصر. إن الأساطير التي تتحدث عن وقوع كوارث كونية هي أساطير منتشرة على أوسع نطاق. فهي تحكي لنا كيف حصل دمار للعالم وقُضي على البشر جميعًا إلا زوجَين اثنَين أو عددًا قليلًا من الناس تُكتب لهم النجاة. ولعل أساطير الطوفان أكثرها عددًا، وتكاد أن تكون معروفةً في جميع أنحاء العالم (باستثناء أفريقيا فهي نادرة جدًّا). إلى جانب أساطير الطوفان، هناك أساطير أخرى تحكي عن دمار البشرية بواسطة كوارث على مستويات كونية: هزَّات أرضية، حرائق، دك الجبال … إلخ. طبعًا، إن نهاية العالم على هذا النحو ليست بالنهاية الجذرية، بل هي نهاية للبشرية يعقبها ظهور بشرية جديدة. لكن غمر المياه للأرض بصورة كلية، أو حرقها بالنار كليًّا، يعقبه ظهور أرض عذراء، إنما يرمز إلى انكفاء إلى العماء وإلى ولادة كونية.
يرتبط الطوفان في عدد كبير من الأساطير بخطأ طقسي أثار غضب الكائن الأعلى. ويحدث أحيانًا نتيجة لشهوة كائن إلهي إلى وضع حدٍّ للبشرية لكن لو تفحصنا الأساطير التي تعلن الطوفان القادم؛ لتبيَّن لنا أن واحدًا من الأسباب الرئيسية يكمن في خطايا الناس وشيخوخة العالم ووهن قواه أيضًا. والطوفان قد فتح الطريق، في نفس الوقت، إلى خلق جديد للعالم وولادة جديدة للبشرية. بعبارة أخرى، تمثل نهاية العالم في الماضي، والنهاية التي سوف تحدث في المستقبل تمثل إسقاطًا هائلًا، على مستوى العالم الأكبر واحتدامًا دراميًّا استثنائيًّا، للنظام الأسطوري-الطقسي الذي نجده في أعياد العام الجديد. لكن الأمر لم يَعُد يتعلق هذه المرة بما يمكن أن ندعوه «النهاية الطبيعية» للعالم — «طبيعية» لأنها تتزامن مع نهاية السنة، وبالتالي تُشكل جزءًا لا يتجزأ من الدورة الكونية — بل كارثة حقيقية أثارتها الكائنات الإلهية. هذا، وإننا لنشعر بالترابط بين الطوفان والتجديد السنوي للعالم في بعض الحالات النادرة جدًّا (ما بين النهرين، اليهودية، مندان). لكن أساطير الطوفان عمومًا مستقلة عن السيناريوهات الأسطورية-الطقسية للعام الجديد. وتفسير هذا أمر يسير، ذلك أن الأعياد الدورية للولادة الجديدة تحين رمزيًّا ولادة العالم؛ أي العمل المبدع الذي قامت به الآلهة، لا القضاء على العالم القديم؛ فقد كان هذا يختفي «طبيعيًّا» بمجرد أن تبلغ المسافة التي تفصل «البدايات» حدَّها الأقصى.
عند البدائيين، الأساطير التي تشير إلى نهاية قادمة للعالم قليلة جدًّا بالقياس إلى الأساطير التي تروي لنا نهاية ماضية. وقد لاح ف. ر. ليهمن أن هذه الندرة ربما ترجع إلى أن علماء الإثنولوجيا لم يطرحوا هذا السؤال في أبحاثهم. وقد يكون من الصعب أحيانًا تحديد ما إن كانت الأسطورة تعني كارثة ماضية أو قادمة. بناء على شهادة من أي. ه. مان، يؤمن الأندمانيون أن بشرية جديدة، تتمتع بشرط فردوسي، سوف تظهر بعد نهاية العالم. عندئذٍ لن تكون ثمة أمراض ولا عجز ولا موت. بل إن الأموات سوف يُبعثون بعد الكارثة. لكن «مان»، وهذا رأي يراه آ. رادكليف، ربما ضمَّ عدة روايات بعضها إلى بعض، كان جمعها من رواة مختلفين. ثم يبيِّن براون أن الأمر يتعلق بأسطورة تحكي نهاية العالم وخلقه خلقًا جديدًا، لكنها تنصرف إلى الماضي لا إلى المستقبل. لكن اللغة الأندمانية، كما يقول ليهمن، ليس فيها زمنٌ مستقبلٌ؛ لذلك لم يكن من السهل البتُّ بما إن كان الحدث يتعلق بالماضي أو المستقبل.
