حياة اللغات وموتها ولماذا تبقى العربية حيَّة!
(١) اللغة والحضارة
الشعوب كالبحار: لهذه مدٌّ وجزر ولتلك ارتفاع وهبوط.
للبحار موجات يأتين لاطمات الشاطئ بتجمع مياههن، ثم يغرن في صدر موجات متهجمات. وللشعوب مدنيات تنمو فتعلو إلى ذروة المجد والسؤدد، ثم تهبط إلى منحدر الوهن والنسيان متخلية عما لديها من نظام وقوة وخبرة لمدنيات جديدات تحلُّ محلها.
ما هو الداعي إلى هذا التموج الدائم في مناطق المجهود البشري حتى تهلك عنده أشواط المدنية واحدًا بعد آخر؟ وما هي العوامل التي تجعل زاهر الأمس اليوم يابسًا، وخصيب اليوم قاحطًا غدًا؟
لقد درس هذه المسألة الخطيرة علماءُ التاريخ والآثار والعمران؛ ففصَّلوا لذلك الأسباب ووضعوا لتعليله المؤلفات الكبيرة، إلا أن أبحاثهم لا تفيد في تلافي المحتوم على كل مدنية بلغت شأوها المنطَّق، ثم خضعت في هبوطها كما في ارتقائها لناموس التموج الدائم. وليس في وسع المتأمل المخلص إلا إثبات ما قد تتابع وقوعه منذ فجر التاريخ: وهو أن الشعوب تخلف الشعوب، والمدنيات تعقب المدنيات، وأنه في دوران الأحقاب لا بد أن يمسي الجديد قديمًا، وأن ينقلب القديم يومًا جديدًا.
كذلك تنتشر لغة قوم بانتشار حضارتهم؛ فيسارع المغلوب إلى تعلمها وإتقانها ما استطاع، حتى إذا انحطت تلك الحضارة، عاد ينكمش انتشار لغتها ودخلت مع الزمن في صف اللغات الميتة.
إن هذا المقدور نفذ في جميع اللغات القديمة حتى التي يتصل عهدها بعهد اللغة العربية؛ لقد ارتفعت اليونانية واللاتينية بارتفاع مدنيتيهما وهبطتا معهما أو بعدهما بزمن يسير. فلماذا خرجت اللغة العربية من حكم ذلك المقدور، فظلت حية كل هذه القرون الطوال بعد تشتت دول الفتوح واندثار العظمة العربية؟
(٢) عند اليونان
تاريخ بلاد الإغريق هو الفصل الأول من تاريخ المدنية الحديثة، ومنه استمدَّت أوروبا مبادئ العلم والفلسفة والآداب، وما كانت تتمتع به المدن اليونانية من حرية واستقلال مثلٌ أعلى يتطلع إليه المفكرون والمصلحون، وتنشده الحكومات الحديثة الحرة؛ ذلك لأن اليونان بدأوا بحل المشاكل الفلسفية والعمرانية ومعالجة بعض القضايا العلمية التي تضطرب لها أجيالنا.
مرَّت عصور لم يكونوا فيها إلَّا منفعلين بحضارة الكلدان والمصريين والسوريين؛ إذ كانت شواطئ النيل والفرات منذ زمن بعيد محطَّ مدنيات قد وصلت إلى أوج العظمة والاقتدار، لكن جاء يوم قاموا يناهضون تأثير الفينيقيين فيهم ليفسحوا المجال لمدنيتهم القومية؛ فارتقوا ارتقاء باهرًا وبسطوا سلطانهم على شواطئ البحر المتوسط، وبينا جيوشهم تنشر أعلامهم على بلاد يفتحونها ويستعمرونها، كان أهل البلاد اليونانية يعيشون عيشة هنيئة مستمتعين بما وضعته جمهورياتهم من النظامات الديموقراطية والاستقلال القومي.
ولما أن قام الفرس يهددون بلادهم الأوروبية بعد فتح الآسيوية، نهضت أثينا وإسبارطة لرد غارات المغيرين، وأصبحت أثينا عاصمة المدنية اليونانية منذ القرن الخامس قبل الميلاد.
