المنظر
إلى يمين المسرح بالنسبة للممثل منزل ذو طبقةٍ واحدةٍ مغطى بالورود وأوراقه، وعلى
نوافذه
ستائر عربية، وفي مؤخر المنزل حديقة ترفل في أبهى حُلل الزروع الصيفية، وبالقرب من الأمام
على الجانبين نخيل طويل، ووراء الحديقة أرض صخرية غشيتها شجيرات مُتكاثفة، وفي وسط الجزء
الأيمن منها باب خفي نبت عليه العشب وأخفته أحجار كبيرة حتى لا يُرى إلا إذا فُتِحَ،
ويُرى
في المؤخرة على مسافات بعيدة جبال عالية وأكمات كبيرة هي جبال المقطم، وهناك منضد بالقرب
من
الأمام إلى جانب المسرح.
(يُسمع صفير ثلاث مرات، يخرج الحارس منصور العربي من المنزل من جهة اليمين ويتكلم بصوت
خافت.)
منصور
:
إني أسمع صفير قادم، لا شكَّ أنه رسول من عند الخليفة (يذهب إلى الباب السري في
منتصف الجزء الأيسر ويفتحه ويدخل الأمير نعمان، ولكن يُبقيه منصور بجوار المدخل ويمنعه
من التقدم).
الأمير نعمان! أأنت القادم؟ لا روع، ولكن قف لا تتقدم. إنه غير مرخص بالدخول لأحد
ههنا.
نعمان
:
إلا لي على الأقل، إنني أخلص خلصاء الخليفة.
منصور
:
أعرف ذلك، ولكني لا أملك الإذن لك؛ إذ لا يدخل هنا إنسان. إنك خدعتني، سمعت صفيرك
فما شككت في أن القادم ابن يحيى لا أنت.
نعمان
:
إن ابن يحيى مع الخليفة، كذلك أمرني أن أخبرك. هذا خاتمه وهذا خطاب منه
إليك.
(يأخذهما منصور منه.)
منصور
:
خاتم الخليفة! أجل إنه هو، وهذا خطه بعينه. (يقرؤه) «دع الأمير نعمان ينتظرني وإذا
سألك عن شيء فأجبه، إنه من أمرائنا المخلصين». ها، هذا شيء آخر يا سيدي الفارس، فلا
يسوءك حرصي، إذا كنت تعرف سر هذه العزبة، فإنك تعرف أيضًا أن الحرص واجب.
نعمان
:
أنا أعرف سر هذه العزبة، إني ليَ ذلك، أجل إن إرادة الخليفة طوَّحت بي بين وديان
المقطم الموحشة ودروب بِركة الحبش المقفرة، حتى بلغت هذا الباب، ولكني لا أعرف ما
وراءه، إني ليدهشني ما أرى، أجد بعد ذلك السرداب الضيق الذي اجتزته جنةً وفردوسًا، بل
ما هذا الذي أرى أيضًا، منزلًا كريمًا؟! كل شيء بديع جميل، بالله خبرني ما سر
هذا؟
منصور
(بلهجة الشاك)
:
ألم يخبرك الخليفة عنه
شيئًا؟
نعمان
:
كلا.
منصور
:
يسوءني ذلك، فإنِّي لا أستطيع أن أفيدك فوق ما أفادك الخليفة شيئًا.
نعمان
:
بالله يا منصور.
منصور
:
كلا، لا تُحاول حملي على خيانة مولاي.
عائشة
(تدخل عائشة من المنزل يمينًا)
:
من ذا تخاطب يا منصور؟ (تلتفت) الأمير نعمان!
أنت هنا يا سيدي؟
منصور
:
لقد عرف علامة الدخول وجاء بخاتم الخليفة ففتحت له الباب ولكنه لا يعرف بعد ذلك
شيئًا، كل ما يرى غريب لديه، فالواجب إذن أن يعود من حيث أتى.
نعمان
:
أعود من حيث أتيت وقد أرسلني الخليفة؟!
منصور
:
أجل. (يقبض على ذراعه بلطف): تفضل
بالانصراف.
عائشة
:
مهلًا يا منصور، دعنا نتكلم. (إلى نعمان): في أي
أمرٍ جئت يا سيدي الفارس؟
نعمان
:
جئت أقول لكما إن الخليفة آتٍ هو والطبيب الأندلسي ابن يحيى بعد ساعة أو تزيد
قليلًا.
عائشة
:
إني أعرف هذا الطبيب، رجل وقور وعالم خبير.
نعمان
:
إنه آتٍ مع الخليفة، وقد قال لي كلمات لم أفهم مدلولها ولكني حفظت بعضها عن ظهر
قلب، قال: إنكما ولياه عليها فأعدا كل شيء كما أمر الطبيب.
عائشة
:
أهذا كل ما سمعت منه؟
نعمان
:
كلا، ولكني لم أفهم، فقد كان قوله لي لغزًا لا يُحل. (وقف
مفكرًا غارقًا في تأمله ثم قال): اذكر أيها الفارس أنني أثق بك وأعتمد
على مروءتك، ستجد ابنتي حيث أُرسلك، فبالله خبريني أية ابنة هذي؟ إنَّ سعاد كما نعلم
في القصر وعزة …
عائشة
(تقاطعه)
:
هنا.
نعمان
:
في جبل المقطم! إنها في العباسة عند عمتها منذ طفولتها.
عائشة
:
كلا يا سيدي الفارس، إن عزة ههنا.
نعمان
:
إذن ففي الأمر سر.
عائشة
:
نعم.
نعمان
:
هل لكِ أن تخبريني به؟
منصور
:
تلك مشيئة الخليفة يا عائشة، فلأخبرك أنا، ليس يخفى عنك ما بين الخليفة الحافظ
والملك العادل نور الدين زنكي صاحب الشام من الجفاء القديم والنفار الشديد.
نعمان
:
أعرف ذلك حق المعرفة ولكنه انتهى بوساطة وزيره ابن الأفضل، إذ خُطِبَت الأميرة عزة
وهي وليدة عامها للأمير سيف الدين ابن أخيه ملك الشام.
منصور
:
نرجو الله أن تكون العاقبة كذلك، ولكن شبّت لسوء الحظ في تلك الليلة التي عُقِدَت
فيها الخِطبة وتمَّ فيها الصلح نار التهمت المنظرة التي كانت فيها، وكانت الأميرة عزة
إذ ذاك في مهدها فحفَّ اللهب من حولها حتى كاد يقضي عليها، فلكي ينقذوها قذفوا بها من
نافذة المنظرة عسى أن يتلقفها ديَّار، ولكنها سقطت على ثرى هيَّار فنجت غير أنها فقدت
بصرها، أمِنَ الذعر هو أم من سقوطها على ناصيتها؟ لا ندري.
نعمان
:
فقدت بصرها؟!
عائشة
:
أجل، واحسرتاه! عرفت يا سيدي سر حُزننا وأسى أبيها؟ طفلة وعت كل معاني الحُسن
وجمعت كل آيات الجمال وهي غارقة في ظلام ليس بعده ظلام.
نعمان
:
يا لله!
منصور
:
ذهبت الآمال التي عُلِّقت على بصرها أدراج الرياح، ونخشى أن تعود شرة النفرة بين
الملك العادل وبين خليفتنا الحافظ كما كانت، بل لتبلغنَّ أشدها وأنكاها، فإن ابن أخيه
لا يرضى بعمياء عروسًا له، وقد يرى أبوه وعمه أنَّ الصلح إنما كان خداعًا وأن الفتاة
كانت عمياء يوم خُطِبَت.
نُعمان
:
فكيف كان تدبير الخليفة؟
منصور
:
أولًا أن يُخفي عن الناس أنها عمياء، وقد كان هذا الأمر هينًا وهي طفلة، ثم
استدعى الخليفة من قرطبة طبيبها المشهور ابن يحيى، فلما فحص عن أمرها جاد لنا بنصائحه
وأوصانا بما يجب علينا لتدبير أمر الأميرة ومعالجتها، ثم طالع نجمها فتبينه.
نعمان
:
وبعد ذلك؟
منصور
:
وبعد ذلك بدَّل يأسنا أملًا ورجاء بقوله: إنها إذا بلغت السادسة عشرة من العمر
عادت أعصابها إلى ما كانت عليه من سلامة المزاج واستطاعت أن تُبصِر نور السماء،
واليوم تُكمِل الأميرة سنتها السادسة عشرة، وها هو ابن يحيى ذا في القصر مع الخليفة،
ولكن بلغنا أنه يقول إن الوقت لم يحن بعد ولا يدري إلا الله متى يحين.
نعمان
(بعد هنيهة من التفكير)
:
مسكينة هذه الأميرة!
كيف تحتمل مُصابها؟
عائشة
:
إنها لا تعرف أنها عمياء يا سيدي.
نعمان
:
لا تعرف أنها عمياء! أجِدٌّ هذا أم مزاح؟
عائشة
:
بل حق لا شبهة فيه، وستعرف ذلك أنت بنفسك، ولكني أوصيك أيها الفارس أن لا تتفوه
أمامها بكلمة تشير إلى نظرها المفقود، بل احذر ذلك كما حذره كل من جاء من قبلك ههنا،
فلا تُشِر إلى ما لا يُعرف إلا بالبصر، ولا تذكر أمامها بياض النهار ولا جمال
الضُّحى ولا وضح القمر، ولا يأتِ على لسانك ذكر النجوم فإن ليلها لا يُطلع نجمًا ولا
يُسقط شهابًا.
نعمان
:
أهذا إذن سبب اعتزالكم العالم بها في جبل المقطم وبُعدكم بها عن مجالس
الناس؟
منصور
:
هو كذلك يا سيدي، ولكنها تعرف كل ناحية في هذا المكان، تروح وتجيء لا يقودها
إنسان، وتراها فلا تحسب أنها لا ترى، فقد ظلَّت عينها حوراء دعجاء تُوحي آيات السحر
كأنها مُبصرة، وهي جهراء تخيط بإبرتها وتزرع حديقتها بيديها، وهي هاشة باشة كأنما
خُلِقَت كذلك.
