بقاء الأساطير وتخفيها
المسيحية والميثولوجيا
والمشكلة الثانية وثيقة الصلة بالأولى: لم تَعُد تتعلق بتاريخية يسوع، بل بقيمة الشهادات الأدبية التي تؤسس لهذه التاريخية. فقد كان على «أوريجين» أن يتأكَّد بنفسه من صعوبة دعم حدث تاريخي بوثائق لا يُنازع بشأنها. وفي أيامنا هذه نجد شخصًا من مثل رودولف بولتمان يؤكد أنه لا يمكننا أن نعرف شيئًا عن حياة وشخص يسوع، رغم أنه لا يشك في وجوده التاريخي. هذا الموقف المنهجي يفترض أن الأناجيل والشهادات البدائية الأخرى مشربةً ﺑ «عناصر ميثولوجية» (باعتبار الاصطلاح مفهومًا بمعنى «ما لا يمكن أن يوجد»). أما أن «العناصر الميثولوجية» كثيرةٌ في الأناجيل، فهذا أمر بديهي. يضاف إلى ذلك أن المسيحية تمثلت رموزًا وطقوسًا وشخوصًا ذات أصول يهودية أو متوسطية منذ وقت باكر. ولسوف نرى، فيما بعدُ، مغزى هذين السياقين من «التهويد» و«التوثين» اللذين اعتمدتهما المسيحية الأولى.
نضيف أن الحضور الثقيل للرموز والعناصر العبادية الشمسية أو للبنية السرية في المسيحية قد شجَّع بعض العلماء على رفض تاريخية يسوع. لقد قلبوا موقف شخص من مثل بولتمان، على سبيل المثال. فبدلًا من التسليم بوجود شخصية تاريخية لا نعرف عنها شيئًا، كما هو الحال في بداية المسيحية، نتيجةً لأسطورة أثقلت كاهل هذه الشخصية، عمد هؤلاء العلماء إلى التسليم ﺑ «أسطورة» جعلت منها أجيال المسيحية الأولى حقيقة «تاريخية» بصورة غير تامة. نقتصر على ذكر الحديثين منهم: آرثر دروز (١٩٠٩م)، بيتر جنسن (١٩٠٦، ١٩٠٩م)، ب. ل كوشو (١٩٢٤م)، وهم علماء ذوو توجهات وقدرات مختلفة حاولوا جهدهم أن يعيدوا إنشاء «الأسطورة الأصلية» التي يُفترض أن المسيح وُلد منها، وبالتالي المسيحية. هذه «الأسطورة الأصلية» تختلف بين مؤلف وآخر. فقد نجد دراسة عاطفية تخصص لهذه الإنشاءات الجديدة التي تتصف بالعلمية بمقدار ما تتصف بالمغامرة، لكنها تكشف عن حنين معين لدى الإنسان الحديث نحو «الأولي الميطيقي». (في حالة ب. ل. كوشو، هذا التعظيم لنفي الصفة التاريخية عن الأسطورة على حساب فقر المحسوس التاريخي واضح جدًّا). لكن ما من هذه الفرضيات اللاتاريخية لقيت قبولًا لدى أصحاب الاختصاص.
ثم تعترضنا مشكلة ثالثة عندما ندرس الصلات بين الفكر الميطيقي والمسيحية، يمكن صوغُها على النحو التالي: إذا كان المسيحيون رفضوا أن يروا في ديانتهم «ميثوس» (أسطورة) منزوعة القدسية، مثلما كانت الحال في الحقبة الهلنستية، فما هو وضع المسيحية أمام «الأسطورة الحية»، التي كانت معروفة في المجتمعات القديمة والتقليدية؟ لسوف نرى أن المسيحية، كما كانت مفهومة ومعاشة طوال الألفين من الأعوام من تاريخها، لا يمكنها أن تفصم العُرى عن الفكر الميطيقي تمامًا.
تاريخ و«ألغاز» في الأناجيل
لِنرَ الآن كيف تأتَّى لآباء الكنيسة الأوائل الدفاعُ عن تاريخية يسوع أمام غير المؤمنين من الوثنيين وأمام «الهراطقة». عندما طرحت مشكلة سيرة يسوع الحقيقية، أي كما عرفها ونقلها الرسل شفاهًا، وجد لاهوتيُّو الكنيسة البدائية أنفسهم أمام عدد من النصوص والمأثورات الشفهية كانت متداولةً لدى مختلف الأوساط. لقد أثبت الآباء أنهم كانوا يتمتعون بروح نقدي وحين توجُّه «تاريخي» جعلهم يرفضون اعتبار الأناجيل الأبوكريف (السرية)، وما يسمى ﺑ «الوجيا إغرافا» وثائق أصلية. إلا أنهم مع ذلك فتحوا الباب واسعًا أمام اختلافات داخل الكنيسة استغرقت مدة طويلة، ويسروا لغير المسيحيين مهمة الهجوم حين لم يقبلوا بإنجيل واحد، بل بأربعة. وبما أنه يوجد اختلافات فيما بين أناجيل متَّى ومرقس ولوقا من جهة وبين إنجيل يوحنا من جهة ثانية، كان لا بد من شرح هذه الاختلافات وتبريرها.
في بداية القرن الثاني، بيَّن «أيليوس ثيون» الفرق بين الأسطورة والرواية (رواية الخبر) بقوله أن الأسطورة إبانة باطلة تتلبس بالحق، على حين أن الرواية إبانة تصف أحداثًا وقعت أو يمكن أن تقع». طبعًا، كان اللاهوتيون المسيحيون ينكرون أن الأناجيل «أساطير» أو نوع من «قصص العجائب». وكان جوستان غير قادر على التسليم بوجود خطر من خلط الأناجيل ﺑ «قصص العجائب». لقد كانت حياة يسوع تحقيقًا لنبوءات «العهد القديم»، وأما الشكل الأدبي الذي اتخذته الأناجيل فلم يكن شكل الأسطورة. أكثر من هذا، فقد كان جوستان يرى أنه من الممكن أن يقدِّم للقارئ غير المسيحي براهين مادية على صحة الأناجيل من الناحية التاريخية. فالميلاد، مثلًا، يمكن إثباته من «إعلانات الضريبة المقدمة في ظل الوالي قيرينوس ويمكن الحصول عليها في روما بعد قرن ونصف». كذلك كان أمثال «تاتيان» وكليمانت الإسكندري يعتبرون الأناجيل وثائق تاريخية.
