إمكانية التحكم في الزمان
الإيقان من بداية جديدة
المقارنة التي رسمنا خطوطها الرئيسة توًّا بين «تفاؤلية» الأقوام الطالعة حديثًا من الاستعمار، وتفاؤلية الفنانين الغربيين، كان بإمكاننا توسيعها وتطويرها. في الحقيقة، هناك مقابلات أخرى تفرض نفسها علينا بين عقائدَ معينة تؤمن بها المجتمعات التقليدية ومظاهر معينة من الثقافة الحديثة. لكننا احتفظنا بإجراء هذه المقابلات لما بعدُ؛ لكيلا نقطع تسلسل البحث الذي التزمناه. ذلك إننا إن كنا درسنا الموضوعة الميطيقية المتعلقة بنهاية العالم؛ فما ذلك إلا لكي نبين العلاقة بين الإسكاتولوجيا والكوسموغونيا. وتذكر هنا أننا كنا أكَّدنا، في الفصل الثالث، على الأهمية القصوى للسيناريو الميطيقي-الطقسي للولادة السنوية التي يُولَدها العالم؛ حيث رأينا أن هذا السيناريو ينطوي على موضوع رئيسي هو موضوع «كمال البدايات»، إن هذا الموضوع، ابتداءً من لحظة تاريخية معينة، يصبح موضوعًا «متحركًا»، أي قابلًا لأن يعني كمال البدايات في الماضي الميطيقي مثلما يعني أيضًا كمال البدايات في المستقبل، وذلك بعد دمار هذا العالم، في «جولتنا» الطويلة التي قمنا بها على أساطير نهاية العالم، التي حللناها في الفصل الأخير، أردنا أن نبين أن الجوهري، حتى في الإسكاتولوجيات، ليس هو واقعة النهاية بحد ذاتها، بل اليقين ببداية جديدة. وهذه البداية هي، تخصيصًا، نسخة عن البداية المطلقة؛ أي ولادة الكون (= كوسموغونيا). يمكننا القول هنا أيضًا إننا نلاقي الموقف العقلي نفسه الذي يَسِمُ الإنسان القديم؛ أي القيمة الاستثنائية التي يمنحها إلى «معرفة الأصول». في الحقيقة، عند إنسان المجتمعات القديمة، تهب معرفة أصل الشيء (حيوان، نبات، شيء كوني … إلخ) نوعًا من السيطرة السحرية عليه: نعرف أين يوجد، وكيف يمكن أن نظهره في المستقبل. يمكن تطبيق نفس الصيغة على الأساطير الإسكاتولوجية: معرفة ما قد حدث «في الأصل»، معرفة ولادة العالم، تمنحنا العلم بما سوف يحدث في المستقبل. إن «تحرك» أصل العالم (من الماضي إلى المستقبل) يترجم أمل الإنسان بأن عالمه سوف يبقى دائمًا حتى ولو دُمر دوريًّا، بالمعنى المخصوص للكلمة. حل يائس؟ لا؛ لأن فكرة دمار العالم ليست فكرة تشاؤمية في الأساس. العالم، بحكم ديمومته، ينحط وتُنهك قواه؛ وهذا ما يفسر لنا لماذا يجب أن يتجدد خلقه رمزيًّا في كل سنة. لكنه استطاع أن يقبل فكرة الدمار القيامي للعالم، لأنه كان يعرف ولادة الكون، أي «سر» أصل العالم.
فرويد ومعرفة «الأصل»
ليس يُجدي أن نؤكد أكثر مما أكدنا على القيمة «الوجودية» لمعرفة الأصل في المجتمعات التقليدية. فالمسلك ليس قديمًا على وجه الحصر، لأن حب معرفة أصل الأشياء هو أيضًا من سمات الحضارة الغربية. فقد شهد القرن الثامن عشر، وخصوصًا التاسع عشر، كثرة في الأبحاث المتعلقة بأصل الكون والحياة والأنواع والإنسان، بمقدار ما شهد الأبحاث المتعلقة بأصل الحياة الاجتماعية واللغة والدين وجميع المؤسسات البشرية. لقد سعى الإنسان خلال هذَين القرنَين إلى معرفة أصل وتاريخ كل ما يحيط بنا: أصل النظام الشمسي بمقدار سعيه إلى معرفة أصل مؤسسة كالزواج مثلًا، أو لعبة يلعبها الأطفال كلعبة «أم الإجر».