•••
أما اللغة اليونانية ففرع من طائفة اللغات الهندية الأوروبية كلغات: الفرس، والهند، وأرمينيا، وليتونيا، والقلت، والجرمان، والسلاف. وقد استعملت أولًا في بلاد الإغريق الأوروبية، ثم امتدت إلى شواطئ آسيا الصغرى، وإلى الجزر التي كانت تأتيها السفن للاستراحة في رحلاتها بين القارتين الآسيوية والأوروبية. ولما تعددت مستعمرات اليونان على شاطئ البحر المتوسط انتشرت لغتهم؛ فأصبحت لغة إيطاليا الجنوبية، وأكثر جهات صقلية، وبلغت قارة أفريقيا يوم شادوا قيرين، وبلاد غاليا يوم بنوا مرسيليا.
اللغة اليونانية الأولى من أوفر اللغات ثروة، تتجلى الفصاحة في: رناتها الرقيقة، وألفاظها الأنيقة، وأساليبها الفخمة، وقد أكسبها تنوع تشكيلها وتحريك منطوقها رخامة في مقاطع الأصوات، وموسيقى لفظية في التعبير عن الأفكار والعواطف، وقد فازت بما لم تفز به اللغات الأخرى، وهو أن لها مفردات خاصة باللغة الشعرية ومثلها للغة النثرية، وقد كتب بها بعد المتقدمين المدعوين «بالمدرسيين» علماءُ العهد الإسكندراني، وآباء الكنيسة الشرقية، وأدباء بيزنطية منذ ملك يوستنيانس إلى فتح الأتراك لمدينة القسطنطينية (١٤٣٥).
وبدا الفن بجماله الساذج الأنيق سواء في هندسة البناء والنحت والرسم.
ظل الأدب والفن في تلك المنزلة إلى القرن الرابع، إلا أنهما فقدا عندئذ قوة الإبداع والبداهة؛ فكان الرسامون والنحاتون قاصرين على نسخ التماثيل القديمة، وصار الشعراء يحتذون هوميرس وأمثاله. غير أن الفلسفة لبثت تتألق في سماء مجدها مع: الرواقيين، والأبيقوريين، والمشَّائين، والمرتابين، وأنصار الأفلاطونية الجديدة. كذلك كانت علوم التاريخ واللغة في ازدهار.
•••
أما اليونانية القديمة فقد دخلت في عِدَاد اللغات الميتة منذ زمن طويل، ولا يعنى اليوم بدرسها إلا بعض العلماء، ويدرس مبادئها بعض الطلبة في الجامعات الكبرى. وقد قل الذين يجيدونها بين الأكليروس اليوناني على استعمالها في الطقوس الدينية.
(٣) عند اللاتين
يبتدئ التاريخ الروماني بدور هو أقرب إلى الأساطير المبتدعة منه إلى الحقائق التاريخية الراهنة، ويخمن المؤرخون تتابع ملوك سبعة، ملكوا في خلاله من عام ٧٥٤ (؟) إلى عام ٥١٠ قبل الميلاد، وفي ٥١٠ أعلنت الجمهورية في روما، وقد أدى ذلك بالأمة إلى إيجاد نظامات جديدة كالقنصلية والتشريع، وإضافتها إلى ما كان عندها من نظامات سابقة كطبقة الأشراف وامتيازاتها، وجمعية المقاطعات، ومجلس الشيوخ … إلخ، وعقب الانقلاب منازعة طويلة بين الأشراف والعوام لم تنتهِ إلا بفتح أبواب التشريع للشعب.
ولما اتحدت كلمة روما وملكت أمرها في الداخل، كبرت مطامعها في الاستيلاء على أنحاء جديدة؛ ففتحت جميع جهات إيطاليا، وزحفت إلى الشرق فهدمت قرطاجنة العظيمة، وحولت بلاد الإغريق إلى إقليم لاتيني، غير أنها رحبت بالنفوذ الفكري من هؤلاء الإغريق الذين كان سيفها قد غزاهم. ولما عادت المنازعات الداخلية تُبلبل أحوال الجمهورية، تولى أكتافيوس إدارة شئون الدولة؛ فأصبح سيد العالم القديم، ونُوْدِيَ به إمبراطورًا باسم «أغسطس» يجمع في يده كل اقتدار وسلطة وتشريع.