إن أوريجين يُقرُّ إذَن بأن الأناجيل تورد حكايات ليست صحيحةً تاريخيًّا. لكنها «صحيحة» على الصعيد الروحي. لكنه، وهو في معرض الرد على انتقادات «سلس»، يقرُّ أيضًا بصعوبة إثبات تاريخيةِ واقعة تاريخية. «من أصعب الأمور، وأحيانًا مستحيل، محاولة إثبات صحة واقعة تاريخية باعتبارها كذلك، حتى ولو كانت صحيحةً».
لكن أوريجين يعتقد مع ذلك بأن حوادث معينة من حياة يسوع مؤيدة تمامًا بشهادات تاريخية. مثلًا، صَلب يسوع أمام عدد كبير من الأشخاص. ويمكن إثبات زلزلة الأرض وحلول الظلام بالعلاقة التاريخية مع «فليكون البترالي». والعَشاء الأخير حادث تاريخي يمكن تعيين زمن حدوثه بدقة. كذلك إن إنجيل يوحنَّا لم يتطرق إليها بالمرة (أوريجين يُبين سبب هذا السكوت بالقول إن يوحنَّا كان مهتمًّا بألوهية يسوع، وهو يعلم أن «اللوغوس» لا يمكن غوايته). ويرى أن القيامة «حقيقية»، بالمعنى التاريخي للكلمة، على الرغم من أن الجسد الذي بُعث لم يَعُد ينتمي إلى هذا العالم الفيزيائي (الجسد المنبعث كان جسدًا هوائيًّا، روحيًّا).
الزمان التاريخي والزمان الليتورجي
لقد أدرك أوريجين أن أصالة المسيحية تقوم في المكان الأول على أن التجسد قد حدث في زمان تاريخي لا في زمان كوني لكنه لم ينسَ أن سر التجسد لا تقلل تاريخيته من قيمته. ثم إن الأجيال الأولى من المسيحيين، عندما أعلنوا إلاهية يسوع المسيح «على الأمم»، إنما كانوا ينادون ضمنًا ﺑ «لاتاريخيته»، لا بمعنى أن يسوع لم يكن شخصية تاريخية، بل بمعنى أنه «ابن الله»، المخلص العالمي الذي لم يفتدِ الإنسان وحسب، وإنما افتدى الطبيعة أيضًا. ثم إن تاريخية يسوع قد تجاوزها صعوده إلى السماء والتحاقه بالمجد الإلهي.
لقد كان المسيحيون، عندما قالوا بتجسد الكلمة والقيامة والصعود، مقتنعين بأنهم لا يقدمون أسطورة جديدة. كل ما في الأمر أنهم استخدموا مقولات الفكر الميطيقي. ولا شك أنهم لم يستطيعوا أن يتعرفوا على هذا الفكر الميطيقي في الميثولوجيات التي انتزعت منها صفة القداسة التي كانت لدى معاصريهم الوثنيين المتعلمين. لقد كان مركز الحياة الدينية، في نظر المسيحيين بصرف النظر عن المذاهب التي ينتمون إليها، هو درامة يسوع المسيح. وهذه الدرامة، على الرغم من حدوثها مرة واحدة في التاريخ، قد جعلت من الخلاص أمرًا ممكنًا؛ تبعًا لذلك لا يوجد غير وسيلة وحيدة للحصول على الخلاص: أن نكرر هذه الدرامة النموذجية طقسيًّا ونحاكي المثال الأعلى الذي كشفت عنه حياة يسوع وتعاليمه. في الحقيقة، يتفق هذا المسلك الديني مع الفكر الميطيقي الأصلي.
لكن يجب أن نضيف على الفور أن المسيحية، لمجرد كونها دينًا، اقتضى منها ذلك أن تحتفظ بمسلك ميطيقي على الأقل: الزمان الليتورجي، أي الاستعادة الدورية «لذلك الزمان»، زمان «البدايات». وكلنا يعلم أن الخبرة الدينية التي يختبرها المسيحي تقوم على محاكاة المسيح بما هو النموذج المثالي، وعلى التكرار الليتورجي حياة الرب وموته وقيامته، وعلى معاصرة المسيحي «لذلك الزمان» الذي ينفتح على ولادة المسيح في بيت لحم ويتحقق مؤقتًا بالصعود. وقد رأينا أن «محاكاة نموذج غير بشري، وتكرار سيناريو نموذجي، وقطع الزمان الدنيوي بواسطة كوة تُطل على الزمان الكبير، كل ذلك يشكل علامات أساسية على «المسلك الميطيقي»، أي مسلك إنسان المجتمعات القديمة، التي تجد في الأسطورة مصدر وجوده بالذات.»