نُعمان
:
مسكينة هذه الأميرة! أهي تظن إذ أنتما معها بعيدين عن العالم أنَّ هذا الوادي هو
الدنيا كلها ليس وراءه شيء؟
عائشة
:
ليست عزة في عُزلة كما تظن، فإنَّ وراء هذي الجبال ديرًا يجيئها الراهبات منه
يقضين معها ساعات طويلة فيسلينها ثم يعدن.
نعمان
:
أين هي الآن؟
عائشة
:
نائمة.
نعمان
:
في هذه الساعة من النهار؟!
منصور
:
إنها لا تنام في اليوم إلا ساعة، ولكنها ليست ساعة نوم فطرية لطيفة، فإن ابن يحيى
يُغمِض عينيها في أي وقت أراد بِصلة سرِّيَّة وإشارات غريبة، ثم يضع على صدرها طِلَّسْمًا
له عليها صولة عظيمة، وما دام الطلَّسم على صدرها فهي لا تفيق، فأما إذا نُزِعَ فهي تفيق
على الفور.
عائشة
(هنا يُسمع صوت بوق)
:
هذا نفير الخليفة، إنه
قادم (يخرج منصور من الباب السري).
نعمان
:
أيطرق الخليفة هذا المكان كثيرًا؟
عائشة
:
عندما ينزل المنظرة التي ابتناها جَدُّهُ على بِركة الحبش نراه من آنٍ لآن، ولكن
إذا عاقه العمل ولا سيما في مثل هذه الأيام التي انتقض فيها ملك صقليَّة انقضت شهور
لا يزورنا فيها مرة.
نعمان
:
أتعرف عزة أن أباها هو الخليفة؟
عائشة
:
لا يا سيدي، تدعوه يا أبي وكفى، وقد سألته مرة عن اسمه فقال: عبد المجيد، اسم
إمارته، ولا تعرف من أمره شيئًا سوى أنه شاعر عظيم.
نعمان
:
أتى الخليفة (يدخل الخليفة وابن يحيى ومنصور من الباب
السري).
الخليفة
:
كيف حال عزة يا عائشة؟
عائشة
(تُقبِّل فضل كمه)
:
على ما تروم لها يا
مولاي.
الخليفة
:
أوَعيتِ كل ما أوصاكِ به نعمان؟
عائشة
:
أجل يا مولاي.
الخليفة
:
أعمِلتِ به؟
عائشة
:
أجل يا مولاي.
الخليفة
:
هل كنتِ تضعين العِصابة كل يوم على عيني عزة؟
عائشة
:
أجل يا مولاي.
الخليفة
:
تقدم إذن يا ابن يحيى وانظر ماذا فعلت حكمتك وطبك، ادخل إلى عزة، واتبعه يا منصور
أنت وعائشة وكونا على استعداد لما يحتاج إليه من المعونة.
(يخرج ابن يحيى يتبعه منصور وعائشة إلى المنزل.)
الخليفة
(في المنتصف)
:
ألم يأخذك العجب يا نعمان إذ رأيت
هذا الوادي الهادئ الجميل؟ ألا يُشبِه فردوسًا صغيرًا؟
نعمان
:
كأني به وادي السلام والحُسن يا مولاي.
الخليفة
:
ليت الله منَّ عليَّ فقدَّر لي أن أعيش هنا بين كل ما أجَلَّ في هذه الدنيا: العلم،
والفلسفة، وجمال الفطرة. لو أراد الله لي ذلك لنزلت راضيًا عما عداه، فتركت ملك مصر
وصرفت ذلك العداء الشديد الذي يضمره ملك الشام.
نعمان
:
لقد انتهى هذا العداء يا مولاي والحمد لله، وعمَّا قريب يأتي إليك ابن أخيه الأمير
سيف الدين وفاءً بوعده لك ويرجع كل شيء إلى سعادة دائمة وخير مقيم.
الخليفة
:
أرجو الله أن يحقق ذلك! صه، إني أسمعهم يتكلمون، ابن يحيى قد أيقظها، (يذهب نحو باب المنزل) ها قد شرعت جفونها. اسمع، ها هي
ذي تتكلم، ولكن كأنما هي في منام. انظر، إنه يحدق بعينيها، والآن يضع على صدرها تلك
التميمة الساحرة. انظر، ها هي ذي تعود إلى السُّبات، قد نامت.
نعمان
:
هذا عجيب جدًّا!
الخليفة
:
وأيُّ عجب! إن لهذا الطبيب الأندلسي قوةً خفية تُنزِل الذعر بالقلوب. ها هو ذا
عائد فدعنا الآن أيها الفارس، ولكن اذهب أولًا إلى المنظرة، إني باقٍ هنا، فإذا جاءت
رسالة من سيف الدين فأسرع بها إليَّ. أتذكر علامة السر؟
نعمان
:
أجل يا مولاي. (يخرج من الباب السري). (يلتفت إلى ابن يحيى وقد عاد وحده).
الخليفة
:
علَّك عائد يا ابن يحيى كما تعود الورقاء بغصن الأمل المورق؟ ولكن طلعتك
جادة خافية كطبك فلا أستطيع التكهن بخفاياها، تكلم، ما وراءك؟
ابن يحيى
:
ما ورائي إلا الأمل والرجاء إن شاء الله.
الخليفة
(في منتصف اليمين)
:
أحق هذا؟ خبرني بالله ما دعامته وما تدبيرك العتيد؟ ماذا
شاهدت؟ إنك تعرف كيف تَعزُّ العين على الإنسان فعِدني أن لا تُقرِّب المشرط من عيني ابنتي
عزة، وأن لا تُشوِّه جمال ذلك الوجه الصبيح.
ابن يحيى
:
اطمئن أيها الخليفة، إن علم الجرّاح لا يُجدي في هذه الحالة.
الخليفة
:
فما تدبيرك إذن؟
ابن يحيى
:
إنَّ طبي أيها الخليفة هو في قوة وهبها لي ربي، قوة خفية وسرٌّ لا أملك أن
أبوح به لك. على أن هذه القوة ليست بنت يومها بل وليدة زمان بعيد، قوة تعهدتها حتى
ترعرعت واشتدت، وقد دنت ساعة اكتناه هذه القوة وفحص أثرها، فإمَّا أن تُبصِر ابنتك اليوم
ويُكشف عنها هذا الغطاء، أو فلا كاشف له إلا رب العالمين.
الخليفة
:
اليوم يا ابن يحيى؟
ابن يحيى
:
أجل، إذا آذنت الشمس بالغروب واستوى على عرشها شعاع الشفق اللطيف فتفتحت
فيه العيون التي لا تستطيع وهجها، فتلك هي الساعة التي أرتضيها.
الخليفة
:
إذن فقد حان الوقت الذي كنت أنتظره يومًا بعد يوم وساعةً بعد ساعة، وأنا
أُدافع اليأس بالصبر وأقرن الصبر بالرجاء، ولكنِّي أرى القلب قد خانني واستقر بين الضلوع
رخوًا كأنَّما هو معلل بمحال، أو كأني أرجو أن أعود إلى مثل ما كنت عليه من الصبر
والرجاء. عمَّا قريب تغرب الشمس، وأخشى أن يغرب معها أملي الباقي! لتكن مشيئة الله، ما
لي
أراك مفكرًا يا ابن يحيى، أأنت شاكٌّ؟
ابن يحيى
:
كلا يا مولاي.
الخليفة
:
أتشفق أن لا نعرف حق جزائك؟
ابن يحيى
:
مولاي، كيف هذا؟!
الخليفة
:
فما بالك مُطرِقًا؟
ابن يحيى
:
إني إنما أنا أتوجس خيفة من أمر يحار فيه الطب والأطباء.
الخليفة
:
تتوجس خيفة من أمر؟!
ابن يحيى
:
نعم يا مولاي، عقبة أخشى أن لا تأذن بتخطيها.
الخليفة
:
كيف ذلك؟
ابن يحيى
:
يجب قبل أن نبدأ في العمل أن تعلم عزة ما لم تكن تعلم به من قبل.
الخليفة
:
وما هذا يا تُرى؟
ابن يحيى
:
هو أن نخبرها اليوم أنها عمياء.
الخليفة
:
وي!
ابن يحيى
:
يجب أن تُدرك نقصها وتُحس ما يعوزها.
الخليفة
(فزعًا)
:
ماذا تقول يا ابن يحيى؟! كلا، لا نُعلِمها ذلك ولا نفكر فيه.
ابن يحيى
:
بل يجب ذلك يا مولاي وإلا ذهب عملي كله سدًى.
الخليفة
:
يا لله! أفقد قلبك الرحمة يا ابن يحيى؟! ما هذا؟! أتريد أن تعكِّر عليها في
لحظةٍ صفوَ حياتها كلها، ويحي إذا هي لم …! يا لله لا أُطيق القول! إذا نحن كشفنا عنها
غِطاء هذه الغفلة الناعمة، تلك التي تبني عليها كل سعادتها؟ أتمزق عنها ذلك النقاب الذي
يستر عنها كل شقاوتها وحرمانها لا رويدًا بل دفعةً واحدةً؟! فكِّر يا ابن يحيى كيف تكون
العاقبة إذا لم ينجع دواؤك لا قدر الله، إنَّنا حرصنا على إخفاء الحقيقة عنها أبدَ ست
عشرة سنة، بل إنما أنت قد أوصيتنا بذلك، أريتنا الخطة التي نتبعها فاتبعناها وثبتنا
عليها، وأنت الآن تنقض ما بنيت، فليت شعري لماذا؟!
