الفصل الأول
كان اليوم الأول من تلك الأيام المَطيرة القليلة التي يجود بها شتاء الصحراء. وقد أسفر وجه السماء بعدَ أن جلَّل المطر أعواد الخُزامى والشِّيح، وصفا الجوُّ ورقَّ النسيم البارد، وسطعَت أشعة الشمس رفيقةً دفيئة تغمُر الرمال الصفراء النديَّة، وتلمَع تحتها الجداول الدَّقيقة المُتعرِّجة.
وكان وائل التَّغلِبي — وائل بن ربيعة، فارس تغلِب وسيدها — يسير في جانب الوادي المُعْشِب الذي ضُربَت فيه خيامه، ويجُول ببصره في التِّلال الجرداء المُحيطة به، ليس عليها إلَّا أعواد من طرفاء الكالِحة، وأشواك العَوسج تَبسمُ فيها الزهرات الزرقاء، مُتواريةً كأنها تخجَل من ثوبها المُقدَّد، وكان في سَيره يتَّجه إلى جدول يترقرقُ ماؤه من تَلعةٍ شَجْراء عالية، ويَنساب مُتلألئًا إلى بطن الوادي حتى يغيبَ في رَوضةٍ مُلتفَّة الشَّجر، يَتماوَجُ حولها العُشب الأخضر البارض مع ريح الشمال، وتتراقَصُ أعوادها في رِفق، وتتلامَس كلَّما هبَّتْ عليها نفحةٌ من النسيم الفاتر.
وتَبسَّمَ البَدويُّ للمَنظر الفاتِن ولكنَّ ابتسامته كانت خافتةً لم تنفرِج لها العَبْسَةُ العميقة التي كانت تعقِد جَبينه الواسع، وتنفَّس نفسًا عميقًا ملأ به صدره من الهواء الصافي، ومضى في سبيله نحوَ الروضة بخُطي قصيرة ثابتة؛ سار كأنَّ في قلبه ثقلًا يَنوء به، وكأنَّ في صدره اضطرابًا يصرِفُه عن أن يهتزَّ لجمال ذلك اليوم البديع.
وسار في أثَرِه عبدٌ أسودُ يترقَّب حركته في خشوع، وينظر إليه بطرف عينيه في حذَر، يتلفَّتُ نحوه كلما بدرَتْ منه لفتة، كأنه يخشى أن تفوته إشارة من مولاه، أو تشرد عن سَمْعه همسة من همساته، وسار من ورائه كلبٌ يتمسَّح بأذياله، وقد وضع ذيله بين فَخذَيه، يُطرِقُ برأسه يشُمُّ الأرض حينًا، ثم يرفع عينيه نحو سيده مُتردِّدًا ويعود إلى إطراقه يَشمُّ الأرض في مَواطئ قدَمَيه.
ولما اقترَبَ السيد من الروضة وقف هُنيهة، ثم نادى ولم ينظُر إلى ورائه: «يا غُصَين!» فأسرع إليه العبد حتى وقف على خُطوةٍ منه وقال: «لبيك!»
فقال وائل: «جهِّزْ لي طعامًا وشرابًا، واتبَعْني إلى هناك!» وأشار بيده نحو قلب الرَّوضة، ثم سار بغَير أن ينظر نحو العبد، فحنى هذا رأسه وسار مُسرعًا نحو البيوت المُنتشِرة في أعلى الوادي، حول القُبَّة الحمراء العالية المُشرِفة على الحي.
كان وائل يبدو لمن نظر إليه شابًّا يتألَّقُ على وجهه الأسمر روْنَق الشباب، وهو يسير مرفوع الرأس كأنَّ قوامه النحيف عودُ رمح سَمْهري، وينظر بعينَين لامِعَتَين تَبِصَّان ببريقٍ فيه قَسوة، وقد انعقد ما بينهما في عبسة، كأنَّ جبينه الواسِع لم ينفرِج يومًا عن بسمة، وكان أنفُه الدقيق الأقنى ينتهي إلى فمٍ رقيق الشَّفتين، وشارب أسود الشعر مفتول الطرفين، تشذُّ منه شُعيرات قائمة في وسطه قد تمازَجَت فيها خُيوط بيضاء وأخرى سوداء، وكانت لِحيته الخفيفة تدور حول وجهه، لا ترى العين أثرًا من الشيب في شعرِها الأسود الجَعد.
