الميثولوجيا والأنطولوجيا والتاريخ
الجوهر يسبق الوجود
الإنسان الديني عنده أن الجوهر يسبق الوجود. يصحُّ هذا على إنسان المجتمعات «البدائية» والشرقية، مثلما يصحُّ على اليهودي والمسيحي والمسلم. لقد وصل الإنسان إلى ما هو عليه اليوم لأن سلسلة من الحوادث قد حدثت «في الأصل». وهذه الحوادث إنما ترويها الأساطير، وهي إذ تفعل ذلك فلكي تُفسر له كيف تُكوَّن على هذا النحو، ولماذا. وعند الإنسان الديني أن الوجود الحقيقي الأصلي إنما يبدأ في اللحظة التي يطَّلِع فيها على هذا التاريخ البدئي ويسلِّم بنتائجه. والتاريخ البدئي هو دائمًا تاريخٌ إلهيٌّ لأن أشخاصه هم الكائنات العليا والأسلاف الميطيقيون. مثلًا، الإنسان فانٍ لأن سلفًا ميطيقيًّا قد أضاع الخلود بغبائه، أو لأن كائنًا أعلى قرر أن ينتزعه منه، أو لأنه وجد نفسه، على أثر حادث ميطيقيٍّ معين، ممنوحًا في وقت واحد الجنس والموت … إلخ. ويذهب بعض الأساطير إلى أن الموت قد نجم عن حادث أو إهمال: رسولٌ من عند الله ينسى الرسالة، أو حيوانٌ يصل متأخرًا بسبب من كسله … إلخ. طريقة مثيرة للتعبير عن عبثية الموت. لكن، في هذه الحالة أيضًا، يظل التاريخ «تاريخًا إلهيًّا»، لأن صاحب الرسالة كائنٌ عُلويٌّ، يستطيع، إذا شاء، أن يمحو خطيئة رسوله.
إذا صحَّ أن الحوادث الجوهرية قد حدثت في الأصل، فإن هذه الحوادث ليست هي نفسها في جميع الأديان. ﻓ «الجوهري» في اليهودية-المسيحية هو درامة الفردوس التي أسست للشرط البشري الراهن. وفي بلاد الرافدين، الجوهري هو تشكيل العالم بواسطة أشلاء هُولة بحري، تعامات، وخلق الإنسان من دم كبير الشياطين، كنغو، مختلطًا مع شيء من تُراب (باختصار، مع مادة مشتقة مباشرة من جسد تعامات، وفي أوستراليا، يرتد «الجوهري» إلى سلسلة من الأفعال قامت بها الكائنات العليا في «زمن الحلم».
لا يسعنا هنا أن نأتي على ذِكر جميع الموضوعات الميطيقية التي تمثل «الجوهري» بالنسبة إلى مختلف الأديان، أعني الدرامة الأصلية التي كوَّنت الإنسان وجعلته على ما هو عليه اليوم. حسبُنا أن نذكِّر بأهم النماذج. كذلك أن ما يهمنا في هذه النقطة من البحث هو قبل كل شيء الكشفُ عن مواقف «الإنسان الديني» من هذا الجوهري الذي يسبق وجوده، على افتراض أن هناك مواقف متعددة، لأن محتوى هذا «الجوهري» الذي بُت به في الأزمنة الميطيقية، يختلف بين رؤية دينية وأخرى، كما قد رأينا لتوِّنا.
دِيُوس أوسيُوس
اليوروبا في ساحل الرقيق يؤمنون بإله واحد في السماء اسمه أولوروم (حرفيًّا: «مالك السماء»). وهو الذي بعد أن بدأ خلق العالم، ترك مهمة متابعة خلقه وحكمه إلى آله آخر أدنى منه، اسمه أوباتالا. أما هو فقد تخلَّى نهائيًّا عن الشئون الأرضية والبشرية. وليس هذا الإله الأعلى معابد ولا تماثيل ولا كهَّان، فقد أصبح «ديُوس أوسيوس» إلا أنهم مع ذلك يدعونه في آخر ما يلجئون إليه وقت الملمات.