ابن يحيى
:
إن كنت تريد العلة فإنها سهلة البيان، لو أنك تستمع لي يا مولاي هادئًا،
إنك تزعم أن البصر مودع مقلة العين، وما العين يا مولاي إلا آلة، فأما معين مبصر فإنما
ينبعث من الروح، وللعين في دِقاق الأعصاب ما يحمل إلى أخبية اللُّبِّ من الرأس كل صورةٍ
لطيفة، وطابعٍ جميل، يجب أن نُوقظ منها عينها الباطنة حتى تتنبه قبل أن تتفتح الظاهرة،
ينبغي أن تستيقظ الروح إلى صورة النور ورغبةً في النور وفكرةً عن النور واشتهاءً للنور؛
لأن الإنسان لا يَقبل شيئًا حتى يشعر من أعماق فؤاده بأنه في شديد الحاجة إليه، فيلح
في
ابتداع الحيلة لتحصيله.
الخليفة
:
إني لا أُجاريك في حكمتك يا ابن يحيى، ولكني أسمع صراخ الرحمة في صدري فلا
أستطيع أن أُجيبك إلى ما ترى. كلا، هذا محال.
ابن يحيى
:
أنت وما تريد يا مولاي، ما أنا إلا ناصح، فإن لم تَقبل النصيحة وتعمل بها
فلا نفع لي، سلام عليك، إنِّي ذاهب إلى الخان الذي تعرف، حتى إذا رأيت خيرًا لك أن تقبل
نصيحتي وجدتني منك قريبًا، ولكن اعلم أيها الخليفة أنَّه إذا غربت شمس هذا النهار
المشهود، وذهب هذا اليوم الموعود، فإن طبِّي بعده لا ينفع، وحكمتي لا تفيد (يخرج من
الباب السري).
الخليفة
:
الرجل جادٌّ في قوله لا يرعوي عنه، ولكن من ذا يشتري بهذا الثمن الغالي أملًا
غير مُحقق، أملًا قد ينقلب يأسًا؟! أأبدلها من صفائها كدرًا، ومن جهلها السعد علمًا
أليمًا؟! كيف أُطيق أن أرى شبابها الغض يذبل يومًا بعد يوم؟! كلا، هذا إن هو الحمق
والجنون، هذا هو النُّكر والقسوة، لا بد أن أُقنع ابن يحيى بالحُجَّة، أجل لن أدعها حتى
يذعن لي (يخرج من الباب السرَّي).
(يدخل منصور وعائشة من اليمين.)
عائشة
:
لقد خرج الخليفة وكأني به مغضب، ما لي لا أرى الطبيب هنا؟ ماذا حدث يا
ترى؟
منصور
:
لا أدري، إني لأكره من الرجال من كان كهذا الطبيب لا تُبصِر العين فيه ما تحب،
وأشعر بغشيةٍ من كل ذي قوةٍ خفية، أو صولةٍ سحرية، بل أمقت كل من يكون غريبًا في أمره
خفيًّا في نفسه كابن يحيى هذا. انظري هذي عذراؤنا البئيسة، راقدة في فراشها كأنما هي
جثة هامدة، فلا يدنو ابن يحيى منها ويشير إليها إشارةً من إشاراته حتى تفيق بغتةً، وإذا
أراد أن يردها كما كانت أشار إليها إشارةً أخرى، فغرقت في نومها! إن هذا الأمر مُرعب
لا
آمنه.
عائشة
:
لا تشغل فؤادك بمخاوف لا طائل تحتها.
منصور
:
لا بأس، ستُريكِ الأيام، هلمِّي بنا إلى شئوننا في البستان، إن الأميرة ستنام
حتى نعود.
(يخرجان من وراء المنزل، وذلك في الجانب الأعلى الأيمن.)
عمارة
(من الخارج عند الركن الأيسر)
:
حذارِ أيها الأمير، إنَّ السبيل معتمةٌ
كالليل.
سيف
:
لا تخشَ بأسًا، تقدَّم، تقدم إني وجدت بابًا.
عمارة
:
بابًا؟
سيف
:
وهذي حلقته، بل هو مفتوح.
(يدخل الأمير سيف الدين وعمارة اليمني ومع كل منهما قوس وكنانة فيها أسهم ونشاب) ما
هذا الذي أرى؟!
عمارة
:
فردوس والله! ما هذه الأزهار والرياحين؟!
سيف
:
ياللعجب! حديقة بين هذه الجبال القفرة؟! ما أسحر هذا الجمال للعين!
عمارة
:
إني والله مأخوذ!
سيف
:
مَنْ صاحب هذا المكان يا ترى؟
عمارة
:
لا أدري.
سيف
:
لا تدري؟! أتكون من أهل مصر ورجال القصرين ولا تدري؟!
عمارة
:
إني ما سمعت بمثل هذا المكان من قبل.
سيف
:
أين أهله يا ترى؟
عمارة
:
لا أرى أحدًا؛ كأنِّي بالحديقة قد خُلِقَت في ليلة واحدة، ولعمري لهو من
منازل الجان التي لا يهبطها إنسان؛ إن بِركة الحبش مشهورة بالمردة والجان.
سيف
:
بل إنما يسكنه حَيٌّ منَّا، انظر ألا ترى أثر أقدام؟
عمارة
:
هو كذلك، إنه أثر أقدام صغيرة، فلنجعلها دليلنا إلى صاحبها، هلمَّ.
سيف
:
قف يا صاحبي حتى يأتيك آتٍ، حسبنا عيب الدخول بلا استئذان، يا لله! كيف ساق
الصيد أقدامنا إلى هذا المكان؟!
عمارة
:
لعمري لقد أراد الثعلب الذي طاردناه أن ينتقم منا على ما أصابه فقادنا بين هذه
الشقوق حتى ننزل هذا المأوى.
سيف
:
دع عنك هذا.
عمارة
:
أما وحقك إنه لمأوى مارد من الجان، ولكن قل لي بالله لماذا تصدف عن طريق
الخليفة وأنت إنما جئت لتقابله، والناس كلهم يعلمون أنك خاطب إحدى بناته؟
سيف
:
خاطب؟! إني لم أخطب أحدًا.
عمارة
:
كيف ذلك؟
سيف
:
لم يكن لي من العمر إلا تسع سنوات يوم دبَّر والدي وعمي والوزير ابن الأفضل هذا
الزواج، ودبروا في الوقت نفسه ثمن الصلح على عكاء، ولكني كبرت الآن وكللتني الرجولة،
وإذا كنت أكره الصلح الذي أضاعوا به ثمرة النصر الذي نلناه، فأحرِ بي أن أكره خِطبة
الزواج الذي ختموا به هذا الصلح، إنِّي أتيت مصر مُستروِحًا لا مُستزوِجًا.
عمارة
:
يُحزنني أن أسمع منك هذا الكلام يا سيف الدين، إنَّ الخليفة يُمَنِّي نفسه
كبار المُنى بهذه الخِطبة، يريد أن يعتز بعمك على ملك صقلية.
سيف
:
قد يكون للخليفة من وراء ذلك فائدة، أمَّا أنا …
عمارة
:
ماذا تعني يا سيف الدين؟
سيف
:
دعنا من هذا، أنت نسيت أنَّ هذا المكان جميل.
عمارة
:
جميل! أجل، ولكن الخروج منه أجمل، أترى أننا نستطيع ذلك إذا أردنا؟
سيف
:
لا يَرُعك ذلك.
عمارة
:
حسن، ولكن إذا كنت لا تريد الخروج فلا أقل من أن نبحث أَبِهِ ساكن أم لا، ألا
نُعالج هذا الباب؟ إذا كنت لا تريد ذلك، فإنِّي أتولى الأمر عنك (يتقدم نحو
الباب).
سيف
:
دع لي الأمر كله، فإذا كان بالدار جن أو مارد كما تقول فأجدر بي أنا الذي
قُدتُكَ إلى هذا المكان أن أحمل الأذى وحدي، (يقرع الباب ويتسمع) لا مُجيب!
عمارة
:
عالج الباب، (يأتي إلى جانبه وينظر) ادفعه.
(يفتح الباب دفعًا ويقف يتأمل.)
سيف
:
آه ما أبهى ما أرى!
عمارة
:
هذه روح من الأرواح!
سيف
:
نعم، إنها روح من النور، انظر انظر!
عمارة
(ينظر)
:
وي، هذه روح عذراء! صه، أتراها نائمة في سريرها؟
سيف
:
ليست من الأرواح يا عمارة، ألا ترى صدرها يعلو وينخفض؟ ألا ترى هذه الابتسامة
التي تحفُّ من حول ثغرها الجميل؟!
عمارة
:
سألتك بالله يا سيف الدين إلا ما غادرنا هذا المكان، إنَّ قلبي قد مُلئ
ذُعرًا! أترى هذا المكان حِصنًا مسكونًا؟! ما ظَنِّي إلا أنَّ المارد الذي شقَّه في هذه
الجبال سيدهمنا به، ثُمَّ يقيدنا ويدفعنا إلى هوَّةٍ ليس لها قرار، الفرار بالله الفرار!
سيف الدين، ما لكَ لا تجيب؟! يا لله! لقد أمسكوا به، أسُحِرت؟! ما لكَ لا تُبدي حراكًا؟
سيف
الدِّين! ارجع.
سيف
(لا يزال ينظر مأخوذًا)
:
أَخْفِتِ الصَّوت، أُشفق أن يُوقظها الحديث. أَخْفِتِ
الصوت، حرام عليك أن تعكر الصفو الذي ينبعث منها في رقادها.
عمارة
:
استمع لي يا سيف الدِّين.
سيف
:
صه، لا تتكلم، إنَّ هذا المكان مُقدَّس.