وكانت عمامتُه البيضاء تنتهي من وراء بطرفٍ مُسبَلٍ يبلُغ مَجمع كتِفيه، وتبرُز من تحتها ذؤابتان من شعره الأسود تلمَعان به بما عليهما من دُهن وعطر.
وسار وائل بِخُطاه البطيئة نحوَ الروضة الخضراء، والكلبُ يسير من خلفه يتمسَّح في أذياله.
ولمَّا بلَغ السيد مدخل الرَّوضة وقف هُنيهة ينظر فيما حوله يفحَص عمَّا في الرِّمال من آثار، ثم أشار إلى الكلب بطرف سيْفِه المُتدلِّي من حمائله وصاح به: «ههنا يا عسَّاف؟» ففهِم الكلب الإشارة وأقعى حيث أشار إليه سيده، وعوى عواءً خفيفًا.
ودخل الرجل الروضة، فجعل يمشي في مَسارِبها ينظر ما بها من آثار، ويميل إلى كلِّ زهرة يراها فيتأمَّلها مَليًّا، ثم يمضي عنها مُتباطئًا، ويمدُّ يدَه إلى الأغصان المُتدلِّية عابثًا بأوراقها حِينًا، ونازِعًا بعض أوراقها حينًا. ثم أوغَلَ في الروضة حتى بلَغ مكانًا قد ظلَّلتْه أشجار مُلتفَّة، فحمتْه من بلَلِ المطر، وسقطتْ عليه الأوراق فَكَسَتْهُ فراشًا وثيرًا. فمَهَّد الورق بقوسه، ثم ألقى القَوس إلى جانب، وألقى كِنانَتَه إلى جانب، ونشر شمْلةً كانت عليه فجعلها فوق الأوراق الجافَّة، ومال فاضطجع عليها فوق ظهره، مُتَّكِئًا برأسه فوق كفِّه، وجعل يتأمَّل السماء من خلال الغصون المُتدلِّية، ويتلقَّى شُعاع الشمس المائل داخلًا إليه من بين الجذوع والفروع.
اعتاد وائل كلَّما نزل القَطْر وغسَل الغبار عن الأغصان وسالت به جداول الوادي أن يذهب إلى تلك الروضة ليَتمتَّع بيومٍ في ظلالها. وكانت بهجة الحياة تتحرَّك فيه عند ذلك فيلتمِسُ نَداماهُ ويقضي معهم يَومَه يُطاردون مُتَع اللهو، ثم يعود بعد يومه، طروبًا مُمتلئ القلب بالبِشر. ولكنَّه لمَّا خرَج في ذلك اليوم كان على غير عهده بنفسه. خرج إلى رَوضتِه وحيدًا يُحسُّ في قلبه حُزنًا كامنًا لا يتبيَّن مَبعثه، وخُيِّل إليه أنَّ العالَم يفيض حوله بنبضاتٍ حزينة تطِنُّ في أُذنَيه، وأنَّ السماء الصافية تُخفي وراء أنوارها الشفَّافة أسرارًا غامضة، وأن الصحراء التي تمتدُّ تحت ناظرَيه إلى الأفق المستدير، ليست كما عهِدَها فضاءً فسيحًا يسرَحُ فيه بصره مُطمئنًّا، بل كانت تزدحِم وتضطرِب حتى تكاد لا تدَع له فيها خلوة، وأنَّ النسيم البَلِيل الذي يملأ صدرَه منه يزيد نفسه القلقة ضِرامًا واختِلاجًا.
خرج في ذلك اليومِ وحدَه إلى روضَتِه التي طالَما شهِدَتْ مجالس أُنسه وطرَبِه، وكان يطمع لو استطاع أن يجِد في جمالها الساذج ذلك السلام الذي عجز أن يجِدَه في نوادي قومه أو في فناء منزله الفسيح، أو في الوادي الأعشَبِ الذي تَرعى به إبلُه. ولكنه عندما اضْطجَع في ظِلال الروضة وجدَها أعلى ضجَّةً من المَجامِع المُزدحِمة المُضطرِبة.
لقد كانت نوادي قومه منذُ حينٍ تضِيق بنفسه وتملؤها ضَجرًا، وكان فناء منزله يبعَثُ في قلبه وحشةً وكآبة؛ ولكن تلك الرَّوضة نفسها قد خيَّبَت أُمنيَتَه فلم يجِد فيها إلا وحشةً وكآبة.