من بعض النواحي، يمكن القول إن الإله المفارق هو أول مثال عن «موت الله» الذي أعلنه نيتشيه في جنون ظاهر. الإله الخالق الذي يبتعد عن العبادة ينتهي إلى النسيان. إن نسيان الله، كمفارقته المطلقة، تعبيرٌ مرنٌ عن عدم حضوره، الديني، أو، وهذا يؤدي إلى نفس النتيجة، عن «موته». إن غياب الكائن الأعلى لا يُترجم بفقر الحياة الدينية. على العكس، يمكن القول إن «الأديان» الحقيقية إنما تظهر بعد غيابه؛ فالأساطير الأكثر ثراءً والأشد درامية، والطقوس الأكثر إسرافًا، والآلهة والإلاهات من كل نوع، والأسلاف الميطيقيون، والأقنعة والجمعيات السرية، والمعابد والكهان … إلخ. كل هذا إنما نلقاه في الثقافات التي تعدَّت مرحلة الجمع والصيد الصغير، وحيث يكون الكائن الأعلى إما غائبًا أو مندمجًا مع أشخاص إلهية أخرى اندماجًا شديدًا لا يعود معه التعرُّف عليه أمرًا ممكنًا.
هناك وجهة نظر قال بها جوردانو برونو: «الله، بما هو مطلقٌ، ليس عنده ما يصنعه معنا.»
لكن حتى عندما يختفي الإله الأعلى عن العبادة ويغيبه النسيان، تظل ذِكراه حيَّة، لكن مموَّهة أو منحطَّة، في الأساطير والحكايات المتعلقة ﺑ «الفردوس» البدئي، وفي استلام الأسرار وتلاوات الشامانيين والعرَّافين، وفي الرمزية الدينية (رموز مركز العالم والطيران السحري والصعود والرموز السماوية ورموز النور … إلخ.) وفي بعض من نماذج الأساطير الكوسموغونية. ولعلنا نستطيع أن نتكلم كثيرًا عن مشكلة نسيان كائن أعلى على مستوى «واعية» الحياة الدينية الجماعية وبقائها حيَّة مقنعة على مستوى «الخافية»، أو على مستوى الرمز، أو، أخيرًا، في الخبرات الوجدية التي يختبرها بعض الممتازين. لكن بحث هذه المشكلة يبعدنا كثيرًا عما نحن بصدده. حسبُنا أن نقول إن بقاء كائن أعلى حيًّا في المرموز أو في الخبرات الوجدية الفردية ليس بدون نتائج بالنسبة للتاريخ الديني عند البشرية القديمة. أحيانًا، تكفي خبرة مماثلة أو التأمل المستديم في رموز سماوية، حتى تستطيع شخصية دينية قوية أن تكتشف الكائن الأعلى من جديد. وليس كهذه الخبرات أو التأملات ما يجعل الجماعة برمتها أن تجدد حياتها الدينية جذريًّا في حالات معينة.
ملاك القول إن «الجوهري»، في جميع هذه الثقافات البدائية التي عرفت كائنًا أعلى ونسيتها بعض النسيان، يتكوَّن من هذه العناصر المميزة: أولًا، الله خلق العالم والإنسان ثم انسحب إلى السماء. ثانيًا، يصحب هذا الانسحاب أحيانًا انقطاع الاتصال بين السماء والأرض، أو ابتعاد كبير من جانب السماء. وفي أساطير معينة، يشكِّل القرب الأوَّلي للسماء وحضور الله على الأرض اجتماعًا لشروط فردوسية (يجب أن نضيف إليها الخلود الذي كان ينعم به الإنسان في الأصل، وعلاقاته الودية مع الحيوانات وانتفاء ضرورة العمل). ثالثًا، يحتل مكان هذا الإله المفارق، ديوس أوسيوس، المنسي نوعًا، آلهة مختلفة يجمعها عنصر مشترك هو أنها أقرب إلى الإنسان، تُعينه أو تعذبه على نحو أكثر مباشرةً وأكثر اتصالًا.