(يجثو ويمد يديه ضارعًا نحو الباب ويُنشِد):
يا ربَّة الوادي الكريم تقبَّلي
عُذري إليك وإن عذلت فأجملي
ما أن طرقت حماكِ إلا ناشدًا
نفسًا مضت عني وقلبًا ضلَّ لي
فإذا نظرت إليكِ نظرة والهٍ
فلقد وجدتهما لديكِ بمعقلِ
هذي على الوجنات تلثم وردها
شغفًا وهذا بالترائب مختلِ
رديهما كرمًا عليَّ وأكملي
برضاكِ عني نعمة المتفضلِ
عمارة
:
ويحك! قم، ألم تنهني عن الكلام؟!
سيف
:
معذرةً يا صديقي معذرة، إنِّي أستغفر هذه الروح الطاهرة على غشياننا
دارها.
عمارة
:
قم، إني ليُخيفني أن أراك فاقد القوى مسلوب اللُّبِّ مسحورًا، هلمَّ اتبعني، إن
هذا الحُلم ضِغث ووهم، هلم.
سيف
(يقوم)
:
لا أستطيع، لا أستطيع.
عمارة
:
سيف الدين، لا تقف يا صديقي وقفة الخشبة جامدًا صامتًا، إذا نحن لم نستطع
الفرار من هذه الدار فتنبه واستجمع قواك، ودعنا نبحث عن هذه العذراء الراقدة في فراشها
ثم نُوقظها.
سيف
:
لا أُطيق، لا أُطيق، إنَّ هذا حرام.
عمارة
:
إذا كنت لا تريد أن تُوقظها فأنا أتولى عنك ذلك (يدخل عمارة إليها).
سيف
:
يا لله من هذه المخاطر! وي! إنه يحادثها، ويحي إنه يقبض على ذراعها! (يعود عمارة
مذعورًا).
عمارة
:
الفرار الفرار! إنِّي لم أستطع إيقاظها، إنها مسحورة.
سيف
:
مسحورة؟
عمارة
:
نعم، إننا ألقينا بأنفسنا في مُستراد الأرواح وجئنا إلى الموت بأرجلنا.
سيف
:
إنه مُستراد قُدسي ومحراب للحياة لا للموت يا عمارة، ولكنك على حق، يجب علينا أن
ننجلي عن هذا المكان من فورنا. انظر إنها نائمة وليس من المروءة أن نبقى (يدخل هو إلى
الفتاة).
عمارة
:
ويحي! ما له قد دخل؟! أهذا معنى الرحيل؟! إنَّه جثا أمام سريرها يُقبِّل يدها،
ينظر إليها، ما هذه النظرة؟! ثم ماذا يفعل؟ إنه يُحِلُّ عن عنقها عِقدًا، عجبي عجبي!
أحضره معه! الحمد لله، ها هو ذا قد عاد.
سيف
:
لقد طبعت الآن صورتها على صدري، فلن يستطيع الدهر محوها، هلُمَّ بنا الآن نرحل
يا صديقي، ولكني أقسمت أن أزورها مرةً أخرى وكأنما ابتسمت منِّي لهذا القسم، وقد أخذت
هذه الحلية (عمارة ينظر إليها)، هذه الجوهرة التي كانت مدلّاة بين ترائبها لِتُحدِث عما
كان لها حتى وهي غارقة في نومها من الأثر في فؤادي هذا، بل في حياتي كلها، هلمَّ يا
عمارة.
(يتهيَّأان للرحيل هو وعمارة من الباب السري، وعند ذلك تظهر عزَّة لدى باب الدار
يمينًا، وعزَّة هذه بالرغم من عماها متلائمة الحركات، ليس عليها من مظاهر فَقْدِ البصر
سوى أنَّها قد تمد يدها كأنما تلتمس شيئًا، أو تميل بخدها كأنما تتسمع فتَبِينُ عليها
علامة ذلك، أمَّا عيناها فمفتوحتان ولكنهما تنظران إلى أدنى وحركتهما واهنة.)
عزة
(عند الباب)
:
عائشة! منصور!
سيف
(يلتفتان)
:
ها هي ذي قد جاءت.
عزة
:
إنِّي أسمع صوت إنسان (تذهب نحو سيف الدين مُتَّبِعةً صوته).
من هنا؟
سيف
:
غريب يا سيدتي، يلتمس منكِ العفو على تعكيره صفو هذا المكان بطروقه إياه.
عزة
:
عاطني يدك، هذا أول عهدك بهذي الدار! إنِّي لا أعرف صوتك، أفأتيت تُحادث منصورًا
أو زوجته في شيء؟
سيف
:
كلا يا سيدتي، ما قصدت بمجيئي أحدًا، إنِّما ساقت المصادفة قدمي إلى هذا المكان
(عمارة يقول سرًّا لسيف الدين).
عمارة
:
سَلْهَا مَنْ منصور هذا؟
عزَّة
(سامعة صوته)
:
من هذا الذي معك الآن؟
سيف
:
شاعر من شعراء مصر وأمير من أمرائها يا سيدتي.
عزة
:
كلاكما على الرحب والسعة، ألا تدخلان الدار؟ إنها أندى من هذا المكان
وأرطب.
عمارة
(بسرعة)
:
بأمرك نبقى هنا يا سيدتي، (لسيف الدين سرًّا) هذا أَلْيَقُ بنا.
عزة
(وقد أخذت بيد سيف الدين)
:
يدك دفيئة أيها السيد، مهلًا حتى آتيك بشراب (تدخل
الدار يمينًا).
سيف
:
يا لله! ما هذا الحُسن والكرم وهذه الدعة والرقة! جبين ملائكي وصوت عذب ملَّاك
على النفس مشاعرها!
عمارة
:
صدقت والله، لقد أحسست كأنما تُلقي ألفاظها السحر عليَّ ويستَلب لُبِّي
تحنانها، أقسم إنها لمِن بيتٍ في الأشراف كريم، ولكن الحذر خير لنا وأسلم؛ فإذا عادت
بالشراب فلا تشربه يا سيف الدين، أخشى أن يكون مسحورًا.
سيف
:
مِنْ مثل يدها يُستطاب شراب الموت (تدخل عزة ومعها إبريق الشراب وطاس).
عزة
:
لقد جئتكما بشراب مما يشربه أبي، تفضَّل أيُّها السيد (تملأ الكأس وتُناوِل سيف
الدين إياها).
سيف
:
شكرًا جزيلًا (يتناول الكأس، وعند شربها): أشربه داعيًا لكِ بالسعد يا سيدتي
الحسناء.
عزة
:
خُذ الإبريق فاملأ لصاحبك (تُقدم الإبريق)، أمَّا أنا فسأقطف شيئًا من الفاكهة
المُستطابة، إنَّ لدينا من الأعناب ما تشتهي النفس (تخرج).
سيف
(يملأ)
:
اشرب وانقع ظمأك.
عمارة
(ينظر إليه متفرسًا)
:
ألا تشعر بشيء؟ دوار أو غيبوبة؟
سيف
:
كلا، اشرب ولا تخشَ بأسًا.
عمارة
(يشرب)
:
أَتُسَمِّي هذا شرابًا؟ أقسم بالله إن هذا لرحيق مما يعتز به الخليفة
نفسه، سيف الدين إنِّي شربت، ولكن إذا جرى لي أمر …
سيف
:
لا عليك! في رقبتي الذنب والجريمة.
(عزة تعود إليهما حاملة سلة فيها عنب وفاكهة أخرى.)
عزة
:
ها أنا ذا قد أحضرت لكما الفاكهة، فتخيَّرا منها ما تريدان، (تضعها على المائدة)
تفضلا.
عمارة
:
شكرًا لك يا سيدتي الجليلة، ولكني أرجو منكِ العفو إذ أسألك مَنْ صاحب البيت
الكريم والوالد النبيل الذي تنتسبين إليه؟
عزة
:
إنك تُدهشني، ألا تعرف ذلك؟! ما جاءني أحد لم يكن يعرف أبي من قبل!
عمارة
:
ما اسمه يا مولاتي؟
عزة
:
كلهم يدعونه عبد المجيد.
عمارة
:
عبد المجيد! أهو بعض الأمراء؟
عزة
:
بعض الأمراء!
عمارة
:
أفارس هو؟ أيلبس الخوذة والدرع ويعرك السيف والرمح؟ ما دأبه يا مولاتي؟
عزة
:
ما بحثت عن ذلك من قبل.
عمارة
(بعد سكوت قصير)
:
ولماذا يحجرون عليكِ يا سيدتي؟
عزة
:
يحجرون عليَّ!
عمارة
:
عفوكِ يا سيدتي، أردت يبقونك وحيدة.
عزة
:
وحيدة! لم تُصِبْ في قولك هذا.
عمارة
:
ولكنَّا لا نجدُ في الدار سواكِ.
عزة
:
صدقت، ليس في الدار أحد! لا أدري لِمَ هذا، فإني ما تُرِكتُ وحدي من قبل، ولكن
مهلًا سأدعوهم، لا شكَّ أنَّ منصورًا سَيُسَرُّ بقدومكما (تدخل الدار).
عمارة
:
سنعرف عمَّا قليل لِمَنْ هذا الوادي، ولكنِّي لا أشك أنَّ له سرًّا غريبًا
يُحاول صاحبه أن يُخفيه في غضونه، أرأيت كيف بالغوا في إخفاء مدخله عن العيون بأطباق
العشب ورُكام الصخر؟! نصيحتي لك يا سيف الدِّين أن لا تبعد عن هذا الباب، أما أنا فسأذهب
أبحث عن الجماعة وأدعوهم حتى إذا رأينا نُذُر الخطر استطعنا أن نردها عن أنفسنا، (يتقدم
سيف الدين من الدار وينظر إليه عمارة دهِشًا قائلًا): سيف الدين، لماذا لم تستمع
لي؟
سيف
:
نعم، نعم، اذهب على الفور.
عمارة
:
لقد سحر جمال الفتاة لُبَّه فلا يعي حديثًا!