ولعل من المهم أن نتبين أن التحليل النفسي وحده، من بين جميع علوم الحياة، يؤدي إلى الفكرة القائلة إن «بدايات» كل كائن بشري هي بدايات سعيدة، ممتلئة بالغبطة، وتُشكِّل نوعًا من الفردوس. بينما تُصرُّ علوم الحياة الأخرى على هشاشة البدايات ونقصها، وسياق التطور، أو الصيرورة، هو الذي يتولى تصحيح هذه البدايات وما تتصف به من فقر مؤلم.
ما يهمنا من أفكار فرويد فيما نحن بصدده فكرتان: أولاهما، غبطة «الأصل» و«بدايات» الكائن البشري، والثانية، إمكان إحياء حوادث رضِّية من الطفولة الأولى بواسطة التذكر أو «العودة إلى الخلف». كما رأينا، أن غبطة «الأصل» موضوعة تتكرر كثيرًا في الديانات القديمة؛ وإننا لنجدها أيضًا في الهند وإيران واليونان وفي اليهودية-المسيحية. إن طرح فرويد لمسلَّمة الغبطة في بداية الوجود البشري لا يعني أن التحليل النفيس ذو بنية ميثولوجية، أو أنه يستعير موضوعة ميطيقية قديمة أو أنه يُسلِّم بأسطورة الفردوس اليهودية-المسيحية والسقوط. والتقريب الوحيد الذي يمكن إجراؤه بين التحليل النفسي والمفهوم القديم للغبطة وكمال الأصل يرجع إلى أن فرويد قد اكتشف الدور الحاسم الذي يلعبه «الزمن البدئي والفردوسي» في الطفولة الأولى، غبطة ما قبل الفطام؛ أي قبل أن يصبح الزمن، بالنسبة لكل فرد، «زمنًا مُعاشًا».
أما الفكرة الفرويدية الثانية التي تُهمنا في بحثنا، وهي فكرة «العودة إلى الخلف»، التي نؤمِّل بواسطتها إمكان تحيين حوادث معينة حاسمة من الطفولة الأولى، فهي أيضًا تُبرر التقريب مع أنماط السلوك القديمة. ذكرنا عددًا من الأمثلة التي تُبرز الاعتقاد بإمكان تحيين الحوادث البدئية التي روتها الأساطير، وبالتالي إحيائها. لكن هذه الأمثلة، فيما عدا بعض الاستثناءات (منها، الشفاء بالسحر)، تبين العودة «الجماعية» إلى الخلف. فالمجتمع كلُّه، أو جزءٌ هامٌّ منه، يحيا الحوادث التي ترويها الأساطير بواسطة الطقس. والتقانية المتبعة في التحليل النفسي تجعل من العودة «الفردية» إلى زمن الأصل أمرًا ممكنًا. وقد كانت هذه العودة الوجودية إلى الخلف معروفةً أيضًا لدى المجتمعات القديمة، وكانت تلعب دورًا هامًّا في تقانيات شرقية، نفسية-فيزيولوجية. هذه المشكلة هي التي سنتولى درسها فيما يلي.
التقانيات التقليدية المتَّبعة في «العودة إلى الخلف»
ليس في نيَّتنا أبدًا أن نعقد مقارنة بين التحليل النفسي وبين معتقدات وتقانيات كانت معروفة لدى البدائيين والشرقيين. فغرض التقريب المطروح هنا هو تبيان أن «العودة إلى الخلف»، التي رأى فرويد أهميتها لفهم الإنسان، ولشفائه على وجه الخصوص، كانت تمارَس في الثقافات غير الأوروبية. بعد الذي قلناه عن الأمل بتجديد العالم عن طريق تكرار ولادته أو خلقه، ليس يصعب علينا أن نفهم الأساس الذي تنهض عليه هذه الممارسات؛ فالعودة إلى الأصل تُجدد وجود مَن يقوم بها. لكن هذه «العودة»، كما سنرى بعد قليل، قد تتم من أجل غايات شتى، وقد يكون لها معانٍ كثيرة.