مما يلفت النظر بهذا الصدد أن إنسان المجتمعات القديمة، وهي عمومًا جدُّ حريصة على عدم نسيان أفعال الكائنات العليا التي تحدثه عنها أساطيرها، قد نسي أن الإله الخالق قد أصبح إلهًا مفارقًا. فالخالق لا يبقى حيًّا في الديانة إلا عندما يمثُل في هيئة «دميورج»، أو كائن عُلوي أعطى البرية شكلها المألوف «العالم»؛ هذه هي حالة أوستراليا. بمناسبة احتفالات تجديد العالم، يُصار إلى استحضار هذا الكائن العُلوي طقسيًّا.
والسبب مفهوم: هنا، «الخالق» هو خالق الطعام أيضًا. فهو لم يخلق العالم والأسلاف وحسب، وإنما خلق أيضًا الحيوان والنبات الذي يسمح للكائنات البشرية بالعيش.
الإله القتيل
يعرف تاريخ الأديان، إلى جانب الآلهة العليا الخالقة التي ما تلبث حتى تصبح آلهةً مفارقةً ويغيِّبها النسيان، آلهة أخرى تختفي من على سطح الأرض، لكنها تختفي لأن الناس قد قتلوها (أكثر تحديدًا، قتلها الأسلاف الميطيقيون). خلافًا ﻟ «موت» الإله المفارق، الذي يترك فراغًا سرعان ما يملؤه أشخاص دينيون آخرون، يكون مصرع هذه الآلهة ذا صفة إبداعية. على أثر موت هذه الآلهة يظهر شيءٌ هامٌّ جدًّا للوجود البشري. أكثر من هذا: هذا الشيء الهام، أي الخلق الجديد، يشترك في ماهية الألوهة المقتولة، وبالتالي يُديم وجودها. فالألوهة تبقى حيَّة في الطقوس التي تُحين قتلها دوريًّا، ذلك القتل الذي حصل «في ذلك الزمان». وفي حالات أخرى، تبقى حيَّةً في الأشكال الحية (حيوانات، نباتات) التي انبثقت من جسدها.
والألوهة المقتولة لا تُنسى أبدًا، على الرغم من إمكان نسيان تفصيلات معينة من أسطورتها. ومما يساعد على عدم نسيانها أن البشر لا غنى لهم عنها. وسنرى بعد قليل أنها تكون في حالات كثيرة ماثلةً في جسد الإنسان نفسه، خصوصًا في الأطعمة التي يتناولها. أكثر من ذلك، أن موت الألوهة يغيِّر من نمط الوجود البشري تغييرًا جذريًّا. في أساطير معينة يصبح الإنسان، نتيجة لموت الألوهة، كائنًا فانيًا، ذكرًا وأنثى. وفي أساطير أخرى، يكون القتل مصدرًا لإلهام بمشهد طقسي استسراري، وهو الاحتفال الذي يحول الإنسان من «كائن طبيعي» (طفل) إلى كائن ثقافي.
مورفولوجية هذه الألوهيات بالغة الغنى وأساطيرها كثيرة العدد. ومع ذلك فهناك ملاحظات عامة جوهرية: هذه الألوهيات ليست كوسموغونية؛ ظهرت على الأرض بعد الخلق ولم تبقَ فيها طويلًا؛ قتلها الآدميُّون، ولم تثأر لنفسها ولم تحمل حقدًا على قتلَتها؛ على العكس، بيَّنت لهم كيف يستفيدون من موتها. إن وجود هذه الألوهيات هو في نفس الوقت وجودٌ يكتنفه الغموض ويتَّصف بالدرامية. في معظم الأحيان، لا يعرف أحد عن أصلها شيئًا؛ كل ما يمكن معرفته عنها أنها جاءت إلى الأرض لكي تكون مفيدة لبني البشر، وأن عملها الرئيسي مستمدٌّ مباشرةً من موتها المأساوي. يمكن القول أيضًا إن هذه الألوهيات هي الأولى التي يستبق تاريخُها تاريخ البشر: من جهة، أن وجودها محدود في الزمان، وأن موتها المأساوي مكوِّن للشرط البشري، من جهة ثانية.