المسيحية الكونية
وإنما نشأت الصعوبات الحقيقية في وقت لاحق، عندما واجه المرسلون المسيحيون، خصوصًا في أوروبا الوسطى والغربية، الأديان الشعبية «الحية» انتهى الأمر، طوعًا أو كرهًا، إلى «تنصير» الأشخاص السماوية والأساطير الوثنية التي لم تُمكَّن الديانة الجديدة من القضاء عليها. فقد اتخذ عددٌ كبيرٌ من الآلهة والأبطال من قتلة التنانين باسم «القديس جورج»، وتحوَّلت آلهة العاصفة إلى «القديس إيليا»، وتمثلت العذراء أو غيرها من القديسات عددًا لا حصر له من إلاهات الخصب. ولعلنا نستطيع القول إن جزءًا من الديانة الشعبية التي كانت سائدة في أوروبا قبل أن تعتنق المسيحية قد ظل حيًّا تحت قناع الأعياد وعبادة القديسين. وكان على الكنيسة أن تكافح طوال أكثر من عشرة قرون ذلك الدفق المستمر للعناصر «الوثنية» (المقصود: الوثنية التي تنتمي إلى الديانة الكونية) في الممارسات والأساطير المسيحية. وكانت نتيجة هذا الصراع العنيف أقرب ما تكون إلى التواضع، خصوصًا في الجنوب والجنوب الشرقي من أوروبا؛ حيث كانت الفنون الشعبية والممارسات الدينية في الأرياف ما زالت تمثل في نهاية القرن التاسع عشر أشخاصً وأساطير وطقوسًا ترجع إلى أقدم عهود التاريخ.
لقد كان يؤخذ على الكنيستين الكاثوليكية الرومانية والأرثوذكسية قبولها لهذا العدد الكبير من العناصر الوثنية. هل لهذه الانتقادات ما يبررها دائمًا؟ من جهة، لم تستطع «الوثنية» أن تستبقي على حياة نفسها إلا بعد أن «تنصَّرت»، وإن سطحيًّا، على أن سياسة التمثُّل هذه، أي تمثل الوثنية لم يمكن القضاء عليها، لم تكن شيئًا جديدًا. فقد سبق للكنيسة البدائية أن قبلت وتمثلت جزءًا كبيرًا من الرزنامة المقدسة التي ترجع إلى ما قبل نشوء المسيحية. من جهة ثانية، الفلاحون، بحكم نمط وجودهم الخاص في الكون، لم تكن لتجتذبهم مسيحية «تاريخية» وأخلاقية. ذلك أن الخبرة الدينية الخاصة بأهالي الأرياف كان يغذيها ما يمكن تسميته «مسيحية كونية». كان الفلاحون الأوروبيون يفهمون المسيحية باعتبارها ليتورجية كونية. لقد كان السر الكريستولوجي معنيًّا أيضًا بما سوف يئول إليه الكون. «كل الطبيعة تتأوه بانتظار البعث». إنه موضوع مركزي في ليتورجية الفصح مثلما هو كذلك في الفولكلور الديني في المسيحية الشرقية. لقد كان التوافق المستطيقي (= الصوفي) مع الإيقاعات الكونية، التي هاجمها بشدة أنبياءُ العهد القديم وتسامحت معها الكنيسة على مضض؛ كان هذا التوافق قائما في قلب الحياة الدينية في الأرياف، ولا سيما جنوب شرقي أوروبا. بعد التجسد، أُعيد إنشاء العالم في مجده الأول، ولهذا السبب حمل المسيح والكنيسة بهذا العدد الهائل من الرموز الكونية؛ في الفولكلور الديني الشائع في جنوب شرقي أوروبا، نجد الأسرار تقدس الطبيعة أيضًا.
بالنسبة لفلاحي أوروبا الشرقية، لم يكن هذا الموقف ينطوي على «توثين» للمسيحية، بل كان «تنصيرًا» لديانة أسلافهم. وعندما يكتب تاريخ هذا «اللاهوت الشعبي»، بحيث يمكن فهمه في الأعياد الموسمية والفولكلور الديني خصوصًا، يمكننا أن نفهم أن «المسيحية الكونية» ليست شكلًا جديدًا من الوثنية، ولا تركيبًا وثنيًّا-مسيحيًّا، بل خلق ديني أصيل تأثرت فيه الإسكاتولوجيا والسوتريولوجيا بالأبعاد الكونية؛ زد على ذلك أن المسيح، بدون أن يخرج عن كونه البانتوكراتور «ينزل على الأرض ويزور الفلاحين، مثلما كان يفعل «الكائن الأعلى» قبل أن يتحول إلى «إله مفارق»، في أساطير الأقوام القديمة. هذا المسيح ليس «مسيحيًّا تاريخيًّا» ما دام الوعي. الشعبي لا يهتم بالكرونولوجيا ولا بصحة الأحداث وحقيقية الشخصيات التاريخية. على أننا يجب أن نحاذر من الاستنتاج الذي قد يتبادر إلى الذهن ومفاده أن المسيح، في نظر أهل الريف، ليس إلا «إلهًا» موروثًا عن الأديان الوثنية القديمة. ليس ثمة تناقض بين صورة المسيح في الأناجيل والكنيسة وصورته في الفولكلور الديني: فالميلاد، وتعليم يسوع ومعجزاته، وصَلبه وقيامته؛ كل ذلك يؤلِّف الموضوعات الأساسية لهذه المسيحية الشعبية. من ناحية ثانية، إن الروح الذي يشيع في جميع هذه الإبداعات روحٌ مسيحيٌّ لا «وثني»؛ كل شيء يدور حول خلاص الإنسان بواسطة المسيح، وحول الإيمان والمحبة والأمل، وحول عالم «خيِّر» لأن الله الأب قد خلقه وافتداه الابن، وحول وجود بشري لن يتكرر وغير مجرد من المعنى، والإنسان حُرٌّ في اختياره الخير والشر لكنه لن يُدان على أساس هذا الاختيار فقط.»
ليس من همِّنا هنا أن نتصدى للخطوط العريضة لهذا «اللاهوت الشعبي»، لكن يجب أن نُبيِّن أن المسيحية الكونية، مسيحية أهل الأرياف، يسودها حنين إلى طبيعة مقدسة بحضور يسوع، حنين إلى فردوس، ورغبة في استعادة طبيعة، تغيَّرت طبيعتها، لا يتطرق إليها فساد، وملاذ يقي الإنسان سر ويلات الحروب والجوائح والغزوات. إن هذا أيضًا هو التعبير عن «المثل الأعلى»، للمجتمعات الزراعية، التي كثيرًا ما كانت تتعرض لإرهاب جحافل الغزاة ولاستغلال مختلف طبقات «السادة» المحليين. إن هذا لتمرد سلبي على مأساة التاريخ ومظالمه، باختصار، تمرد على كون الشر لم يَعُد يتجلَّى فقط كقرار فردي، بل كبنية تتعدى الشخص في العالم التاريخي بصفة خاصة.