وتوارَدَت عليه وهو مُضطجِع تحتَ ظِلال الغُصون المُتدلِّية صُوَر من حياته مرَّت في خَيالِه سراعًا، فتذكَّر حروبه ومواقِعَه عند أراط والكُلاب، ثم مَوقِعَته الكُبرى عند جبل خزازى، حيث تهاوى بفُرسانِه ليلًا نحوَ النِّيران المُوقَدة على رءوس الجبال، وأحاطوا بأهل اليَمن فحطَّموهم حتى لم تقُم لهم بعدُ قائمة، فانتصف منهم لقومه ربيعة، وألقَوا نِير اليمن عن رِقابهم وتَبوَّءوا مقاعِد السيادة في هِضاب نجِد. إنه هو الذي اجتمعَتْ حوله الكلمة، فقاد عرَب الشمال جميعًا من ربيعة ومُضَر حتى انتهى بهم إلى النصر البارع، وطرَد السادةَ من ملوك اليمن من تلك الربوع التي رتَعُوا بها من قبلِه أجيالًا. ولكنَّ قبائل ربيعة قد تغيَّرت عليه وجحَدَت فضله ونَسِيَت بطولته، فأصبحتْ تتحدَّثُ في نَواديها عن كبريائه وظُلمه، وصار الشُّبَّان منهم يَتحدَّونَهُ ويُنكرون عليه ما سمَحَتْ به نفوس آبائهم طائعةً عقِبَ ذلك الانتصار. أيُنكِر قومُه سابقَ فَضلِه ويُنازِعونه في الحقِّ الذي بايَعُوه من قبل عليه؟ أيحْسَبون السَّيف الذي قضى به على قبائل اليمن قد صَدِئ في غِمدِه من طول ما مرَّ عليه من السلام؟ أم هو العُقوق الذي يدفعهم إلى هذه الهمسات الحانِقة التي تبلُغ أُذُنَيه مهما بالَغَ الهامِسُون أن تكون فيما بينهم سرًّا؟ أم هو الحقد الذي يملأ صدور مُنافِسيه، ويَحمِلُهم على تَناسِي فضله والتَّجهُّم له؟
وتنبَّه وائل من خواطره على صوت رفرفةٍ بين الأغصان التي فوقَه، فحرَّك رأسه فاترًا وأحسَّ بشيءٍ من الارتِياح إلى أن يخلُص ولو حينًا من شجونه المُضطربة، فرأى بين الأوراق قُبَّرةً تنتقِل بين الفروع في حذَرٍ كأنها تُريد أن تهبط، وكان يَلُوح عليها أنها تخشى ذلك الدَّخيل المُضطجِع تحتها. فجعل يتأمَّلها حينًا ثم رأى اضطرابَها فرَقَّ لها وقام من مكانه مُتسلِّلًا يُحاذِر أن يَعنُفَ في حركته حتى لا يُفزِعَها، ونظر نحوَها يرقُب حركتها، فرآها تنظر إليه في ذُعرٍ واضطِرابٍ تَهمُّ أن تطير هاربة، فتقفِز عن غُصنها، ثم تتردَّد فتنزل على غُصن آخَر وتُصرصِر وتُنقنِق في خُشوع كأنها تتوسَّل وتُبدي الحنين.
وفيما هو في ذلك سمِع صوت رفرفةٍ ضعيفة عند قدَميه.
وتلفَّت حولَه إلى أطراف الأغصان المُتدلِّية، فرأى عشَّ القُبَّرة وفيه فرخان صغيران لا يُغطِّي جِسمَيهما إلَّا الزَّغَب الأخضر، وهما يتطلَّعان نحو أُمِّهما ويُحرِّكان جَناحَيْهما العارِيَين في لهفةٍ إلى ظلِّ جَناحَيها. فأسرَع في خفَّةٍ فرفع قوسَه وكنانة سِهامه، ثُمَّ وضع شملتَه على كتِفه وتراجَع في هدوء حتى خرَج من ظلِّ الخميلة. وهبطتِ القُبَّرة تهوى مُندفِعة نحو فرخَيها وتَدْرُج إليهما في العشِّ تُرفرِف عليهما بجناحَيها وهي لا تزال تنظر في قلقٍ إلى الخَيال القائم من وراء الأغصان. فتبسَّم وائل ابتسامةً حزينة، ثم سار إلى خميلةٍ أخرى من الروضة يَلتمِس في ظلِّها مَضْجعًا. وقال وهو سائر كأنَّه يُحدِّث نفسه: «لقد تحرَّمَت المِسكينة في حِماي.»