في الحالة الراهنة من البحث، من الصعب تحديد المرحلة التي ظهر فيها هذا النموذج من الألوهية. وأن الأمثلة التي تعيننا على هذا التحديد إنما نجدها، كما بيَّن ذلك جنسن، وكما سوف نرى بعد قليل، عند الفلاحين الأولين الذين كانوا يزرعون الدرن. لكننا نجد هذا النموذج من الألوهية أيضًا في أوستراليا، وعلى درجة أقل عند الأفريقيين الذين يعيشون على الصيد والقنص. تقول أسطورة أوسترالية: كان عملاق «لومالوما» في هيئة إنسان وهيئة حوت في نفس الوقت. وصل من جهة الساحل واتَّجه غربًا، وأكل جميع الناس الذين صادفهم في طريقه. الذين بقَوا أحياء تساءلوا عن أسباب تناقص عددهم، فراحو يلتمسون الأسباب فعلموا أن الحوت ممددٌ على الشاطئ وقد امتلأت بطنه. تنادَوا إلى الاجتماع في صباح اليوم التالي، ولما اكتمل جمعهم راحوا يُعمِلون رماحهم في الحوت؛ شقوا له بطنه وأخرجوا منها الهياكل العظيمة. فقال لهم الحوت: لا تقتلوني، لكن قبل أن أموت سأُبيِّن لكم جميع الطقوس الاستسرارية التي أعرفها. قام الحوت بتأدية الطقس أمامهم وبيَّن لهم كيف يجب أن يرقصوا وسائر ما يتعلق بالطقس. ثم قال لهم: «أفعل هذا وأنتم تفعلون مثله؛ كل هذا أعطيكم، وأريكم كل هذا.» بعد أن علَّمهم هذا الطقس، علَّمهم طقوسًا أخرى. ثم انسرب في البحر قائلًا لهم: «بعد الآن لا تدعوني لومالوما، سأُغيِّر اسمي. بل تدعونني نوبول نوبول لأنني الآن أسكن في الماء المالح.»
إذَن، كان هذا العملاق، الإنسان-الحوت، يبتلع الناس حتى يلقنهم الأسرار. أما هؤلاء فما كانوا عالِمين بذلك فقتلوه، لكنه قبل موته (أي قبل أن يتحول إلى حوت نهائيًّا) علَّمهم طقوس استلام الأسرار. وترمز هذه الطقوس في شيء من الصراحة إلى موت يعقبه انبعاثٌ.
وعند «الكاراجيري»، وهم قبيلة أوسترالية أيضًا، يلقى الأخوان «باغاجمبيري» مصيرًا مماثلًا: «في أزمنة الحلم، طلعا من الأرض في هيئة كلب متوحش، ثم ما لبِثا حتى أصبحا عملاقَين من البشر. غيَّرا مناظر البرية وحضرا الكاراجيري، وعلَّموهم طقوس استلام الأسرار في جملة ما علَّموهم. لكن رجلًا (سلفًا مطيقيًّا) قتلهما طعنًا برمح. لكنهما يعودان إلى الحياة بعد أن شربا من لبن أمهما، لكن هذه المرة في هيئة حية مائية، بينما ترتفع روحاهما إلى السماء وتصبحان ما يسميه الأوروبيون بغيوم ماجلان. منذئذٍ والكاراجيري يفعلون ما فعله الأخوان الميطيقيان تمامًا ويحاكون في دقة متناهية ما تلقنوه عن السلف، وفي الدرجة الأولى: مراسم استلام الأسرار.»
