أجوبة الامتحان١
هوِّنْ عليك يا صادق أفندي! فليس ثمة ما يستدعي حرج الصدر، وضيق الخلق، وشق الجيوب. هوِّن عليك، وابقَ في أحاديثك الشهرية على ذلك الظرف المأنوس.
سيطول منك العناء إن أنت أردت أن تنصب نفسك على تحري الألفاظ الدخيلة واستبدالها بما يقابلها في العربية، وستخذلك القوة والنشاط إن أنت تعمدت مطاردة تلك الألفاظ العديدة واكتساحها.
ليس للغات حدود؛ لأن ما تترجم عنه من عواطف وخواطر لا يقف عند حد، ولا يمكن حبس أية لغة ضمن سياج وهمي من محتويات المعاجم، ومفردات الثقاة، وتقارير المجامع العلمية؛ لأن الميول الباعثة على التعبير لا تأبه للمعاجم، ولا تعنى بآراء الثقاة، ولا تتكيف بتقارير المجامع، وعبثًا تقام حول اللغة الحواجز والسدود؛ لأن اللغة ككل كائن حي حساس، ذات اتصال دائم بما يحاذيها ويطرأ عليها؛ فالمد والجزر فيها متعاقبان، والنبذ والاكتساب على وفق حاجاتها سنة جارية لا تجدي في تحويلها عربدة الساخطين.
وكما تتأثر أحوال الأمم باحتكاكها بالأمم الأخرى، وتتأثر بالحوادث فتأخذ وتعطي، وتقلِّد وتقلَّد، وتَقبِس وتُقبَس؛ كذلك تتأثر اللغة بذلك الاحتكاك، وتوجِد فيها الحوادث، قومية كانت أم تاريخية، تغيرًا محتومًا. حتى ليتسنى على وجه التقريب تتبع تاريخ الأقوام بمسايرة التغير البادي في لغتهم طورًا بعد طور.
ولقد اختلطنا بالدولة التركية اختلاطًا شديدًا ستة قرون سيطرت فيها على دوائر الحكومة والإدارة في مصر وغيرها من الأقطار الناطقة بالعربية؛ فأدخلت في تلك الدوائر ألفاظًا تركية، واصطلاحات تركية بقيت في المحررات الرسمية، وأثرها يدور على الألسن. كذلك كثرت النساء التركيات سائدات ومسودات في المنازل الشرقية؛ فكان نشر لغتهن بين ذويهن ومخالطيهن أمرًا طبيعيًّا، وحيث لم يفلحن في نشر اللغة نثرن أسماء لمسميات متداولة، هي هذه الألفاظ والأسماء التي تود أنت اليوم أن تستبدلها بسواها، ثم طرأ الاختلاط بأمم أخرى عن طريق السياسة والاقتصاد والزواج؛ فإذا بهذه الأمم تعطينا ألفاظها، وتغمر لغتنا بفضلها، وتحبونا بترقيع لغوي مزرٍ، فصار حديثنا — حتى حديث بعض كبار كتابنا — شبيهًا … بالسلطة الروسية.
•••
أما كلمة «آبلا» التي يظهر أنك مستاء منها بوجه خاص، فأظنها مترجمة عن الاصطلاح الإفرنجي.
فاهتدوا إلى كلمة «آبلا»، وهذه اللفظة التركية ومعناها «الأخت الكبيرة» تفي هنا بالمراد؛ إذ ليس فيها تصلب كلمة «معلمتي»، ولا عبودية كلمة «سيدتي»، وليس فيها الدالة والألفة التي تلازم كلمة «أختي» العربية، بل هي جاءت مزيجًا معتدلًا من الدالة والاحترام، وكلاهما ضروري بين تلميذة ومعلمتها.
ولكن إذا جاز استعمال هذه اللفظة وسواها مما لا مقابل له في العربية (وهذا لا ينقص من شأن اللغة على الإطلاق)؛ فلا مسوغ لاستعمال الكلمات التي عندنا ما هو في معناها خيرٌ منها وأوضح.
منها كلمة «تنت» الفرنساوية التي تعني: العمة والخالة بلا تمييز، بينا هي عندنا أبين آصرة وأجلى تعريفًا. و«الفاميليا» تستطيع أن تكون «العائلة» دون أن تتبلبل الألسن وتضل الأفهام. و«هاو آر يو، شير أَمِي؟» يمكنها أن تكون «كيف حالك يا صديقي العزيز؟» أو باللغة العامية اللطيفة «ازيك يا أخي؟» دون أن يرى أحد مكروهًا في عزيز لديه. «وتري بيان»، أو «أول رايت» في وسعها أن تكون «حسنًا جدًّا» أو «كويس خالص» دون أن يضحي أحد بميل من ميوله، ودون أن يتنازل عن رأي من آرائه، ولكنه يكون بذلك أحسن ذوقًا، وأوفى وطنية، وأكرم قومية.