إن ما يهمنا هنا هو وجود طقوس مُسارة تنطوي على فكرة «الانكفاء إلى الرحم» في الثقافات الأكثر تعقيدًا، إلى جانب الطقوس المتعلقة ببلوغ سن الرشد، التي هي من خصائص المجتمعات «البدائية». نقتصر الآن على الهند؛ حيث نميز هذه الموضوعة في ثلاثة نماذج مختلفة من مراسم الاستسرار. فهناك، أولًا، «الأوياناياما»؛ أي إدخال الغلام على مُربِّية. وهنا يعبَّر عن موضوعة الحمل والولادة الثانية تعبيرًا صريحًا؛ إذ يقال إن المربِّي يُحوِّل الفتى إلى جنين، ويُبقيه في بطنه ثلاث ليالٍ، والذي يؤدي طقس الأوباناياما «يُولَد مرتين». وهناك «الدِكسا»، ويطبق على مَن يستعد للتضحية ﺑ «سوما» (= الجسد)، ويتكوَّن من العودة إلى المرحلة الجنينية. ثم يأتي «الانكفاء إلى الرحم»، الذي يجري في وسط الاحتفال ﺑ «هيرانيا كاربها»، ومعناه حرفيًّا: «الجنين الذهبي». في هذه المسارة، يُدخِلون المستلم في وعاء ذهبي في هيئة بقرة، وبعد الخروج منه يُعتَبر مولودًا جديدًا.
في جميع هذه الحالات، يجري طقس «الانكفاء إلى الرحم» بهدف ولادة المستلم في نمط جديد من الوجود، أو ولادته من جديد. من وجهة نظر البنية، تنطبق العودة إلى الرحم على انكفاء العالم إلى الحالة «العمائية» أو الجنينية. والظلمات التي تكتنف الجنين قبل الولادة تنطبق على الليل الذي كان قبل الخلق، كما ينطبق على ظلام كوخ المسارة.
إن جميع طقوس المسارة هذه تنطوي على عودة إلى الرحم، وهي طقوس «بدائية» بمقدار ما هي هندية، وأن لها نموذجًا ميطيقيًّا بطبيعة الحال. وهناك أيضًا ما هو أهم من الأساطير المرتبطة بطقوس مسارة الانكفاء إلى الرحم، وأعني بذلك الأساطير المتعلقة بمغامرات الأبطال أو السحرة أو الشامانيين الذين انكفئوا فعلًا، لا رمزًا، هناك عدد كبير من الأساطير يُبرِز النواحي التالية: ابتلاع هُولة بحري لبطل وخروجه ظافرًا بعد أن يشق بطن الهُولة؛ النزول المحفوف بالخطر في حفرة أو شقٍّ يتمثل فيه فم الأرض-الأم أو رحمها. في الحقيقة تتألف جميع هذه المغامرات من امتحانات استسرارية، يكتسب بعدها البطل الظافر، نمطًا جديدًا من الوجود.
الأساطير والطقوس الاستسرارية التي تتعلق ﺑ «الانكفاء إلى الرحم» تبرز الحقيقة التالية: «العودة إلى الأصل» تُهيئ للولادة الجديدة، لكن هذه الولادة لا تُكرِّر الأولى؛ أي الولادة الفيزيائية. هناك، بالتخصيص، ولادة مستطيقية جديدة، من صعيد زوجيٍّ، بعبارة أخرى، الوصول إلى نمط جديد من الوجود (ينطوي على نضج جنسيٍّ، مقاسمةً للقدسي وللثقافة؛ باختصار، «كوة» على الروح). الفكرة الأساسية هي أنه، للوصول إلى نمط أعلى من الوجود، يجب تكرار الحمل والولادة طقسيًّا، رمزيًّا. بعبارة أخرى، أن له علاقة بأفعال موجهة نحو قيم رُوحية، لا إلى أنماط من السلوك تكشف عن فعالية نفسية-فيزيولوجية.