ثم انتقل الصولجان إلى القياصرة، ورغم ما تخلل أيام حكمهم من ثورات عسكرية؛ فقد أصبحت روما بعد إخضاع الإغريق عاصمة الشرق والغرب فسُمِّيَتْ «سيدة العالم»، وتكاد تنحصر عظمتها الخطيرة في القرون الأولى من عهد الإمبراطورية؛ لأنها كانت حقًّا عاصمة العالم؛ إذ كانت دماغه المُفكِّر، وقلبه الخافق، ويده العاملة. وليس من مدينة أخرى، حتى ولا أنطاكية والإسكندرية لتقوى على منافستها وادعاء ما لها من الشأن والفخار.
وأصبحت النصرانية في عهد قسطنطين (٣٠٦–٣٣٧) دين روما الرسمي، وقد أخَّر حزم ذاك الإمبراطور زمنًا سقوط المدينة العظيمة، لكن الذين خلفوه هبطوا بها إلى دركات التقهقر والإهمال، فما مرت فترة حتى ثلمت أسوارها حرابُ الهاجمين واندكت جدرانها أمام غارات الفاتحين.
•••
على أن اختلاطهم باليونان بثَّ فيهم الميل إلى الاقتباس والاستيحاء والرغبة في إيجاد الآداب الكتابية، فكان الشعر اللاتيني في بادئ الأمر يحتذي الشعر اليوناني في الأساليب والموضوعات، أو يكتفي بنقله إلى اللاتينية معنى ومبنى.
ولقد كانت بلاد اليونان مدرسة روما؛ لأن شبان اللاتين العازمين على الاشتغال بالمحاماة واعتلاء المنابر كانوا يقصدون إلى مدارس اليونان الكبرى لإتمام دروسهم وتثقيف مواهبهم، كما أن كثيرين من الإغريق كانوا يدرسون في روما فن الخطابة والإلقاء. وتدل كتابات العهد المدعو «بعهد أغسطس» (أي آخِر قرون الجمهورية) على أن المؤلفين كانوا مطلعين على أشهر مصنفات الإغريق من شعر ونثر، وأنهم يقلدونهم صراحًا، وفي مقدمتهم شيشرون العظيم تلميذ اليونان في الخطابة والكتابة والفلسفة جميعًا، ومثله المؤرخون والشعراء على وجه خاص.
لكنَّ هذا لا يعني أن الآداب اللاتينية حاشية معلقة على هامش الآداب اليونانية، بل كان لها طابعها الخاص؛ لأنها كانت أكثر من تلك امتزاجًا بالأحوال العمومية وأظهر لشئون الأمة؛ ذلك أن معظم الكُتَّاب من خطباء ومؤرخين وفلاسفة قاموا بأدوار سياسية، فكان لعلمهم وآرائهم وخبرتهم أثر فعال في مصالح الدولة، وكفى أن يذكر منهم: شيشرون، وقيصر، وماركس أوريليوس، وتاشيتوس، وپلينوس الأول، وپلينوس الثاني، ليثبت لنا ما تقدم، ولما كانت الآداب اللاتينية ذات اتصال بالحركة السياسية كان اللاتين جاهلين اتباع الفن لذاته، الأمر الذي كان رائد اليونان في معظم آدابهم وفنونهم.
•••
فن اللاتين كآدابهم منقول عن الفن الإغريقي، إلا أنهما يختلفان في أن الأول يُقلِّد الثاني بلا أمانة، ثم يخلطه بصنوف فنية أخرى؛ فيحرمه قالبه المجرد وبساطته الأنيقة. والزخارف القليلة التي كان يستعملها الإغريق بمنتهى التحفظ كان الرومان يغدقونها على أبنيتهم وصروحهم بلا حساب، بيد أن الآثار الرومانية إذا كانت دون الآثار اليونانية دقة وسذاجة، فهي لا تعدم عظمة وجلالًا يلقيان التهيب في نفوس الناظرين.
