اليقظة
فليحيا الاستقلال التام!
فلتحيا الحرية!
فلتعشْ مصر حرة مستقلة!
فليحيا الوطن!
انتبهنا يومًا على وقع هذه الأهازيج غير المألوفة، التي سرعان ما اهتدت إلى مصبها في القلوب، كالماء يفيض فيتدفق على منحدر هُيئ له منذ أجل مديد.
الأفواج، أفواج المتظاهرين، تتقاطر من كل صوب، والأعلام التي طال عليها العهد في الحقائب تخفق فوق الرءوس خفوق الأَلْوِيَة المنتصرة، وهتاف المئات والألوف ينتظم متجمعًا في نبرة واحدة وقياس واحد، كأنه من صوت واحد ينطلق. والأصداء الشائعة يصدمها هنا وهناك ترجيع المواكب الجائبة أنحاء المدينة في هرج وتهليل، والجو يدوي بارتطام الأصوات، وقرع الطبول، وعزف الآلات، وزغردة النساء بين الهتاف والتصفيق.
وتمشت روح النشوة إلى الضيف والنزيل، فأذابت ما بين الأجناس والشعوب والمذاهب من جليد، وألغت حاسة التفرق وسوء التفاهم ضامَّة النفوس كما في اعتناق من التعاطف وحسن الوئام.
لمن يهتف الأجانب؟ وأي الألوية ينشرون؟ وعلامَ تنثر أياديهم الرياحين وفرائد العطور؟!
أَتُرَاهم يحتفون بعيد الوطنية الشاملة لظهور طلائع الوطنية عند شعب يستفيق؛ فتحييه حتى جنود الإنجليز وضباطهم بالإشارة والتلويح، ويحييه الجميع بالأصوات والألوان والأزهار؟
نعم، في ذلك اليوم من أواسط شهر مارس سنة ١٩١٩ وقد عبق الهواء ببشائر الربيع، ونَوَّرت البراعم الزهية على الغصون، وسرت في الأجساد نفحة التجديد كرسول من حياة الأرواح؛ في ذلك اليوم الغني بتنبه الأرض بعد هجود الشتاء، استيقظت أُمَّة الوادي الجاثم بين البحر والصحراء.
استيقظت الأمة وهتفتْ؛ فإذا في صوتها غضبة الأسود، ومفاداة الأبطال، وعزم الرجال، ومرح الأطفال، وحنو النساء، وصدق الشهام.
•••
يا للرعشة العجيبة تعرو النفس لنداء الحماس والاستبسال! إن القلب عنده جازع والطرف دامع، أمام مشاهد الفوز ووراء نعوش الضحايا على السواء.
وكأني خلال الألفاظ المتكررة في الفضاء المجوف، سمعت مصر الفتاة تقول: لقد كنتَ أيها القطر، مسرحًا خاليًا منذ أجل طويل، مسرحًا زيناته هذه السماء الزرقاء، وهذه الصحراء العفراء.
وهذا الليل الناعم السحيق المغري إلى تلمُّس الأسرار.
وهذه الشمس المشرقة أبدًا كمجد لا ينقضي.
وهذه الهياكل وما انتصب فيها واضطجع والتوى.
وهذه التماثيل الشواخص للذين عاشوا ولن يموتوا من آلهتي وعظمائي.
وهذه الآثار التي تركها الزمان الوثاب أوعيةً كبيرة تدخر أحلامًا لا تُدْرَك ورؤى لا تُمس.
ونيلي هذا، شاهد العصور المتابع سيره بلا انقطاع ولا ملل.
كُلُّكِ، يا هذه الأجواء والمروج والبقايا والأمواه، إنما كنتِ مسرحًا خاليًا ينتظر.
لقد مللتِ شلال الذراري المتلاحقة في ربوعك صامتة خانعة تجهل اسم الأمل والقنوط.
وانتظرتِ طويلًا طويلًا، انتظرت صوتًا يليق بعلواء تاريخك العظيم.
وها قد آن الأوان فهببتُ فاسمعي!
اسمعي صوتي يخاطب الرعاة بين النخيل، والكهان في الهياكل، والفراعنة والبطالمة في البلاطات والقصور.
يخاطب الغُزَاة والفاتحين من عتاة العهد القديم والعهد الجديد.
قائلًا: إن كل ما حلَّ بي من نكبات وعلل أخرسني حينًا، ولكنه لم ينل من حيويتي!
لقد استيقظتُ، أيتها الأمم، استيقظ الشعبُ الصريع المستعبَد!
استيقظ وأرسل كلمته الأولى: كلمة أسنى من الربيع، وأبقى من الأرض، ترنُّ في قلبي فأزيد وثوقًا بما أريد وأبتغي.