يظهر من كل هذا بوضوح أكبرَ في الأمثلة التي سوف نبحثها فيما يلي. سوف نرى أن «العودة إلى الأصل» كانت بمثابة نموذج للتقانيات الفيزيولوجية والنفسية-العقلية التي ترمي أيضًا إلى الولادة الجديدة وإلى طول العمر بمقدار ما ترمي إلى الشفاء والخلاص النهائي. لقد أُتيحت لنا فرصة ملاحظة أن الأسطورة الكوسموغوية تتخذ تطبيقات كثيرة، من بينها الشفاء من الأمراض، والخلق الشِّعري، وإعداد الفتيان للدخول في المجتمع والثقافة … إلخ. كذلك رأينا أن «الانكفاء إلى الرحم» يمكن أن يماثله انكفاءً إلى «الحالة العمائية» التي كانت قبل الخلق. من هذا يمكننا أن ندرك لماذا كانت شفائيات قديمة معينة تعتمد العودة الطقسية إلى الرحم بدلًا من التلاوة الاحتفالية لأسطورة ولادة الكون. فمثلًا في الهند، حتى يومنا هذا، ما زال الطب التقليدي يقوم بتجديد شباب الشيوخ، وتجديد ولادة المرضى الذين أهزلهم المرض تمامًا عن طريق دفنهم في حفرة لها هيئة الرحم. إن رمزية «الولادة الجديدة» واضحةٌ جدًّا. زِد على ذلك أنها تتعلق بعادة متبعة أيضًا خارج الهند: أعني عادة دفن المرضى لكي يولدوا ثانيةً في حِجر الأرض-الأم.
وفي الصين تتمتع «العودة إلى الأصل» بنفوذ شفائيٍّ كبير. فالطاوية تُولي أهمية كبيرة ﻟ «التنفس الجنيني»، الذي يتألف من تنفس في دائرة مغلقة، على طريقة الجنين. والمريد يسعى إلى محاكاة دوران الدم والنفس من الأم إلى الطفل ومن الطفل إلى الأم. فالمقدمة (الصيغ الشفهية والتنفس الجنيني) تقول ذلك بصراحة: «بالعودة إلى الأساس، بالعودة إلى الأصل، نطرد الشيخوخة، ونعود إلى الحالة الجنينية. وهناك نصٌّ طاويٍّ حديث جاء فيه: «إن هذا يفسر لنا لماذا كشف لنا (البوذا) جولاي (أي: تاثاغاتا)، في رحمته العظمى، أسلوب العمل (السيمياوي) للنار وعلَّم الناس أن يعودوا إلى الرحم ثانيةً لكي يصنع الإنسان طبيعته ثانية (الطبيعة الحقيقية) و(امتلاء) حظِّه من الحياة.»
نحن إذَن حيال تقانيتين مختلفتين لكنهما تتلاقيان من حيث إن كلتيهما تسعى إلى «العودة إلى الأصل»: «التنفس الجنيني» والعمل السيمياوي. نعلم أن هاتَين التقانيتَين هما في جملة الأساليب العديدة التي يعتمدها الطاويون من أجل استعادة الشباب وإطالة العمر (الخلود). وهم يؤكدون على وجوب أن يصحب التجربة السيمياوية تأمل مستطيقي مناسب. فالسيمياوي الطاوي يعمل، في أثناء عملية خلط المعادن، على توحيد مبدأَين كوسمولوجيين، هما الأرض والسماء، في جسده، وذلك من أجل الاندراج في الوضع العمائي البدئي، وهو الوضع الذي كان قائمًا قبل الخلق. وينطبق هذا الوضع البدئي، الذي يسمى صراحة بالحال «العمائية» (هوان)، على وضع البيضة أو الجنين، كما ينطبق على الحالة الفردوسية وخافية (= لا شعور) العالم غير المخلوق. ويسعى الطاويون إلى الحصول على هذه الحالة البدئية إما عن طريق التأمل الذي يصاحب الاختبار السيمياوي، وإما عن طريق «التنفس الجنيني». لكن «التنفس الجنيني» يرتد في النهاية إلى ما تسميه النصوص ﺑ «توحيد الأنفاس»، وهو تقانية بالغة التعقيد لا يسعنا أن نتناولها هنا. حسبنا أن نقول إن «توحيد الأنفاس» يحاكي نموذجًا كوسمولوجيًّا. تقول المأثورات الطاوية إن «الأنفاس» كانت في الأصل مختلطة وتشكِّل بيضة، الواحد الأكبر، الذي انبثقت عنه السماء والأرض.