وامتاز فن النحت في روما بما لم يكن ليعنى به الإغريق كثيرًا، وهو تماثيل الأحياء؛ لأن من عادات الرومان قبل اتصالهم باليونان أنهم كانوا يحفظون في منازلهم صور آبائهم وجدودهم، وكانت تلك الصور والتماثيل تصنع من الشمع أو الخشب، ثم تحسنت بانتعاش الفن فصارت تحفر في الرخام. والرغبة في التزلف إلى القياصرة وتملق الكبراء كانت تؤدي إلى الاهتمام بتماثيلهم ووضعها في الأبنية العمومية وصروح الحكومة؛ ومن هنا تعدد التماثيل اللاتينية والباعث على إتقانها.
أما في غير ذلك فقد قال الشاعر اللاتيني: «إن بلاد الإغريق المغلوبة أغارت على قاهرها فاكتسحته في دورها.»
(٤) عند العرب
سقطت روما العظيمة، فتساءل العالم أي شعب قُدِّرَ له أن يحمل مصباح الحضارة باعثًا بأشعته إلى القارات الثلاث؟ فإذا بحركة جديدة تنشأ في أرض بعيدة بين قوم جهلت أسماءهم سجلات التاريخ.
قضت مدنية الإغريق طفولتها في حضن المدنية الفينيقية، ثم دفع اليونان الآسيويين عنهم فنَمَّت مدنيتهم وترعرعت في أرض خصيبة، جميلة الموقع، معتدلة الهواء، عذبة الماء، ثم نسخ اللاتين مدنية الإغريق مكيِّفيها في قالب يلائم سليقتهم، ويتمشى مع روح لغتهم، وقد كانت بلادهم في منطقة تُسَهِّل لأهلها الانطلاق إلى الخارج وبسط سلطانهم على ما حولهم.
ولكن كيف تكونت المدنية العربية، وهي التي انبثق نورها الأول في شبه الجزيرة حيث تستعر الرمضاء ليل نهار؟
نعم، إن بعض الجهات الساحلية مثل: اليمن، والحجاز، وحضرموت كثيرة الخصب تنتج البن، والقطن، واللبان، والمُرَّ، والندَّ، والبلح، والموز، والمشمش، والحنطة، والذرة، والعدس، وقصب السكر، وشجر النارجيل (جوز الهند)، وأنواع الطيوب العربية على اختلافها. غير أنها بعيدة عن أوساط التمدن والعمران، بعيدة عن تأثير الإغريق ونفوذ الرومان، فأي سِرٍّ أوجد تلك الحضارة التي انتشرت بسرعة لم تظفر بها حضارة، فعبرت من قارة إلى قارة تحمل عزَّ العرب، باسطة تمدنهم على آسيا، وأفريقيا، وبعض أوروبا، جالبة ثروة، وعلمًا، وانتعاشًا حيثما نشر القوم أعلامهم؟
تنتنمي اللغة العربية إلى طائفة اللغات السامية، وهي ثالث فروع أصلية ثلاثة: الآرامية والكنعانية والعربية. فالآرامية تشمل الكلدانية والسريانية والآشورية (الميتة منذ زمن طويل)، وهي لغة عامية يقال إن السيد المسيح كان يخاطب بها تلاميذه. وتتكون الكنعانية من العبرانية والفينيقية. فالعبرانية لغة اليهود المقدسة، ومع أنها تختلف اليوم كثيرًا عن العبرانية الأصلية؛ فإنها ما زالت مستعملة عندهم في الطقوس الدينية، ولهجة من الفينيقية (وهي البونيقية) استعملت مدة طويلة في قرطاجنة وعلى شواطئ إسبانيا، ولها بالعبرانية قرابة لفظية شديدة.
أما العربية فتشمل العربية الفصحى ولهجات مختلفة تكلمتها القبائل القاطنة في جنوب بلاد العرب وبلاد الحبشة وغيرها، وهي اللغة التي فازت بالبقاء على حين أخواتها وبنات عمها طُوِيْنَ في عالم النسيان منذ أمد مديد.