أندر الأساطير البدائية التي تتحدث عن نهاية العالم هي الأساطير التي لا تبين عن إشارات محددة تتعلق باحتمال خلق العالم خلقًا جديدًا. فقبيلة «الكادي»، في غينيا الجديدة، يؤمنون بأن الخالق، مالانغ فونغ، بعد أن خلق الكون والإنسان، انكفأ إلى أطراف العالم، إلى الأفق؛ حيث استغرق في سبات عميق. وكلما استيقظ من نومه تتزلزل الأرض. لكنه سوف يُفيق يومًا ويُطبِق السماء على الأرض ويقضي على جميع الأحياء. في إحدى جزر «كارولين»، وهي جزيرة نامولوت، اعتقاد بأن الخالق لسوف يقضي يومًا على البشرية بسبب من خطاياها. لكن الآلهة سوف تبقى، وهذا ينطوي على إمكانية خلق جديد. وفي جزيرة أخرى من جزر «كارولين»، وهي جزيرة أوربيك، ليس الخالق هو المسئول عن الكارثة بل ابنه. عندما يتضح له أن شيخ إحدى الجزر لم يَعُد يهتم برعيته، يُغرق الجزيرة بواسطة الإعصار. هنا أيضًا لسنا متأكدين إن كان الأمر يتعلق بنهاية نهائية؛ إلا أن فكرة العقاب على «الخطايا» تنطوي عمومًا على خلق بشرية جديدة في آخر الأمر.
أصعب من هذا تفسير اعتقادات «النغريتو» في شبه جزيرة ملاقا. هؤلاء يعلمون أن «كاراي» قد وضع حدًّا للعالم في يوم من الأيام؛ لأن الآدميين لم يعودوا يعملون بالوصايا. ثُمَّ إن «النغريتو» يعملون، في أثناء العاصفة، على الحيلولة دون وقوع الكارثة بتقريب قرابين الدم. والكارثة سوف تكون عالمية، ولا تُميِّز بين الخاطئين وغيرهم، وهي على ما يبدو لا تحمل بشارة بخلق جديد. إن هذا يُفسِّر لنا لماذا يصفون «كاراي» بالشرير، ويرى فيه «البلسكاي» العدو الذي «سلَبهم الفردوس».
وهناك مثال أقوى وأظهرُ نجده عند «الغواراني» في «ماتوغروسو». فهؤلاء إذ يعرفون أن الأرض سوف يُقضَى عليها حرقًا وغرقًا، يروحون يُفتشون عن «بلاد بلا خطيئة»، وهي نوع من الفردوس الأرضي، تقع فيما وراء المحيط. وقد بدأت هذه الرحلات الطويلة، التي أوحى بها الشامانيون والتي جرت بناءً على توجيهاتهم، في القرن التاسع عشر ودامت حتى عام ١٩١٢م. بعض القبائل يؤمن بأن الكارثة سوف يعقُبها تجديدٌ للعالم وبعثٌ للموتى. وبعضها الآخر ينتظر ويتمنى النهاية النهائية للعالم. في عام ١٩١٢م كتب نيموانداجو يقول: «ليس الغواراني وحدهم الذين يصيبهم الهِرم ويتعبون من الحياة، بل الطبيعة كلها تهرم وتتعب أيضًا. أكثر من مرة، عندما كان العرَّافون يُلاقون نندر أوبوبو، سمعوا الأرض تتضرع إليه قائلةً: لقد التَهمتُ من الجثث أكثر من قدرتي، لقد أتخمتُ. أبتاه، ألا فلينقضِ هذا الأمر! أما الماء فيتوسل إلى الخالق أن يمنحه الراحة وأن يبعد عنه كل غضب، وكذلك الشجر … والطبيعة كلها.»
