الخاتمة
المنظر الأول
(في المدينة … عائشة على فراشها في مسكنها.)
زينب
(تدخل على ابنتها)
:
أتعلمين الخبر؟
عائشة
:
نعم … رسول الله يتجهز للحج، وقد أمر الناس بالجهاز
له!
زينب
:
نعم! … رأيتُ الناس يسوقون الهدْي!
عائشة
(باكية)
:
اللهم أعني!
زينب
:
أتبكين!
محمد
(يدخل)
:
ما لكِ يا «عائشة»؟
زينب
(تنهض)
:
رسول الله!
محمد
(لعائشة)
:
لعلك نفستِ؟
عائشة
:
نعم … والله لوددتُ أني لم أخرج معكم عامي هذا السفر!
محمد
:
لا تقولي ذلك، فإنك تقضين كل ما يقضي الحاج … إلا
أنكِ لا تطوفين بالبيت!
المنظر الثاني
(في مكة … الناس مع النبي عند البيت الحرام.)
عمر
(لأبي بكر)
:
ما لك؟ … ما يحزنك؟
أبو بكر
:
إن رسول الله قد أرى الناس مناسكهم، وأعلَمهم سنن
حجِّهم …
عمر
:
وما في ذاك؟
أبو بكر
(كالمخاطب لنفسه)
:
أخشى أن تكون «حجة الوداع»!
عمر
(يلتفت إلى ناحية النبي)
:
إن رسول الله قام يخطب
الناس!
أبو بكر
:
نعم … هلمَّ إليه!
(يدنوان من النبي.)
محمد
(يخطب)
:
أيها الناس! … اسمعوا قولي؛ فإني لا أدري
لعلِّي لا ألقاكم بعد عامي هذا، بهذا الموقف أبدًا!
أيها الناس! … إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن
تلقَوا ربكم؛ كحرمة يومكم هذا؛ وكحرمة شهركم هذا … وإنكم
ستلقَون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلَّغتُ؛ فمن كانت عنده
أمانة فليؤدِّها إلى من ائتمنه عليها، وإن كل رِبًا موضوع، ولكن
لكم رءوس أموالكم، لا تظلمون ولا تُظلَمون … وإن كل دم كان في
الجاهلية موضوع.
أما بعد … أيها الناس! … فإن الشيطان قد يئس أن يُعبَد بأرضكم
هذه أبدًا، ولكنه إن يُطَع فيما سوى ذلك فقد رضي به؛ مما
تحقرون من أعمالكم؛ فاحذروه على دينكم.
أيها الناس! … إنما النسيء زيادة في الكفر، يُضَل به الذين
كفروا، يُحلِّونه عامًا، ويحرمونه عامًا؛ ليواطئوا عدة ما حرم
الله، فيحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله، وإن الزمان
قد استدار كهيئته يومَ خلق الله السموات والأرض، وإن عدة
الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا؛ منها أربعةٌ حرُم: ثلاثة
متوالية، و«رجب مضر» الذي بين «جمادى» و«شعبان».
أما بعد … أيها الناس! … فإن لكم على نسائكم حقًّا، ولهن
عليكم حقًّا؛ لكم عليهن ألا يُوطِئن فرُشكم أحدًا تكرهونه،
وعليهن ألا يأتين بفاحشةٍ مبينة؛ فإن فعلن فإن الله قد أذِن
لكم أن تهجروهن في المضاجع، وتضربوهن ضربًا غير مبرح، فإن
انتهَين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء
خيرًا، فإنهن عندكم عَوان لا يملكْن لأنفسهن شيئًا، وإنكم إنما
أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فاعقلوا
أيها الناس قولي؛ فإني قد بلَّغتُ. وقد تركتُ فيكم ما إن اعتصمتم
به فلن تضلوا أبدًا، أمرًا بينًا، كتاب الله وسنة نبيه …
أيها الناس! … اسمعوا قولي واعقلوه! … تعلمُنَّ أن كل مسلم أخ
للمسلم، وأن المسلمين إخوة؛ فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما
أعطاه عن طِيب نفس منه؛ فلا تظلمُن أنفسكم، اللهم هل بلَّغتُ؟!
الناس
(صائحين)
:
اللهم نعم!
محمد
(ناظرًا إلى السماء)
:
اللهم اشهد!
المنظر الثالث
(في المدينة … عائشة جالسة ليلًا في مسكنها … تدخل عليها
أمها زينب.)
زينب
:
ما لكِ يا ابنتي؟
عائشة
:
رسول الله!
