لبيكَ يا مسيو فانبير!
المسيو فانبير هو الكاتب الأجنبي الذي يكتب لمجلة بلجيكية عن حركة الأدب في العالم، وإذ همَّ بالكتابة عن الآداب العربية وجد أنه في أمرها على جهل تام؛ فبعث إلى الدكتور طه حسين يشكو جهله، وزود الشكوى بعشرة أسئلة يليها «ملاحظة»، وجهها الدكتور في جريدة «السياسة» إلى الأدباء وحملة الأقلام، ولا أدري هل هم ردوا عليها فهيئوا لمسيو فانبير مادة كافية لمبحثه عن الأدب العربي.
تعرف أوروبا شيئًا غير يسير عن آداب: الهند، والصين، واليابان، والفرس، والترك، والأرمن، ولا تعرف منا نحن إلا ما يحدثها به المستشرقون عن آدابنا القديمة، وبعضهم ذو فضل عميم، أما عن آدابنا الجديدة فيحدثها كتابها وسياحها الذين يمرون بالشرق فيرونه كما يريدونه أو كما يتخيلون، ويحدثها بعض محاسيبها فيذكرون لها ما يهمها مباشرة، وقد يؤولون ويكيفون لتتوافق الأحاديث وهوى المصلحة.
وأدباؤنا الكاتبون باللغات الأجنبية يعنون بالتعبير عن شخصيتهم، ويعالجون الموضوعات العامة لتأييد مذهب ما؛ فنظل مجهولين إلا من الذاكرينا الوقت بعد الوقت بما يحمل على الحكم بأن كل ما لدينا فتيتُ يقع عن موائد الغير، أو هم يفخمون بعض الحوادث والمعاني والأشخاص ويضخمونها ضاربين صفحًا عن مركزها المحدود في عالمنا الأدبي العام.
فلا عجب أن يشعر الكاتب الأجنبي بالجهل والقصور إذا هو همَّ بالبحث الجدي، أما الملاحظة فأوردها قبل المسائل لأهميتها؛ قال: «ليست هذه المسائل دقيقة، وإنما هي أعلام تبين لك الغرض الذي أقصد إليه من هذا البحث، ولك الحرية المطلقة في أن تفصل ما استطعت، وتبسط كل آرائك في المسائل التي ألقيت عليك.»
وقد صدق مسيو فانبير؛ فليست هذه المسائل «دقيقة» وإنما هي الخطوط الكبرى الراسمة صورة الآداب، وهي عندي أهم من «الدقة»؛ إذ رغم ما نريقه كل يوم من مداد، فإننا لم نوضح بعد ما قد توضحه الأجوبة الصغيرة عن هذه المسائل، وكثيرون منا لم يفكروا فيها، وفي بعض ما يكتبه أفراد من صفوة كتابنا، دليل على أن هذه الخواطر لم تمر في أذهانهم بمثل هذا الاطراد. ولا لوم، وإن جاز اللوم فهو يقع أولًا على الصحف الإفرنجية التي لا تعنى عندنا بغير الجانب السياسي وتغفل ما عداه، ويقع بعدئذ أو قبلئذ، على الصحف العربية التي لا تهتم برسم صورة عامة من آدابنا. وبعد وقد زلَّ بي القلم إلى ما يغضب الصحف العربية والإفرنجية جميعًا، فلأمضين في الجرأة فألوم الدكتور طه حسين الذي يشغل صحيفة الأدب الأسبوعية في «السياسة» بأبحاث ممتعة عن الشعراء الأقدمين، ويتغاضى عن الأدب العصري فلا ينيله كل ما هو جدير به من البحث، وهنا أسكت وبي شبه ذعر أن تنقضَّ عليَّ الصواعق من كل صوب.
ومن ثم أجيب عن المسائل؛ لا لأرسلها إلى المسيو فانبير، بل لأهتدي إلى ما يحب أن يعرفه الكاتب الأجنبي، ولأرسم لذاتي صورة واضحة على قدر الإمكان من هذه الموضوعات المتشابكة.
الجواب: لا، يا سيدي المسيو فانبير؛ فذلك التفصيل يستغرق حياتي الصغيرة كلها!