ظلت العربية منزوية إلى أواسط القرن السادس، فبرزت بغتة تتمتع بقوة بالغة أشدها، فما عرف لها التاريخ أدوار الطفولة والنمو، وذلك لا ينفي أنها قد تكونت في زمن بعيد القدم، أو أنها قد تكون شعبة من لغة سامية سابقة فُقِدَت في مجاهل التاريخ؛ لأن بعض خصائصها اللغوية (كجمع التكسير مثلًا) يميزها عن العبرية والآرامية، فيجعلها أشمل منهما للمعاني وأوفى للأغراض، ومن ذا الذي لم يسمع بغِنَاها في المفردات والمرادفات؟ ذاك الغنى الذي يعد عجيبًا إذا ما قوبل بفقر اللغات السامية الأخرى.
بدت العربية في القرن السادس لتكون لسان الحضارة الجديدة، فانطلقت من شبه الجزيرة تنقل إلى الأمصار القصية مفرداتها ومميزاتها، وجابت الأقطار ناشرة لهجاتها المختلفات من أطراف جزر الهند إلى أواسط القارة الأفريقية.
•••
لم تقمْ سطوة العرب في أيام مجدهم وعزيز الذكر المحفوظ لهم على فوزهم الحربي فحسب، بل الخلافة العربية مدينة بعظمتها للآداب والعلوم أكثر منها لمضاء السيف وتَعَدُّد الفتوحات.
ففي القرون السبعة الأولى التي بدأت بالدعوة إلى الإسلام والهجرة من المدينة (عام ٦٢٢ للميلاد)، وامتدت إلى القرن الثالث عشر، يشهد المؤرخون لمَدَنِيَّة من أعظم المَدَنِيَّات التي عُنِيَ بإثباتها تاريخ الآداب، فيها كان الشعراء والأدباء والعلماء والمؤرخون والفلكيون على اختلاف طبقاتهم ونحلهم يتسابقون إلى أصقاع أظلها العلم العربي؛ فصارت وجهة الطالب وكعبة الباحث. كانوا يذكرون حث النبي على طلب العلم، وقوله: إن الذي يسير في سبيل طلبه إنما هو مسهل أمامه طريق الجنة. يذكرون ذلك فيتقاطرون من كل الأمصار من المغرب الأقصى والهند وجاوه والقوقاز وتركستان، فيقطعون البحار الواسعة، ويطوون الجبال والوهاد وراء القوافل الكبرى ووجهتهم المساجد الشهيرة في مكة ودمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة؛ لأن الجامع لم يكن مكان الصلاة فقط، بل كان (وما زال في أكثر البلاد الإسلامية) مُلْتَقى العلماء ومجمع المتباحثين ومدرسة المتعلمين؛ فتقوم ثَمَّت المناظرات في الموضوعات السياسية واللغوية والدينية.
ويجوز القول في الذين كانوا يهتمون بتلك المناقشات اهتمامًا يدفعهم إلى تدوين خلاصة ما يسمعون في صحائف يوزعونها على فريق دون آخر — يجوز القول فيهم: إنهم كانوا الصحافيين الأُوَل. وقد كانت جميع أحوال الدولة داعية إلى إثارة هذه النهضة الفكرية. فالاحتكاك المتواصل بالشعوب الغريبة، وعيشة المدن الكبيرة، وثروة الدولة المتزايدة، ورفاهية الحياة الفردية الناتجة عن الفتوحات الواسعة، كل ذلك كان دافعًا بالمدنية الأدبية إلى الأمام.
منذ القرن الثاني للهجرة أخذت تَلْتَئِم الاجتماعات العلمية في مدن الشام والعراق، في دمشق والبصرة والكوفة على وجه خاص. فكان عهد الخليفة المنصور عهدًا زاهرًا تقدمت فيه الآداب، وارتقت الأفكار، وتُرْجِمَت المؤلفات الهندية واليونانية في الفلسفة والآداب والعلوم؛ فتعددت المكاتب العمومية وغصت قاعاتها بالطلاب والمطالعين، وكان كل خليفة وكل أمير يفاخر بما أنشأه من المكاتب، وبعدد ما جمعه من نفيس الكتب. ولما كان الخلفاء يبتاعون الكتب بوزنها ذهبًا، ويفسحون صدر مجالسهم للشعراء والعلماء ويجزلون لهم العطاء، كان الأغنياء والأعيان يقتفون بالخلفاء ويفردون للعلم والأدب مكانًا من حياتهم وحياة قومهم.