ولكنه ما كاد ينطِق بهذه الكلمات حتى عاوَدتْه خواطره الأولى وكانت أشدَّ حنَقًا؛ إذ تذكَّر ما يَتحدَّث به قومه وما بلغوا من الجرأة عليه؛ فقد أطلقوا ألسِنَتهم فيه بما لم يكونوا من قبل يَجرءون عليه. إنهم صاروا يتحدَّثون عنه أنه يَحمي الوحش والطير مُبالغةً منه في الكِبر والعُتوِّ، ويتحدَّثون عن مَراعيه التي لا يستطيعون أن يلتمِسوا فيها صَيدًا من ظبيٍ أو أرنبٍ أو ضَب؛ لأنه قد حمى تلك المراعي وسدَّها في وجوههم. ويتحدَّثون عن الماء الذي لا يستطيعون أن يَرِدُوه إلَّا بعد أن تُصدِر عنه إبله، وعن كلأ الأرض الذي لا يَقدِرون على أن يُطلقوا فيه إبلهم؛ لأنه قد حمى ذلك كله وحازه لنفسه لا يُبيح لأحدٍ فيه شيئًا إلَّا بإذنه. لقد تحدَّثَ قومه بهذا كله، ووصفوه بالطُّغيان والكِبر والبَطَر وكأنهم تناسَوا أن ذلك كان من حقِّهِ عليهم؛ إذ قد ارتضَوه وتطوَّعوا به له إقرارًا بفضله عليهم واعترافًا له بِسُلطانه فيهم.
وفيما كان يُناجي نفسه بهذه الخواطر سمِع كلبَه ينبح، فوقفَ ينظُر نحوَ مدخل الروضة ليرى من يكون ذلك الجريء الذي اقترَبَ من حِماه، وقال في نفسه: لعلَّ هذه آية جديدة تُطلِعه على ما داخَلَ قومَه منذ حِينٍ من الجرأة عليه. لقد طالَما جاء إلى هذه الروضة وأمر كلبه أن يُقعِي عند مدخلها، فما كان أحدٌ يَجرؤ على أن يقترِب منها، فكان ذلك الكلب إذا جلس عند أسفل التَّلعة نظر إليه الناس من بعيدٍ وتَيامَنوا عنه أو تَياسَروا حتى لا يَستبيحوا حِمى سيِّد ربيعة المُخيف وائل بن ربيعة. بل لقد كانوا يَجعلون اسم ذلك الكُليب علمًا يذكرونه فيما بينهم إذا أرادوا التحدُّث عن بطلِهم الباسِل الذي ملأت هيبتُه القلوب، حتى لا يمرَّ اسمُه على ألسنتهم إكبارًا له وتقديسًا.
أوَقد تجرَّأتْ ربيعة حتى لم يبقَ في نفوسها رهبة من الكُليب؟
واتَّجه نحوَ مدخل الروضة هابطًا على جانب الرَّبوَة مُسرعًا والغضب يملأ قلبه، لا ترى عَيناه إلَّا حُمرةَ الدِّماء، وقد عزَمَ على أنه لن يَصبِرَ بعد ذلك، بل ليجعلنَّ سَطوته طاحِنةً حتى يصرِفَ قومه عن تلك الهمسات التي يهمِس بها الحاسدون فيما بينهم إذا خلا بعضهم إلى بعض. لقد جاءت إليه الأنباء يسعى بها صحبُه الأوفياء وآله الأقربون؛ فهو لا يجهَلُ ما تغلي به الصُّدور عليه، وإن كانت الخَشية من بطشِه لا تزال تُخفي النِّيران تحت ستارٍ واهٍ من الرِّياء والبَسمات الزائفة. وكان قلبه وهو يسير نحوَ مدخل الروضة يَغلي حنقًا ويُحدِّثه صائحًا أنه لا بدَّ له أن يَفتِك وأن يَسطو، حتى يعلمَ هؤلاء أنه ما زال السيد الذي طالَما انعقدتْ ألسنتُهم عن ذِكر اسمه، وأنه ما زال البطل الذي لا يَجرؤ أحدٌ على أن يملأ منه عَينَيه.