ولعلنا لا نكاد نجد عبارة أشد تأثيرًا من التعب الكوني والرغبة في الاستراحة المطلقة والموت. لكن الأمر يتعلق بالتحرر الذي لا محيص عنه من الافتتان الذي يعقب تمجيدًا مسيانيًّا طويلًا لا طائل وراءه. منذ قرن، كان «الغواراني» يبحثون عن الفردوس الأرضي، منتشرين وراقصين. كانوا أعادوا تقويم أسطورة «نهاية العالم» وجعلوها جزءًا من ميثولوجية ألفية.
تنطوي أكثر أساطير النهاية الأميركية إما على نظرية دورية (كما هو الحال عند الأزتيك)، وإما على اعتقاد بأن الكارثة سوف يعقبها خلقٌ جديدٌ، وإما، أخيرًا (كما في بعض أقاليم أميركا الشمالية)، على اعتقاد بولادة جديدة للعالم بدون أن تسبقها كارثة (في هذه الولادة الجديدة، الخُطاة وحدهم هم الذين يهلكون)، بحسب مأثورات الأزتيك، دُمِّر العالم ثلاث مرات أو أربعًا، والرابعة (أو الخامسة) يُنتظَر وقوعها في المستقبل. وكل واحد من هذه العوالم تحكمه «شمس»، يكون سقوطها أو اختفاؤها علامة على النهاية.
يتعذَّر علينا هنا أن نُعدِّد جميع الأساطير الأخرى الهامة في الأميركتين المتعلقة بنهاية العالم. هناك عدد معين من الأساطير يتكلم عن زوجين سوف يعمران العالم الجديد بالناس. ويعتقد «الشُّكتو» أن العالم سوف يُقضى عليه بحريق هائل، لكن الأرواح سوف تعود، والعظام سوف تكتسي باللحم، والمنبعثين سوف يعودون إلى السكن في بلادهم القديمة. ونجد أسطورة مماثلة عند الإسكيمو: سوف يبعث الناس بعظامهم (اعتقاد مختص بالثقافات القنصية). ويبدو أن الاعتقاد بأن الكارثة هي النتيجة الحتمية التي تترتب على «شيخوخة» العالم وهزال قواه اعتقادٌ واسع الانتشار. يقول «الشيروكي»: «عندما يشيخ العالم وتنفد قواه، يموت الناس، وتنقطع الحبال، وتغور الأرض في المحيط.» (يتصورون الأرض جزيرة كبيرة معلقة إلى قبة السماء بأربعة حبال). وفي إحدى الأساطير، يؤكد صانع الأرض للزوجين اللذين خلقهما أن «هذا العالم عندما تنفد قواه، لسوف أُعيد خلقكما خلقًا سويًّا، وعندما أُعيد خلقه، لسوف تعرفان ولادة جديدة.» من المبادئ الكوسموغونية الأساسية التي يؤمن بها «الكاتو»، أن الخلق يبدأ بسماء جديدة تحل محل السماء القديمة التي توشك أن تنهدَّ على الأرض. والملاحظ أن الأساطير الكوسموغونية المنتشرة على الساحل الباسيفيكي ترتدُّ روايات الكثير منها إلى مأثورات ذات صلة بخلق الأرض خلقًا جديدًا بعد الكارثة العظمى.