وما قيل في الرومان من حيث تأثير الإغريق في مدنيتهم ينطبق على العرب بعد فتح بلاد فارس؛ لأن التَّمَدُّن الفارسي القديم قد صُبَّ في التمدن العربي الحديث وما كان أن امتزج بعناصر بيزنطية، ومن ذلك الخليط المختلف، المتناقض أحيانًا؛ حيث تلاقت آثار مكة، وسوريا اليهودية والمسيحية، وبيزنطية، وبلاد فارس وبلاد الإغريق، (هذه فيما يتعلق بالعلوم والفلسفة فقط) نشأت مَدَيِنَّة سبكت في قالب خاص؛ فبَدَتْ للملأ مدنية قومية عربية.
لم يُعنَ الفن العربي بالصور والتماثيل، والنحت العربي كالرسم؛ مقتصر على تنميق الحروف الكتابية. إنما العرب أجادوا في نوع من هندسة البناء بدأوا باقتباسه عن الفرس، ثم مزجوه بخصائص بيزنطية، وقد راج ذلك الفن رواجًا عظيمًا في إسبانيا؛ فبنيت طبق أصوله «الحمراء» في غرناطة، وجامع إشبيلية ومأذنته الباذخة، ويمتاز البناء العربي بأقواسه الأنيقة، وأعمدته الهيفاء، وتخريمه الدقيق، وبزخرف كله رونق وبهاء، ومن أجمل آثاره مساجد الأستانة وقرطبة ومصر.
كان اليونان واللاتين قد سبقوا العرب إلى غربي آسيا وشمالي أفريقيا، إلا أن نظاماتهم وعاداتهم لم يكن لها نصيب في حياة الشعب، ولم يقتبس بعضها إلا سكان المدن الكبرى، وبقي أهل الأرياف في ذلهم وبؤسهم يرتعون.
لكن العرب الذين كانوا يستنكفون عيشة الحَضَر هبطوا الأودية الخضراء، واستوطنوا المروج الفيحاء في جيرة الفقراء والفلاحين، وقد زاوجوهم فامتزجت المشارب واتحدت القلوب، فترك الغالب في حياة المغلوب أثرًا بينًا من حيث تحسين الأحوال وتسهيل المعيشة ورفع مستوى الإدراك؛ فإن الآداب والعلوم والصناعة والثروة والأمان كانت تحل أينما حلت مَدَنِيَّة العرب، وقد كانت سوريا ومصر وشمال أفريقيا والأندلس أوساطًا سعيدة للدأب والنشاط، بينا كانت أقطار أوروبا في حالة أشبه بالهمجية، ويوم كان الغرب جاهلًا وجود الشرق الأقصى، ولا يعرف من أفريقيا إلا بعض سواحلها القريبة، كانت قوافل العرب وسفائنهم تحمل تجارتهم إلى الهند وجاوه والصين، وأواسط أفريقيا والجهات القصية من أوروبا كروسيا وأسوج والدانمارك.
عرفت أوروبا العرب بفتوحاتهم الواسعة، ولم تكن لتصدق في بادئ الأمر أن سكان البادية يحسنون شيئًا غير النهب والسلب والتخريب، على أنها ألفت مع الزمن وجودهم في الأندلس، ولما أن رأت إسبانيا مستمتعة بعيش رغيد في أمان وسلام؛ أرْغمَ أهلها على الإقرار بأن العرب بارعون في فنون السلم كما أنهم متفوقون في فنون الحرب. وما تأسست جامعة قرطبة العظيمة وطارت شهرتها إلى ما وراء جبال البرنات؛ حتى توارد علماء الفرنجة يطلبون العلم على علماء المسلمين.