نعود إلى موضوعنا فنقول موجزين أن هذه المسيحية الشعبية قد أطالت في عمر بعض مقولات الفكر الميطيقي إلى أيامنا هذه بصورة جلية.
الميثولوجيا الإسكاتولوجية في العصر الوسيط
في العصر الوسيط نشهد قفزة للفكر الميطيقي. فقد انتحلت جميع الطبقات الاجتماعية لنفسها مأثورات ميثولوجية خاصة بها؛ فالفرسان وأرباب الحِرف والإكليروس والفلاحون – هؤلاء كلهم اعتمد «أسطورة أصل» تعبِّر عن حاله ومهنته، وراح يسعى إلى محاكاة نموذج مثالي. هذه الميثولوجيات متباينة الأصل. فالدورة الآرثرية وموضوعة «الكأس» تشكلان، تحت غطاء مسيحي، جزءًا من المعتقدات السلتية، خصوصًا من حيث علاقتها بالعالم الآخر. والفرسان يتطلعون إلى منافسة «لانسلوت» أو «برسفال». أما الشعراء فقد صنعوا ميثولوجية الحب والمرأة، بواسطة عناصر مسيحية، لكن في تجاوز لعقائد الكنيسة وتناقض معها.
وما أسطورة فريدريك الثاني إلا مثال على ظاهرة كثيرة الشيوع وكثيرة التكرار. وقد ظلت أوروبا حتى القرن السابع عشر تضفي على الملوك تأثيرًا دينيًّا ووظيفة إسكاتولوجية. غير أن نزع الصفة الدينية عن مفهوم الملك الإسكاتولوجي لم يقضِ على الأمل الراسخ عميقًا في النفس الجماعية بتجديد عالمي يقوم به البطل النموذجي تحت صيغة من الصيغ الجديدة: المصلح، الثوري، الشهيد (باسم حرية الشعوب)، زعيم الحزب. فمؤسسو الحركات التوتاليتارية الحديثة وزعماؤها تتألف أدوارهم ومهامهم من عدد كبير من العناصر الإسكاتولوجية والسوتريولوجية. والفكر الميطيقي قد يتجاوز وينبذ بعضًا من تعابيره القديمة التي اهترأت بفعل التاريخ، ويتكيف مع الشروط الاجتماعية الجديدة والممارسات الثقافية الجديدة، لكنه لا يقضي على نفسه.
فيما يتعلق بظاهرة الحروب الصليبية، سلَّط «ألفونس دوبرونت» الضوء على مبانيها الميطيقية ووجهتها الإسكاتولوجية. كان يقوم في مركز الوعي الصليبي، عند الإكليروس وغير الإكليروس، واجب تحرير أورشليم … كان أقوى ما عبَّر عن نفسه في الحروب الصليبية الامتلاء المزدوج للزمان والمكان البشريين؛ بالمعنى الذي تكون فيه علامة اكتمال الأزمنة هي اجتماع الأمم حول المدينة المقدسة والأم، مركز العالم، أورشليم.
أمَّا أن الموضوع يتعلق بظاهرة روحية جماعية، بدافع غير عقلاني، فنجد البرهان عليه، في جملة أشياء أخرى، في صليبية الأطفال، التي تفجرت فجأةً في عام ١٢١٢م في فرنسا الشمالية وفي ألمانيا. لا يمكن الشك في عفوية هذه الحركات، ويؤكد شاهد معاصر أن «ما من أحد حرَّضهم، لا من الداخل ولا من الخارج». لقد كانوا أطفالًا «تميَّزوا في وقت واحد — وهذا من معالم خرق العادة — بشبابهم المتناهي وفقرهم، فهم أبناء رعاة على وجه الخصوص»، عقدوا العزم على التوجه إلى ساح الوغى، ثم انضم إليهم الفقراء حتى بلغ عددهم ما يقرب من ٣٠٠٠٠، تقدَّموا يسيرون في موكب واحد وهم ينشدون. وعندما سُئلوا إلى أين هم ذاهبون أجابوا: إلى الله! يقول إخباري معاصر: «كانوا ينوون أن يقطعوا البحر واستعادة قبر المسيح، وهو ما لم يستطع الأقوياء والملوك أن يفعلوه.» لكن هذه الحملة الفرنسية انتهت إلى الكارثة. بعد أن وصلوا إلى مرسيليا، صعدوا إلى متن سبع سفن كبيرة، اثنتان منها غرقتا في عرض البحر بالقرب من سردينيا وابتلع اليم جميع ركابهما. أما السفائن الخمس الأخرى فقد قادها اثنان من أصحاب السفن الخونة حتى بلغا بها الإسكندرية حيث بِيع الأطفال إلى قادة المسلمين وتجَّار الرق.
أما الحملة الصليبية «الألمانية»؛ فتعرض نفس النقاط الرئيسية. يروي إخباري معاصر أنه في عام ١٢١٢م «ظهر طفل باسمِ نيقولا استطاع أن يجمع حوله جمهورًا من أطفال ونساء. كان يؤكد أنه، بناءً على أمر من ملاك الرب، يجب عليه أن يتوجَّه معهم إلى أورشليم لكي يحرر صليب الرب، وأن البحر سوف يتكفَّل إيصالهم إلى البر سالمين من دون أن تبتلَّ أقدامهم كما فعل ذات مرة مع بني إسرائيل». زد على ذلك أنهم لم يكونوا مسلَّحين. انطلقوا من إقليم كولونيا، ثم نزلوا الراين وعبروا جبال الألب حتى بلغوا إيطاليا من الشمال. وصل بعضهم إلى جنوا وبيزا، لكنهم هنا رُدوا على أعقابهم. أما الذين استطاعوا بلوغ روما فاعترفوا بأن ما من سلطة قد أيَّدتهم. لم يوافقهم البابا على مشروعهم، فكان على الصليبيين الفتيان أن يعكسوا وجهة مسيرتهم. وقد وصفهم أحد الإخباريين بقوله: «لقد عادوا جائعين، حفاة الأقدام، واحدًا بعد آخر، يخيم الصمت على رءوسهم.» ولم يمدَّ أحدٌ يد العون إليهم. وكتب شاهدٌ آخر: «كان قسمٌ كبيرٌ منهم يُطرح ميتًا من الجوع في القرى والساحات العامة، وما كان يكفِّنهم أحدٌ.»
