الأساطير في أوج عظمتها وحضيض انحطاطها
الأسطورة تجعل العالم منفتحًا
القيمة اليقينية للأسطورة يُصار إلى تثبيتها دوريًّا بواسطة الطقوس. إن تذكر الحدث البدئي وتحيينه يساعدان الإنسان البدائي على تمييز الحقيقي والاحتفاظ به. بفضل التكرار المستمر لبادرة نموذجية، يتكشف شيءٌ ما يوصف بالثبات والصلابة في الدفق العالمي. بالتكرار الدوري لما قد جرى «في ذلك الزمان»، يستيقن إنسان المجتمعات التقليدية بأن شيئًا ما يوجد على نحو مطلق. هذا «الشيء» شيءٌ «مقدسٌ»، يفوق الشرط البشري والشرط الدنيوي، لكنه مع ذلك في متناول الخبرة البشرية. يُكشف الحجاب عن «الحقيقة»، ويمكن تشييدها من مستوى «مفارق»، لكن هذه المفارقة قابلة لأن تُعاش طقسيًّا وما تلبث حتى تصبح جزءًا لا يتجزأ من الحياة البشرية.
هذا العالم «المفارق»، وهو عالم الآلهة والأبطال والأسلاف الميطيقيين، يمكن بلوغه لأن الإنسان القديم لا يُسلِّم بامتناع الزمان على الرجعة. لقد بيَّنا في كثير من المناسبات أن الطقس يبطل الزمان الدنيوي، الكرونولوجي، ويستعيد الزمان المقدس، زمان الأسطورة. بالطقس يعود الإنسان القديم معاصرًا للمآثر التي اجترحتها الآلهة «في ذلك الزمان». إن رفض الإنسان القديم لامتناع الزمان على الرجعة يساعده، من ناحية، على «بناء الواقع»، ومن ناحية ثانية يحرره من وطأة الزمان الميت، ويؤكد له أنه قادرٌ على إلغاء الماضي، وابتداء حياته بداية جديدة، وخلق عالمه خلقًا جديدًا.
إن محاكاة البوادر النموذجية التي ابتدرها الآلهة والأبطال والأسلاف الميطيقيون لا يترجمه «تكرار أبديٌّ لنفس الشيء»، ولا عطالة ثقافية مطلقة. لا تعرف الإثنولوجيا شعبًا واحدًا لم يتغير في مجرى الزمان، ولم يكن له «تاريخ». للوهلة الأولى، لم يفعل إنسان المجتمعات القديمة سوى تكرار نفس البادرة النموذجية تكرارًا لا حدود له. لكنه في الحقيقة يغزو العالم بلا تعب وينظمه ويحول المنظر الطبيعي إلى وسط ثقافي. بفضل النموذج المثالي الذي أوحته الأسطورة الكوسموغونية، يصبح الإنسان بدوره كائنًا خالقًا. فالأساطير، في الوقت الذي كانت تبدو فيه قاصرةً على شلِّ المبادرة البشرية، إذ تتبدَّى كما لو كانت نماذج غير محسوسة – هذه الأساطير تحرِّض الإنسان على الخلق في الواقع، وتفتح باستمرار آفاقًا جديدةً أمام روحه المبدع.
يعيش إنسان المجتمعات التي تكون فيها الأسطورة شيئًا مفعمًا بالحياة في عالم «مفتوح» على الرغم من أنه عالم «مرموز»، غامض، تكتنفه الأسرار. إنه عالم «يتكلم» مع الإنسان، ولكي يفهم الإنسان هذه اللغة، ما عليه إلا أن يتعلم الأساطير ويتعلم فكَّ الرموز. فبالأساطير القمرية والرمزية المتعلقة بهذا الكوكب، مثلًا، يستطيع الإنسان أن يدرك العلاقة السرية الوثيقة القائمة بين الوقتية (= كون الشيء وقتيًّا أو مؤقتًا) والولادة والموت والبعث، والجنس والخصب والمطر والنبات، وهلُمَّ جرًّا، لا يعود العالم كتلةً كتيمة من الأشياء الملقاة جملة بصورة استبدادية، بل كون حي، مبين، حافل بالمعنى. في التحليل الأخير، يتبدى العالم بوصفه لغة؛ عالم يخاطب الإنسان بنمط وجوده الخاص، بمبانيه وإيقاعاته.