زينب
:
ما به؟
عائشة
:
وثب من مضجعه في جوف الليل، فلبس ثيابه ثم خرج!
زينب
:
أين؟
عائشة
:
لستُ أدري، قد أمرتُ خادمتي «بريرة» أن تتبعه.
(بريرة تدخل.)
بريرة
:
مولاتي!
عائشة
:
خبِّريني!
بريرة
:
تبعتُ رسول الله، فرأيته قد انطلق ومعه مولاه «أبو
رافع» إلى الخلاء!
عائشة
:
الخلاء؟!
المنظر الرابع
(النبي وأبو رافع أمام المقابر بالبقيع.)
أبو رافع
:
أين يا رسول الله في جوف الليل؟
محمد
:
يا «أبا رافع»! … إني قد أُمِرتُ أن أستغفر لأهل هذا
«البقيع»!
أبو رافع
(كالمخاطب لنفسه)
:
عجبًا!
محمد
(متجهًا إلى القبور)
:
السلام عليكم يا أهل المقابر! …
ليهنئ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلَت الفتن
كقِطَع الليل المظلم يتبع آخرُها أوَّلها؛ الآخرة شرٌّ من الأولى!
أبو رافع
(كالمخاطب لنفسه)
:
أهو وداع من الدنيا؟!
محمد
(يلتفت إلى أبي رافع)
:
يا «أبا رافع»! … إني قد أوتيتُ
مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، فخُيِّرتُ بين ذلك
وبين لقاء ربي والجنة!
أبو رافع
(مبادرًا)
:
بأبي وأمي، فخُذ مفاتيح خزائن الدنيا
والخلد فيها، ثم الجنة!
محمد
:
لا … والله يا «أبا رافع» لقد اخترتُ لقاء ربي
والجنة!
أبو رافع
(في حزن كالمخاطب لنفسه)
:
لقد اخترتَ فراقنا!
محمد
(متجهًا إلى المقابر)
:
السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين،
إيانا وإياكم ما توعدون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون …
اللهم اغفر لأهل «البقيع»! … اللهم اغفر لأهل «البقيع»!
المنظر الخامس
(في مسكن عائشة، وهي جالسة واضعة يدها على رأسها.)
بريرة
(جالسة إلى جوار عائشة)
:
ألا ترقدين؟
عائشة
:
إني أجد صداعًا في رأسي!
بريرة
:
لقد سهرتُ الليل في انتظار أوبة رسول الله!
عائشة
:
لو أنكِ عرفتِ أين ذهب يا «بريرة»!
بريرة
:
لا تجزعي! … لعلَّه أُمِر بشيء! … هذا رسول الله قد
أقبَل!
(تنهض لدخول النبي … وتذهب.)
محمد
(يدخل معصوب الرأس)
:
ما لكِ يا «عائشة»؟
عائشة
(واضعة يدها على رأسها)
:
وا رأساه!
محمد
(في توجع)
:
بل أنا والله يا «عائشة» وا رأساه!
عائشة
(تنهض إليه في الحال)
:
ما بك يا رسول الله؟
محمد
(ينظر إليها طويلًا)
:
ما ضركِ لو متِّ قبلي، فقمتُ عليكِ
وكفنتكِ وصليتُ عليكِ ودفنتُكِ؟!
عائشة
:
كأني بك والله تحب موتي! … ولو كان ذلك … لرجعتَ إلى
بيتي فأعرستَ فيه ببعض نسائك!
محمد
(يبتسم)
:
إنك غَيرَى!
(يبدو على النبي التعب.)
عائشة
(يغشاها قلق)
:
ما بك؟
محمد
:
آه!
عائشة
(في جزع)
:
اجلس يا رسول الله على فراشك!
محمد
(يجلس متوجعًا)
:
ما زلتُ أجد من الأكلة التي أكلتُها
«يوم خيبر» عدادًا حتى كأن هذا أوان انقطاع أبهَري!
عائشة
(في جزع)
:
لا، يا رسول الله، لم يأنِ الأوان!
محمد
:
إني أشتكي ولا أستطيع أن أدور على نسائي فأرسلي
إليهن! … فإن شئن أذِنَّ لي أُمرَّض عندكِ!
عائشة
(وهي مطرقة)
:
نعم!
(تدخل فاطمة بنت النبي جزعة.)
فاطمة
:
ما بك يا رسول الله؟ … قد أخبرَتني «بريرة» أنك عدتَ
عاصبًا رأسك!
محمد
:
مرحبًا يا بنتي!