الجواب: شعر شعرائنا يُستمدُّ الآن من ينابيع شتى لا من ينبوع واحد؛ فهناك الشعر المستمد من الشعر العربي القديم يتحداه ويعارضه بالوصف والتشبيب والمجاز، وهو قلما استحسن الجديد، وشعر آخر يستمد من القديم كذلك إلا أنه يتناول بعض المعاني العصرية ويلخص شيئًا من النزعات الشائعة، فيصبها في قوالب قديمة يحرص عليها جد الحرص. وهناك الشعر الجديد الصرف أي المستمد من المعاني الجديدة والانفعالات الجديدة والمعارف الجديدة (له)؛ فيصوغها في قوالب مبتكرة متفلتًا من القيود القديمة إلى تحدي الإفرنج في تعديل الأوزان وتنقيح القوافي. وهذا الشعر تختلف شعبه باختلاف معرفة أهله للغة الفرنساوية أو الإنجليزية أو غيرها، ولكن هاتين اللغتين بما نقل إليهما عن اللغات الأخرى هما الشائعتان.
الجواب: أما وجهته المعنوية فلم تبرز بوضوح حتى الآن، وإني لا أرى غرضًا مقررًا يرمي إليه بمجموعه أو في قطر من الأقطار، إلا كونه سائرًا مع الجيل الجديد من الشعراء إلى التحرر يومًا فيومًا من الأسلوب القديم والتعبير القديم والقيود الصناعية التي يتمشى عليها أنصار القديم آمنين. أما المؤثرات فأهمها الشعور بحاجة البلاد وآلامها، والشعور كذلك بجمالها وخلودها، يصحبه استفزاز العاطفة الوطنية، والتغني بحميد الصفات الشرقية، وتعظيم الشرق وتمجيد الحرية. ومؤثرات أخرى اكتسابية أتت عن طريق الدراسة والاطلاع على مبتكرات الغرب فلفتت الشعراء إلى ما هو جدير بعنايتهم وأغانيهم، وشرحت لهم بعض ما يخالجهم، ودلتهم على كيفية الإفصاح عنه. وعندي أن أظهر ميزة في أبناء اليوم أنهم يعتلجهم القلق أمام مشاكل العالم. أدركتهم حمى الحياة فهم يبحثون من المسائل، ويعون من معاني المجتمع والطبيعة، ويحسون من روح الوجود ما كان ولا يزال الجيل السابق غافلًا عنه. ومن الدلائل اعتقاده البادي في آثاره أن مشاكل العالم تحل «بالنصائح»، وأن ما نراه من التشويش والضجيج راجع إلى «عناد» الناس «وغرورهم»!
الجواب: لا أرى شيئًا من ذلك في مصر. لا يوجد هنا جمعية واحدة لا للشعر ولا للنثر، وهو أمر يؤسف له، وبي استعداد لألوم بسببه أحدًا ما، ولكني لا أدري إلى من أوجه الملام. أما سوريا فقد كان فيها جمعيتان أو ثلاث: إحداها «الرابطة الأدبية» في دمشق ورئيسها خليل بك مردم بك، لم تشتغل هذه الرابطة إلا سبعة شهور ثم انحلت بأمر الحكومة، وعطلت مجلتها لأن أحد أعضائها اشترك في حركة ثوروية، وألقى قصيدة اعتبرت مهيجة، فلم ينفسح لهذه الجمعية الوقت لترينا ميلها بجلاء، إلا أنها كانت تعنى بجدة المعنى في الشعر ومتانة المبنى، وتنقل إلى العربية شيئًا من آثار الإفرنج، وتتعهد النزعة الأدبية الحديثة وجانبًا من النقد الأدبي مع تمسك بأصول اللغة ومميزاتها. وقد تشتت الآن أعضاؤها، وما زالوا يعالجون كل ما يميل إليه بطبيعته من شعر وأدب ونقد.
وفي بيروت «عصبة الأدب» ورئيسها فليكس أفندي فارس، وغاية هذه الجمعية النهوض بالأدب العصري. لم تحلها الحكومة، ولكني غير واقفة على أعمالها كجماعة منظمة وإن اطلعت على آثار أفرادها المنخوبين رجالًا ونساء. وكان لها شبه لسان حال في جريدة أسبوعية يصدرها أحد أعضاء العصبة، وهي جريدة «الشعب» التي أوقفتها الحكومة منذ عامٍ ونيف.