بقاء الأسطورة الإسكاتولوجية حيَّة
لكن الفشل الذي مُنيت به الحروب الصليبية لم يقضِ على الآمال الإسكاتولوجية. ففي عام ١٦٠٠م توسَّل «توماسو كامبلانيلا» إلى ملك أسبانيا لكي يُموِّل حملة صليبية جديدة، هدفها الإمبراطورية التركية بغية تأسيس المملكة العالمية بعد أن يحرز النصر على العثمانيين، كما جاء في كتابه «دي موناركيا أسبانيكا». وبعد ثمانية وثلاثين عامًا تنبأ «كامبانيلا» في كتابه «أكلوغا» المرسل إلى لويس الثالث عشر وإلى حنة النمساوية بمناسبة الاحتفال بميلاد لويس الرابع عشر – تنبَّأ في نفس الوقت باسترجاع الأرض المقدسة وتجديد العالم. فقد جاء في هذه النبوءة أن الملك الشاب سوف يفتح العالم كلَّه في ألف يوم، ويصرح الهُولات، يريد بذلك أنه سوف يقضي على ممالك الكفار، ويحرر بلاد اليونان. لسوف يُطرد محمد من أوروبا، وتعود مصر وأثيوبيا إلى النصرانية، ويتنصَّر التتار والفرس والصين والشرق برمَّته. وتشكل جميع الشعوب مسيحية واحدة ويكون لهذا العالم الجديد مركز واحد هو: أورشليم. يقول كامبانيلا: «بدأت الكنيسة من أورشليم، وإلى أورشليم سوف تعود، بعد أن تكون قد دارت العالم.» وفي مبحثه، «القيامة الأولى والثانية»، لم يَعُد كامبانيلا يعتبِر غزو أورشليم مرحلة نحو أورشليم السماوية، كما كان يعتبِر ذلك القديس برنار، بل إقامة حكم مسياني.
لا جدوى من إيراد المزيد من الأمثلة. لكن من المناسب أن نبين الاستمرارية بين المفاهيم الإسكاتولوجية الوسيطة وبين مختلف «فلسفات التاريخ» التي تنطلق من مذهب «التنوير» في القرن التاسع عشر. منذ ثلاثين عامًا بدأنا نقوِّم الدور الاستثنائي الذي لعبته «نبوءات» يواكيم دي فيور في نشأة ومبنى جميع هذه الحركات المسيانية، التي انبثقت في القرن الثالث عشر، وظلَّت مستمرة حتى القرن التاسع عشر تحت هذا الشكل أو ذاك من الأشكال الدنيوية. كان للفكرة المركزية التي قال بها يواكيم دي فيور، أي دخول العالم في الحقبة الثالثة من التاريخ، وهي حقبة الحرية، من حيث أنها سوف تتحقق تحت علامة الروح القدس؛ كان لها دويٌّ كبير. لأن هذه الفكرة تتعارض مع لاهوت التاريخ الذي قبلت به الكنيسة منذ القديس أوغسطين. بحسب العقيدة الراهنة، تحقق الكمال على الأرض بالكنيسة، ولم يَعُد ثمة مجال لتجديد في المستقبل، ولم يبقَ غير حدث حاسم ووحيد هو المقدم الثاني للمسيح والدينونة الأخيرة. إلا أن دي فيور قد عاد فأدخل في المسيحية الأسطورة القديمة المتعلقة بتجدد العالم. صحيحٌ أن الأمر لم يَعُد يتعلق بتجدد دوري يتكرر بلا حدود، إلا أن الذي لا يقل صحَّة عنه هو أن الحقبة الثالثة، على نحو ما فهمها يواكيم، وهي الحقبة التي تسودها الحرية بإمرة الروح القدس؛ إن هذه الحقبة تنطوي على تجاوز للمسيحية التاريخية وقضاء على القواعد والمؤسسات القائمة، في نهاية المطاف.
لا مجال لأن نعرض هنا لمختلف الحركات الإسكاتولوجية التي استلهمت «نبوءة» يواكيم دي فيور. لكن ما يستحق الجهد المبذول التذكير باستطالات غير متوقعة لأفكار نبي كالابريا: لقد طوَّر «لسنغ»، في كتابه «تعليم العرق البشري»، أطروحة الوحي المستمر والتقدمي الذي يتحقق في الحقبة الثالثة. صحيحٌ أن «لسنغ» كان يفهم هذا العصر الثالث على أنه انتصار للعقل بواسطة التعليم، لكن الذي لا يقل عنه أهمية، في رأيه، اكتمال الوحي المسيحي، وكان يشير بعطف وإعجاب إلى «بعض المتحمسين من القرنين الثالث عشر والرابع عشر» الذين كان خطؤهم الوحيد إعلانهم عن «الإنجيل الجديد الأبدي» قبل الأوان بكثير. لقد كان الدوي الذي أحدثته أفكار «لسنغ» عظيمًا، وربما أثَّر في أوغست كونت ونظريته في المراحل الثلاث بصورة غير مباشرة عن طريق إتباع سان سيمون. وقد اعتبر كل من فيخته وهيغل وشلنغ، من خلال أسطورة يواكيم، وإن كان ذلك لأسباب مختلفة، على أنهم مظاهر على الحقبة الثالثة الوشيكة التي سوف تجدد التاريخ وتتمُّه. وقد أثَّرت هذه الأسطورة الإسكاتولوجية، من خلال قنال هؤلاء، في بعض الكُتَّاب الروس، ولا سيما كرازنسكي في مؤلفه «مملكة الروح الثالثة» ومركوفسكي صاحب «مسيحية العهد الثالث». لكن أسطورة تجديد العالم، في وقت قريب أو بعيد، ما زال بإمكاننا تبيِّنُها في جميع النظريات والتخيلات.