فاطمة
:
أبَتِ! … ما لك؟
محمد
(يدعوها ويسارها)
:
لا أظن إلا أجلي قد حضر!
فاطمة
(تبكي)
:
أبتاه!
محمد
(همسًا)
:
لا تبكي، فإنك أول أهلي بي لحوقًا!
بريرة
(تدخل)
:
قد دعا «بلال» إلى الصلاة!
محمد
:
أوَصلى الناس؟
بريرة
:
لا! … هم ينتظرونك يا رسول الله!
محمد
(ينهض)
:
ضعوا لي ماءً في المخضب! … آه!
(ينوء مغشيًّا عليه.)
فاطمة
(تسرع إليه)
:
إنه ينوء!
عائشة
(صائحة مسرعة إليه)
:
أدركوني! … قد أُغمِي عليه!
(بريرة تهرع في أثر مولاتها جزعة.)
محمد
(يفيق)
:
أصلى الناس؟
عائشة
:
لا تتركْ فراشك يا رسول الله! … مُر مَن يصلي
بالناس!
محمد
(في صوتٍ ضعيف)
:
مرُوا «أبا بكر» فليصلِّ بالناس!
(تسرع بريرة بالخروج صادعة بالأمر.)
عائشة
(على رأس النبي)
:
يا رسول الله! … إن «أبا بكر» رجلٌ
رقيق، ضعيف الصوت، كثير البكاء إذا قرأ القرآن!
محمد
:
مرُوه فليصلِّ بالناس!
عائشة
(همسًا لفاطمة)
:
كنت أحب أن يصرف ذلك عن أبي … إن
الناس لن يجيبوا رجلًا قام مقام رسول الله أبدًا، وإنهم
سيتشاءمون به!
(يرتفع صوت عمر في المسجد …)
عمر
(من الخارج)
:
الله أكبر! … الله أكبر!
محمد
(يتحرك)
:
صوت من هذا؟
فاطمة
:
هذا «عمر بن الخطاب»!
محمد
:
لا، لا، يأبى الله ذلك والمسلمون، يأبى الله ذلك
والمسلمون … أين «أبو بكر»؟ … أين «أبو بكر»؟
عائشة
:
لا ريب أنه غائب!
محمد
(يحاول النهوض)
:
ضعوا لي ماء، حتى أخرج إلى الناس
فأعهد إليهم!
المنظر السادس
(في المسجد … الناس في هرج وقد انتقضَت صفوفهم …)
عمر
(لبلال)
:
ويحك! … ماذا صنعتَ بي يا «بلال»؟ … والله ما
ظننتُ حين أمرتَني، إلا أن رسول الله أمرك بذلك، ولولا ذلك ما
صليتُ بالناس!
بلال
:
والله ما أمرني رسول الله بذلك، ولكني حين لم أرَ
«أبا بكر» رأيتُك أحق من حضر بالصلاة بالناس!
عمر
(يلتفت)
:
هذا «أبو بكر» … هلمَّ إلى الصلاة!
(أبو بكر يدخل مسرعًا، ويصلي بالناس فتنتظم الصفوف خلفه.)
أبو بكر
:
الله أكبر!
(يظهر النبي عاصبًا رأسه بخرقة ويستند إلى بابه اللافظ في
المسجد، فيراه المسلمون فتبدو منهم حركة افتتان وفرحٍ به.)
محمد
(يبتسم لفرحهم، ويشير إليهم هامسًا)
:
اثبتوا على
صلاتكم!
(أبو بكر يشعر بالنبي فينكص عن مصلَّاه)
(محمد يدفع في ظهره برفق.)
محمد
:
صلِّ بالناس!
(ثم يجلس إلى يمين أبي بكر ويصلي قاعدًا.)
الناس
(لا تتمالك بعد ختام الصلاة أن تصيح فرحًا)
:
رسول
الله! رسول الله قد برأ … هذا رسول الله!
(بين المصلين أنس بن مالك ينظر إلى النبي، ويهمس لمن في
جواره …)
أنس
:
انظر إلى وجهه! … كأنه ورقة مصحف!
محمد
(يتحامل ويعتلي المنبر، معتمدًا على ذراعَي أبي بكر
وعمر)
:
اللهم اغفر لأصحاب «أحد»! … أيها الناس! … ألا من كنتُ
جلدتُ له ظهرًا؛ فهذا ظهري فليستقِد منه، ومن كنتُ شتمتُ له
عرضًا، فهذا عرضي فليستقِد منه، ومن أخذتُ له مالًا فهذا مالي
فليأخذ منه، ولا يخشى الشحناء من قِبَلي فإنها ليست من شأني …
ألا وإن أحبَّكم إليَّ مَن أخذ مني حقًّا إن كان له، أو حلَّلني
فلقيتُ ربي وأنا طيب النفس!