وسمعت عن جماعة تشبهها في حمص، إلا أني أجهل مبلغ قوتها وأين هي من أعمالها ونشاطها، وقد حدثتنا الصحف عن «منتدى التهذيب» في بغداد الذي كانت فاتحة أعماله أنه أقام حفلة تكريم للأستاذ جميل صدقي الزهاوي.
وفي نيويرك «الرابطة القلمية» وعميدها جبران خليل جبران، ولسان حالها جريدة «السائح» النصف الأسبوعية، وميل هذه الرابطة جلي إلى التحرر من القيود الصناعية والبيانية في الشعر والنثر، وتسهيل قواعد اللغة والتصرف ببعض ألفاظها. وهو ميل يتطابق وحالتها المكانية والزمانية؛ فهي في ديار نائية تقول بالتحرر من الماضي والسير على منهج حديث في الأسلوب والتعبير، وكل آثارها قدوة ناطقة بميلها وغايتها وهي من هذا الوجه أوضح «جمعياتنا» الأدبية شخصية وأجلاهن نزعة.
تقسم الشعراء إلى أربع طبقات. الأولى: الشعراء الجاهليون، وهم الذين كانوا قبل الإسلام كامرئ القيس والأعشى. والثانية: المخضرمون، وهم الذين أدركوا الجاهلية والإسلام كلبيد وحسان. والثالثة: المتقدمون، ويقال لهم: الإسلاميون، وهم الذين كانوا في صدر الإسلام كجرير والفرزدق. والرابعة: المولدون، وهم من بعدهم كبشار بن برد وأبي نواس. والمراد بالعرب منهم أصحاب الطبقتين الأوليين؛ لأنهم نشأوا على عهد الجاهلية، وهم الذين يوثق بعربيتهم ويستشهد بكلامهم. والطبقة الثالثة منهم من عدها من العرب، ومنهم من عدها من المولدين لما وقع من اللحن في كلامهم، وهو الراجح. وجعل بعضهم الطبقات ستًّا. فقال الرابعة المولدون، وهم من بعد المتقدمين كمن ذكر. والخامسة المحدثون، وهم من بعدهم كأبي تمام والبحتري. والسادسة المتأخرون، وهم من بعدهم كأبي الطيب المتنبي وأبي فراس ا.ﻫ.
هذا ما جرينا عليه في تمييز الشعر العربي، وهو كما ترى تمييز تاريخي؛ أي: إننا ننظر إلى أطوار الشعر بالنسبة للزمان الذي عاش فيه الشعراء دون ما شعروا به وعبروا عنه أو كظموه، مما يتفق وزمانهم ووسطهم أو يسبقهما. ولا تنتظر مني، يا سيدي العزيز مسيو إليان ج. فانبير، أن أحدثك عما يدور في خلدي النسائي الصغير في ما يتعلق بهذه الأطوار، أو أن أجازف بوصفها على غير ما ألفنا؛ لأنك لو عرفت لغتنا الشريفة فتسنَّى لك أن تنظر في هذا الكتيب، لرأيتَ أني لم أفلح بعد في إزالة استياء الشيخ كاظم الدجيلي بسبب «العلواء عند العرب». أفلا يشق عليك أن أشتبك بسببك في خصومة أخرى من هذا النوع وفي موضوع أخطر وأعم مع الأستاذ مصطفى صادق الرافعي مثلًا أو مع الأستاذ جبر ضومط؟
ثلاثة قرون مرَّت على العالم العربي وهو ميت الأحياء، فلم يكن من أقوامه مجتمع ولا من لغوه صوت ورأي، ثم عاودته الحركة في القرن التاسع عشر، فنشأ أدباؤه وشعراؤه أقرب إلى تقليد القديم منهم إلى إبداع الجديد، وبذلك أوصلونا إلى حيث نحن. أما صورة الشعر الحاضرة … ولكن عليَّ أن أنتظر الأسئلة التالية.
الجواب: هو عصر النهضة والتجدد بما فيه من هدى وضلال، وجهل يتبختر وإدراك ينمو ويتعذب.