كلمة هي تتمة للماضي، وعهد للمستقبل، كلمة هي المنبه، والغاية والوسيلة.
كلمة عميقة رحيبة كالحياة: الحرية.
•••
ما هي الوطنية؟ كيف تشب فجأةً فتغزو القلوب وتثير فيها جنون العواطف، وتنمي في جوانبها نبتة التأمل والتبصر والإرادة؟!
في مواكب الحماسة تسير المخدرات سافرات، وفي الألوية تتلاثم الأهلة والصلبان، ويتحاذى من الجمهور الرفيع والوضيع والوطني والأجنبي، ممثلين جميعًا إمكان التآخي بين بني الإنسان في التفاهم العام وإعطاء كل ذي حق حقه.
واستيقظتْ شخصيتي الشرقية بفعل ذلك التأثير، وكما يحملنا أحيانًا سحر الأنغام إلى بقاع مجهولة؛ سارت تلك الشخصية إلى أقاليم بعيدة وراء مترامي القفار.
اجتازت فلوات الظمأ والخوف والوحشة والسراب والسكون، ومرت بأبناء المشرق في أوطانهم في المدن والعواصم، في السواحل والجبال والأودية، عند القبائل المقيمة وعند العرب الرُّحَّل.
مرَّت تصيح في كل قوم: وأنتم ما حالكم يا أبناء الشمس؟ أما سمعتم قعقعة القيود المتكسرة في الوادي الأخضر؟! لقد تحطمت القيود الدهرية وأخذت تتساقط على وقع أناشيد الحرية. شعب الوادي يهتف ويثبت حقه على الحياة والحرية؛ ألا فاصغوا إلى صوته فقد ملأ المروج والبحار! وأطلقوا أصواتكم من حناجرها فقد انقضى وقت الرقاد!
•••
أيها الشرق!
يا شرقي الكبير الرهيب الرءوف.
يا شرق الطرب والحميا والنخوة والشدة العاصفة كريح السموم!
إنك لتتجمع تحت نظري كلوحة مصورة؛ فأرى منك الفقر، والجهل، والاضطراب، والاحتدام، والانفعال، ليس فيك فيض الثروة ومعجزات الحضارة، ربوعك خالية مما لدى الأقوياء من صروح ومعاهد ومصارف ومعامل، ربوعك خالية من المتاحف والخزائن والودائع المجلوبة من قصي الأنحاء. إنك جاهل فقير مُفَكَّك الأوصال!
ورغم ذلك فأملي بك عظيم كالحياة والحرية!
أية قوة هذه التي تشدُّ وَثَاقِي إليك؟
لماذا أهوى من لغتكَ الشَّدو الشجي النوَّاح، والنبرة السريعة الحادة، والهتاف الأبيَّ الحار؟ ماذا تلمس فيَّ هذه اللغة العربية التي تنثرها شعوبك في مجاهل القفار، وعلى الجبال والهضاب، وعلى سواحلك وأنهارك وجداولك، ووراء القطعان في مروجك، وقرب أنين نواعيرك؟
أية وديعة لها عندي حتى تثير لهجاتها فيَّ البكاء الحنون، كبكاء اللقاء بعد فراق طويل؟
طويتكَ الواسعة الخفية تستهويني أيها الشرق، وتأسرني أنا الذرة الصغيرة بين ملايين الملايين من ذراتك، وتمرج فيَّ كل كيانك بصحاراه ورياضه، بشواهقه وشواجنه، ببداهته وعجزه، بفضائله ونقائصه، وبالقلوب المضطرمة فيه والنوايا الخالصة بين أبنائه.
ألا نظرةً إلى هذه السماء المخيمة عليك ببهاء العَسْجَد واللجين والأرجوان!
إنها الجو الوحيد الذي أظلَّ الرسل، وما رَضِيَتْ النبوات أن تنزل في غير هوائه.
إنك أيها الشرق، اصطُفِيْتَ لتكون أرض الأبطال ومنشأ الجبابرة.
لقد حقَّت لك الراحة ثلاثة قرون بعد ازدهار عشرات القرون، لقد حق لمدِّك السَّني المحسن أن يجاري ناموس الكون؛ فيتخاذل في جزر محتوم، ولكن ها قد آن أن ترتفع موجتك الجديدة وتمتد، ها قد جاء وقت النهوض؛ فإلى النهوض رغم النوائب والمثبطات، إلى النهوض.
حولك الأقوياء يتكافحون ويجاهدون ويغنمون، وهم رغم ذلك يَئِنُون في الظلام: «هناك فجر منتظر لم يلح بعد.»
وكيف يلوح الفجر قبل أن يستنير المشرق؟
أنت برج الفجر، أيها الشرق، أنت مزجي الأشعة.
فقم واعمل، قم وارقب من أي أنحائك يلوح مشعل الضياء.