إذَن، المثل الأعلى عند الطاويين، وهو نيل الغبطة والشباب وطول العمر (الخلود)، إنما يحاكي نموذجًا كوسمولوجيًّا، هو حالة الوحدة البدئية. هنا، لم نَعُد أمام تحيني للأسطورة الكوسموغونية، مثلما هو الحال في طقوس الشفاء التي ذكرناهما فيما تقدم. لم يَعُد الأمر يتعلق بتكرار «الخلق الكوني»، بل باستعادة الحالة التي سبقت ولادة الكون، وهي «حالة العماء»، لكن حركة الفكر هي نفسها: استعادة الصحة والشباب ﺑ «العودة إلى الأصل»، ﺑ «العودة إلى الرحم»، إلى الواحد الأكبر الكوني. لذلك إن من المهم أن نتبين أن في الصين أيضًا يمكن الشفاء من المرضى والشيخوخة ﺑ «العودة إلى الأصل»، وهي الوسيلة الوحيدة التي يعتقد الفكر القديم أنها الناجعة من أجل إبطال فعل الزمان. ذلك أن الأمر يتعلق دائمًا، وبصورة نهائية، بإبطال الزمان المنقضي، ﺑ «العودة إلى الخلف» (أو الرجوع القهقرى)، وإعادة بدء الوجود مع مجمل قواه التي لم تمتد يدٌ إليها.
الشفاء من تأثير الزمان
«يتعلق الأمر بالانطلاق من لحظة محددة، هي الأقرب من اللحظة الراهنة، والطواف بالزمان مقلوبًا بغية الوصول «إلى الأصل»؛ عندما «انبثق» الوجود الأول في العالم، ابتدأ الزمان. إنه الوصول إلى هذه اللحظة البادية التناقض التي لم يكن الزمان فيها موجودًا بعد، لأنه لم يكن قد ظهر شيءٌ بعدُ إلى الوجود. المعنى والهدف من هذه التقانية أن الذي يرجع صعودًا في الزمان لا بدَّ له من الوصول إلى نقطة الانطلاق التي تتزامن مع ولادة الكون تحديدًا. وأن يعود المرء إلى حياة هذه الحيوات الماضية ثانيةً معنى ذلك أيضًا، وإلى حدٍّ معين، «حرق» خطاياها، أي مجمل الأفعال الواقعة في قبضة الجهل والتي تربو من وجود إلى آخر بموجب ناموس «الكرما». لكن هناك ما هو أهم! يصل المرء إلى بداية الزمان ويندرج في اللازمان، وهو الحاضر الأزلي الذي يسبق الخبرة الزمانية المؤسسة على أول وجود بشريٍّ ساقط. بعبارة أخرى، بالانطلاق من لحظة لا على التعيين من الديمومة الزمانية، يمكن الوصول إلى استنفاد هذه الديمومة بالطواف بها بالمقلوب، والولوج نهائيًّا في اللازمان، في الأزلية، إن هذا لهو تجاوُز الشرط البشري واستعادة الحالة غير المشروطة التي سبقت السقوط في الزمان وعجلة الوجودات».
نكرر: لا نريد أن نضع على نفس الصعيد التقانيات المستطيقية الهندو-صينية مع الشفائيات البدائية، باعتبار أن الأمر يتعلق بظاهرات ثقافية مختلفة. إن ما نرمي إليه هو تبيُّن استمرارية معينة للمسلك البشري بالنسبة إلى الزمن عبر العصور وفي العديد من الثقافات. يمكننا تعريف هذا المسلك على النحو التالي: لكي نشفى من عمل الزمان. يجب «العودة إلى الأصل»، والاندراج في «بداية العالم». قد رأينا أن لهذه «العودة» إلى الأصل تقويمات متباينة. فتكرار الأسطورة الكوسموغونية، في الثقافات القديمة والشرقية-القديمة، يهدف إلى إلغاء الزمن المنقضي والبدء بوجود جديد، قواه الحيوية لم تمسسها يدٌ. أما المستطيقيون (= الصوفيون) الصينيون والهندوس، فلا يهدفون إلى ابتداء وجود دنيويٍّ جديد في هذا العالم، بل إلى «الرجوع القهقرى»، والاندراج في الواحد الأكبر الأصلي. لكن، في هذه الأمثلة كما في جميع الأمثلة الأخرى التي ذكرناها، العنصر النوعي والحاسم دائمًا هو «العودة إلى الأصل».