لقد جاء العالم إلى الوجود نتيجة لفعل خلق إلهي. أما مبانيه وإيقاعاته فنتيجة لحوادث جرت في بدء الزمان. للقمر تاريخه الميطيقي، وللشمس والمياه، وللحيوان والنبات أيضًا. لكل شيء «كوني» تاريخ. إن هذا معناه أنه قادر على «التكلم» إلى الإنسان. ولأنه «يتكلم» من تلقاء نفسه، أولًا عن «أصله»، ثم عن الحدث البدئي الذي جاء في أعقابه إلى الوجود، يصبح الشيء حقيقيًّا وذا معنًى. بذلك لا يعود العالم «مجهولًا»، شيئًا كتيمًا، لا يُدرك، لا معنًى له، «غير حقيقي»، بل يشترك في نفس «العالم» الذي ينتمي إليه الإنسان.
مثل هذه المشاركة لا تجعل من العالم شيئًا «مألوفًا» ومفهومًا وحسب، وإنما تجعله شفافًا أيضًا. بواسطة أشياء هذا العالم، ندرك آثار كائنات وقدرات من عالم آخر. وإنه لهذا السبب قلنا فيما تقدم إن العالم، في نظر الإنسان القديم، عالم «مفتوح»، لكنه يكتنفه الغموض في نفس الوقت. فالعالم إذ «يتحدث عن نفسه»، فإنما يدل على مؤلفيه وحُماته، ويروي لنا «تاريخه»، والإنسان لا يوجد في عالم عاطل كتيم، بل إنه حين يحل رمزية لغة العالم ما يلبث حتى يجد نفسه ثانية في مواجهة سر ينبغي أن يعرف كنهَه. ذلك أن الطبيعة تسفر وتحتجب في نفس الوقت، وهنا يكمن السر الأساسي للعالم، السر الذي لا سبيل إلى إدراكه. لكن الأساطير تكشف النقاب عن كل ما قد حدث، منذ نشأة الكون حتى إقامة المؤسسات الاجتماعية-الثقافية. وهذه المكاشفات لا تشكل «معرفة» بالمعنى الدقيق للكلمة، لأنها لا تستنفد سرَّ الحقائق الكونية والبشرية. إننا لا نصل إلى التحكم بمختلف الحقائق الكونية (نار، المواسم، الأفاعي. إلخ)، وتحويلها إلى «مواضيع للمعرفة»، بمجرد أن نتعلم أساطير الأصل المتعلقة بهذه الحقائق؛ لأن هذه تظل محافظةً على كثافتها الأنطولوجية الأصلية.
الإنسان والعالم
في عالم كهذا، لا يحس الإنسان أنه محاصرٌ داخل نمط وجوده الخاص، بل يشعر أنه وجود «مفتوح» أيضًا: يتصل مع العالم لأنه يستخدم نفس اللغة، وهي الرمز. فلئن كان العالم يتحدث إلى الإنسان من خلال نجومه ونباته وحيوانه، أنهاره وصخوره، فصوله ولياليه؛ فإن الإنسان يجيب العالم من خلال أحلامه، وحياته الخيالية، بواسطة أسلافه وطواطمه — وهم في نفس الوقت «طبيعة»، و«فوق طبيعة»، و«كائنات بشرية» — وبقدرته على الموت والبعث طقسيًّا في مراسم استلام الأسرار (لا أكثر ولا أقل من القمر والنبات)، وعلى تجسيد الروح بارتدائه قناعها … إلخ. وإذا كان العالم شفافًا في نظر الإنسان القديم، فإن هذا الإنسان كان يحس أيضًا أن العالم «يراه» ويفهمه. فالطريدة تراه وتفهمه (في أكثر الأحيان يترك الحيوان نفسه لكي يقع في الأَسر لأنه يعلم أن الإنسان جائع)، وكذلك الصخرة والشجرة والساقية لكل «تاريخ» عليه أن يحكيه، ونصيحة يُسديها إليه.