هينو ويلي و«الديما»
في الأزمنة الميطيقية كان رجلٌ يسمى «أميتا» تصادف مع خنزير بريٍّ فيما كان في رحلة صيد. غرق الخنزير في بحيرة فيما كان يهَمُّ بالهرب. وجد «أميتا» جوزة (هند) على ناب الخنزير. في تلك الليلة حلم بالجوزة وتلقَّى أمرًا بزرعها، ففعل ذلك من غده. بعد ثلاثة أيام نبتت شجرة جوز، وبعد ثلاثة أيام أخرى أزهرت. تسلق «أميتا» شجرة الجوز لكي يقطف الزهر ويُعِد منه شرابًا. لكنه جرح أصبعه وسال منه الدم على الزهرة. بعد تسعة أيام تبين له أن كان فوق الزهرة مولودٌ أنثى. أخذها «أميتا» ولفَّها بأوراق الجوز. بعد ثلاثة أيام أصبحت البنت صبية مؤهلة للزواج؛ فأسماها «هينوويلي» (غصن الجوز). في أثناء احتفال مارو الكبير، احتلت هينوويلي مركز باحة الرقص، وظلت طوال تسع ليال تُوزع الهدايا على الراقصين. وفي اليوم التاسع حفر لها الرجال حفرة في وسط الباحة، وفي أثناء الرقص رمَوها فيها. ثم غُطيت الحفرة وراح الرجال يرقصون فوقها.
تبعًا لذلك، إن الاحتفالات الدينية ما هي إلا أعيادٌ للذكرى. «إن تعرف» معناه أنك تعرف الأسطورة المركزية (قتل الألوهية وما ينجم عنه)، والعمل على عدم نسيانها. والدَّنس الحقيقي إنما هو «نسيان» الفعل الإلهي. و«الخطأ» و«الإثم» و«الدنس» إنما هو «عدم تذكُّر» أن الشكل الحالي من الوجود البشري هو نتيجة فعل إلهي. مثلًا، عند «الويمال» القمر هو ألوهية-ديما؛ يُعتقد أنه يحيض عندما يكون هلالًا، ويبقى غير مرئي طوال ثلاث ليال. وهذا هو سبب عزل المرأة الحائض في كوخ خاصٍّ. وكل خرق لهذا المحظور يستوجب الكفَّارة. تأتي المرأة بحيوان إلى دار «الندوة»؛ حيث يجتمع أكابر القبيلة فتعترف بذنبها أمامهم ثم تمضي إلى حال سبيلها. يعمد الرجال إلى الحيوان فيذبحونه ثم يشوونه ويأكلونه. إن هذا الطقس الذي يستوجب ذبح حيوان هو إحياء الأول قربان دامٍ؛ أي إحياء لذكرى القتل البدئي، «يُستغفر منطقيًّا من دنس عدم التذكر بالتذكر الشديد، والقربان الدامي، في معناه الأصلي، إنما هو تذكيرٌ من هذا النوع الشديد.»
«تاريخ» لا «أنطولوجيا»
ها هي ذي أولى الأساطير المشجية والمأساوية. في الثقافات اللاحقة — وهي الثقافات التي تسمى «ثقافات المعلمين»، ومن بعدُ، الثقافات البلدانية، وهي ثقافات الشرق الأدنى القديم — تطورت أساطير أخرى مُشجية وعنيفة؛ تمحيصها كلِّها يخرج بنا عن موضوع هذا الكتاب. ومع ذلك نذكر أن الكائن الأعلى السماوي، الخالق، لا يستعيد فعاليته الدينية إلا في ثقافات رعوية معينة (خصوصًا عند التوركو-منغوليين) وفي توحيد موسى والإصلاح الزرادشتي والإسلام. فعلى الرغم من بقاء اسم الكائن الأعلى اسمًا مذكورًا — آنو عند أهالي الرافدين، وإيل عند الكنعانيين، وديوس عند هنود الفيدا، وأورانوس عند الإغريق — إلا أنه لا يعود يلعب دورًا هامًّا في الحياة الدينية ولا يحتل غير مركز متواضع في الميثولوجيا (وأحيانًا ينسونه نسيانًا تامًّا، و«ديوس» أظهر