نهاية العالم في الديانات الشرقية
وبما أننا بحثنا هذه المشكلة في «أسطورة العَود الأبدي»، لن نعمد إلى تناولها ههنا، مكتفين بالتذكير فقط بأن الدورة التامة سوف تنتهي ﺑ «انحلال» (برالايا) يتكرر على نحو أكثر جذرية (مهابرالايا «الانحلال الأكبر») في نهاية الدورة الألف. تقول «المهابهاراتا» و«البورانا»: إن الأفق سوف يضطرم بالنار، وتظهر في السماء سبع شموس أو اثنتا عشرة شمسًا، تُجفف البحار وتحرق الأرض. ونار الحريق الكوني (سام وارتاكا) سوف تُدمر العالم عن بَكرة أبيه. ثم تهطل أمطار طوفانية تدوم اثنتَي عشرة سنة بلا توقف؛ فتغمر المياه الأرض ويُقضى على البشر أجمعين. فوق المحيط، يجلس فشنو فوق الحية الكونية سشنا، يغط في نوم عميق، ثم يعود كل شيء من جديد إلى ما لا نهاية (فشنو بورانا ٧١، ٤، ١–١١).
كذلك نجد أسطورة كمال البدايات بكل وضوح في ما بين النهرين وعند العبران وعند الإغريق. بحسب المأثورات البابلية، الملوك الثمانية أو العشرة الذين حكموا قبل الطوفان حكموا بين ١٠٨٠٠ و٧٢٠٠٠ سنة، بينما لم يحكم ملوك الأسر الأولى الذين جاءوا بعد الطوفان أكثر من ١٢٠٠ سنة. نضيف إلى ذلك أن البابليين كانوا يعرفون أيضًا أسطورة فردوس بدئي، وظلوا يحتفظون بذِكر سلسلة من الدمارات وإعادات الخلق (ست مرات، احتمالًا) متعاقبة للعرق البشري. والعبران يشتركون في أفكار مماثلة: فقدان الفردوس الأصلي، نقصٌ تدريجيٌّ في طول الحياة، طوفانٌ يقضي على البشرية كلها باستثناء بضعة ممتازين. أما في مصر، فلا نجد أسطورة «كمال البدايات»، بل نجد مأثورًا أسطوريًّا عن طول خرافي لأعمال الملوك الذين جاءوا قبل مينا.
القيامة اليهودية-المسيحية
فرقٌ آخر عن الأديان الكونية: بالنسبة لليهودية-المسيحية، تشكل نهاية العالم جزءًا من السر المسياني. بالنسبة لليهود، يعلن مقدِم المسيح نهاية العالم واستعادة الفردوس. بالنسبة للمسيحيين، تسبق نهاية العالم المقدم الثاني للمسيح والدينونة الأخيرة. لكن بالنسبة لهؤلاء كما بالنسبة لأولئك، ينطوي انتصار التاريخ المقدس — يظهر هذا جليًّا في نهاية العالم — على نوع من استعادة الفردوس. الأنبياء يعلنون أن الكون سوف يتجدد: لسوف توجد سماء جديدة وأرض جديدة. كل شيء سوف يتوفر بكميات هائلة كما في جنة عدن (عاموس ٩: ١٣ وما بعدها؛ إشعيا ٣٠: ٢٣ وما بعدها، ٣٥: ١، ٢، ٧. ٤٥: ١٧. ٤٦: ٢٢. إلخ …) والبهائم والوحوش سوف تعيش بعضها مع بعض في سلام «يَسُوقُهَا صَبِيٌّ صَغِيرٌ .» (إشعياء ١١: ٦). المرض والعجز سوف يختفيان إلى الأبد؛ فالأعرج يقفز كالأيل، وَآذَانُ الصُّمِّ تَتَفَتَّحُ، ولن يكون ثمة بكاء ولا دموع (إشعياء ٣٠: ١٩؛ ٣٥: ٣ وما بعد). إسرائيل الجديدة سوف تُبنى على جبل صهيون، لأن الفردوس كان موجودًا على جبل (إشعياء ٣٥: ١٠، مزامير ٤٣: ٢). وبالنسبة للمسيحيين أيضًا، التجديد الكلي للكوسموس واستعادة الفردوس هما السمتان الجوهريتان على الآخرة. جاء في رؤيا يوحنا: «ثُمَّ رَأَيْتُ سَمَاءً جَدِيدَةً وَأَرْضًا جَدِيدَةً، لأَنَّ السَّمَاءَ الأُولَى وَالأَرْضَ الأُولَى مَضَتَا … وَسَمِعْتُ صَوْتًا عَظِيمًا مِنَ السَّمَاءِ قَائِلًا: وَالْمَوْتُ لاَ يَكُونُ فِيمَا بَعْدُ، وَلاَ يَكُونُ حُزْنٌ وَلاَ صُرَاخٌ وَلاَ وَجَعٌ فِيمَا بَعْدُ، لأَنَّ الأُمُورَ الأُولَى قَدْ مَضَتْ. وَقَالَ الْجَالِسُ عَلَى الْعَرْشِ: هَا أَنَا أَصْنَعُ كُلَّ شَيْء جَدِيدًا!» (٢١: ١–٥).