ولمَّا بلَغَ مدخل الروضة تلفَّتَ حوله فلم يجِد أحدًا. وأقبل الكلبُ نحوَه يَعوي مُتألِّمًا وهو يتلوَّى، حتى اقترب منه وجعل يتمسَّح به ويُبصبِص بذَنَبه، ثم ذهب عنه يَنبح في حنقٍ مُتَّجِهًا إلى جانب الرَّبوة. فسار وائل في أثَرِه حتى بلَغَ قِمَّة الرَّبوَةِ فأشرَف على الوادي المُجاور، فإذا هو يَسيل بأعناق الإبل الحمراء ومن ورائها فارِس يعرِفه، هو جسَّاس بن عمِّه مُرَّة، جساس أخو امرأته جليلة بنت مُرَّة سيِّد بني بكر. هو أخو تلك الزَّوجة الحبيبة التي اصطفاها ونَعِم بالحياة في بَيتِها الهادئ. وكان جسَّاس يسير وراء إبِلِه مثل الرُّمح الرُّدَيْنيِّ بأنفٍ أشَمَّ، تدلُّ هيئته على أنه لا يرى في قبائل ربيعة من يَليق أن يكون عليه سيِّدًا.
وتمنَّى وائل لو لم يكن جسَّاس أخًا لزَوجته، أو لم يكن ابنَ عمِّهِ الشيخ مرَّة بن ذُهل بن شَيبان؛ فإنه لو لم يكن في حِمى تلك القرابة لعرَف كيف يكسِرُ ذلك الأنفَ الأشم، وكيف يَحني تلك الهامة المرفوعة، وكيف يَجعله يُغضي تلك العين الجريئة التي يُحملِق بها في وجهه إذا كلَّمَه؛ فهو لا يقدِر على أن يَمنعَه من الرَّعيِ في مَراعيه، ولا يقدِر على أن يجعل إبله تنتظِر حتى تُصدِر إبله هو عن الماء لأنه ابنُ الشَّيخ مُرَّة وأخو زَوجتِه الحبيبة جليلة.
واشتعل قلبُ وائل غيظًا إذ رأى ذلك الفتى يَسوق إبله في مَراعيه التي حماها، ثم يجتاز بالروضة التي لم يجَرؤ أحد من قبل أن يمُرَّ بها، ويبطِش بالكلب الذي كانت ربيعة كلها تتحامى الاقتِراب من مَوضعه.
وكان جسَّاس لا يُخفي جرأته وتحدِّيه؛ فقد طالما جهَرَ في نوادي بكر بكراهِية كُليب، وطالما جرَّأ الشُّبَّان من قومه على أن يتكلموا فيه ويَسخروا منه في غَيبته. كان جسَّاس يُحرِّض عليه ويُثير النفوس، ويُوشِك أن يُوقِد بين الناس فتنةً عَمياء. بل لعلَّه هو الذي فتح عقول القَوم إلى التذمُّر ممَّا كانوا من قبل لا يَرونه إلَّا حقًّا وعدلًا، ووقف وائل ينظُر إلى ذلك الشابِّ المُتحدِّي وثارتْ في قلبه الحفيظة، وعزَم على أن يتنبَّه وأن يضرِب وإلَّا كانت عاقبة أمره وَبالًا.
ونزل عن الرَّبوة ولم يعُد إلى روضته التي كان قد أزمع أن يقضيَ فيها اليوم وحدَه يلتمِس نُزهةً تُهدِّئ من قلبه الثائر، بل عاد إلى بيتِه يُسرِع الخُطى وقلبه يفور، وأنفاسُه تضطرِب، وقد تمثَّلت أمام عينيه مناظر الصِّراع المُقبِل الذي يُوشِك أن يقَع بينه وبين ذلك الفارِس الجريء.
ولمَّا بلَغَ مضرِبَ خِيامه المُشرفة على الوادي لم يلتفِتْ إلى من كانوا في فنائه الفسيح من عبيدٍ وأتباع، بل سار مُسرعًا والكلب يجري وراءه لاهثًا.