الجواب: كلمة «مذاهب» ليست هنا واضحة على ما يلوح لي، فلا أعلم منها ما إذا عنت الأقسام الأربعة التي اتفق الغربيون على جعلها أساسية في لغاتهم وهي: الشعر الليريكي أو الغنائي، والشعر الديدكتيكي أو التهذيبي، والدراماتيكي؛ أي المفجع، والأبيكي؛ أي القصصي الحماسي، أم تعني التطورات التي مرت بها هذه الأقسام في المذهب المدرسي والرومنتيكي والرمزي وما ينشعب منها؟
اسمح لي أن أذكرك، يا مسيو فانبير، بأن فردينان برونتير الناقد الفرنسوي يوم كتب عن «الرمزيين» قال: إن الآداب الفرنساوية منذ القرن السابع عشر تنقسم إلى ثلاث مدارس كبرى مقابلة لثلاث فنون مختلفة: المدرسة «المدرسية» ذات الأسلوب والنظم «الهندسي»، والمدرسة الرومنتيكية التي شغفت بالوصف فكانت «تصويرية»، والمدرسة الرمزية التي يخيل أنها استوحت «الموسيقى» وحاكتها. وكان لهذه المدرسة الفضل في مقاومة التعصب للقالب الشعري، الذي غالى فيه «البرناسيون» (وهم شعبة من المدرسة الرومنتيكية)؛ فانضوى تحت لوائها جميع الذين يطمعون في أن يجعلوا بيت الشعر الواحد معبرًا عن خواطر وعواطف، وفي عصر تشبث أهله «بالناتورالزم» فزيفوا الفن، وزعموا أنه قائم بنسخ الخطوط البادية للعيان، قام الرمزيون يعلمون النشء أن للأشياء روحًا نابضة وراء جمود الظواهر وحركتها.
وجميع ما بين أيدينا من شعر ونثر يا مسيو فانبير، مزيج من هذه «المدارس» الثلاثة، فعندنا الشعراء الذين يهندسون ويبنون (والشعر العربي ممتاز «بهندسته»)، ولهم من يفهمهم ولا يقدر سواهم، وينعت الذين لا يهندسون «بالخياليين» حتى ولو تكلموا عن الحديد والصوان. وعندنا الرومنتيكيون أو الذين يصفون بعض الأشياء والخوالج وقد تأثروا بالمذهب الغربي، ولهؤلاء جمهورهم أيضًا. وعندنا الذين يرون وراء الظواهر، ولهؤلاء القلائل أنصارهم من النشء في الغالب، وهذه النزعة هي البادية بنوع خاص في شعر «الرابطة القلمية» وفي بعض نثرها.
ويتلخص الأمر عندنا في نزعتين عامتين: «تنصر إحداهما الأدب القديم وتنكر الجديد، والأخرى تقبل من الأدب القديم والروح القديم ما هي في حاجة إليه وتعدو مع الحركة الحديثة. ويقول الأستاذ سلامة موسى ما مفاده أن الفرق بين الجماعتين غير واضح كل الوضوح، وإنما يمكن تلخيصه في أن أنصار القديم يقصرون درسهم على الأدب العربي والحضارة العربية، ولا يرغبون في الخروج عن حضارة قديمة جليلة أدت رسالتها إلى العالم إلا أنها لا تقوم بمطالب العصر. بينا أنصار الجديد في تطور مستمر يدرسون العلوم الحديثة والنظريات العمرانية والدينية وفروع الأدب الأجنبية التي لم يعرفها العرب؛ لذلك يعمد هؤلاء إلى الاختزال والسهولة ليتسع المجال لكل ما لديهم من القول.» وأنا أرى ضرورة وجود أنصار القديم قرب الآخرين؛ لأن عندنا جمهورًا لا يقوده غيرهم، ولأنهم حراس إرث الماضي.
وبين أفراد من هذين الفريقين مشاحنات كالتي قامت وتقوم في أوروبا بين مختلف النزعات الأدبية، وهي بين كتابنا تلذ لي جدًّا. وإنك قد تجد عند شاعر واحد من شعرائنا أثر المذاهب الشعرية الثلاثة دون أن يتغلب أحدها؛ لذلك وإن كانت النزعة الشعرية ظاهرة أحيانًا عند بعض أفراد الشعراء، فلا يتيسر تعريفها في المجموع باسم مطلق.