إن إنسان المجتمعات القديمة، فيما هو يعلم أنه كائن بشري، ويعتبر نفسه كذلك، يعلم أيضًا أنه شيء أكثر. كما يعلم أن سلفه، مثلًا، كان حيوانًا، وأنه يمكنه أن يموت ويعود إلى الحياة (تسليم الأسرار، الغيبوبة الشامانية)، وأنه يمكنه أن يؤثر في المواسم بواسطة طقوس الفحش والدعارة، (أو أنه قادر على أن يسلك مع زوجته سلوك السماء مع الأرض أو يتخذ لنفسه دور المر ولزوجته دور الأخدود). في الثقافات الأكثر تعقيدًا، يعلم الإنسان أن أنفاسه رياح، وأن عظامه كالجبال، وأن النار تشتعل في معدته، وأن سُرَّته قابلة لأن تصير «مركزًا للعالم» … إلخ.
على أننا يجب ألا نتصور أن هذا «الانفتاح» نحو العالم يترجمه مفهوم رعوي عن الوجود. إن أساطير «البدائيين» والطقوس التي تعتمد عليها لا تتبدَّى لنا عن «أركاديا» قديمة. فكما رأينا فيما تقدم أن الفلاحين الأوائل، إذ اضطلعوا بمهمة إنماء عالم النبات، قبلوا أيضًا بمبدأ تعذيب الضحايا لمنفعة المواسم، والتهتك الجنسي والإدامة (= أكل لحوم البشر)، وصيد الرءوس. هو ذا مفهوم مأساوي للوجود، جاء نتيجةً لتقويم ديني للتعذيب وللموت العنيف. إن أسطورةً مثل أسطورة هينوويلي، والجُملة الاجتماعية – الدينية التي تفصلها الأسطورة وتبررها، تجبر الإنسان على الاضطلاع بشرطه بما هو كائن فإن منقسم إلى ذكر وأنثى، محكوم عليه بالموت والشغل لكي يأكل. إن عالم النبات والحيوان «يحدثه» عن أصله، والفلاح الأول يفهم هذه اللغة، وهو إذ يفعل ذلك فإنما يكشف عن معنًى ديني في كل ما يحيط به وفي كل ما يفعله. لكن هذا يجبره على قبول الشراسة والقتل واعتبارهما جزءًا لا يتجزأ من نمط وجوده. صحيحٌ، أن الشراسة والتعذيب والقتل ليست ممارسات قاصرةً على «البدائيين»، وإنما نجدها على مدى جميع عصور التاريخ، وأحيانًا كانت تبلغ ذروةً لا تعرفها المجتمعات القديمة. كل ما في الأمر أن البدائيين يعتبرون هذا المسلك العنيف ذا قيمة دينية من حيث إنه محاكاة لأفعال نموذجية قامت بها كائنات عليا، وقد ظلَّ معموًلا بهذا المفهوم حتى زمن متأخر من التاريخ؛ فعمليات الإبادة الجماعية التي قام بها سفاح مثل جنكيزخان، مثلًا، كانت حتى يومئذٍ تجد لها تبريرًا دينيًّا.
الخيال والإبداع
ملاكُ القول إن الأساطير تُذكِّرنا على الدوام بأن أحداثًا جسامًا قد حدثت على الأرض، وأن هذا «الماضي المجيد» قابلٌ للاستعادة جزئيًّا.
إن لمحاكاة البوادر النموذجية جانبَها الإيجابيَّ: فالطقس يجبر الإنسان على تجاوز حدوده، يجبره على أن يعزز مكانته تجاه الآلهة والأبطال الميطيقيين، حتى يتمكن من تكملة أعمالهم. والأسطورة، من ناحية ثانية، تقوم بفعل «إعلاء» للإنسان، مباشرة أو مداورة. وهذا يتضح بصورة أنقى، بعدُ، إذا أخذنا في اعتبارنا أن تلاوة المأثورات الميثولوجية في المجتمعات القديمة ما زالت وقفًا على بعض الأفراد. في بعض المجتمعات، يجري انتقاء الرواة من الشامانيين والعرَّافين أو من أعضاء الأخويات السرية. على كل حال، كان على مَن يتلو الأساطير أن يقيم الدليل على أهليته وأنه تعلَّم على أيدي معلمين من الشيوخ. على أن الراوية يجب أن يتميز بقوة ذاكرته وخياله وموهبته الأدبية.