سيف
:
صدقت يا عمارة صدقت، لقد سحر حُسنها لُبِّي وامتلك عليَّ نفسي فلا أعي شيئًا،
كأنِّي بهذا الوادي الظليل كعبة آمالي، وكأنَّ روحي قد وجدت به دار السلام التي تنشدها
فلا تستطيع عنها رحيلًا.
عمارة
:
ولكنك اليوم على موعد من الخليفة، بل هو اليوم في انتظارك، أنسيت هذا؟
سيف
:
الخليفة، ماذا يَهمُّني الخليفة؟ أنا لا أُريد ابنته، (يذعر عمارة)، كيف يُعدُّ
عقدًا كتاب صيغ في طفولتي بزواج ابنته؟! أجل إن ولاية الأب على القاصر في الزواج مشروعة،
ولكن هذا قيد عظيم، إنِّي لم أرها، ولم يرها أحد من أهلي حتى أطمئن. دعني بالله، لقد
وجدت طلبة نفسي ومُنى قلبي ولن أبغي عنها محِيلًا.
عمارة
:
لا شك أنك مجنون يا سيف الدين! يجب عليك أن تلاقي المستقبل كما يكون، ولا
تتشبث برأيك الآن، فإنه عاطفة مباغتة ورأي مأفون لم يَحمِلْك عليه إلا أنك مأخوذ مسحور،
دع عنك ما ترى بالله! (سيف الدين يعود يسارًا).
سيف
:
هل أستطيع العمل بقولك إذا كنت مسحورًا؟ إن المسحور لا يفهم ولا يعي.
عمارة
:
صه، إني أسمع وقع أقدام (تدخل عزة من اليمين).
عزة
:
ألا تزالان هنا؟
عمارة
:
ألا تأخذينا يا سيدتي إلى ربِّ الدار؟
عزة
(محزونة قليلًا)
:
لم أجد بالدار أحدًا، ناديتهم واحدًا فواحدًا فلم أسمع
جوابًا، لست أدري لماذا تركوني؟
سيف
:
لا شك أنهم عائدون عمَّا قريب.
عزة
:
إنهم الآن في البستان على ما أظن.
عمارة
(سرًّا لسيف الدين)
:
انتظر أنت.
سيف
(يتقدم منها وهو يُخاطب عمارة)
:
أجل سأنتظر.
(يخرج عمارة من الباب السرِّي بعد أن يُحيي عزة بيديه وعزة لا ترى شيئًا فلا تُجيب
تحيته، وبعد ذلك تقول …)
عزة
:
ما لصاحبك قد ذهب؟
سيف
:
سيعود عمَّا قريب، ولكني أريد أن ألتمس منكِ العفو على جُرمٍ اجترمته، وذنبٍ أريد
التكفير عنه باعترافي به، لقد أخذت منكِ هذا العِقد وأنتِ نائمة، على أني إنما أخذته
تذكارًا (يقدمه لها) ها هو ذا.
(تمد يدها ولا تلمسه في أول الأمر ثم تلمسه وتأخذه.)
عزة
:
أين هو؟ هذا عِقد؟ أهو عِقدي؟
سيف
:
على ما أظن!
عزة
:
كلَّا، ليس هذا العِقد لي، ولكنِّي سأسأل عائشة حين تعود (تضع العِقد على
المِنضد).
سيف
:
حسن يا سيدتي، هل لكِ أن تعطيني عنه عِوَضًا، وردة من هذه الورود
الحمراء؟
عزة
:
وردة؟
سيف
:
نعم يا سيدتي.
عزة
:
حُبًّا وكرامة، (تقطف وردةً بيضاء وتقدمها له من الشجر النامي على يمين الباب
الأول) إليكها.
سيف
:
شكرًا لكِ يا سيدتي، ولكنك عاطيتني وردةً بيضاء، عاطني وردةً حمراء تُشبِه في
الحُسن حُسنكِ وبهاكِ.
عزة
:
ماذا تعني بالوردة الحمراء؟
سيف
:
وردةً من هذه الورود (يشير إلى الورد الأحمر).
عزة
:
إذن فخذها أنت بنفسك.
سيف
:
بل أوثر ما اخترتِ لي يا سيدتي، الوردة البيضاء. عاطني وردةً أخرى بيضاء حتى
أتمثل فيهما صفاء قلبكِ ونقاء فؤادكِ.
عزة
(تقطف له وردةً حمراء من حيث قطفت الأولى)
:
إليك هذه الوردة، أأردت هذي؟
سيف
:
لقد سألتكِ وردةً بيضاء.
عزة
:
وما هذي؟
سيف
:
هذي! هذي! يا للعجب! (بصوتٍ خافت)، خبِّريني يا سيدتي كم وردةً في يدي الآن (يُمسك
بالوردتين في يده وورود أخرى يجمعها من هنا وهناك ويعرضها لترى، وعزة تمد يدها إلى الورد
دون أن توجه نظراتها إليه).
عزة
:
عاطنيها.
سيف
:
كلا، قولي كم هي دون أن تلمسيها.
عزة
:
كيف يُستطاع ذلك؟
سيف
(لنفسه)
:
يا لله! جهراء ضريرة! (بصوتٍ عالٍ مملوءٍ رقةً وحنوًّا) يا لله!
عزة
:
إذا أراد أحد أن يعرف صورة الشيء أو عده فلا بد له من لمسه، هذا واضح.
سيف
(بشك)
:
نعم، نعم، قد تكونين مُحِقة في ذلك، ولكن قد يجد الإنسان أحيانًا …
عزة
:
أحيانًا! ماذا تقول؟
سيف
(مترددًا)
:
أقصد أن هناك أشياء يمكن إدراكها بلونها كالأزهار والأثمار وغير ذلك.
عزة
:
تعني خواصها وصورتها؟
سيف
:
أجل، ولكن ليس الأمر كذلك وحده.
عزة
:
إذن فمن الصعب التمييز بين الأزهار، أليست الورود مُستديرة ناعمة رقيقة رخصة
الملمس رطبة كالنسيم البليل؟ عبقة كليالي الصيف؟ أهي تُشبِه القرنفل مثلًا؟ كلا، إن رياه
فاغمة كريا الشراب الذي عاطيتك منذ قريب، أهي كتين الشوك؟ كلا، إنك لتجِد له أَبْرًا
كحُمَةِ النحل.
سيف
:
يا للعجب! ألم يخبروكِ من قبل أن تمييز الأشياء من بُعد لا يكون إلا
بالبصر؟!
عزة
:
كيف يكون التمييز من بُعد؟ ها! فهمتُ أنَّ الطائر الصغير الجاثم على ذلك السقف
ممكن تمييزه بما يسمع من رقيق رفرفته، وكذا كل من يتقدم إنما تعرفه إذا تكلم، وكذلك
جوادي الذي أمتطيه إنما أعرفه بخطواته وصهيله حين أخرج إليه حتى ولو كان بعيدًا عنِّي،
فأمَّا ما تُسميه بصرًا فإني لم أسمع عنه شيئًا، هل لك أن تُخبرني عن فائدته أو
نفعه؟
سيف
(لنفسه)
:
يا لله! إنها لا تدري أيضًا أنها كفيفة البصر!
عزة
:
قل لي، أمِنْ هذه الدنيا أنت؟! إنك تكلمني بعبارات لا يُكلمني بها مَن يُحيطون
بي في هذا المكان، كما أنِّي أجد في حديثك شيئًا من الغرابة والجِدَّة، إن كان الوادي
الذي
تقضي به أيامك يختلف عن واديَّ في شيء، فأقم بالله عليك وعلم فؤادي ما يعوزه العلم به.
سيف
:
آه يا سيدتي الحسناء، ليس في مقدوري أن أُخبركِ بكل ما تجهلين.
عزة
:
ظنِّي أنك لو أردت لقدرت، إنهم خبَّروني أنِّي سهلة التعليم، وكم من زائر
علَّمني شيئًا فوجدني أُدركه بيانًا! ما ضرك لو أخبرتني؟ هلمَّ، ثق أنني لا أُخدع، لقد
وجدت فيكَ فتًى طيبًا مملوء القلب عطفًا ورقة، كذلك يدلني صوتك وما يسر من حنوٍّ ووداد،
لا
تأب عليَّ ذلك بالله، لا تحرمني العلم بما لا أعلم، إني سأنصت إليك وألتفت.
سيف
:
واحسرتاه! ليس الالتفات بكافٍ وحده لتبصيركِ بما لا تعرفين، ولكن خبِّريني ألم
تُلاحظي أن ليس في جسمانكِ اللطيف عضو إلا وله عمل وفضل مُبِينٌ؟
عزة
:
بلى.
سيف
:
بيدكِ مثلًا تلمسين الأشياء على اختلافها، وبقدمكِ اللطيفة تطرقين الدروب على
تنوعها، وبأُذنكِ تحوين الكلمة الصادرة والنغمة المطربة فتملأ نفسكِ مَسَرَّةً
وارتياحًا، وبشفتيكِ تُرسلين رسل البيان أُطلقت من حنايا الصدر لطيفة العبير إذ يعلو
ويقر هادئًا كصافي الغدير.
عزة
:
لقد عرفت كل ذلك من قبل، ثم ماذا؟
سيف
:
خبريني إذن، لماذا خلق الله لكِ العينين، وأي نفع لكِ من هاتين النرجستين
رُكِّبتا في أجاجين كالدُّرَّتين؟!
عزَّة
:
أي نفع لهما عندي! ما أعجب هذا السؤال! إنِّي ما فكرت في الأمر من قبل، ولكن
ما أسهل الجواب! فإنِّي إذا غشيني المساء وتملكني الإنضاء غضَّ النوم منهما وخيم السُّبات
عليهما، ثُمَّ أذاع فيهما حلاوة السِّنة وسِحر الرقاد، فأحسست بنعيمٍ دُونه كل نعيم.