الجواب: أعتقد أن اللغة العربية الآن في بدء نهضة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الناطقين بها، ومن أهم دلائل هذه النهضة سيرها الحثيث، وهي تتناول شتيت المسائل بلغة جلية تطرح التطويل والتعقيد يومًا فيومًا، دون أن تفقد شيئًا من متانتها وروحها. جملة الكُتَّاب في هذا العصر أوضح وأصدق منها في أي عصر سبق، رغم كونهم لا يتلاقون دوامًا على ألفاظ التعبير؛ لأن ليس لنا مجمع لغوي يعنى بتقرير ألفاظ نتواطأ جميعًا على استعمالها. أما المجمع العلمي بدمشق والمجمع اللغوي المصري فهما يعملان، إلا أنهما لم يقرَّا بعد شيئًا من هذا القبيل. ويعالج كتابنا معاني وشئونًا لم يسبق إليها تاريخ اللغة؛ فهي جديدة في وراثتنا كما هي جديدة في وراثة العالم. وإجادتهم ناطقة بأهمية هذه النهضة، هذا في الأفراد. أما الجماعات ففي جمود، ولا يرجى لها أن تستيقظ بمجموعها إلا شيئًا فشيئًا بمختلف البواعث التي يأتي بها الزمن.
أفتح «البلاغ» وأنا أكتب هذا على مقال من الأستاذ عباس العقاد، موضوعه «القديم والجديد» الذي يتخاصمون لأجله في هذه الأيام، وقد كتبه ردًّا على استفتاء أديب عراقي في الموضوع؛ فأجد في هذا المقال ملاحظات أساسية عن اللغة والتعبير تعزز ما ذكرته عند مناقشة «الإجبشن ميل». والأستاذ يعتقد كذلك أننا الآن في نهضة فريدة فيقول بالحرف: «إننا في عصر لم تسعد اللغة العربية بعصر أسعد منه في دولة من دولها الغابرة»، «عصرنا هذا هو أقدم العصور وأحقها بالتوقير والتبجيل؛ لأنه وعى من الأزمنة التي درجت قباله ما لم تعه الأزمنة الماضية، وبلغت أممه من تجارب الحياة ما لم تبلغه الأمم الخالية.»
وأزيد أن مصر الآن هي عاصمة اللغة العربية كما هي عاصمة العالم العربي المعنوية.
الجواب: ليس الصلة قوية بينهم من حيث تفاعل الأفكار، وإنما هي متشابهة من حيث الدوافع القومية والمناهج البيانية. ففي سوريا مثلًا والعراق يروج المذهب الهندسي والوصفي، والأسلوب الهندسي أو المدرسي ما زال هو المتغلب في مختلف الأقطار العربية، والوصفي أو الرومنتيكي هو «الجديد»؛ فبديهي أن الصلة أحكم بين ذوي النزعات المتشابهة، وإن كانت تلك «الصلة» تقصر في الغالب على نقل القصيدة أو المقال، أو الاستحسان الكلامي والموافقة السلبية، أو النقد الذي يحاول أن يكون حاذقًا وقد يجيء أحيانًا صبيانيًّا.
الجواب: يتعذَّر التحديد، إنما يمكن ذكر المتنبي للمفاخرة، والمعري للاستياء، وغيرهما.
الجواب: أعجبت بشعراء كثيرين، نعمت في كل منهم بما كان عنده أوفى وأعم فغذيت به أحد ميولي، ولكني لم أجعل يومًا تمثيل العصر كله أو البيئة بحذافيرها شرطًا لإعجابي، بل أشك أن ذلك التمثيل في مقدور شاعر أو كاتب مهما يكن نبوغه عظيمًا وفنه شاملًا، وأظن أن كل واحد يعطينا صورة عصره وبيئته، بل صورة الإنسانية في جميع العصور وجميع البيئات ملونة بلونه، متكلمة بصوته، وإلا فكيف يمكنني أن أقابل بين أقوال الشاعر أو الكاتب وبين حالة بيئته وعصره لأبحث ذلك التطابق وأقره؟ وإن تعذر ذلك عليَّ فهو متعذر على كل أحد؛ لذلك أرجح أن هذه الكلمة التي يقولونها عن بعض الكتاب والشعراء في الآداب الأوروبية، من أدل الكلمات على «النسبية» في الناس.