والتلاوة، في العادة، ليست مُقولبة على نمط واحد بالضرورة. فقد تحصل أحيانًا اختلافاتٌ في رواية بعض التفاصيل تبعدها عن الأصل بُعدًا ظاهرًا. لا شكَّ أن الأبحاث التي قام بها علماء الإثنولوجيا والفنون الشعبية لا يمكنها الادعاء بأنها قد كشفت النقاب عن سياق الإبداع الميثولوجي. لقد أمكنها تسجيل الاختلافات في رواية أسطورة أو موضوعة فولكلورية، لكنها لم تسجل اختراع أسطورة جديدة؛ إذ الأمر يتعلق دائمًا بتعديلات ظاهرة نوعًا ما قد أُدخلت على النص الأصلي.
لكن هذه الأبحاث قد بيَّنت لنا على الأقل دور الأفراد المبدعين في صياغة الأساطير وتناقلها. من المحتمل جدًّا أن يظل هذا الدور ذا أهمية بالغة في الماضي، بينما كانت «الإبداعية الشعرية» متلازمة ومترادفة مع خبرة وجدية. ثم يمكننا أن نخمن «منابع الوحي» عند شخصية مبدعة في داخل مجتمع قديم؛ فقد تكون «أزمات» و«مقابلات» و«مكاشفات». باختصار، اختبارات دينية ممتازة تصحبها وتغنيها مجموعة من الصور والمشاهد تتصف بالحيوية والدرامية.
إن أصحاب الوجد هم الذين ألَّفوا عوالم الخيال التي تغذِّي الموضوعات الميثولوجية التقليدية وتكثرها وتحكم صياغتها.
في نهاية المطاف، إن الإبداعية من صعيد الخيال الديني هي التي تجدد المادة الميثولوجية التقليدية. يتضح من ذلك أن دور الشخصيات المبدعة يجب أن يكون أكبر مما كنا نظن. إن مختلف المختصين بالمقدس، ابتداءً من الشامانيين حتى الشعراء الجوالين، انتهوا على الأقل إلى فرض شيء من رؤاهم الخيالية على الجماعة التي ينتمون إليها. والحق أن «نجاح» هذه الرؤى كان يتوقف على الترسيمات التي كانت موجودةً من قبل، لأن الرؤيا التي تتعارض جذريًّا مع الصور والمشاهد التقليدية تخاطر برفضها من الجماعة. فنحن نعرف دور العرافين الشامانيين والمعلمين الشيوخ في الحياة الدينية في المجتمعات القديمة، فهم جميعًا أصحاب اختصاص في تمييز الخبرات الوجدية. ومع ذلك فإن العلاقة بين الترسيمات أو القوالب التقليدية والاختبارات التقويمية الفردية ليست بالعلاقة الجامدة؛ إذ كثيرًا ما يحدث أن يتعدَّل التصميم التقليدي تحت تأثير صدمة شخصية دينية قوية.
بكلمة واحدة، عندما تنقل الخبرات الدينية الممتازة بواسطة سيناريو خيالي مؤثر، تنجح في فرض نماذج أو مصادر للوحي على الجماعة برمتها. في المجتمعات القديمة كما في كل مكان آخر، تتكون الثقافة وتتجدد بفضل خبرات إبداعية يختبرها بعض أفراد. لكن بما أن الثقافة القديمة تدور حول الأساطير، وهذه الأساطير تُفسر على الدوام وتعمق؛ يُعمقها ما يمكن أن نسميهم ﺑ «اختصاصيي القدسي»، ينقاد المجتمع في مجموعه نحو القيم والمعاني التي كشف عنها نقلها إليه هؤلاء الأفراد. بهذا المعنى، تُعين الأسطورةُ الإنسان على تجاوز حدوده وشروطه الخاصة، وتحرِّضه على السمو بنفسه «أمام الكبراء».
هوميروس
لا يسمح لنا مجال هذا الكتاب بحث هذه المشكلات بما تستحقه من انتباه. إلا أننا رأينا أن نؤكد قليلًا على الميثولوجيا الإغريقية، لا بما تمثله بحد ذاتها بل بمقدار ما لها من صلات محددة بالمسيحية.