لكن هذا الخلق الجديد سوف يقوم على أنقاض الأول. فاجتماع نُذُر الكارثة النهائية يذكِّرنا بدمار العالم الذي يصفه الهنود. فهناك القحط والجوع، وهناك قِصرُ الأيام. والعصر الذي يسبق النهاية مباشرة سوف يحكمه عدو المسيح. لكن المسيح سوف يأتي ويُطهر العالم بالنار. وكما عبَّر عن ذلك أفرام السرياني: «يصطخب البحر ثم ينشف، وتنهدُّ أركان السماء والأرض، وينتشر الدخان في كل مكان ويعم الظلام. طوال أربعين يومًا يرسل الرب على الأرض نارًا ليطهرها من رجس الآثام والخطايا.» هذه النار المدمرة نجدها مرة أخرى في رسالة بطرس (٣: ٦–١٤). لكنها تُشكل عنصرًا هامًّا في العرافة السيبيلية والرواقية والأدب المسيحي اللاحق، وربما كانت من أصل إيراني.
الألفيات المسيحية
لكن المسيحية، بعد أن أصبحت الدين الرسمي في الإمبراطورية الرومانية، شجبت عقيدة الألفية واعتبرتها هرطقة (أو حرتقة)، على الرغم من أن آباءً عظامًا كانوا آمنوا بها في الماضي. لكن الكنيسة قبلت ﺑ «التاريخ»، ولم تَعُد نهاية العالم هي الحدث الذي كان عليها انتظاره في عهود الاضطهاد. العالم، هذا العالم، بكل خطاياه ومظالمه وهمجيته، سوف يستمر، والله وحده هو الذي يعلم متى ينتهي، وكان هناك شيء أكيد واحد هو أن هذه النهاية لن تحصل غدًا. بانتصار الكنيسة تحقق ملكوت السماء على الأرض، وبمعنًى ما تحقق دمار العالم القديم. ولعلنا نستطيع أن نتبين في رفض الكنيسة رسميًّا لعقيدة الألفية أول ظهور لعقيدة التقدُّم. كانت الكنيسة قد قبِلت بالعالم على ما كان عليه، وهي تسعى إلى جعل الوجود البشري أقل شقاءً مما كان عليه في أثناء الأزمات التاريخية الكبرى. كانت الكنيسة قد احتلت هذا الموقع من أجل مقاومة الأنبياء وأصحاب الرؤى والمنذِرين بالقيامة من كل نوع.