هذا
بعض فضل العيون عليَّ، ألم تجد أنت لعينيك عليك فضلًا؟ إني وجدت كثيرًا، ذهبت مرة أغرس
وردةً فلدغتني نحلةٌ وآلمتني، فلمَّا تألمت تحدرت الدموع من عيني تباعًا وواستني، وإذ
أخذت أنتظر أبي العزيز فلم يجئ وملكني الشوق إليه فلم أجدني بين ذراعيه، ثم جاء إليَّ
وضمَّني إليه بكيت فرحًا وحُبورًا ونثرت الدموع على كتِفه سرورًا، فالدموع يا صاحبي دموع
العين تخفف عن القلب حِمله فرحًا كان أو أسًى. يا عجبي منك! كيف تسألني لِمَ خلق الله
العينين وهما كما علمت عزاء للحزين في تَرَحه، وكمال للقلب في فرحه؟!
سيف
:
معذرةً يا سيدتي، لقد كان سُؤالي لكِ فضولًا وجهالةً، إنَّ في نفسكِ من الوضاحة
وفي روحكِ من البيان ما لا حاجة معه إلى نور تتصيده العين ليكشف لها خبايا المجهول.
أيتها الخفية الحسناء، إذا كان لكِ ببني آدم صلةٌ تنتهي بأمهم الأرض أو كان لكِ في مسرات
هذه الحياة الحائلة نصيب، فتقبلي من أحد الأمراء خالص خضوعه لكِ وطاهر شغفه بكِ، وإذا
قبلتِ فاسمعي قسمي لكِ وعهدي: لن يكون لأنثى في نفسي وإن سما فرعها وعزَّ جمالها أثر
بعد
اليوم يمحو صورتكِ المنقوشة على صحيفة روحي حتى يقضي الله.
عزة
(بعد سكوت قصير)
:
يا لله! كيف تتكلم؟! إنَّ لفظك غريب عن أذني، ما أحلى هذا
الحديث! قل لي بالله، أي مُعلِّمٍ عَلَّمكَ سحر الآذان بكلمات البيان هذي؟ لكأني وأنت
تُحدثني أسير في وادٍ مجهول، كلامك عذبٌ جميل ولفظك كالنغم الكريم، بل يكاد يكون وحيًا،
أعده على مسمعي، بل … لا تُعده، دعني أُنصت إليه في خيالي وأستمتع بهذه الكلمات فإنها
تسحرني وتلذني (هنا يدخل عمارة جاريًا من الباب الخلفي وسيفه مسلول).
عمارة
(سِرًّا لسيف الدين)
:
سيف الدين، رأيت فرقة من الجند آتية من بعيد وكلهم مسلحون،
فاذكر أننا وحيدان في هذا المكان (يخرج عمارة. سيف الدين قائلًا لعزة).
سيف
:
سيدتي النبيلة الحسناء، إنِّي راحل.
عزة
(بفجعة)
:
راحل؟ لماذا ترحل؟
سيف
:
سأعود إليك قريبًا.
عزة
:
تعود؟
سيف
:
نعم.
عزة
:
متى؟
سيف
:
اليوم.
عزة
:
حسن.
سيف
:
ألا تقيسين قامتي براحتك حتى إذا التقينا عرفتِني؟
عزة
:
أقيس قامتك؟! لماذا؟! ألا أعرف رنين صوتك؟! لا، ليس في أي معزفٍ مما أعرف لا عود
ولا قيثارة صوت تحنُّ إليه النفس كصوتك، ولا نغمةٌ حلوة شهية كنغمة لفظك، ولو كنتَ بين
ألف لعرفتك.
سيف
:
إذن فالوداع حتى نلتقي.
عزة
:
هاتِ يدكَ (تمد يدها)، الوداع على أن تعود سريعًا، إني في انتظارك.
سيف
(يركع يُقبِّل يدها)
:
ثقي أنِّي عائدٌ إليكِ قريبًا، كذلك عهدي، وكذلك يدعوني
قلبي، ولئن ذهبت عنكِ الآن فإني تارك معكِ فؤادي، الوداع.
(يخرج من الباب السري وعزة تتسمع.)
عزة
(الوداع وتسكت هنيهة)
:
لقد راح. ها هو ذا الآن بمنعطف الجبل حيث عوَّدت أذني أن
تسمع خطوات من لا أعرف من الناس، لا تزال خطواته وإن وهَنَت تصل إلى السمع منِّي، والآن
آه! لا أسمع وقعها، ها هي ذي مرةً أخرى، يا لله! كيف يكون حالي إذا هو كان كمن سبقوه
من
الزوار لا يأتون إلا مرةً واحدةً؟! وإليكِ عني أيتها الهواجس، لقد وعد أن يعود مرةً أخرى،
بل لقد ضرب اليوم موعدًا للِّقاء، فواشوقي إلى ساعته! ولكنِّي أشعر بسقوط الندى ودخول
الليل، وأخشى أن يحول الليل دون وفائه اليوم بوعده، لعله يأتي غدًا.
يا قلب إن كان سحرًا مَا أُخِذتَ به
من عذب مَلفظه فليحمك اللهُ
وإن يكن صادقًا في الود فارعَ له
عهد الوداد وكن يا قلب مأواهُ
وأنت يا أيها الوادي الكريم إذا
وافاك فاجعل غضيض الزهر مثواه
وأنت يا قلب فاهدأ عند عودته
أو لا فدقَّ له البشرى بلقياه
ويحي! إني وحيدة.
(تدخل عائشة من خلف الدار فإذا رأت عزة تقدمت نحوها.)
عائشة
:
وي بُنيتي! ماذا جرى؟! أفقتِ وحدكِ وجئتِ إلى هذا المكان؟!
عزة
:
عائشة! أين كنتِ يا أماه؟
(يدخل الخليفة وابن يحيى من الباب السِّرِّي من غير علمٍ منهما ثم يقفان لا
يتكلمان.)
عائشة
:
كنتُ مع الفلاحين يا بُنيتي، ولكن خبِّريني مَنْ أيقظكِ؟
عزَّة
:
أنا أفقت وحدي.
عائشة
:
وحدكِ؟!
عزة
:
لا أتذكر غير ذلك، ولكن اسمعي، عندي لكِ خبرٌ عظيم، قد كان عندي الساعة زوَّار.
عائشة
:
زوار! من هم الزوار؟!
عزة
:
غريبان لا أعرفهما، إنهما لم يجيئا إلينا من قبل، ليتكِ كنتِ معنا.
عائشة
:
مَنْ هُمَا الغريبان يا ابنتي؟ من أي مكان جاءا؟
عزة
(تُقاطعها)
:
لم أسألهما من أين جاءا، لقد طالما نهيتني أنتِ عن مضايقة الضيف
الغريب بمثل هذه الأسئلة فامتنعت.
عائشة
(حائرة)
:
فمن هو هذا يا ابنتي؟
عزة
:
لا أعرف هذا أيضًا.
عائشة
:
وهل كنتِ وحدكِ؟
عزة
:
ناديتكِ بأعلى صوتي فلم تسمعي.
عائشة
(لنفسها)
:
يا لله! كيف ذلك؟! (بصوتٍ عالٍ) ولكن خبِّريني …
عزة
:
آه، ما وجدت مثلهما زائرًا أو بالأحرى مثل واحدٍ منهما، يظهر لي أنَّ مقامه في
بلدٍ بعيد يختلف عن هذا الوادي جدًّا، فلقد كان في صوته سلطانٌ قوي، وفي حديثه رقةٌ
وعذوبة، وفي لهجته من الحب والوداد ما لا يقل عمَّا في قلبكِ ونفسكِ يا عائشة، ولقد كنت
أشتهي أن لا يُفارقني ولكنه …
عائشة
:
هدئي روعك يا بُنيتي، (لذاتها) ماذا أسمع؟!
(بصوتٍ عالٍ) هل حدثكِ بشيء؟
عزة
:
كثير، ما بين جديد وغريب، لقد كان عليمًا بكثير مما لم يخطر لي في بال، قال إن
الإنسان يستطيع أن يُميِّز الأشياء من بُعد تمام التمييز بوساطة شيء يُسميه البصر، لا
باللمس، ولكني لم أفهم كيف يكون ذلك.
عائشة
(على حدة)
:
وامصيبتاه!
عزة
:
أتعرفين ماذا يعني بذلك؟
عائشة
(تلتفت فترى الخليفة)
:
الخليفة!
الخليفة
(سرًّا لابن يحيى)
:
يا لله! ماذا أسمع؟! إِذَن فقد أُخبِرت بالخبر، (يتقدم هو
وابن يحيى) يا بُنيتي (عزة تقع على كتفه).
عزة
:
يا أبي العزيز، قد طال شوقي إليك!
الخليفة
:
شكرًا لكِ يا ابنتي، شكرًا، إني جئتكِ اليوم بطبيبك ابن يحيى.
عزة
:
أهو أيضًا هنا؟ أين هو؟ (تمد يدها ويمد لها ابن يحيى يده).
ابن يحيى
:
ها أنا ذا يا سيدتي (يسير الخليفة تتبعه عائشة جهة اليسار حين يتكلم ابن
يحيى مع عزة ويفحص عينيها وهي لا تُدرِك. الخليفة يقول لعائشة).
الخليفة
:
ماذا جرى؟
عائشة
:
لا أدري يا مولاي، لقد تركناها نائمة ثقةً مِنَّا بأنها لا تفيق إلا على يد
الطبيب كالعادة وخرجنا إلى البستان، ولكنها أفاقت وتقول إنَّ غريبًا زارها، ولكنى لا
أدري
كيف كان وصوله.
الخليفة
:
لقد نسيتُ أن أقفل الباب عند خروجي.
عائشة
:
لا بد أنه يكون كلَّمها كما يتكلَّم الناس فيما بينهم، بل لقد حدَّثَها — واسوأتاه! —
عن فقد بصرها كما علمت منها.