أساطير العالم الحديث
رأينا ما ﻟ «العودة إلى الأصول» من أهمية في المجتمعات القديمة، تلك العودة التي كانت تتحقق بطرائق عديدة. هذا النفوذ الذي يتمتع به «الأصل» ما زال باقيًا في المجتمعات الأوروبية. عندما يراد اعتماد شيء جديد، يصار إلى فهمه أو عرضه على أنه عودة إلى الأصل. فالإصلاح الديني إنما ابتدأ بالعودة إلى الكتاب المقدس، وكان يطمح إلى إحياء خبرة الكنيسة البدائية، لا بل خبرة الجماعات المسيحية الأولى. والثورة الفرنسية اتخذت من الرومان والإسبرطيين مَثَلَها الأعلى. والملهمون والزعماء الذين أسهموا وقادوا الثورة الأوروبية الجذرية المجيدة الأولى، التي كانت علامة على نهاية نظام ودورة تاريخية، كانوا يعتبرون أنفسهم مجددين للفضائل القديمة التي مجَّدها «تيت-ليف» و«بلوتارك».
كذلك أن الهوس ﺑ «الأصل النبيل» يفسِّر لنا أيضًا أسطورة «العِرق الآري»، التي كان يجري تقويمها دوريًّا في الغرب، وخصوصًا في ألمانيا. المُلابسات الاجتماعية والسياسية التي رافقت هذه الأسطورة معروفة ولا حاجة للإلحاح عليها. ما يهمنا هنا هو أن «الآري» كان يمثل في وقت واحد السلف «البدئي» و«البطل» النبيل، المحمل بجميع الفضائل التي ما برحت تسكن الذين لم يتوصلوا إلى التكيف مع المَثل الأعلى الذي اتخذته المجتمعات الطالعة من ثورات ١٧٨٩ و١٨٤٨م. لقد كان «الآري» هو النموذج الذي يجب الاقتداء به من أجل استعادة «النقاء» العرقي، والقوة الفيزيائية والنبالة والمناقب البطولية التي سادت «البدايات» المجيدة المبدعة.
أما الشيوعية الماركسية فينبغي ألا يفوتنا إبراز مبانيها الإسكاتولوجية والألفية. كنا بيَّنا أن ماركس قد تبنَّى إحدى الأساطير الإسكاتولوجية الكبرى التي كانت سائدةً في العالم الآسيوي-المتوسطي، أي: الدور الافتدائي الذي يقوم به «الرجل الصالح» (في أيامنا، البروليتاريا)، الذي يتوسل بآلامه من أجل تغيير الوضع الأنطولوجي للعالم. إن المجتمع اللاطبقي الذي نادى به ماركس، وما ينتج عنه من انتفاء التوترات التاريخية، يجد أقرب سابقة له في أسطورة العصر الذهبي الذي يسِمُ بداية التاريخ ونهايته. لقد أغنى ماركس هذه الأسطورة الرائجة، وهي في الأصل عقيدة مسيانية يهودية-مسيحية، كما نعلم، إذ عهد بالدو النبوئي والوظيفة السوتريولوجية إلى البروليتاريا من جهة. ومن جهة ثانية، الصراع النهائي بين الخير والشر، الذي يُسران، ما يشبه بالصراع الأبوكالبتي بين المسيح والدجال، يعقبه انتصار نهائي على الأخير. قد وظَف ماركس لحسابه الأمل الإسكاتولوجي اليهودي-المسيحي وصولًا إلى نهاية مطلقة للتاريخ، وبذلك يفترق عن غيره من فلاسفة المدرسة التاريخية (من أمثال كروتشيه وأورتيغا إي غاسيت) الذين يرون أن التوترات التاريخية ذات جوهر مرتبط بطبيعة الشرط البشري، وبالتالي، لا يمكن إلغاؤها.
الأساطير ووسائل الإعلام
والرواية البوليسية عمومًا شكل حديث آخر من الأسطورة القديمة، فيها نجد صراعًا نموذجيًّا بين الخير والشر، بين البطل (البوليس السري) والمجرم (تجسيد حديث للشيطان). ثم إن القارئ يشارك في السر وفي الدرامة، عن طريق إسقاط لا شعوري من الإسقاط والمواحدة؛ إذ يشعر أنه متورط شخصيًّا في فعل نموذجي، خطر و«بطولي».
ولعلَّنا نتبيَّن أوجه سلوك أسطوري في الهوس ﺑ «النجاح» الذي يتميز به المجتمع الحديث كثيرًا، ويترجم شهوة غامضة إلى تجاوز حدود الشرط البشري. كما يمكننا أن نتبينه في الهجرة إلى «الضواحي» حيث يتاح فك رموز الحنين إلى «الكمال البدئي»، وفي حميَّا العواطف نحو ما قد سُمي ﺑ «عبادة السيارة المقدسة». فقد لاحظ «أندرو غريلي» أنه «حسبُنا أن نزور معرضًا سنويًّا للسيارات حتى نتبين فيه مظهرًا دينيًّا جُعل منه طقسًا إلى حد كبير. فالألوان والأضواء والموسيقى والخشوع الذي يبديه الزوار وحضور الكاهنات (العارضات، «المانيكان»)، والبذخ والترف وتبديد الأموال وازدحام جمهور المتفرجين كل هذا من شأنه أن يُشكل في ثقافة أخرى خدمة ليتورجية أصلية … ولعبادة «السيارة المقدسة» مؤمنوها ومريدوها. فالغنوصي لم يكن ينتظر الوحي بصبر نافد أكثر مما ينتظر عابد السيارة أُولى الإشاعات عن أخر الموديلات الجديدة. وأنه لفي هذه اللحظة من الدورة الموسمية السنوية يكتسب أحبار هذه العبادة – تجار السيارات – أهميةً جديدةً في نفس الوقت الذي ينتظر فيه جمهورٌ متلهفٌ نافد الصبر مقدم شكلًا جديدًا من الخلاص.»