مثال على ذلك). لقد عبَّر الإغريق عن «سلبية» أورانوس وغُربته بالجب (= الخصي)؛ إذ غدا «عاجزًا»، وغير قادر على التدخل في شئون العالم. وفي الهند الفيدية، حلَّ «فارونا» محل ديوس، لكن هذا أيضًا ما لبث حتى أخلى مكانه لإله آخر شابٍّ هو الإله المحارب «أوندرا»، بانتظار أن يتلاشى تمامًا أمام فسشنووشيفا. كذلك تخلى إيل عن الأوَّلية إلى بعل، مثلما تخلى عنها آنو إلى مردوخ. باستثناء مردوخ، جميع هذه الآلهة العليا لم تعد آلهةً «خالقةً» بالمعنى الحقيقي للكلمة. فهي لم تخلُق العالم، بل نظَّمته واضطلعت بمسئولية المحافظة على نظامه وخصوبته فقط. هي، قبل كل شيء، آلهة إخصاب؛ شأنها في هذا كشأن زيوس وبعل اللذَين بفضل زواجهما من إلاهات الأرض، يضمنان خصب الحقول ووفرة المحاصيل. أما مردوخ نفسه فليس إلا خالقًا لهذا العالم، على نحو ما هو عليه اليوم. قبل عالمنا هذا، كان ثمة عالم آخر — عالم يكاد أن يكون بعيدًا عن تفكيرنا، لأنه من طبيعة سائلة، أوقيانوس (محيط) وليس كوسموس (كون) — العالم الذي كانت تحكمه تعامات وزوجها، وقد أقامت فيه ثلاثة أجيال من الآلهة.
حسبنا هذه الإشارات القصيرة، فما يهمنا تبيانه بوضوح هو كبرى الميثولوجيات التي تنطوي على تعددية الآلهة، الميثولوجيات الأوروبية-الآسيوية التي تصادفت مع بواكير الحضارات التاريخية، وتُولي اهتمامًا متزايدًا لما حدث بعد خلق الأرض، بل لما حدث حتى بعد خلق (أو ظهور) الإنسان. والتوكيد هنا صار يُلقى على ما قد حدث للآلهة ولم يَعُد يُلقى على ما قد خلقوه. صحيحٌ هناك دائمًا جانب «خلَّاق» على شيء من الوضوح في كل مغامرة إلهية. لكن الذي يظهر في أهمية بتزايد ليس نتيجة هذه المغامرة، بل تتابع الأحداث الدرامية التي تكوِّنها. والمغامرات التي لا حصر لها التي قام بها بعل أوزيوس أوندرا أو زملاؤهم في المجامع التي تخصُّ كُلًّا منهم، إنما تمثل الموضوعات الميثولوجية الأكثر شعبيةً.
نذكِّر أيضًا بالأساطير المشجية التي تتعلق بالآلهة الشابة التي تموت غيلةً أو تُقتل بحادث (أوزيريس، تموز، آتيس، أدونيس … إلخ) ثم تُبعث إلى الحياة ثانيةً، أو تنزل إليهم إلاهة (عشتار) تنقذهم من الجحيم، أو تنزل إليهم ابنة إلهية (برسفون). هذه «المبيتات» هي، مثل ميتة هينوويلي، ميتات «خلَّاقة» بالمعنى الذي نجده في علاقة معينة مع النبات. حول واحدة من هذه الميتات العنيفة، أو نزول ألوهية إلى الجحيم، تكوَّنت فيما بعدُ ديانات الأسرار. لكن هذه الميتات، على ما تشتمل عليه من حزن وألم، لم تحرِّض على إنشاء ميثولوجيات غنية ومتنوعة. هذه الآلهة التي تموت وتُبعث أحيانًا هي مثل هينوويلي قد استنفدت قدرها الدرامي في هذه الحلقة المركزية. وأن موتها، مثل موت هينوويلي، ذو أهمية للشرط البشري: في أعقاب هذا الحدث المأساوي، جاء إلى الوجود المراسم ذات العلاقة بالنبات (أوزيريس، تموز، بوسيفون … إلخ)، أو مؤسسات استلام الأسرار.