سواء شِئنا أم أبينا، فإن كل محاولة منا لتفسير الأسطورة الإغريقية، من ضمن ثقافة من النموذج الغربي، هي مشروطة إلى حدٍّ ما بنقد العقلانيين الإغريق لها. لكن هذا النقد، كما سوف نرى، لم يُوجَّه ضد ما يمكن تسميته ﺑ «الفكر الميطيقي»، أو السلوك الذي يترتَّب عليه، إلا نادرًا. فقد كان النقد يستهدف أفعال الآلهة كما رواها هوميروس وهيزيود. ولعلنا نتساءل ماذا عساه أن يفكر شخصٌ مثل أكسينوفان في أسطورة كوسموغونية بولينيزية، أو في أسطورة تأملية فيدية كالتي نجدها في «الركفيدا»، ١٠: ١٢٩، لكن كيف نعرف ذلك؟ من المهم أن نبين أن المغامرات والقرارات الاستبدادية التي يتخذها الآلهة، ومسلكهم المتقلب والمجحف، و«لا أخلاقيتهم» هي التي شكلت الهدف لهجمات العقلانيين. وكان النقد الرئيسي يوجَّه باسم فكرة عن إله أرقى، إله حقيقي، لا يمكن أن يكون ظالمًا أو غير أخلاقي أو حقودًا أو جاهلًا، إلخ. وقد تابع نفس النقد وزاد عليه فيما بعدُ «علماء الكلام» المسيحيون، وقد انتصرت هذه القضية (كون الأساطير الإلهية التي أوردها الشعراء في ملاحمهم لا يمكن أن تكون حقيقية)، في مبدأ الأمر، في أوساط النخبة الفكرية الإغريقية، ثم في جميع أنحاء العالم الإغريقي-الروماني بعد انتصار المسيحية.
صحيح أن هوميروس والفن الكلاسيكي قد أحدثا في هذا العالم الإلهي انفجارًا منقطع النظير، إلا أن هذا ليس معناه أن كل ما قد أغفلا ذِكره كان مظلمًا أو غامضًا أو ضئيلًا أو متواضعًا. فقد كان هناك ديونيسوس، على سبيل المثال، وبدونه لا يمكن أن نفهم الإغريق، على الرغم من أن هوميروس لم يُشر إليه غير إشارة عابرة اشتملت على حادثة جرت له في طفولته. ومن ناحية ثانية، أنقذ المؤرخون والمثقفون أشتاتًا ميثولوجية أدخلتنا في عالم روحي لا تنقصه العظمة. هذه الميثولوجيات لم تكن هوميريةً ولا «كلاسيكيةً»، بل «شعبيةً». لم تخضع إلى تدقيق النقاد العقلانيين، ويُحتمل جدًّا أن تكون قد بقيت حيةً على هامش ثقافة المسلمين على مدى قرون عديدة. غير أن هذا لا يجعلنا نستبعد أن تكون بقايا من هذه الأساطير الشعبية قد ظلَّت قائمة وهي مموهة أو تحت «غطاء مسيحي»، في المعتقدات الإغريقية والمتوسطية حتى أيامنا هذه. لكن إن لنا عودةً إلى هذا الموضوع.
ثيوغونيا والأنساب
كان هيزيود يبحث لنفسه عن جمهور آخر من المستمعين. كان يروي أساطير مجهولةً، أو أساطير لم يُشِر إليها هوميروس إلا إشارة عابرة. لقد كان أول مَن تكلم عن بروميثيوس. إلا أنه لم يستطع أن يدرك أن الأسطورة المركزية البروميثوسية إنما قامت على سوء فهم للمغزى الديني الأوَّلي أو، بالأحرى، على «نسيانه». فالإله زيوس إنما انتقم من بروميثيوس لأن هذا، عندما دُعي إلى التحكيم في قسمة الذبيحة الأولى، قد أخفى العظام تحت طبقة الدهن، فيما كان يغطي اللحم والمصارين في المعدة، مما جعل زيوس، الذي اجتذبته رائحة الدهن، أن يعطي النصيب الأقل للآلهة، ويعطي اللحم والمصارين للآدميين. هذه الذبيحة الأولمبية الأولى يمكن مقارنتها مع طقوس الصيادين القدماء في آسيا الشمالية، الذين يعبدون كائناتهم السماوية العليا إذ يقرِّبون لها عظام الحيوان ورأسه. نفس العادة الطقسية ما زالت قائمةً عند أقوام الرعاة في آسيا الوسطى. ما قد كان معتبرًا عبادة مثلى لإله سماوي في مرحلة قديمة من الثقافة، أصبح في بلاد الإغريق خديعة مثلى، جريمة عيب في ذات الجلالة، موجَّهة إلى زيوس، الإله الأعلى. لا نعلم متى حدث هذا التحريف على المعنى الأصلي للطقس، ولا الأسباب التي جعلت بروميثيوس يُتَّهم بهذه الجريمة. وإنما أوردنا هذا المثال لكي نبين أن هيزيود قد روى أساطير قديمة جدًّا، لعل جذورها تمتد إلى عصور ما قبل التاريخ، لكن هذه الأساطير قد خضعت إلى سياق طويل من التبديل والتعديل قبل أن يتناولها الشعراء بالتدوين.