لم نلح كثيرًا على ما يمكن تسميته بأساطير النخبة، أساطير الذين تجمعوا حول الخلق الفني وما يحدثه من دويٍّ هائل في الثقافة والمجتمع. لنبين من فورنا أن هذه الأساطير قد نجحت في فرض نفسها على دوائر تتعدَّى دوائر المريدين المغلقة، بفضل عقدة النقص عند العامة والسلطات الفنية الرسمية. ولقد شكَّل عدم الاستيعاب العدواني من قِبل الجمهور والنقاد والممثلين الرسميين للفن لشاعر مثل رامبوورسام مِثل فان غوغ، وما أحدثه عدم الاستيعاب هذا من نتائج وخيمة، خصوصًا على هواة الجمع والمتاحف، وكذلك عدم الاكتراث للحركات الجديدة من انطباعية وتكعيبية وسريالية؛ لقد شكَّل هذا دروسًا قاسيةً للنقاد والجمهور وتجار اللوحات وإدارات المتاحف وهواة الجمع. أما اليوم فخوفهم الوحيد هو ألا يتقدموا كثيرًا، ألا يكتشفوا في الوقت المناسب العبقرية التي تختبئ وراء عمل لا يُفهم للوهلة الأولى. ربما لم يكن الفنان قط أكيدًا مثلما هو أكيد اليوم من أنه كلما كان جسورًا، خارجًا على التقاليد، عابثًا، غير مفهوم، كان معترفًا به أكثر ومحمودًا ومعززًا ومعبودًا. وقد بلغ الأمر في بعض البلاد مبلغ تأسيس حركة أكاديمية مقلوبة، هي أكاديمية «الطليعة»، تجعل كل خبرة فنية لا تأخذ هذه الامتثالية الجديدة بالاعتبار عُرضة للخنق والإهمال.
أسطورة الفنان اللعين، التي افتتن بها القرن التاسع عشر، لم تَعُد رائجة في هذه الأيام. منذ مدة طويلة والمبالغة والإثارة لم تلحقا ضررًا بالفنان، لا في الولايات المتحدة خصوصًا، ولا في أوروبا الغربية عمومًا. وإنما بات مطلوبًا منه اليوم أن ينفق مع صورته الميطيقية بحيث يكون غريبًا غير مفهوم وأن «يأتي بالجديد». وليس كالفنِّ ميدان يتحقق فيه النصر المطلق للثورة الدائمة. بعد الآن، لم يَعُد بالإمكان القول أن هناك أشياء غير مسموح بها: كل بدعة صار يُحكم عليها سلفًا بأنها عمل من أعمال العبقرية ومساوية لإبداعات فان غوغ أو بيكاسو، سواء أكان إعلانًا ممزقًا أو علبة سردين موقعة من فنان.
لقد بلغت هذه الظاهرة الثقافية من الأهمية مبلغًا عظيمًا لم يَعُد يوجد معه توتر بين الفنانين والنقاد والهواة والجمهور، ربما لأول مرة في تاريخ الفن. لقد أضحى كل شيء متفقًا عليه دائمًا، وحتى قبل أن يُخلق عمل جديد أو قبل أن يُكتشف فنان مجهول. شيء واحد فقط يجب أخذه في الحسبان: لا تخاطر يومًا بالاعتراف بأنك لم تفهم أهمية خبرة فنية جديدة.
عن ميثولوجية النخبة الحديثة هذه، سوف نقتصر على بعض الملاحظات. نشير أولًا إلى الوظيفة «الافتدائية» التي تنطوي عليها «صعوبة» كالتي نقابلها في أعمال الفن الحديث خصوصًا.
في الأساس، الافتتان بالصعوبة، لا بل بعدم قابلية فهم أعمال الفن، ينمُّ على شهوة الكشف عن معنى للعالم وللوجود البشري، معنًى جديد، سري، غير معروف حتى حينئذٍ حيال الغامض نحلم بأن نصبح «مريدين»، بأن نصل إلى احتراق المعنى الخفي لكل هذا التخريب للغة الفنية، لكل هذه الخبرات «الأصلية» التي تبدو، لأول وهلة، وكأنها لم يَعُد فيها شيء مشترك مع الفن. الإعلانات الممزقة، القماشات الفارغة، المحترقة والمحفورة بالسكين، «الموضوعات الفنية» التي تتفجر في أثناء افتتاح معرض اللوحات الفنية، المشاهد المرتجلة حيث يُقترع على أدوار الممثلين؛ كل هذا يجب أن يكون له معنًى، تمامًا مثل بعض الكلمات غير المفهومة التي يفوه بها «فناغان ويك»، ويرى فيها المريدون أنها محمَّلة بقيم كثيرة وجمال غريب عندما يتضح أنها مشتقة من كلمات إغريقية جديدة (نيواغريقية) أو سواحلية، مصحفة بأحرف ساكنة مضللة وغنية بإشارات سرية إلى توريات ممكنة عندما تُلفظ بسرعة وبصوت عالٍ.