ولما بلَغَ خَيمته دخل إليها، ثم نادى في شيء من العُنف: «جليلة»، فنهضَتِ امرأتُه مُسرعةً وأقبلتْ نحوَه تبتسِم، ولكن نظراتُها إليه كانت تنمُّ عن دهشة؛ فقد كانت تُعِدُّ له زقَّ الخمر، وتُهيِّئُ له شواءً من الكَبِدِ والسِّنام لكي تُرسِله إليه مع العبد «الغصين» في الروضة كما أمره منذ حينٍ قصير. وأحسَّ قلبُها أنَّ في رجوعه إليها بعد ذلك الحين القصير دليلًا على أمرٍ خطيرٍ أزْعَجَهُ لم يكن في حُسبانه. ونظرَتْ إلى وجهه فأدركتْ أنَّه قد عاد إليها غاضبًا ثائرًا، فقد كانت عيناه مُحمَرَّتَين تَقدَحان شررًا، وخُيِّل إليها أنَّ الشَّعرات القائمة في وسطِ شارِبه تهتزُّ في قلق. وأرادَتْ أن تُزيل ما عنده من الشَّجن الثائر حتى لا تَبدُر منه بادِرة قاسية؛ فإنه كان إذا ثار لم يَملِك بَوادِره الدَّموية. كان لا يَعبأ أن يبقُر بطنَ فرسٍ عزيز، أو يُطيح بسَيفِه رأسَ بعض عبيدِه المَساكين الأبرياء. حتى إذا ما سكن غضبُه وعاد إلى نفسه استولى عليه الحُزن وكاد يبخَعُ نفسه أسفًا. ولم يكن أكبرَ ما يَحمِلها على أن تُذهِب ما في نفسه أنَّها كانت تَحرِص على فرسٍ أو تُشفِقُ على عبدٍ مِسكين، بل كان الذي يَعنيها هو هذا الهمَّ الذي رأتْ عليه بَوادِرَه منذ حِين؛ فقد أحسَّتْ تَغيُّرًا عظيمًا اعتراه في تلك الأيام الأخيرة، وكان قلبُها يُعصَر عصرًا قاسِيًا كلَّما رأتْه يقضي اليوم والليل كاسِفًا مُتملمِلًا لا يكاد يَذوق نومًا ولا راحة، وتقدَّمت نحوَه ووضعتْ يدَيْها على كتِفه في وَداعَةٍ وقالت في صَوتِها الرخيم: مَرحبًا بك. لقد كنتُ أعدُّ لك طعامك.
فنظر وائل إلى وَجهِها نظرةً سريعة، ثم بَدَتْ على وجهِهِ ابتسامَةٌ ضئيلة، ولكنَّه حوَّل نظراتِه عنها وأمسك بيدَيها برِفقٍ فأزاحَهُما عن كتِفَيه، ونزَع قوسَه فقذَف بها في حَنقٍ إلى رُكن من الخيمة، ثم قذَف بكِنانة سِهامه على الأرض في عُنف حتى قعقعتْ، وذهب إلى نَطْعٍ من الجِلد في صدْر الخيمة فجلس عليه واحتبى بِسيفه ونظر إلى الخارج وهو ساهِمٌ صامت. فقرُبَت جليلة منه وجلست إلى جانِبه، وجعلتْ تعبَثُ بيدِها حينًا في شملتِه، ثم قالت بصوتٍ خافِت: أراك مهمومًا.
فانفجَر وائل قائلًا: لقد طال صبري ولم يبقَ بعدُ في القَوس مَنزع. قاومتُ نفسي وكبحتُ جماحها من أجلك. من أجلك أنت يا جليلة، ولكنه يَتمادى ولا يزيد إلَّا جرأةً عليَّ.
فأطرقَتْ جليلة صامِتة، ووقع في قلبها من يكون ذلك الجريء الذي يقصِده زَوجها؛ فلم يكن في قبائل ربيعة كلِّها من يَجرؤ عليه إلَّا أخوها جسَّاس بن مُرَّة الذي لا يعرِف لنفسه سيِّدًا. أطرقَتْ حزينةً وقلبها يغُوص إلى أعماق صدرِها وتواردَتْ عليه الخواطر سِراعًا. لقد طالما سمِعَت بما يقوله أخوها في نادي قومِه من التعرُّض لزَوجها الحبيب، وطالَمَا غاضبَتْه وأنْحَتْ عليه بِلَومِها. وكم توسَّلت إليه وهي باكية لكي يتجنَّب ما يُوجِب القطيعة بين زَوجِها وقومِها؛ فإن تلك القطيعة لم تكن لِتَجُرَّ في هَولها جسَّاسًا أخاها وحدَه، بل هي داهية مُحطِّمة تَخبِط وتنزِع وتُمزِّق الشَّمل كله. فلو كان جسَّاس يَجني بها على نفسه لَمَا كان ذلك يطعَنُ قلبها مثل تلك الطعنة، فإنه فتًى عنيف مُتكبِّر لم يدَع في قلبِها رقَّةً عليه، ولكن ثَورَتَه كانت جِنايةً عليها وعلى قومِها جميعًا؛ قوم أبيها وإخوتها من بكر، وقوم زَوجها وبني عمِّها جميعًا من تغلِب.