أحد الناس
(ينهض)
:
… لي عليك ثلاثة دراهم!
(يشير النبي فيُؤتَى بالمال من مسكنه ويعطي الرجل.)
محمد
(يمضي في خطبته)
:
أيها الناس! … إن عبدًا خيَّره الله
بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله!
أبو بكر
(يفهم ويبكي)
:
بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا!
محمد
:
على رِسلِك يا «أبا بكر»! … انظروا هذه الأبواب
اللافظة في المسجد فسدُّوها إلا بيت «أبي بكر»؛ فإني لا أعلم
أحدًا كان أفضل في الصحبة عندي يدًا منه، ولو كنتُ متخذًا
خليلًا لاتخذتُ «أبا بكر» خليلًا، ولكن أخوَّة الإسلام!
المنظر السابع
(في مسكن عائشة … النبي على فراش الموت، ونساؤه خلف ستارٍ
يحجبهن عن ذويه وأصحابه من الرجال.)
عمر
(يدخل ويهمس لعلي والعباس بن عبد المطلب)
:
الناس
يسألون: كيف أصبح رسول الله؟
علي
(همسًا)
:
أصبح بحمد الله بارئًا!
العباس
(ينظر إلى وجه النبي ويهمس)
:
أحلف بالله لقد عرفتُ
الموت في وجه رسول الله؛ كما كنتُ أعرفه في وجوه بني «عبد
المطلب»!
أبو بكر
(يلمس النبي)
:
يا رسول الله، إنك لتُوعَك وعكًا
شديدًا!
محمد
(في صوتٍ ضعيف متعب)
:
أجل … إني أُوعَك كما يُوعَك رجُلان
منكم!
أبو بكر
:
إن لك لأجرَين!
محمد
:
نعم … والذي نفسي بيده، ما على الأرض مسلم يصيبه أذًى
من مرضٍ فما سواه، إلا حطَّ الله به عنه خطاياه، كما تحطُّ الشجرة
ورقها!
(يُسمَع صوت لغط وبكاء في المسجد …)
أبو بكر
(يهمس لعلي)
:
ما هذا الصوت في المسجد؟
علي
(همسًا)
:
أخشى أن يكون «العباس» قد خرج يخبر الناس!
محمد
(يشير إلى الستار الذي بين المسكن والمسجد)
:
من
هؤلاء؟
علي
:
هذه الأنصار في المسجد، نساؤها ورجالها، يبكون عليك!
محمد
:
وما يبكيهم؟
علي
(في تردد وصوت خافت)
:
يخافون أن تموت!
محمد
:
أهريقوا عليَّ سبع قرَب من آبار شتَّى … ثم ائتوني بدواة
وصحيفة أكتب لكم كتابًا لن تضلوا بعده!
عمر
(لمن حوله همسًا)
:
إن رسول الله قد غلبه الوجع، وعندكم
القرآن، حسبنا كتاب الله!
أبو بكر
:
بل قربوا يكتب لكم رسول الله!
علي
:
كلا … الرأي ما قال «عمر»!
(يشتد اللغط بين الرجال …)
محمد
(يضيق بهم)
:
قوموا عني! … قوموا عني!
أبو بكر
:
لقد أثقلْنا على النبي في وجعه … هلمُّوا بنا!
(يذهب الرجال … وتخرج عائشة والنساء من خلف الستر.)
عائشة
:
يا رسول الله! إنك لتجزع وتضجر، لو فعلَته امرأةٌ منا
عجبتَ منها!
محمد
:
إن المؤمن يُشدَد عليه؛ ليكون كفارة لخطاياه!
(فاطمة تبكي.)
محمد
:
لا تبكي يا بُنية … قولي إنا لله وإنا إليه راجعون؛
فإن لكل إنسان بها من كل مصيبة معوِّضة!
فاطمة
:
ومنك يا رسول الله؟
محمد
:
ومني!
عائشة
(لفاطمة)
:
إنه يُوعَك من الحُمى!
محمد
(ينهض قليلًا)
:
يا عائشة؟ … ما فعلَت تلك الذُّهب؟
عائشة
:
أي ذهب؟
محمد
:
الدنانير الستة التي عندي!
عائشة
:
هي عندي!