ومعلوم أن أوروبا مَدِيْنَة للعرب بكتب جمة نقلها اليهود من العربية إلى العبرية، ثم تُرْجِمَت إلى اللاتينية ومنها إلى اللغات الأوروبية الحديثة. كما أن فلسفة أرسطو لم تصل إلى علماء القرون الوسطى إلا عن طريق العرب وبعد تراجم أربع: من اليونانية إلى السريانية، فالعربية، فالعبرانية، فاللاتينية.
أن العلم الحقيقي دخل أوروبا عن طريق العرب لا عن طريق الإغريق؛ فقد كان الرومان أمة حربية وكان الإغريق أمة ذهنية، أما العرب فكانوا أمة علمية.
فإنهم غزوا ممالك الشرق مثل: الهند وفارس وبابل، وتعلموا منها كل ما استطاعت هذه البلاد أن تقدمه لهم، ولم يقتصر علمهم على الصنائع اليدوية مثل: النسيج، والدباغة، والصياغة التي اشتهر بها الشرق، ولكنهم تعلموا أيضًا جميع ما يمكن تعلمه من الهندسة والطب والميكانيكيات.
وقد أحرق البطريرك كيرلس مكتبة الإسكندرية في القرن الخامس، فهجر آلاف من العلماء تلك المدينة إلى فارس واستوطنوها، فلما ظهر العرب عادوا فجمعوا تلك المعارف المشتتة، بل أضافوا إليها.
ثم انتشروا في الغرب، وجازوا البحر إلى إسبانيا حيث لا يزال شاهدًا على عبقريتهم كاتدرائية قرطبة والحمراء، وقد كان سكان مدينة قرطبة يزيدون عن المليون في القرن الثالث عشر، وكانت شوارعها مُبَلَّطة ومُضَاءَة، وكان فيها ما لا يُحْصَى من الحمامات، وكان فيها نحو مائة مستشفى عمومي، ولعل القارئ يدرك قيمة ذلك إذا عرف أن شوارع باريس لم يُوْضع عليها البلاط إلا في ختام القرن الخامس عشر، ولم يكن في لندن في نصف القرن السادس عشر مصباح واحد في شوارعها، أما الحمامات والمستشفيات فلم تعرفهما هاتان المدينتان إلا بعد قرون.
فنحن مدينون للعرب باستكشافاتهم العلمية أكثر مما نحن مدينون لهم بثقافتهم أو فنونهم؛ فهم روَّاد الزراعة العلمية والتربية العلمية للدواجن، وقد زادوا معلوماتنا عن الكيمياء ونواميس البصر، وعرفوا حمض الكبريت وحمض النيترات، وهم الذين علمونا الحساب والجبر وأضافوا الصفر إلى الأعداد الهندية التسعة، وكان الناس قبلًا يعتمدون على الهندسة في تقديراتهم؛ فاخترعوا الحساب الأعشاري. وكان علماء العرب يعتمدون على المشاهدة في أبحاثهم بخلاف الإغريق، فإنهم كانوا يعتمدون على الفلسفة، ولكن العلم لا يرقى إلا بالمشاهدة والتجارب. وقد استعمل العرب المغناطيس كما أنهم استخدموا البوصلة في الملاحة ا.ﻫ.
كذلك أَدَّى العرب إلى الإنسانية ما على الأمم الكبيرة من واجب النفع والإفادة. انتشرت لغتهم وحضارتهم أيما انتشار؛ فكانوا صلة أمينة، صلة خير وضياء بين العصور الخالية والقرون الحديثة، ولما هبط الصليبيون الشرق عادوا إلى بلادهم يحملون بعض أنظمة العرب التي اطلعوا عليها في رحلتهم؛ فاقتبسها الأوروبيون وقدروها قدرها، وعلى ذلك الأساس العربي المتين أقامت أوروبا صرح مدنيتها الحديثة.
(٥) لماذا تبقى العربية حية؟
من هو المنبه إلى تكوين هذه المَدَنِيَّة القومية؟
هو فتى كان بالأمس يقصد الشام في عِير قريش للتجارة، وهو اليوم محمد النبي العربي ورسول المسلمين.
أما مصدر تلك الحضارة فهو القرآن.