وأفاقَتْ جليلة على صَوت زَوجها يهدُر قائلًا: إن أخاك جسَّاسًا يتحدَّث عنِّي حديث الكارِه المُستهزئ ويُجرِّئ عليَّ هؤلاء الأحداث الذين كانوا أطفالًا في أفنِيةِ آبائهم يَمرحون ويلعبون، عندما كانت المعارك الدَّامية تَثور من حولنا؛ إذ نُجاهد أقيال اليمن ومُلوكَها في جبال العالية من تِهامة. كنَّا نَبني لهم المجد لكي يُصَعِّروا خُدودَهم للعرَب جميعًا، فإذا هُم اليوم قد أذهلهم البَطَر والجهل، فحَسِبوا أنهم أصحاب ذلك المجد الذي يَنفُخ أوداجَهم كِبرًا. أمَا وأنصابِ بكر وتغلِب كلها، لئن لم ينتَهِ ذلك الأخرَق لأُلحِقنَّه بالعبيد، ولأجعلنَّه عِبرةً لأصحابه الآخرين.
فرفعَتْ جليلة يدَها إلى غَديرَتَيه، وجعلتْ تفتِلُهما بأصابعها، ثم قالت بصوتٍ هادئ: هوِّن على نفسك يا ابن العمِّ أمر جسَّاس، ما هو إلَّا منك وما أنت إلَّا منه. لا تستمِع إلى ما يسعى به إليك الواشون؛ فرُبَّ واشٍ لا يُريد إلَّا فسادًا.
فقال وائل ولا يزال حانِقًا: لا تَعتذِري عنه يا جليلة؛ فلقد كنتِ تَعذِلينَه وتَلُومينه. ألَمْ تأتِني أنباءُ ما قُلتِ له؟
فنظرَتْ إليه جليلة في شيءٍ من الفزَع. إن الأنباء تبلُغُه وهي تعلَمُ صِدق ما يقول، ولكنَّها لم تَيئسْ وأرادت أن تَستعين بما تعلَم أنه في قلبِه من حُبِّها، فقالت كأنَّها مُعاتِبة: ألا يُرضيك منه عمُّك وأبناء عَمِّك؟ إنك تعرِف ما يَحمِلون لك جميعًا من المَودَّة، فهلَّا أكرمتَهُم بالتَّغاضي عن جهلِ ابن عَمِّك الصغير؟
فانتفض وائل حتَّى نزَعَ غَدائره من بَينِ أنامِلِها وقال في عُنف: أتغاضى عن جهله! ومن لي بِتحمُّل ما يتبَعُ ذلك من جهلِ مَن يُشارِكونه؟ هل كنتُ لأُسيغ أن يجعلني هؤلاء مَلهاةً لهم إذا مالت الخمر برءوسهم، وأن يتَّخِذوا اسمي في أسمارهم العابثة هدفًا لسُخريتهم وعبثهم؟ لا وحقِّ مَناة! ما ذلك من شأن وائل.
ثُمَّ قام خارجًا، ولم تجِد كلمات جليلة إلى قلبه سبيلًا، فقامَتْ وراءه وهي دامِعة العَين وسألته بصوتٍ مُتهدِّج: إلى أين يا ابن العم؟ إنك لم تطعَم شيئًا منذ الصَّباح.
فلم يُجِبْها، بل سار وهو يرفَع رداءه في اضطراب، ويُلقي الشملة على كتِفه في غضب، ووقفت جليلة حينًا تنظر في أعقابِه والحُزن يعصِر قلبها عصرًا، حتى بَعُدَ واختفى عن عَينها، ثمَّ أسرعتْ وألقَتْ عليها إزارها وخرَجَتْ مُسرعةً نحو منازل أبيها.
