رسالة وحاشية
(١) نقد الكتب
أستاذي الدكتور العلَّامة
أشكر لك المقال الممتع الذي كتبته عن نقد الكتب في عدد فبراير، وكان عليَّ أن اصمت تهيبًا عند لهجته الصادقة. على أنَّ لديَّ شيئًا أضيفه.
لم أعنِ «مجلتكم» في كلامي عن قصور الصحف، ولا عنيت سواها من المجلات المنتبهة لما فرض عليها، فتحدثنا كل شهر عن كتب ونشرات ومجلات وأعداد ممتازة من الصحف بكلام كله إفادة، فهي من هذه الوجهة ترضي الواجب العلمي الذي تعمل للقيام به بكرامة وأستاذية.
أما ما ذكرته عن الصحف الأجنبية فأستأذنك بألا نتباحث فيه، لتلك الصحف شأنها في التفاهم مع جمهورها وإرضاء بيئتها، إننا بعيدون عنها، ولأغراضها ودخائلها جاهلون. أنتَ تعرف منها بالاختبار بعض أساليبها، أما أنا فأجهلها تمامًا، فإذا حدَّثتُ عنها كنتُ دعيةً متطفلة. وعلى كل، فليس كل سارٍ في الغرب جديرًا بالاقتباس في الشرق دون مراعاة الحاجة المباشرة.
وإنما أسألك: كيف يمكنني، أنا الجمهور أن أطلع على حركة التأليف والترجمة في البلاد، في مختلف الموضوعات الفلسفية والعلمية والاجتماعية والتمثيلية والأدبية … إلخ؟ كيف يمكنني أن أعلم بصدور ما يهمني من الكتب؛ سواء كان اهتمامي بها اضطرارًا للعمل وكسب الرزق، أم للفائدة الفكرية، أم للتفكهة وإرضاء للرغبة؟ إن رسائل الأخبار الكبرى هي الصحف السيارة، وكل الغاية منها إيصال الأخبار إلى الجمهور وإطلاعه على ما يجري في بيئته وفي العالم من الشئون والحوادث. فإن لم تنقل لي تلك الصحف ما وُجدت لنقله ونقل نظائره، فمن ذا يكون الرسول بين المؤلف الذي كتب للجمهور، وبيني أنا الجمهور الذي أتطلع إلى ما ينشر لي مؤلفي؟!
تشاجرت زينب بنت علي في الخرنفش مع جارتها المدعوة حنيفة بنت أحمد السقا، فتضاربتا وجرحت إحداهما الأخرى جرحًا طفيفًا في يدها تقتضي معالجته يومين كاملين.» أو «سطا اللصوص ليلًا على عزبة «ما أدري إيه»؛ فاستيقظ بعض الأهالي ففر اللصوص ولم يوقف لهم على أثر … إلخ إلخ.»
فأكرم علينا يا أفندم، دام فضلك، برأيك في نشر أمثال هذه الغرر؟
قد يكون من واجب الصحافي أن يفسح صحيفته لما هو أتفه من هذا، فكيف بالوقائع الفكرية والأدبية التي هي من أصدق مقاييس تطور الأمة؟
أقول: إذن إن الصحافي يتحتم عليه — وليس له في ذلك الخيار — يتحتم عليه أن يذكر في صحيفته كلَّ كتاب يرسل إليه، أما الركون إلى الإغضاء فإجحاف في حقوق المؤلف، إجحاف في حقوق القارئ، إجحاف في حقوق الجمهور الذي له أن يطلع على قوائم ما تنتجه أفراده، وإجحاف في حقوق الصحافة ذاتها التي هي بذلك السكوت تسجل على نفسها القصور وعدم المبالاة بما لا يجوز إغفاله.
أفهم، وأعلم بالاختبار، أن النقد عمل شاق دقيق يستغرق وقتًا طويلًا ويتطلب معرفة واسعة، وذوقًا مهذبًا، وبصيرة شفافة، وإحساسًا حيًّا يفهم العدل كما يفهم الجمال وكما يفهم أنظمة الحياة؛ فهو لذلك غير ميسور لكلِّ من ادعى حمل لوائه. والصحف في شاغل لانهماكها بالمشاكل السياسية والقومية، فلا أقل من أن يؤدوا هذا الواجب، وبأن يذكروا باختصار اسم كل كتاب يُهْدَى إليهم بلا تحيز ولا استثناء، مع اسم مؤلفه وموضوعه وثمنه والمكتبة التي يباع فيها، حتى إذا شعر كاتب أو قارئ باندفاع خاص في سبيل الكتاب كتب ما شاء في نقده أو تمحيصه أو معارضته أو تحبيذه.