صحيح أن جميع الخبرات الثورية الأصلية في الفن الحديث تعكس جوانب معينة من الأزمة الروحية أو بكل بساطة أزمة المعرفة والخلق الفني. إلا أن الذي يهمنا هنا هو أن «النخبة» تجد في الشطط وانتفاء الفهم عن الأعمال الحديثة إمكانية غنوص استسراري. أن هذا الذي يُعاد بناؤه الآن ابتداءً من الأنقاض والألغاز لهو «عالم جديد»، عالم يكاد أن يكون عالمًا خصوصيًّا، مطلوبًا لذاته ولبضعة مريدين نادرين. لكن مكانة الصعود وانتفاء الفهم سرعان ما بلغا مبلغًا صار الجمهور معه محكومًا بدوره بأن يطالب المشاركة في الاكتشافات الجديدة، اكتشافات النخبة.
ليس لأزمة الفنون الحديثة بموضوعنا غير صلة فرعية. لكن مع ذلك يجب علينا أن نتوقف لحظة عند وضع الأدب ودوره، ولا سيما الأدب الملحمي الذي يتصل بالميثولوجيا وأوجه السلوك الميطيقي. نحن نعلم أن القصة الملحمية والرواية، مثل سائر الأجناس الأدبية الأخرى، إنما هم استطالات للسرد الميثولوجي، على صعيد آخر، ولأغراض أخرى. في الحالتين، يتعلق الأمر برواية قصة ذات مغزى، وسرد سلسلة من الحوادث الدرامية التي حدثت في ماض بعيد جدًّا. لا جدوى من التذكير بالسياق الطويل والمعقد الذي حوَّل مادة «ميثولوجية» إلى «موضوع» رواية ملحمة، ما ينبغي أن نُبينه هو أن النثر، والرواية خصوصًا، قد اتخذ في المجتمعات الحديثة نفس المنزلة التي شغلتها تلاوة الملاحم والقصص في المجتمعات التقليدية والشعبية. أكثر من هذا، من الممكن استخلاص المعنى «الميطيقي»، لبعض الروايات الحديثة، إذ يمكننا البرهنة على البقاء الأدبي للموضوعات الكبرى والشخصيات الميثولوجية. (يتضح هذا، على وجه الخصوص، في الموضوعة الاستسرارية المتمثلة في الامتحانات التي يتعرَّض لها البطل-الفادي وصراعه مع الهُولة، وفي ميثولوجيات المرأة والثروة). في هذا المنظور، لعلنا نستطيع القول أن الهوس الحديث بالروايات ينم على شهوة الاستماع إلى أكبر عدد ممكن من «القصص الميثولوجية» التي نُزع عنها طلاء القداسة أو المتخفية تحت أشكال «دنيوية».
واقعة أخرى ذات أهمية: الحاجة إلى قراءة «القصص» والروايات التي قد ندعوها بالنموذجية، ما دامت تجري وفق نموذج تقليدي. مهما كانت الأزمة الحالية التي تجتازها الرواية خطيرة، تبقى الحاجة إلى ولوج هذه العوالم «الغريبة» ومتابعة تقلبات «قصة» تبدو وكأنها ذات طبيعة مشتركة مع الشرط البشري، وبالتالي غير قابلة للاجتزاء. هو ذا مطلب صعب التحديد هو، في نفس الوقت، شهوة الوصال مع «الآخرين»، و«المجهولين»، ومقاسمتهم دراماتهم وآمالهم، والحاجة إلى تعلم ما قد حدث. قد يصعب علينا أن نفهم كائنًا بشريًّا لم تفتنه «حكاية» أو سرد لحوادث هامة أو رواية لما حدث لأناس حُرموا من «الحقيقة المزدوجة» لشخصيات أدبية (تعكس في نفس الوقت الحقيقة التاريخية والسيكولوجية لأعضاء في جمعية حديثة ويمتلكون قوًى سحرية لخلق خيالي).
لكن «الخروج من الزمان» الحاصل بالقراءة — ولا سيما قراءة الرواية — هو أكثر ما يقرِّب وظيفة الأدب من وظيفة الميثولوجيا. والوقت الذي «نحياه» في قراءتنا لرواية ليس قطعًا هو الوقت الذي نستعيده في مجتمع تقليدي بالاستماع إلى أسطورة. لكن، في إحدى الحالتين كما في الأخرى، «نخرج» من الزمان التاريخي والشخصي ونغوص في زمان خرافي، غير تاريخي. هنا يقف القارئ أمام زمان غريب خيالي، تتفاوت إيقاعاته بلا حدود، ذلك أن لكل حكاية زمنها الخاص، النوعي والحصري. الرواية لا تبلغ الزمان البدئي، زمان الأساطير، لكن الروائي بمقدار ما يحكي لنا قصة قريبة من الواقع يستخدم زمانًا تاريخيًّا ظاهريًّا، لكنه مع ذلك زمان مكثف أو ممدد، وبالتالي زمان يتمتع بجميع حريات العوالم الوهمية.
في الأدب، نستطيع أن نتبيَّن حتى على نحو أشد من سائر الفنون، تمردًا على الزمان التاريخي، وشهوة إلى بلوغ إيقاعات زمانية أخرى غير التي نضطر إلى العيش والعمل فيها. ولعلنا نتساءل إن كانت شهوة تجاوز الزمن الخاص والشخصي والتاريخي، والغوص في زمن «غريب»، سواء أكان زمنًا وجديًّا أو وهميًّا، سوف يُقضى عليها نهائيًّا. وما دامت هذه الشهوة موجودة، يمكننا القول أن الإنسان الحديث ما زال يحتفظ ببعض من بقايا أوجه «السلوك الميطيقي» على الأقل. وتتبدى آثار مثل هذا السلوك الميثولوجي أيضًا في شهوة استعادة التوهج الذي به عشنا أو عرفنا شيئًا للمرة الأولى، استعادة الماضي البعيد، عصر غبطة «البدايات».
مثلما كان يجب علينا أن ننتظر هنا أيضًا، أنه نفس الصراع ضد الزمان، نفس الأمل بالخلاص من عبء «الزمان الميت»، من الزمان الذي يسحقُ ويقتلُ.