استعادة الماضي
إنما أوردنا هذه الأمثلة القليلة لكي نقابل بين طائفتين من التقانيات:
أولًا، التحليل النفسي، وثانيًا الأساليب القديمة والشرقية المؤلفة من إجراءات مختلفة ترمي إلى «العودة إلى الأصل»، وإلى تحقيق أهداف عديدة أخرى. ليس غرضنا في هذا البحث الوقوف طويلًا عند هذه الإجراءات، بل تبيان أن العودة الوجودية إلى الأصل؛ على الرغم من كونها من خصائص العقلية القديمة، لا تكوِّن سلوكًا خاصًّا بهذه العقلية. لقد أحكم فرويد صياغة تقانية مماثلة، بغية إتاحة الفرصة لإنسان هذا العصر أن يستعيد محتوى بعض خبراته «الأصلية». رأينا فيما تقدم أن هناك إمكانية عديدة للعودة إلى الخلف، لكن أهمها هي الاندراج الفوري المباشر في الوضع الأول (أي العماء أو حالة ما قبل الخلق، أي لحظة الخلق). تليها في الأهمية العودة التدريجية إلى «الأصل»، صعودًا في الزمان، انطلاقًا من اللحظة الراهنة حتى «البداية المطلقة»، في الحالة الأولى، يتعلق الأمر بإلغاء فوري للكون (أو للكائن البشري بما هو نتيجة لديمومة زمنية معينة) وإرجاعه إلى وضعه العمائي الأول، أو — على المستوى الأنتروبولوجي — العودة إلى الحالة الجنينية. الشبه ظاهر بين بنية هذا الأسلوب وأسلوب السيناريوهات الميطيقية-الطقسية التي تتكون من الانكفاء إلى العماء وتكرار ولادة الكون (الكوسموغونيا).
وفي الحالة الثانية، أي العودة التدريجية إلى الأصل، نكون أمام تذكُّر دقيق ومفصَّل للحوادث الشخصية والتاريخية. صحيحٌ أن الهدف النهائي في هذه الحالة أيضًا هو «حرق» هذه الذكريات ومحوها في نوع من إحيائها والتخلي عنها. لكن الأمر هنا لم يعد يتعلق بمحو هذه الذكريات فورًا لكي يحصل الاندراج في اللحظة الأصلية على أسرع ما يمكن، بل تذكر نفس تفصيلات الوجود (الحاضر أو الماضي) الأقل أهمية. ذلك أننا، بفضل هذا التذكر وحده، نصل إلى «حرق» الماضي، والتحكم فيه، ومنعه من التدخل في الحاضر.
لكن معرفة الوجودات السابقة لا تشكل تقانية هندية حصرًا. فقد نجدها عند الشامانيين. ولسوف نرى أنها لعبت دورًا هامًّا في التأملات الفلسفية الإغريقية. لكن الذي يهمنا بيانه الآن هو أن النفوذ الاستثنائي الذي تتمتع به معرفة «الأصول» و«التاريخ» القديم (أي الوجودات السابقة) مستمدٌّ من الأهمية الممنوحة لمعرفة الأساطير «الوجودية» و«التاريخية»، أي الأساطير المتعلقة بالتكوين والشرط البشريَّين. وقد قلنا فيما تقدم أن لهذا الشرط «تاريخًا»: حوادث معينة حاسمة حدثت في العصر الميطيقي، على أثرها أصبح الإنسان ما هو عليه الآن فعلًا. ثم إن هذا التاريخ البدئي الدرامي، لا بل المأساوي أحيانًا، يجب ألا يكون معروفًا وحسب، وإنما يجب أن يكون مذكورًا أيضًا. ولسوف نرى فيما بعد نتائج هذا القرار، الذي اتخذه الإنسان القديم في لحظة معينة من تاريخه، أن يجدد حياته باستمرار للأزمات والمآسي التي عاناها في ماضيه الميطيقي.