العقلانيون والأسطورة
أما خطباء الإسكندرية فقد دفعوا بنقد المأثورات الميثولوجية إلى درجة الحذلقة. كما سنرى، لقد استوحى «المتكلمون» المسيحيون هؤلاء المؤلفين عندما تعلق الأمر بتمييز العناصر التاريخية في الأناجيل. فالإسكندراني «أوليوس تيون» (حوالي القرن الثاني للميلاد) يبحث مطولًا عن الحجج التي يمكنه بها أن يثبت استحالة أسطورة أو رواية تاريخية، ويبيِّن منهجه النقدي الذي يقوم على تحليل أسطورة ميديا. يذهب «تيون» إلى أن أُمًّا لا يمكنها أن تقتل أولادها. فالفعل لذلك «لا يُصدَّق»؛ لأن ميديا ما كانت تقتل أبناءها في نفس المدينة (كورنت) التي كان يسكن فيها أبوهم جاسون. زِد على ذلك أن الطريقة نفسها التي ارتكبت بها الجريمة بعيدة الاحتمال؛ فقد كان على ميديا أن تخفي جريمتها وأن تستعمل السمَّ بدلًا من السيف، ثم إن تبرير تصرفها بعيدٌ جدًّا عن الاحتمال، وغضبها على زوجها ما كان ليحملها على ذبح أبنائه الذين كانوا في نفس الوقت أبناءها. إنها، بهذه الفعلة، قد أنزلت بنفسها أفدح الضرر، ما دامت النساء يخضعن للعواطف أكثر من الرجال.
المجاز وبشرية الآلهة
كان لهذه الرمزية المقلوبة آثار كبيرة، ولا شكَّ أنها حدثت بتأثير من «إفهيمير» و«أنيوس»، بل وحتى من «لاكتانس» وآخرين غيرهم من «المتكلمين» المسيحيين، عندما استند هؤلاء إلى «إفهيمير» لكي يبرهنوا على بشرية آلهة الإغريق، وبالتالي على عدم حقيقتهم. بفضل الرمزية والإفهيميرية، وخصوصًا بفضل ما تطوَّر من أدب وفنٍّ تشكيلي حول أساطير الآلهة والأبطال؛ بفضل كل هذا، لم يستطع النسيان أن يغيب هؤلاء الآلهة والأبطال على الرغم من سياق «نزع الأسطرة» الطويل، وعلى الرغم من انتصار المسيحية.
على العكس، لقد ظلت آلهة الإغريق حية طوال العصر الوسيط، على الرغم من أنها كانت فقدت أشكالها الكلاسيكية وتقنعت تحت أقنعة ما كانت لتخطر ببال أحد. إن «إعادة الاكتشاف» التي حققها عصر النهضة تتألف خصوصًا من إعادة تشكيل الأشكال «الكلاسيكية». ولما كانت نهاية عصر النهضة أدرك العالم أنه لم يَعُد ثمة إمكانية للمصالحة بين «الوثنية» الإغريقية-اللاتينية وبين المسيحية، على حين لم يكن العصر الوسيط يعتبر العصور القديمة، بما هي وسط تاريخي، حقبًا كاملةً، على نحو ما كانت تفعل الأقوام التقليدية.