ولو أردنا تطبيق هذه الكلمة على كُتَّابِنَا في مصر لاستطعنا أن نجد من يمثل رأي جماعة أو يوضح اتجاه نزعة، ولكن لا يمكننا أن نجد من يتكلم بجميع مطالب عصره.
ورغم ذلك فإن الصوت المتغلب الآن في الآداب العربية هو صوت الاستياء والتبرُّم والدعوة إلى الإصلاح، تعتلج النفوس العواطف والمؤثرات، فتثور رواقدها فإذا بين الجيل الجديد والجيل الذي سبقه هوة. هذا يريد أن يسيطر بعدد الأعوام، ولكنه لا يستطيع القيادة والهداية في تيه المشاكل، فإذا بالجيل الجديد شيخ يشعر بالمسئولية مع اعترافه بأن الجيل السابق أدَّى كل ما كان في مقدوره.
لقد تبوأ منابر الأدب فتية لا عهد لهم بالجيل الماضي — يقول الأستاذ عباس العقاد في مقدمته لديوان المازني — «ونقلتهم التربية والمطالعة أجيالًا بعد جيلهم، فهم يشعرون شعور الشرقي، ويتمثلون العالم كما يتمثله الغربي. وهذا مزاج أول ما ظهر من ثمراته أن نزعت الأقلام إلى الاستقلال، ورفع غشاوة الرياء، والتحرر من القيود الصناعية»، «إن كان هذا العصر قد هزَّ رواكد النفوس وفتح أغلاقها، فلقد فتحها على ساحة الألم»، «وهو العصر طبيعته القلق والتردد بين ماضٍ عتيق ومستقبل مريب، وقد بعدت المسافة فيه بين اعتقاد الناس فيما يجب أن يكون وبين ما هو كائن.»
«نحن في عصر التردد والاستياء، ولا بدَّ لهذا الاستياء أن يأخذ مداه ويطلع على كل نقص في أحوالنا، حتى إذا تمكن من النفوس فحركها إلى العمل، وعاد عليها العمل بالرضى؛ فلا ينسى الناس يومئذ فضل شعر الضجر والاستياء.»
والأستاذ المازني يضرب على هذا الوتر بعد صدور ديوانه بأعوام، فيقول في مقال جديد: «قضى الحظ أن يكون عصرنا هذا عصر تمهيد، وأن يشتغل أبناؤه بقطع هذه الجبال التي تسد الطريق، وبتسوية الأرض لمن يأتون من بعدهم. ومن الذي يفكر في العمال الذين سوُّوا الأرض ومهدوها ورصفوها؟ من الذي يعنى بالبحث عن أسماء المجاهدين الذين أدموا أيديهم في هذه الجلاميد؟»
والدكتور هيكل يتكلم في إحدى مقالاته عن «الألم المعنوي» الذي يُعذِّب، وهو أقسى من الألم المحسوس.
وهذه الشكوى تجدها في أكثر آثارنا شعرية كانت أم نثرية، والشجعان بين أبناء هذا الجيل هم الذي ينسون المشاكل التي تحرجهم ولا سلطان لهم عليها، فينظرون إلى ما يحيط بهم، وسواء كانوا من أنصار القديم أو الحديث؛ فإنهم يعمدون إلى الإفادة والنفع والتنشيط؛ ينسون الاستياء والتفطر ما استطاعوا، ولا يذكرون إلا أن مسئوليتهم كبيرة، وإن البلاد في حاجة إليهم، فيعملون.
لذلك كانت ميزة الأدب العصري في أنه لم يبق منزويًا أو محدودًا في الفرد، بل تناول فروع الحياة القومية شاعرًا بأنه وهذا الجمهور واحد، وإنما المسئولية تعود على اللبيب؛ لأنه أشد من الجمهور شعورًا بالألم والحاجة وضرورة العمل.
هذه حالنا عمومًا، يا مسيو فانبير، وهي أشبه ما تكون بحالة الجيل الجديد في الغرب مزيج من ألم وقلق وثورة إصلاحية.
نشعر بمشاكلنا الداخلية، ونعرف اشتباكها بمشاكل العالم، فنحاول الهرب إلى ما يصلح الأحوال، ولكن خيال الألم لا يغيب.