محمد
:
ما ظن «محمد» بربه أن لو لقي الله وهذه عنده! …
أنفقيها كلها صدقة … إن النبي لا يورث!
عائشة
:
سأنفقها!
محمد
:
اللهم توفَّني فقيرًا، ولا توفَّني غنيًّا، واحشرني في
زمرة المساكين! … (يرقد) الآن استرحتُ!
عائشة
(تضع رأس النبي في حجرها)
:
يا رسول الله! … اسأل
الله لك الشفاء والعافية!
محمد
(يشخص ببصره إلى السماء كالمخاطب لنفسه)
:
بل الرفيق
الأعلى!
عائشة
(تسقط من عينها قطرة دمع بلا شهيق)
:
خُيِّرتَ فاخترتَ
والذي بعثك بالحق!
محمد
(في صوتٍ خفيض)
:
قدَحًا من ماء!
عائشة
(للنساء)
:
أسرعن إليَّ بقدَح من ماء!
(يُحضرن قدح الماء.)
محمد
(يبلل يده ويمسح وجهه)
:
اللهم أعني على سكرات الموت!
فاطمة
:
وا كرب أبتاه!
محمد
:
ليس على أبيك كرب بعد اليوم، ادنُ مني … ادنُ يا
جبريل! … ادنُ مني يا جبريل! … ادنُ مني يا جبريل!
(يرى جبريل قد هبط عليه.)
جبريل
:
يا أحمد! … إن الله أرسلني إليك إكرامًا لك،
وتفضيلًا لك، وخاصة لك … يسألك عمَّا هو أعلم به منك،
ويقول لك كيف تجدك؟
محمد
(شاخص العينين يتكلم من قلبه، دون أن يبدو لمن حوله
شيء)
:
أجدُني يا «جبريل» مغمومًا، وأجدني يا «جبريل» مكروبًا!
جبريل
(يشير إلى ملك خلفه)
:
يا «أحمد»! … هذا ملك الموت،
يستأذن عليك، ولم يستأذن على آدمي كان قبلك، ولا يستأذن على
آدمي بعدك!
محمد
:
ايذن له!
ملك الموت
:
يا رسول الله يا «أحمد»! … إن الله أرسلني
إليك، وأمرني أن أطيعك في كل ما تأمرني، وإن أمرتَني أن أقبض
نفسك قبضتُها، وإن أمرتَني أن أتركها تركتُها!
محمد
:
وتفعل يا ملك الموت؟
ملك الموت
:
بذلك أُمِرتُ أن أطيعك في كل ما أمرتَني!
جبريل
:
يا «أحمد»! … إن الله قد اشتاق إليك!
محمد
:
امضِ يا ملك الموت لما أُمِرتَ به!
جبريل
:
السلام عليك يا رسول الله! … اليوم آخر عهدي بهبوط
الأرض!
(يرتفع الملكان ويتركان محمدًا جثةً هامدة.)
عائشة
(ترى النبي قد ثقل في حجرها فتضعه على الفراش وتغطي
وجهه ببرده وتصيح)
:
أدرِكوني! … أدرِكوني!
النساء
(في جزع وروع)
:
ماذا؟!
عائشة
(تضرب وجهها)
:
وا ثكلاه! … مات رسول الله! … مات
رسول الله!
فاطمة
:
أبتاه!
النساء
:
وا ثكلاه!
فاطمة
(ترى الجثة فتصيح)
:
أبتاه! … يا أبتاه! … أجاب ربًّا
دعاه … يا أبتاه! … جنة الفردوس مأواه، أبتاه! … إلى «جبريل»
ننعاه، يا أبتاه! … مِن ربه ما أدناه!
عائشة
(في بكاء وشهيق)
:
رسول الله قد مات! … وا حر قلباه! … وا مصيبتاه! الآن قد انقطع عنا خبر السماء!
بريرة
(تدخل مسرعة)
:
إن «عمر» و«العباس»، ورجالًا معهما
يستأذنون في الدخول على النبي!
عائشة
(للنساء)
:
احتجبن خلف الستر!
(يحتجب النساء في الحال وهن يبكين.)
عمر
(يدخل ويسرع إلى محمد ويرفع الغطاء عن وجهه)
:
وا غشياه! … ما أشد غشي رسول الله!
(أحد الرجال، وهو المغيرة ينظر في وجه النبي.)
المغيرة
:
يا «عمر» مات والله رسول الله!