بعد بضعة قرون، أي عقب انفجار الإسلام في المتوسط، وخصوصًا بعد القرن الحادي عشر، عادت الحركات الألفية والإسكاتولوجية إلى الظهور ثانيةً، وكانت هذه المرة موجهة ضد الكنيسة أو ضد سلطتها. في هذه الحركات يمكننا أن نتبين عددًا من الملاحظات المشتركة: يبشِّر دعاة هذه الحركات بإقامة الفردوس على الأرض، بعد عهد من المحَن والكوارث الرهيبة. وقد كان «لوثر» أيضًا ينتظر نهاية وشيكة للعالم. وعلى مدى قرون عديدة نجد نفس الفكرة الدينية، وهي أن هذا العالم، عالم التاريخ، عالم غير عادل، مقيتٌ، شيطانيٌّ، لكنه — لحسن الحظ — ماض إلى نهايته المحتومة. ها هي ذي الكوارث قد بدأت، هذا العالم القديم يتصدع من كل جانب، وعما قريب سوف يبيد. سوف تندحر قوى الظلام نهائيًّا، وينتصر «الأخيار»، وعندئذٍ يستعاد الفردوس. إن جميع الحركات الألفية والإسكاتولوجية دليلٌ على نزعة تفاؤلية؛ لأنها تقاوم إرهاب التاريخ مستعينةً بقوة لا يمكن أن يستثيرها إلا حالة من اليأس بلغت أقصى مدًى لها. لكن، منذ قرون، والعقائد المسيحية الكبرى لم تَعُد تعرف التوتر الإسكاتولوجي. فانتظار نهاية العام ودنو يوم القيامة لم يعودا يميزان أيًّا من الكنائس المسيحية الكبرى. لكن الألفية لا تكاد توجد إلا في بعض الفرق المسيحية المتأخرة.
الألفية عند «البدائيين»
لكن هذا الخلق الجديد، وهو في الواقع استعادة للفردوس، شأنه كشأن الإسكاتولوجيات الهندو -إيرانية واليهودية-المسيحية، سوف تسبقه سلسلة من الكوارث الكونية: زلزالٌ يهد الأرض ويدك الجبال، أمطارٌ من لهب، الجبال تطمر الأودية، هلاك البِيض والأهالي غير المجتمعين لصلاة … إلخ.
تتميز مورفولوجية الألفيات البدائية بكونها غنية وبالغة التعقيد. والذي يهمنا هنا إبراز بعض الحقائق: أولًا، يمكن اعتبار الحركات الألفية تطويرًا للسيناريو الميطيقي-الطقسي المتعلق بتجديد العالم دوريًّا. ثانيًا، التأثير، المباشر أو غير المباشر، للإسكاتولوجيا المسيحية يكاد يبدو دائمًا أمرًا لا شك فيه. ثالثًا، أتباع الحركات الألفية قومٌ مُعادون للغرب، على الرغم من انجذابهم للقيم الغربية ورغبتهم في اعتناق ديانة البِيض وثقافتهم بمقدار رغبتهم في الحصول على ثرواتهم وأسلحتهم. رابعًا، يؤسس لهذه الحركات دائمًا شخصيات دينية قوية من النموذج النبوي، وينظمها أو يوسعها سياسيون من أجل أغراض سياسية. خامسًا، جميع هذه الحركات ترى أن الألفية قريبةٌ، لكنها لا تقوم إلا بعد وقوع كارثة كونية أو تاريخية.
لا جدوى من الإلحاح على ما لهذه الحركات من صفة سياسية واجتماعية واقتصادية؛ لأنها صفات بديهية. لكن قوة هذه الحركات وإشعاعها وإبداعيتها، لا تكمن حصرًا في هذه العوامل الاجتماعية-الاقتصادية، بل بوصفها حركات دينية. فأتباعها ينتظرون ويعلنون نهاية العالم حتى يَصِلوا إلى شرط اقتصادي واجتماعي أفضل؛ لكنهم يأملون على وجه الخصوص بخلق للعالم جديد وباستعادةٍ للغبطة البشرية. يحسون الحاجة إلى الخيرات والأرزاق، لكنهم يحسون أيضًا إلى الخلود والحرية والغبطة الفردوسية. وهم يرون أن نهاية العالم تتيح بداية وجود بشري مليء بالغبطة، وجود تام، لا نهاية له.