•••
لست أعني أن كل الوفاء وكل الوطنية في تعظيم ما هو لنا وتحقير ما هو لسوانا. إن في التعنت تصغيرًا للنفس، وإفسادًا للذوق، وتضييقًا للإدراك، وهو أوسع السبل إلى الجهل والتقهقر والانكماش، ولكن الحكمة والواجب معًا يقضيان بترويج ما عندنا مما ينطبق على حاجاتنا ويفي بمطالبنا، فإن لم يكن عندنا استفدنا بنتاج إخواننا بالإنسانية ليفسح لنا الحياة ويسهل علينا التفاهم؛ لأن نتاج الإنسانية من جميع جوانبها ملك للإنسانية في كل زمان ومكان، والمكابرة في كل أمر بلاهة وجمود وانتحار بطيء.
أما أن يكون لدينا ممتلكات ثمينة نعرض عنها بلا سبب فذاك الضلال المبين!
من ذا يشرح لي لماذا ينادي الطفل المصري والدته بقوله «نينه»؟ ولماذا تقول الفتيات المصريات عن أمهن: «نينتي»؟ كيف ترضون أن تكون أول لفظة غريبة، وأعز اسم غير عربي؟ للأمهات عذر في الماضي، ولكن ما عذر النساء الناهضات في الحاضر؟
إن كلمة «ماما» أقرب إلى لفظة أم العربية، ولقد سمعت بين أهل البادية وبين بعض أهالي فلسطين غير المتحضرين كلمة «ميمه»، وهي من أميمة تصغير التحبب في مناداة الأم، وهناك أساليب أخرى وكلها عذبة يهتدي إليها القلب العربي لينادي الأم المحبوبة التي تسهر على مهودنا، وتملأ خلايا حياتنا. فما شأن «نينا» غير العربية وشأننا والحالة هذه؟
•••
وفي الختام أقول: إن «لجنة الامتحان» الممثلة في صادق أفندي قد تحكم بأني غير ناجحة في هذا الامتحان، وإني من الراسبين الذين يرشحون نفوسهم أحيانًا للانتحار. قد تحكم «اللجنة» بذلك لأني لم أقل باستبدال جميع الألفاظ الغريبة استبدالًا سريعًا عامًّا بألفاظ عربية.
لا بأس، لا بأس؛ فالزمان يغير الأحكام، إذ ندرت الأحكام المعصومة من الغلط.
وكيف يجرؤ امرؤ على الحكم في حين ما زال عندنا السردار والحكمدار والبكباشي … إلخ إلخ، حتى بعض الإشارات الرسمية والأوامر العسكرية غير عربية؟ وفي حين ما زال الباشا المصري، والبك المصري، والأفندي المصري باشا وبيكًا وأفنديًّا بالتركية؟!
لا ضير من الحكم أيًّا كان، كما أن اللغات الأجنبية لا تضيرها الألفاظ العربية المندمجة فيها، وليشهد الشهود أن العبرة ليست بترجمة كلمة من لغة إلى لغة، وأن لفظة «أميرال» التي تطلق على أمير جيش البحر، أو قائد الأسطول الإنجليزي مثلًا — وهي من أصل عربي — لا تنال من قوة ذلك الأسطول، ولم تمنعه من نشر الراية البريطانية في أربعة أقطار الدنيا …
•••
إذا تنكَّرنا لتلك الكلمات الدخيلة وأسأنا بها الظن وقلبنا لها ظهر المجن وعملنا على طردها من بين أظهرنا، أخشى أن يدركها الحنق علينا وتعمل على الانتقام منا؛ فتغري بنات جنسها — أعني: الكلمات المعرَّبة كلها من قديم وحديث — بالاعتصاب العام، ويصممن على الجلاء والانسحاب من بين سطور لغتنا وبيوت أشعارنا. وبديهي أن كلمة «الله» تكون معهن؛ لأنها سريانية أو عبرانية، وما ظنك بفئة «الله» معها؟ لمن يكون الفلح والنصر والغلبة؟ لا جرم أن تلك الكلمات الدخيلة الأعجمية الأصل التي لا عداد لها، لو غادرت لغتنا لأبقت فيها فراغًا واسعًا يعسر علينا أن نملأه بكلمات عربية أصلية؛ من ذلك عدة آيات وأحاديث إذا غادرتها كلماتها الأعجمية مست الحاجة إلى أن يخلفها غيرها من العربية المحضة، وفي هذا ما يدعو إلى وقف دورة الفلك وإعادة ما مضى من الزمن وتجديد أمر البعثة وإنزال الوحي.
اللهم غفرًا!