الخليفة
:
إذن فقد أراد الله أن يخبرها سوانا بذلك، أتسمع ذلك يا ابن يحيى؟
ابن يحيى
:
لقد سَهَّلَ اللهُ علينا السبيل، فقد أيقظها غيرنا، ثم إنِّي وجدت التميمة
على هذا المِنضد، ولكنها لا تزال غير مُتبينة حالتها، ولا أزال أرى ضرورة إخبارها بالأمر
كله الآن كما وعدتني.
الخليفة
:
حسن، حسن، لقد قدرت العاقبة وسَأُخَاطِر، (يتقدم نحو عزة وهي إذ ذاك تتكلم مع
عائشة) أعيريني سمعكِ يا بُنيتي، لا أستطيع بعد اليوم أن أُخفي عنكِ أمرًا حدث لكِ فيما
مضى من حياتكِ، أمرًا يتطلب منكِ الآن أن تُعدِّي له ما تستطيعين من ثبات ورباطة جأش
وتقابليه بالصبر والأناة حتى ولو أصابكِ من وراء علمكِ به حزنٌ وأسى.
عزة
:
لا تخشَ بأسًا يا أبتي، قل ولا تخف، إنَّ المصيبة ليخفُّ وقعها على نفسي إذا
جاءني العلم بها من شفتيك.
الخليفة
:
إذن فاسمعي يا بُنيتي، لا أدري ماذا عسى أن يكون الغريب قد قال، ولكني أرى
أنه أفشى لكِ الأمر الذي حاولنا إخفاءه عنكِ، وهو أن روحكِ تعوزها وسيلةً من أقوى
الوسائل لإدراك الدنيا التي أنتِ فيها، إن يكن قال لكِ ذلك فقد واحسرتاه صدق! إنَّ الذي
يعوزكِ يا بُنيتي هو نور العين وضياء البصر.
عزة
:
هكذا أخبرني الغريب ولكن لم أفهم.
الخليفة
:
إذن فاعلمي أنَّ هُناك قوةً في هذه الدُّنيا غريبة تُسمى النُّور، والنور
هذا يا بُنيتي كالرياح الحائرة أو الزوبعة الثائرة، إنَّما يأتي من السماء يَسبح مثلها
ويسير عَجِلًا كأنما هو الخاطر الجائل، فإذا سقط على شيءٍ بيَّن شكله للعين وميَّز صورته
للمقلتين، وإذا سألتِ: ما النور؟ قلت: هو قريب من الحرارة. ولقد كانت لكِ هذه القوة
البصرية وأنتِ في مهدكِ، ثم فقدتها عيناكِ بسبب حادث كبير، فحجبت عنكِ بفقدها محاسن
الدنيا وكنوز هذا الكون، ولقد حزِنَّا للأمر حُزنًا عظيمًا، وجاهدنا ولكن لم يكن جهدنا
معكِ يا بُنيتي ليُعوِّض عليك إلا قليلًا مما فقدتِ، لم نستطع إلا أن نُخفِّف عنكِ من
الآلام ما لم يكن لكِ بدٌّ من تحمله، وذلك بإخفاء السبب عنكِ والمحاذرة من علمكِ به،
وبالغنا في إنكاره عنكِ حتى أسقطنا من الحديث كلمات الرؤية والنظر، ومحونا من الكلام
ألفاظ النور والبصر.
عزة
:
يا أبتِ لا أدري عمَّا تُكَلِّمني، يبدو لي قولك في خطورةٍ وعِظَمٍ ولكني لا
أفهم فحواه، كذلك كان الغريب الذي جاءني اليوم، يُحدِّثُني عن هذا البصر حديثًا ينزل
إلى
أعماق نفسي ولكنِّي لم أفهمه. قُل لي يا أبتاه ما هذا البصر؟ أأستطيع بهذا البصر أن أنظر
صوته الذي ناجى نفسي منه ما فيه من شجوٍ وسرور؟ أأستطيع أن أُبصر هذا الحنوَّ أيضًا؟
أأقدر
أن أرى نغمة البلبل الغَرِد الذي يتنقل من فَنَنٍ إلى فنن ثم لا أتبينه إلا في خيالي
ووهمي؟
أيُشبِه صوت هذا البلبل زهرة صغيرة في طيب عَرفها وعبيرها وإن خالفها في صورة غصنها وحرير
ملمسها؟
الخليفة
:
واأسفاه يا ابنتي! كل سؤال منكِ يخرق صدري، ويشوك قلبي شوكًا أليمًا، غير
أنِّي لا أزال أرجو من الله أن يرُدَّ بصركِ إليكِ ويفتح للنور عينيكِ، ذلك أملي يا ابنتي
منذ حدث لكِ الحادث وبه كانت علالتي وعلى تحقيقه وقفت حياتي، فهذا صديقكِ ومعلمكِ
ابن يحيى شيخ الأطباء قد استخار الله في مُداواتِكِ، فأنفق جهده واستدر علمه حتى يرى
لكِ
من حياتكِ ساعةً ينجع فيها طبه وينفع دواؤه، ولقد جاءت الساعة فثقي به يا ابنتي، اذهبي
معه، اذهبي إلى غرفتكِ، هذي عائشة معكِ وستنامين الآن نومًا هنيئًا، (بتأثر شديد) فلعلكِ
تفيقين وقد زال عنك البأس ورُدَّ إليكِ البصر وتبينتِ نور السماء بإذن الله (تعود
عائشة).
عزة
:
ماذا يحزنك يا أبتي؟ إني أسمع أنين قلبك واضطراب نفسك، ألا يُسعِدُك أن تجيء
الساعة التي طال ارتقابك إيَّاها ونظرك لها؟ هَب أنَّ آمالك اليوم لا تتمُّ فماذا يصيبك؟
إني سأظل بعدها كما كنت: ابنتك التي تحبك وتحبها، تنعمُ بهذا الحب وترضى بما قسم الله
لها. مُر لي الآن أن أذهب.
الخليفة
:
يا بُنيتي!
عزة
:
هوِّن عليك يا أبتي، (يضع الخليفة يده على كتفها بلطف) لا تخشَ بأسًا، إنَّ ما
ارتأى الطبيب مَقضيٌّ بإذن الله فقد حدثني به قلبي، وكأني أعرف الآن قوة النور الذي
وصفت، قلت لي إنه سريع الأثر، وإنه إذا وقع منح الأشياء صورتها وخلقها، وإن له
بالحرارة صلةً وعلاقة حرارة القلب، أليس كذلك؟ أجل، إنه كذلك، إذا كان هذا فعل النور
فإنِّي أجده الآن في نفسي. ولكنك لم تُصِبْ في شيءٍ واحدٍ، فإنَّ الإنسان لا يُبصِرُ
بعينيه، كلا، بل بقلبه! هنا مكان البصر يا أبتي، بل هنا قرار كالصدى العذب لذكرى النور
الذي وعيت بعضه منك وأنا الآن ذاهبة لاستكشافه والله وليِّي وحسبي.
(تدخل المنزل يمينًا
تصحبها عائشة وابن يحيى ويكون ابن يحيى قد تقدمها.)
الخليفة
:
من ذا كان هنا يا تُرى؟ لعلَّ منصورًا يستطيع أن يخبرني شيئًا (يدخل نعمان من
الباب السري). نعمان، عدت؟
نعمان
:
عدت إلى مولاي برسالة (يقدِّم الرسالة).
الخليفة
(يتناولها منه)
:
مِمَّن هي يا ترى؟ (كأنه متأكد) من سيف الدين وربِّي! (يفضها) أجل منه، ماذا يقول يا ترى؟ (يتمعن فيها) ها! يريد إلغاء عقد الزواج! لا حول ولا
قوة إلا بالله!
نعمان
:
يلغي العقد؟
الخليفة
(لا يزال ينظر)
:
ما أغرب هذا القول! إنه يعترف بجُرمه ويُقِرُّ بذنبه ويدع لي
المطالبة بالعوض، ولكنه يرفض الزواج من ابنتي (يسير إلى اليمين).
نعمان
:
ما أشدَّ وقاحته!
الخليفة
:
ذلك سوء حظي يتبعني حيث سِرت وكأنه تمَّ في هذه الساعة، لقد كان لي من دنياي
أملان: أحدهما شفاء ابنتي هذه، وثانيهما زواجها من هذا الأمير، بعضهما وقف على بعض، وها
قد خاب أحدهما، فأخشى أن يخيب الثاني، ولكنِّي سأدع المقادير تجري بما تشاء، فالله فوق
كل شيء. من أعطاك الرسالة؟
نعمان
:
أحد أتباع الأمير عمارة اليمني شاعر القصرين، ويقول إنَّ سيف الدين ضيف عليه
الآن.
الخليفة
:
ضيف عليه؟
نعمان
:
تلك رواية الرسول.
الخليفة
:
إذن فلا يزال للأمل سبيل، ولكن ما هذا؟ إني أسمع صليل السيوف لدى
الباب.
نعمان
(يذهب إلى الباب السري)
:
أرى بعضهم يخترق الدرب مقتحمًا يا مولاي، وأخشى أن
يكون أولاد أعمامك بيَّتوا لك شرًّا.
الخليفة
:
أين رجالنا؟
نعمان
:
ليس معنا الآن إلا قليل.
الخليفة
:
إذن فجرِّد سيفك، أما والله لا يأخذن أحدهم الخليفة أسيرًا (يدخل سيف الدين
في دروعٍ زاهيةٍ ومعه جنودٌ مسلحةٌ يبقون عند المدخل، وأثناء هذا المنظر ينبعث شعاع
الشفق على الوادي ويبقى إلى انتهاء الفصل).
سيف
:
أغمِد السيف، إنَّ رجالك قضوا في قتالنا وأنتما الآن أسيراي (يسير إلى
اليسار).