الميثولوجيات الكبرى — وهي الميثولوجيات التي صاغها شعراء مثل هوميروس وهزيود، أو شعراء مغفلون كالذين كتبوا المهابهاراتا، أو طقوسيون ولا موتيون (كما هو الحال في مصر والهند وما بين النهرين) — إنما حرَّض عليها ما رواه الراوون عن بوادر ابتدرتها الآلهة. وفي لحظة معينة من التاريخ — وخصوصًا في بلاد اليونان والهند وأيضًا في مصر — بدأت نخبة بالتحرر من الاهتمام بهذا التاريخ الإلهي، ووصلت (كما في اليونان) إلى عدم الإيمان بالأساطير، فيما ظلَّت تدَّعي أنها ما برحت تؤمن بالآلهة.
بدايات نزع الصفة الأسطورية
في نظر هذه النخبة، لم يَعُد «الجوهري» يُبحث عنه في تاريخ الآلهة، بل في «وضع بدئيٍّ» يسبق هذا التاريخ. هنا نشهد جهدًا للذهاب إلى ما وراء الميثولوجيا بما هي تاريخٌ إلهيٌّ، وصولًا إلى النبع الأول الذي انبثق منه الواقع، من أجل التعرف على رحم الوجود؛ المسألة لم تَعُد مسألة أسطورة كوسموغونية، بل أنطولوجية.
إذَن، يمكن الوصول إلى «الجوهري» عن طريق عودة إلى الخلف خارقةٍ للعادة. لم يَعُد الأمر مجرد انكفاء إلى الخلف بواسطة الطقس، بل «عودة إلى الخلف» بالفكر. بهذا المعنى يمكننا القول إن التأملات الفلسفية الأولى مستمدةٌ من الميثولوجيا. فالتفكير المنظم يسعى إلى التعرف على «البدء المطلق» وفهمه، وهو البدء الذي تتكلم عنه الكوسموغونيات وإماطة اللثام عن سرِّ خلق العالم، باختصار، عن سر ظهور الوجود.
لكننا سوف نرى أن «نزع صفة الأسطورة» عن الديانة الإغريقية وانتصار الفلسفة، مع سقراط وأفلاطون، لم يقضِ نهائيًّا على الفكر الأسطوري. من ناحية ثانية، يصعب علينا أن نفهم تجاوزًا جذريًّا للفكر الميطيقي ما دامت هيبة «الأصول» باقيةً بدون مساس ونسيان ما حدث «في ذلك الزمان» — أو في عالم مفارق — يُعتبر العقبة الرئيسية أمام المعرفة أو الخلاص. ولسوف نرى كيف ظل أفلاطون بهذه الطريقة من التفكير القديم. وفي كوسمولوجية أرسطو ما برحت موضوعات ميثولوجية كثيرةٌ حيةً.
يحتمل جدًّا أن تكون العبقرية الإغريقية قد عجزت عن التخلُّص بوسائلها الخاصة من التفكير الأسطوري، على الرغم من أن آخر إله قد أنزل عن عرشه وانحطَّت أساطيره إلى مستوى حكايات الأطفال. ذلك أن العبقرية الفلسفية الإغريقية كانت، من ناحية، تسلِّم بجوهر التفكير الأسطوري والعود الأبدي للأشياء والرؤية الدورية للحياة الكونية والبشرية وأن الروح الإغريقي لم يقدَّر، من ناحية ثانية، أن التاريخ يمكن أن يصبح موضوعًا للمعرفة. ولقد طوَّر الفيزيائيون والميتافيزيائيون الإغريق بضعَ موضوعات إنشائية من الفكر الأسطوري: أهمية الأصل، الجوهر الذي يسبق الوجود البشري، الدور الحاسم الذي تلعبه الذاكرة … إلخ، إن هذا لا يعني، بطبيعة الحال، أنه لا يوجد قطعٌ للاستمرارية بين الأسطورة الإغريقية والفلسفة. لكننا ندرك جيدًا أن التفكير الفلسفي استطاع أن يسخِّر الرؤية الأسطورية للواقع الكوني والوجود البشري ويطيل أمده.