عمر
(في غضب)
:
كذبتَ! … ما مات رسول الله، ولكنك رجل تحوشك
فتنة؛ ولن يموت رسول الله حتى يُفني المنافقين!
(العباس ينظر في وجه النبي، ولا يُجيب يخرج عمر والعباس
والرجال.)
الناس
(في الخارج)
:
أمات النبي؟ … أمات النبي؟
عمر
(يصيح في الخارج)
:
أيها الناس! … لا أسمعن أحدًا يقول
إن محمدًا قد مات، ولكنه أُرِسل إليه كما أُرِسل إلى «موسى بن
عمران» فلبث عن قومه أربعين ليلة، والله إنى لأرجو أن تُقطَع
أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات!
الناس
(في الخارج)
:
لا تدفنوه! … إنه لم يمت!
رجل
(في الخارج)
:
إن رسول الله قد رُفِع؛ كما رُفِع «عيسى ابن
مريم» ولَيرجعَن!
العباس
(في الخارج)
:
هل عند أحد منكم عهد من رسول الله في
وفاته فيحدثناه؟
الناس
(في الخارج)
:
لا!
العباس
(في الخارج)
:
هل عندك يا «عمر» من ذلك!
عمر
(في الخارج)
:
لا!
العباس
(في الخارج)
:
اشهدوا أن أحدًا لا يشهد على نبي الله
بعهدٍ عهده إليه بعد وفاته إلا كذاب، والله الذي لا إله إلا
هو، لقد ذاق رسول الله الموت، وإنه ليأسَن كما يأسَن البشر،
فادفنوا صاحبكم، أيُميتُ الله أحدكم إماتة، ويُميتُه إماتتَين؟ …
هو أكرم على الله من ذلك، إنه ما مات حتى ترك السبيل نهجًا
واضحًا، أحلَّ الحلال وحرَّم الحرام، ونكح وطلَّق، وحارب وسالم،
وما كان راعي غنم يتبع بها رءوس الجبال بأنصبَ ولا أدأبَ من
رسول الله فيكم!
النساء
(خلف الستر)
:
أمات رسول الله أم لم يمُت؟
فاطمة
(تدنو من الجثة، وتتأمل وجه النبي طويلًا، وتجهش
بالبكاء.)
:
قد تُوفِّي رسول الله!
(أبو بكر يدخل مسرعًا، ويتجه إلى الجثة، ويرفع الغطاء عن
النبي المسجى ويقبِّله ويبكي.)
أبو بكر
:
بأبي أنت وأمي، طبتَ حيًّا وميتًا! … أمَّا الموتة
التي كتب الله عليك فقد ذقتَها، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبدًا!
(يرد البُرد على وجه النبي ويخرج.)
عمر
(في الخارج)
:
أيها الناس! … والله ما مات رسول الله،
إنما عُرج بروحه كما عُرج بروح «موسى»!
أبو بكر
(في الخارج)
:
على رسلك يا «عمر»! … أنصِت …
عمر
(مستطردًا)
:
والله لا يموت رسول الله حتى تُقطَّع أيدي
أقوام وألسنتُهم!
أبو بكر
(في الخارج صائحًا)
:
أيها الناس! … وَمَا
مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ
الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى
أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ
يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ، أما
بعد … فمن كان منكم يعبد «محمدًا» فإن «محمدًا» قد مات، ومن
كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت!
الناس
(في الخارج يبكون)
:
مات رسول الله!
المنظر الثامن
(النبي مسجى على سريره، يدخل الناس عليه زمرًا زمرًا،
يصلون عليه ويخرجون، بغير أن يؤمهم إمام.)
(أبو بكر وعمر وعلي في الصف الأول أمام جثة النبي مطرقين.)
علي
(همسًا للجثة والعبرات في عينيه)
:
أنت إمامنا حيًّا
وميتًا!
أبو بكر وعمر
(للجثمان)
:
السلام عليك أيها النبي ورحمة
الله وبركاته! … اللهم إنا نُشهد أن قد بلَّغ ما أُنزِل إليه،
ونصح لأمته، وجاهد في سبيل الله، حتى أعز الله دينه، وتمَّت
كلماته … فآمن به وحده لا شريك له، فاجعلْنا يا إلهنا ممن
يتبع القول الذي أُنزِل إليه وثبِّتنا بعده، واجمع بيننا وبينه؛
فإنه كان بالمؤمنين رءوفًا رحيمًا … لا نبتغي بالإيمان
بدلًا، ولا نشتري به ثمنًا أبدًا!
الناس
(في صوتٍ واحد)
:
آمين! … آمين!