هكذا نجد أن ميثولوجيا دنيوية ومجمع آلهة مؤنسًا ظلَّا حيَّينِ، وأصبحا منذ عصر النهضة موضوعًا للبحث العلمي. وهذا لأن العصور القديمة الميتة لم تكن تؤمن بآلهة هوميروس ولا بالمعنى الأصلي للأساطير المتعلقة بهذه الآلهة. والذي جعل المسيحية تقبل وتتمثل هذا الإرث الميثولوجي هو أنه لم يَعُد محملًا بقيم دينية حية. لقد أصبح «كنزًا ثقافيًّا». وفي نهاية المطاف، لقد كان الشعراء والفنانون والفلاسفة هم الذين «أنقذوا» الإرث الكلاسيكي.
أصبح الآلهة وأساطيرهم آدميين منذ نهاية العصور القديمة — ولم يكن أحد من المثقفين يفهمها على حرفيتها — حتى عصر النهضة والقرن السابع عشر، وذلك بفضل «الأعمال» والإبداعات الأدبية والفنية.
وثائق مدوَّنة ومأثورات شفهية
الأساطير اليونانية «الكلاسيكية» تمثل، إذَن، انتصار «العمل الأدبي» على «المعتقد الديني». لا نملك أسطورة يونانية نُقلت إلينا في سياقها الشعائري. إنما نعرف الأساطير في حالة «الوثائق» الأدبية والفنية، لا من حيث هي مصادر أو تعبيرات عن خبرة دينية ناشئة عن أداء طقسي، هكذا يفوتنا قطاع كامل وحي وشعبي من الديانة الإغريقية، لا لشيء إلا لأنه لم يوصف كتابة بطريقة منهجية.
يجب ألا نحكم على حيوية التديُّن الإغريقي بالاعتماد فقط على درجة الإيمان بالأساطير والمعتقدات الأولمبية. فنقد الأساطير الهوميرية لم يكن ينطوي بالضرورة على العقلانية أو الإلحاد. إن تكون «الصيغ الكلاسيكية» للفكر الميطيقي قد انطوت على «مصالحة» مع النقد الراسيونالي؛ إن هذا لا يعني أن هذا الفكر قد بطل بالمرة. فقد كانت النخبة الفكرية قد اكتشفت ميثولوجيات أخرى قابلة لأن تبرر وتوضح مفاهيم دينية جديدة. فقد كانت هناك ديانات إسرارية كثيرة، ابتداءً من ديانة أيلوسس والأخويات الأورفية-الفيثاغورية وانتهاءً بالأسرار الإغريقية-الشرقية، وكانت واسعة الانتشار في روما الإمبراطورية وفي الأقاليم. وكان هناك بالإضافة إلى ذلك ما يمكن تسميته بميثولوجيات النفس و«السوتويولوجيات» التي طوَّرها الفيثاغوريون الحديثون والأفلاطونيون الحديثون والغنوصيون. ويجب أن نُضيف أيضًا العبادات والميثولوجيات الشمسية، والميثولوجيات النجمية والجنائزية، وكل نوع من أنواع «الخرافات» و«الميثولوجيات المتدنية» الشعبية.
لقد أتينا على ذِكر هذه الوقائع القليلة لكيلا يتوهم أحدٌ أن نزع الأسطرة عن ميثولوجية هوميروس وعن الديانة الكلاسيكية قد أحدث في العالم المتوسطي فراغًا دينيًّا أقامت فيه المسيحية نفسها بدون أن تَلقى مقاومة تُذكر. في الحقيقة، اصطدمت المسيحية بنماذج كثيرة من التديُّن، والمقاومة الحقيقية التي لقيتها لم تأتِ من الديانة والميثولوجيا «الكلاسيكيتين». المرموزتين والمؤنستين. فقد كانت قوتهما من صعيد سياسي وثقافي على وجه الخصوص. لقد كانت المدينة والدولة والإمبراطورية ونفوذ الثقافة الإغريقية — الرومانية التي لا يُضاهى — كل هذا يُشكِّل بناءً عظيمًا. لكن من وجهة نظر الديانة الحية، كان هذا البناء غير وطيد الأركان، كان قابلًا لأن يتقوض تحت صدمةِ خبرة دينية أصيلة.
