تكلموا لغتكم!
حبذا غَيْرَة تبديها «جامعة السيدات» في بيروت على اللغة العربية.
وعلى ذكر اقتراحها «اللغة والوطن» تقول: إني دخلت منذ أيام مكتبة إيطالية صغيرة أبتاع بعض كتب جبرائيل دانو نتزيو، فأقبل صاحب المكتبة على صفوف الكتب يستخرج منها مؤلفات ذلك الجندي الشاعر الفرنساوية (لأن دانو نتزيو وضع كتبًا بهذه اللغة) وتراجم كتبه الإيطالية إليها. وإذ طلبت المؤلفات الإيطالية في الأصل لا منقولة سأل ما إذا كنت أريدها لنفسي أم لغيري.
قلت: «بل أريدها لنفسي.»
قال وقد أبرقت أَسِرَّتُه: «إذن تعرفين الإيطالية؟»
وإذا أَجَبْتُ بالإيجاب أخذ يتكلمها، وقال بلهجة المتوسل: «لماذا لا تتكلمينها إذن؟ أعلم أن الفرنساوية أكثر شيوعًا في هذه الديار، وأنها هي المصطلح عليها في الحوانيت والأندية، ولكن ماذا يمنعك عن استعمال لغتنا مع أبنائها؟ الفرنساوية جميلة، ولكن آه، ما أجمل الإيطالية في فم من يحسنها! وما أحبها إلى من اعتادها! هي لغة الموسيقى والفن والقلب والشباب والربيع، وكل لفظة من ألفاظها تستحضر شواطئ إيطاليا وآكامها وخضرتها وأزهارها، وألواح متاحفها، ولياليها الغريدة، وقلبها الخصيب وروحها الخالد …»
وظلت كلمات الشيخ صاحب المكتبة وصورة وجهه المفتون بوطنه في ذاكرتي حتى المساء، إذ اجتمعت بطائفة من كرام السوريين رجالًا ونساء، فأخبرتهم عما سمعت في ذلك الصباح، وتمنيت أن يكون لنا نحن الشرقيين مثل ذلك التعلق باللغة التي فكر فيها آباؤنا، وعبروا عن أفراحهم وآلامهم وآمالهم وجهادهم.
فوافق الحاضرون. إلا أن أحدهم — وهو من «الطراز الحديث» المكرر ثلاثًا — فتح فاه فتحة أنيقة تليق بالقرن العشرين، وتكلم قائلًا: «نعم، ولكن لفظ العربية صعب علينا؛ فهناك حروف خشنة مثل (محاولًا إتقان اللفظ) اﻟ … عين واﻟ … حاء واﻟ … خاء، يا إلهي! كل هذا يمزق الحلق فضلًا عن ثقله على السمع.» وطفق حضرته يتكلم الفرنساوية جاعلًا الراء منها غينًا غنَّاء.
فتبادر إلى ذهني أن المرحوم الدكتور شميل قبل وفاته بشهور قليلة حضر درس الكونت دي جلارزا أستاذ الفلسفة يومئذ في الجامعة المصرية، وكانت المحاضرة في فلسفة أرسطو، فمضت عشر دقائق تقريبًا والدكتور يصغي بانتباه تام، إذ ذاك لفظَ جناب الكونت كلمة «الطبيعة» ثلاث مرات في جملة واحدة، فمال نحوي الدكتور شميل وسأل: «أوطني هذا المحاضر أم أجنبي؟»
فأجبتُ: «هو مستشرق إسباني.»
ذكرتُ تلك الحادثة متعجبة كيف أن أناسًا ولدوا في جرود لبنان، أو في أنجاد سوريا، أو في سهول مصر، يجدون اللغة «خشنة يا إلهي! تمزق الحلق»؟! ويحسبون من يتكلمها في المجتمعات «فلاحًا». في حين أن أجنبيًّا يتقن لفظها ويحسن الإفصاح بها في موضوع فلسفي عويص. يحسن ذلك إلى درجة إيهام رجل كالدكتور شميل، وحمله على التردد مدة عشر دقائق تقريبًا، قبل أن يقدم على الاستفهام هل ذلك الأجنبي من أهل اللغة أم من محبيها!
تكلموا ما شئتم من اللغات يا بني أمي! ولكن لا تنسوا لغتكم.