لقد ذاع القرآن بسرعة لم يظفر بها كتاب قبله ولا بعده، ولم يقصر انتشاره على الشعوب التي نزل بينها وتوافقت تعاليمه ومدركاتها وطبيعتها، بل خضعت له بعدئذ أمم لها من حضارتها السحيقة ما قد كان يُعدُّ كافيًا للتَفَلُّت من سطوته ورفض الإذعان لأحكامه.
ولقد أوجد القرآن دينًا عربيًّا، ودولة عربية، وأحكامًا عربية، وآدابًا عربية، صارت كلها أجزاء قومية واحدة ربطت شعوبًا لم تكن العربية لغتها؛ لذلك قال جماعة من المؤرخين: إن التمدن العربي كان تمدنًا إسلاميًّا صرفًا.
والقرآن مصدر جميع العلوم التي عُنِيَ بها المسلمون في أوج حضارتهم؛ فلتفسير آياته وسوره وجدت علوم الكلام وعلوم المنطق، ولتفهُّم ما فيه من نظام وتشريع وُجدت علوم الشرع والفقه، ولم تكن غاية المؤرخين الأولين من العرب إلا تحديد وقت نزوله وتدوين الأحاديث النبوية.
ثم أليس الجغرافيون الأُوَل أو علماء المسالك والأمصار، هم الذين مضوا من أقاصي أفريقيا وآسيا لتأدية فريضة الحج، ثم عادوا يصفون رحتلهم وما رأوه في البلاد البعيدة من الجديد غير المألوف؟ ألم يكن غرض علماء اللغة إيضاح ما غمض من آي القرآن وتطبيق قواعد الصرف والنحو على نصوصه؟ ألم تطلب أرصاد الفلكيين وعمليات الرياضيين لتحديد ساعات الصلاة وتوقيت مواعد الحج والصوم؟ ألم تستدعِ مسائل الوقاية الصحية والنظافة اهتمام الأطباء كما ظلت بعد تحثهم على البحث والتنقيب؟
نعم، لم يهتم العرب في ذلك الدور بعلم من العلوم إلا لأن آيات القرآن قضت بمعرفته لاجتلاء معنى غامض، أو شرح قول مستغلق. ومذاهب علماء الكلام هي التي نبهت أبحاث الفلاسفة ومناظراتهم؛ فكانوا بما نقلوا وما أوجدوا أساتذة الفلسفة الحديثة.
سبق القول أن قد اشترك مع العربية لغتان أخريان بكونهما قوميتين نشرتا عقيدة دينية ومذهبًا سياسيًّا بين شعوب مختلفة أي: اليونانية واللاتينية، فقد كانت اللاتينية مُستعمَلة من كمبانيا في إيطاليا الجنوبية إلى الجزر البريطانية، ومن نهر الرين إلى جبل الأطلس. واستعملت اليونانية من أقاصي صقلية إلى شاطئ دجلة والفرات، ومن البحر الأسود إلى تخوم الحبشة. لكن ما أضيقه انتشارًا إذا ما قوبل بانتشار العربية التي امتدت إلى إسبانيا وأفريقيا حتى خط الاستواء، وجنوب آسيا وشمالها إلى ما وراء بلاد التتر! أما اللغة الفصحى فقد استولت على جميع أنحاء الشرق الإسلامي، وإن لم تكن لها الغلبة كلغة كلامية على بعض اللغات في الشرق والشمال، فقد أوجدت تبديلًا محسوسًا في الفارسية، والهندية، والهندستانية، والتركية، ولغات أفريقيا، ولهجات التتر. كذلك في اللغات الحديثة المشتقة من اللاتينية أو المقتبسات منها، كلمات كثيرة ذات أصل عربي.
لقد عُدَّت اليونانية واللاتينية في صف اللغات الميتة منذ سقوط مدنيتيهما، فما الذي حفظ العربية حية بعد زوال مدنية العرب بقرون سبعة؟
إن الذي كان باعثًا على تكوين المدنية العربية هو هو الذي ما زال حافظها إلى اليوم: هو القرآن.
لذلك ستظل اللغة العربية حية ما دام الإسلام حيًّا، وما دام في أنحاء المسكونة ثلاثمائة مليون من البشر يضعون يدهم على القرآن حين يقسمون.