إنما جاءت المقاومة الحقيقية التي لقيتها المسيحية من الديانات الأسرارية والسوتويولوجيات (التي كانت تسعى وراء سلام الفرد وتتجاهل أو ترتاب في صيغ الديانة المدنية)، وبصورة خاصة من الديانات والميثولوجيات الشعبية «الحية»، التي كانت منتشرةً في أنحاء الإمبراطورية. لكن معلوماتنا عن هذه الديانات ما زالت أقل من معلوماتنا عن الديانة الشعبية الإغريقية والمتوسطية. وقد نعلم شيئًا عن الإله «زالموكسي» الذي كان يعبد «الجيتيون»؛ لأن هيرودوت نقل لنا عنها بعض المعلومات التي كان يتناقلها إغريق هلسبونت. ولولا هذه الشهادة. لكان علينا الاكتفاء بالإشارات، كما هو الحال بالنسبة إلى الألوهيات التراقية الأخرى: درزال، بنديس، كوتيس … إلخ. وعندما تتوفر لدينا معلومات أوسع عن ديانات أوروبا ما قبل المسيحية، ندرك عندئذٍ مدى تعقيدها وغناها. لكن بما أن هذه الشعوب لم تنتج كتبًا وهي في وثنيتها، الأرجح أننا لن نعرف دياناتها وميثولوجياتها الأصلية معرفةً تامةً أبدًا.
ومع ذلك فقد كان الأمر يتعلق بحياة دينية وميثولوجيا بلغت من القوة مبلغًا جعلها تقف في وجه المسيحية مدة عشرة قرون، وأن تثبت أمام ما لا حصر له من الهجمات التي كانت تقوم بها السلطات الكنيسية. لقد كان لهذه الديانة مبنى كوني، ولسوف نرى أن الأمر قد انتهى بها إلى أن تتسامح معها الكنيسة وأن تتمثلها. وقد تأثرت المسيحية الريفية ببعد من أبعادها الكونية، وأظهر هذا التأثر ما كان في أوروبا الجنوبية والجنوبية الشرقية.
نوجز ما تقدَّم بالقول: إن كانت الديانة والميثولوجيا الإغريقيتان، اللتان اكتسبتا الصفة الدنيوية وتجردتا جذريًّا من عنصر الأسطورة، وبقيتا حيتين في «الثقافة» الأوروبية؛ فلأنهما قد عبَّرت عنهما روائع الأعمال الأدبية والفنية. على حين ظلَّت الأديان والميثولوجيات الشعبية، وهي الأشكال الوثنية «الحية» الوحيدة في لحظة الانتصار الذي حققته المسيحية (وهي الأشكال التي لا نكاد نعرف عنها شيئًا، من حيث إنها لم تدوَّن كتابةً) ظلت حيةً، بعد أن تكيف مع المسيحية، في تقاليد أهالي الأرياف. وبما أن الأمر يتعلق جوهريًّا بديانة ذات بنية زراعية، ضاربةً الجذور في العصر الحجري الجديد، كان خليقًا بالفولكلور الديني الأوروبي أن يظل يحتفظ بإرث مما قبل التاريخ.
لكن هذه البقايا الحية من الأساطير ومن أوجه السلوك الديني القديم ليس لها على الصعيد الثقافي غير نتائج متواضعة، على الرغم من أنها تشكل ظاهرة روحية هامة. فالثورة التي أحدثتها الكتابة غير قابلة للنكوص. من الآن فصاعدًا، لن يأخذ تاريخ الثقافة في اعتباره غير الوثائق الأرخيولوجية والنصوص المكتوبة. والشعب المحروم من هذا النوع من الوثائق يُعدُّ شعبًا بلا تاريخ. لم تُقوم الإبداعات الشعبية والمأثورات الشفهية إلا في زمن متأخر، في عصر الرومانطييقية الألمانية، حين استأثر الموضوع باهتمام عالم الأثريات. وقد أصبحت الإبداعات الشعبية؛ حيث ظل السلوك والعالم الميطيقيان باقيين، أصبحت أحيانًا مصدر إلهام لبعض كبار الفنانين الأوروبيين. لكن هذه الإبداعات الشعبية ما ملأت قط دورًا هامًّا في الثقافة؛ إذ انتهى بها الأمر إلى أن تعامل كما تعامل «الوثائق»، وأصبحت، بهذه الصفة، تستثير فضول بعض أرباب الاختصاص. ولكي يستثير هذا الإرث من المأثور الشفهي اهتمام إنسان حديث، لا بدَّ من أن يُعرَض عليه في هيئة كتاب.