نضيف إلى ذلك أن فكرة ولادة العالم ولادة جديدة، وخلقه خلقًا جديدًا، حتى وإن لم تكن واردة مسألة نهاية العالم نهاية مفجعة؛ لتُشكل العنصر الجوهري للحركة. والنبي، أو المؤسس لنِحلةٍ من هذا النوع يُعلن «عودة إلى الأصول» وشيكة، وبالتالي استرجاعًا للحالة «الفردوسية» الأصلية. صحيحٌ أن هذه الحالة الفردوسية الأصلية تمثل، في عدد من الحالات، الصورة المثالية للوضع الثقافي والاقتصادي الذي كان سائدًا قبل وصول البِيض، إلا أن هذا ليس هو المثال الوحيد على أسطرة «الحالة الأصلية» و«التاريخ القديم» واعتبارهما «عصرًا ذهبيًّا». لكن الذي يهمنا هنا ليس الحقيقة «التاريخية» التي يَصِلون أحيانًا إلى عزلها وتخليصها من هذه الصور الباذخة، بل حقيقة كون نهاية العالم (وهو هنا عالم الاستعمار) وانتظار عالم جديد ينطويان على عودة إلى الأصول. فالشخصية المسيانية تتواحد مع البطل الثقافي أو السلف الميطيقي الذي ينتظر عودته. إذ إن عودته تساوي تحيينًا للزمن الميطيقي، زمن الأصول، وبالتالي خلق العالم خلقًا جديدًا. ويعتبر الاستقلال السياسي والتحرر الثقافي اللذان تعلنهما الحركات الألفية على الأقوام المستعمرة استرجاعًا لحالة الغبطة الأصلية. باختصار، هذا العالم، العالم القديم، حتى وإن لم يُدمَّر دمارًا قياميًّا مرئيًّا، يبيد رمزيًّا ويُقام في محله العالم الفردوسي، عالم الأصول.
«نهاية العالم» في الفن الحديث
في الفن الحديث يمثل التشاؤم والعدمية عند الثوريين والإباديين الأوائل مواقف قد طواها الزمان. في أيامنا هذه، ما من فنان كبير إلا ويؤمن بانحطاط فنِّه واختفائه الوشيك. من هذه الوجهة، يشبه موقفه موقف «البدائيين»: يساهمون في تدمير العالم — أي تدمير عالمهم هُم، عالمهم الفني — حتى يخلقوا منه عالمًا آخر. هذه الظاهرة الثقافية بالغة الأهمية؛ لأن الفنانين هم الذين يمثلون القوى المبدعة الحقيقية في الحضارة أو المجتمع. الفنانون، من خلال إبداعهم، يسبقون ما سوف يحدث — أحيانًا بعد جيل أو جيلين — في القطاعات الأخرى من الحياة الاجتماعية والثقافية.
ولعل مما له أهمية كبيرة أن يتزامن تدمير اللغات الفنية مع نشأة التحليل النفسي. فقد قوَّمت سيكولوجية الأعماق الاهتمام بالأصول، وهو اهتمام يَسِمُ إنسان المجتمعات القديمة. وأنه لأمر يبعث على الافتتان أن ندرس عن كثب سياقًا يُعاد فيه تقويم أسطورة نهاية العالم في الفن المعاصر. لسوف يتضح لنا أن الفنانين، من غير أن يكونوا المعصوبين الذين قد يصفهم البعض أنهم كذلك أحيانًا، أصح نفسيًّا من كثير من الناس المعاصرين. لقد أدركوا أنَّ بداية جديدة حقيقية لا يمكن أن تحدث إلا بعد نهاية حقيقية. والفنانون، وهم الأوائل في الحديثين، قد انصرفوا كليًّا إلى تدمير عالمهم هم تدميرًا واقعيًّا، حتى يخلقوا لأنفسهم عالمًا فنيًّا جديدًا يستطيع فيه الإنسان أن يوجد ويفكر ويحلم في وقت واحد.