الصحافة سجلٌّ الوقائع اليومية والمرآة التي ينعكس عليها من نفسية البيئة الصورة المتتابعة التولد، فأي الوقائع وأي الصور تفضل ثمرات المطابع ونتاج الأذهان والقلوب؟ بل يوم تقومون، أيها المفكرون، تزنون كفاءة الأمة وتحصون خطاها في سيرها إلى الأمام، فهل لكم من وثيقة أصدق من الكتاب والفن والمتحف؟ كلا! وذاك ما تهملون!
والآن وقد فرغت من الخصومة التي يحسبها سادتنا الرجال عنصرًا ملازمًا للمزاج النسويِّ، أعود ضاحكةً من قلمي الذي تمتع لحظة باستقلاله التام، وقام يناطح صخرة الصحافة المنيعة — أستغفر الله! عنيت صرح الصحافة المنيع.
(٢) «الرأي العام» المصري في عهد محمد علي باشا
حاشية
وهكذا في رسالةٍ وحاشيتها عليَّ أن أجابه العلم في شخص الدكتور صروف، والصحافة في … صرحها المذكور أعلاه، والتاريخ في شخص حسين أفندي لبيب أستاذ التاريخ في مدرسة «القضاء الشرعي»، فقد أنكر عليَّ حضرته قولي: إن إحدى الفوائد التي أخذت مصر تجنيها بعد جلاء الفرنسويين هي بدء تكوُّن «القومية»؛ لأنه يرى أن «فشو روح القومية واستفحال الرأي العام مظهر من مظاهر رقي الأوروبيين في القرن التاسع عشر.»
لقد غنمتُ من كتابات الأستاذ، لا سيما من كتابه عن «المسألة الشرقية»، فوائد تاريخية جمة؛ لذلك أقول: إني لو كان لي الحظ أن أكون من تلاميذه لكنت اجترأت أن أسأله في «حصة» اليوم أو بعدها، ما إذا كان الرأي العام الأوروبي قد اشترك اشتراكًا أصح كثيرًا من اشتراك «الرأي العام» المصري على عهد محمد علي، في جميع الحوادث التاريخية العصرية.
أهو «الرأي العام» الإنجليزي الذي يبايع ملوك إنجلترا، مثلًا؟ أم هي فئة من الموظفين والكبراء تقوم بإتمام العادة المرعية والتقليد المستحكم في مكان معين من عاصمة إنجلترا، فيعد سكوت الجماهير في إنجلترا وفي المستعمرات الشاسعة مبايعة وتسليمًا؟
هذه صورة «الرأي العام» في ما هو عادة وتقليد، فما هي صورته في الانقلابات الخطيرة؟ أهو «الرأي العام» الذي أَوْجَدَ الجمهورية في الولايات المتحدة، وأوجدها في أمريكا المتوسطة والجنوبية؟ أهو «الرأي العام» الذي دعا إلى الجمهورية الفرنساوية الأولى والثانية والثالثة؟ أهو «الرأي العام» الذي قلب الحكومة الروسية؟ يقال: إن ألمانيا لو استفتيت اليوم لغلب فيها الحزب القيصري، ورغم ذلك فأفراد قلائل يديرون دفة الجمهورية فيها، ويوم يتكلم التاريخ سيحدثنا عن «ثورة» أمريكا وفرنسا وروسيا وألمانيا فنحذق ما يقول؛ لعلمنا أن كلَّ انقلاب يبدأ دوامًا برأي أخص أي: رأي فرد، يصير بعدئذ رأيًا خاصًّا أو رأي أفراد أو زعماء يسيطرون على «الشعب» بنفوذهم أو بالاستهواء أو بالإرهاب، ويتكلمون باسمه، وهو أحب ما عليه أن يذكر ويحسب في الوجود، في حين لا مقدرة له على التدقيق والتمحيص. وإذا وجد في «الرأي العام» بعض العناصر المتبصرة المدركة أليس معظمه مسيرًا معالجًا كآلة تدفع فتصيح، ثم تجذب فتصمت؟ وسيكون ذلك أبدًا لأنه يستحيل ترقية جميع الناس إلى مستوى واحد.
فلماذا لا يجوز لمصر التعبير المستعمل في البلدان الأخرى لأحوال متشابهة؟ وتلك الأقلية التي انتبهت سواء عن استياء من حكومتها، أو طمعًا بمصلحة خاصة، أو بإيعاز من محمد علي، لو لم تنتبه لمقدرتها على إزعاج المماليك ترى أكانت تزعجهم فتغلبهم ثم تلاشيهم؟ وأكان محمد علي ينجح وحده كما نجح بأعوانه؟ وتلك الحلقة التي التأمت يومئذ حول الوالي وأيدته فكانت النواة الأولى في تكوين الوحدة المصرية الحديثة؛ أي الأسماء نطلق عليها سوى اسم «القومية» الآخذة في التكون؟
هذا، وإني لأرجو الأستاذ الجليل أن يظل «واقفًا لنا بالمرصاد» في سبيل تحري الصواب في الوقائع التاريخية ما أمكن؛ لأنه بذلك يتم واجبه العلمي وينيلنا الفائدة المطلوبة.