الخليفة
:
ومن أنت حتى تجرؤ على الدخول إلى هذا المكان بجندٍ ورجال؟ أقلعْ وإلَّا ضرَّجت
سيفي بدمك.
سيف
:
وفِّر عليك قولك فإنِّي لا أخاف، إن كنت تؤمن بقوة السحر الذي في هذا المكان
فإنِّي محجَّب قوي لا أعبأ بما يعززك من مردة الهواء ولا عفاريت الغبراء ولا آبه لسَحَرتك
الأقوياء.
الخليفة
:
ويحك من أحمق! ماذا أتى بك هنا؟
سيف
:
خبرني أنت، ألست أنت صاحب هذا الوادي؟
الخليفة
:
نعم، صاحب هذا الوادي وفوق ذلك، فمن أنت؟ (يدخل عمارة مُدَّرِعًا ومُقَلَّدًا
سيفًا).
عمارة
:
وي! من ذا أرى؟! (دَهِشًا) مولاي الخليفة؟! (يجثو).
سيف
(دهشًا)
:
مولاه؟!
الخليفة
:
هذا أنت يا عمارة! أترافق رجلًا يعتدي عليَّ؟!
عمارة
:
عفوك يا مولاي! إنَّه تقدمني فجئت متأخرًا.
الخليفة
(لسيف الدين)
:
قل لي مرةً أخرى من أنت؟
سيف
:
الأمير سيف الدين ابن أخي السلطان نور الدين زنكي صاحب الشام، اسم لا يخفى عنك
على ما أظن.
الخليفة
:
ماذا؟! سيف الدين؟! كلَّا! (لعمارة) أهو سيف الدين؟!
عمارة
:
أجل يا مولاي، إنه سيف الدين بعينه. (الخليفة يقول بعد قليل من التفكير).
الخليفة
:
أكنت أنت الذي جاء اليوم إلى هذا المكان؟
سيف
:
أجل، كنت هنا منذ قليل، دفعتني إليه المصادفة لا قلة الاحتشام، إذ لم أكن أدري أنك
ربُّ هذا المكان.
الخليفة
:
والآن ماذا عاد بك إليه؟
سيف
:
إن بين هذا الوادي المملوء بالعجائب لآيةً ذات حُسنٍ يعجز عن وصفه كل شعراء مصر
المشهورين بسمو الخيال وعذوبة المقال، جمال لو تنصلت الأزهار من روائها وجادت هي عليها
ببعض حُسنها لعادت أزهى مما كانت، وسحر لو زال عن هذا المكان سحره لملأته بخطرةٍ من
خطراتها، أفتعجب إذ جئت أطلبه بحد السيوف وشفار الصوارم؟
الخليفة
:
يا للعجب! أتدري من هذه الآية؟
سيف
:
كلا، ولكني أقرأ سطور النُّبل على جبينها الوضَّاح.
الخليفة
:
ولكن فاتك أنها على ما ضُمِّنت من آيات الجمال قد حُرِمَت نعمةً ليس بعدها
نعمة.
سيف
:
تعني أنها كفيفة البصر جهراء؟ أعرف ذلك، ولكن ألا تحمل في قلبها ذلك النور
القُدسي الذي تغضي له عين الشمس؟
الخليفة
:
أنت تعرف إذن أنها كفيفة ومع ذلك …
سيف
:
مع ذلك جئت خاضعًا لخِطبتها.
الخليفة
:
أقسم بالله إنك أنت لعجيبة العجائب! تأتي إلى هذا المكان دارعًا لتأخذ
بالقوة ما هو حقك من قبل وقد كنت رفضته مزدريًا منذ قليل؟!
سيف
(دَهِشًا)
:
كيف ذلك؟!
الخليفة
:
اعلم إذن أنَّ صاحبة هذا الجمال الذي امتلك عليك نفسك إنما هي ابنتي.
سيف
:
ابنتك! (يقع على يد الخليفة ليُقبِّلها) عفوك يا مولاي، اصفح عني، أهي
عزة؟!
الخليفة
:
أجل أيها الأمير، هي عزة، هي التي حللت عقد زواجها بخطابك.
سيف
:
معذرةً يا عماه.
الخليفة
:
هي هي التي كُنت عَجِلًا في احتقارها حتى نزلت عن عكاء فرارًا منها، هي هي
التي سحرتها كما تبين لي من حديثها.
سيف
:
أحقٌّ ما تقول؟! إن هذه الكلمات لتأخذ بلُبِّي!
الخليفة
:
هو كذلك. قم أيها الأمير، لقد عفوت عنك، ورددتها إليك.
سيف
:
شكرًا لك يا مولاي، أهي تسكن هذا الوادي؟
الخليفة
:
أجل، ولا تعرف سواه، وسيستبين لك الأمر كله عمَّا قليل، إنَّك أيها الأمير
قد تخيَّرت لمجيئك ساعةً من الخطورة بالمكان العظيم، فابنتي الآن بين أمرين: إمَّا أن
يُقضى لها بالبقاء في ظلام لا أمل لها بعده في رؤية الدنيا، وإما أن يعود إليها بصرها
نعمةً من الله.
سيف
:
أهذا ممكن؟
الخليفة
:
هكذا يؤمِّلني ابن يحيى الطبيب الأندلسي، فهو الآن معها يعالج ما أمَّلني.
انظر (يشير إلى داخل الدار) ها هو ذا، إني أسمع حركةً في الدار، استمع إنها تتكلم، آه يا
سيف الدين! ذلك صوت ابنتي، لا أدري أحديث يأس أم دعاء رجاء.
(يدخل ابن يحيى يقود عزة من يدها، ويعطي إشارة إلى الجميع فيرجعون إلى الوراء وتبدو
عليهم علامات الاهتمام بما يجري.)
عزة
:
أين تقودني؟ وي! أين أنا؟! أمسك بي، دعني أستند إليك، أعِنِّي.
ابن يحيى
:
تماسكي يا بُنيتي.
عزة
:
يا لله! أمسك بي، قف قليلًا، انتظر، إنِّي ما دخلت هذا المكان من قبل، لماذا جئت
بي إليه؟ إنه غريب عنِّي، أعِنِّي، أمسك بي، أحِسُّ أن في رأسي دوارًا، رويدك، قلبي
مملوءٌ ذعرًا.
ابن يحيى
:
هدِّئي روعكِ يا عزة، ليس الذي ترين الآن غريبًا عنكِ، إنَّما هو الحديقة
التي غرستِها أنتِ بيديكِ، انظُري الآن إليها وتعرَّفيها، انظري الأزهار والسُّحب والجبال،
ثمَّ املئي قلبكِ من نور السماء وألوان الأزهار من حديقتكِ.
عزة
:
أهذي حديقتي؟! إنِّي لا أعرفها، (تنظر إلى الأشجار) ما أرهبَ هذه الأشباح! يا لها
كيف تنحني؟! ألا تخشى أن تقع علينا؟ (تُمسِكُ به).
ابن يحيى
:
لا تخشي بأسًا، ما هي إلا النخل الذي تعرفين خوصه وثمره.
عزة
:
كلا، كلا، لا أعرفها، ولا هذا النور الذي يَغْشى كل شيء في هذا المكان، ولا
السُّحب الناشرة أردانها في صدر السماء، يا لله ما أعلاها! ما هذا الضياء؟! أهو نور الله
الذي يملأ الكون كما يقولون؟! قل لي أهذي السُّحب مكانه؟ خبرني إني لا أعرف الآن
شيئًا!
ابن يحيى
:
هذا النور يا بُنيتي هو منعكس الضوء على الأرجاء، وأما الزُّرقة التي تَغشى
سقف هذه القبة العالية فهي السماء، وأما الله الذي نعبده وبه نستعين فلا قرار له ولا
دار، وإنما هو في كل مكان يرانا ولا نراه.
عزة
:
شكرًا لك شكرًا (تلتفت) وي! ما هذا؟! (تتقدم نحو أبيها).
ابن يحيى
:
ألا تعرفين ذلك؟
عزة
:
كلا، كلا، لا أعرف.
الخليفة
(والعبرات تخنقه)
:
أنا أبوكِ يا عزة.
عزة
(تقع على صدره)
:
أبي؟ أجل، أنت أبي! عرفتك الآن بصوتك، قف بجانبي، كن حارسي
ودليلي، إنِّي غريبة في دنيا الضياء هذي، لقد أخذوا مني كل ما كنت أعرف فذهبت عني
السعادة كلها.
الخليفة
:
بل كنت أبحث لكِ في هذه الدنيا الجديدة عن دليلٍ وهادٍ.
عزة
:
من ذا تعني؟ (الخليفة يشير بإصبعه إلى سيف الدين).
الخليفة
:
هذا الواقف أمامكِ.
عزة
:
هذا الغريب؟!
الخليفة
:
غريب؟! إنك عرفته قبل أن أعرفه يا عزة، فقد جرى بينك وبينه حديثٌ
قريبٌ.
عزة
:
بيني وبينه؟! (ترفع أكفها أمام عينيها وتغطيهما)
آه فهمت ما تقول. (تُزيح كفيها) لا بد أن تكون هذه
الصورة النبيلة مُستَقَرًّا لذلك الصوت الذي سمعت، بعضه جلال، وبعضه حنوٌّ، مُزِجا حتى
لا يُميِّز إلا القلب أحدهما عن الآخر، (لسيف
الدين) ادنُ مني أيها الغريب القريب، تكلم ولو كلمةً واحدةً مما في
نفسي.
سيف
:
سيدتي النبيلة الحسناء!
عزة
:
آه إنه هو! على مثل هذه الألفاظ سَرَت أول خطرات النور إلى قلبي ثم استقرت به لا
تفارقه أبد الحياة.
سيف
(يأخذ عزة بيدها ويحتضنها)
:
عزة زوجتي، أيتها الآية الكريمة.
الخليفة
(يرفع يديه فوقهما)
:
بالرفاء، بالرفاء!
(ستار)