ولمَّا صار كليب في الفناء الواسِع بين خِيامه دعا عبدَه الغُصين، فجاء نَحوه مُسرعًا، فصاح به في غضب: الرَّباب!
فأسرع العبد إلى جانِبٍ من الوادي، وسار كليب في خطواتٍ واسِعة لا يَلوِي على شيء وكلبُه يتبعُه ويشمُّ آثاره. فلما بلَغَ آخِرَ ثَنِيَّة الوادي وقَفَ ينتظِر العبد حتى أقبل يَجري وفي يمينه لِجامُ فرَسٍ تخطُر رشيقةً في خُيَلاء، فوَثَبَ كليب على ظهرِها وهمَزَ جانِبَيها، فوثبَتْ به لا تكاد تلمِسُ سطح الرمال. وكانت كُمَيْتًا غرَّاءَ مُحجَّلة لا يرى الرائي منها إذا انطلقَتْ إلَّا ساقَين مِثل ساقَيِ النَّعامة تَمُدُّهما من أمام وأَيْطَلَين كأنَّهما لِظَبي تَسبَحُ بهما من خلف، وكأنَّها بينهما طائر يَخترِق الهواء.
وكان كليب مع ذلك يَهمِزُ فرسَهُ في عُنفٍ على غير عادته ويَصيحُ بها كأنَّهُ قد خَرَجَ يُطارِد عدوًّا؛ فإنَّ الشجون التي تَجيش في صدره كانت تلتمِس منفذًا في تلك الحركة العنيفة وتلك الصيحة الحانقة. ولمَّا خرج من الوادي عرَّج مُتَياسِرًا إلى براحٍ من أرضٍ صُلبة قد غطَّى المَدَر سطحها، فكانت الفَرَس في عَدْوِها تُثير حولَها نثارًا من الحصى المُتطاير، وكأنها أحسَّتْ ما في قلب راكِبِها من الثورة، فأجابتْها بوَثَبات لا تُبالي فيها أين تقَعُ حوافرها. وما كانت إلَّا هُنيهات حتى بلَغَ وائل هضبةً عاليةً فهدَّأ من سُرعته وترك فرسَه تَعلو جانِبَها على رِسْلها، ولكنها وثَبَتْ على السَّفح الصَّخري كما يثِبُ الوَعِل الأعصم، حتى علتْ ظهْر الهضبة الفسيح، وكان العُشب الأخضر يُغطِّي سطحها المُتموِّج، ولا تزال قطرات الماء من أثر الأمطار تلمَع تحت ضوء الشمس في ثنايا الأعواد، وفي ثغور أزهار الأقاحي والعَرار، فملأ كليب صدرَه من الهواء وأرخى الحبْل للفرس ومسح عُرفها بكفِّه، فاطمأنَّت في سيرِها ومضتْ بين التِّلاع والوِهاد تعلو وتهبط في هوادَةٍ كأنَّها تتحرَّك بما تُحسُّه من إرادة سيِّدها، وقلَّب كليب نظرَه في أرجاء الأفق الواضح، وكانت السماء الزرقاء صافية بعد أن تحلَّبَت أمطارُها كأنها قد غُسِلَت من أدرانِها. فدبَّ السلام رُويدًا إلى قلبه، وانفرجَتْ عقدة جَبينه ولاحتْ على وجهه بَسمَةُ الارتياح. ولمَّا عادت إليه صُورة ما حدَثَ في الصباح لم تَعُد إليه غَضبتُه، كأنَّ المنظر الوديع هدْهَدَها وقطع فَحمتَها. وعادت إليه صورة جسَّاس بن مُرَّة أخي زَوجِه الحبيبة فساءل نفسه: أما آنَ لِجسَّاس أن يدَعَ تلك الوساوس التي تُوغِر صدره؟ ولكنه لم يكن يُحسُّ عند ذلك تلك الكراهة التي مَلأته غَيظًا منذ ساعةٍ على ذلك الشابِّ الفارس الجريء، بل لقد كان في قرارة قلبه يتمثَّل بَسالتَهُ فيُعجَبُ به ويَتمنَّى مَودَّته. إنَّ مِثل جسَّاس من يَحمي الظهر عند اللقاء، ويشفي النفس من دماء الأعداء، وإنَّ مِثله من يَركَن إليهم الملوك في ردِّ غَيبتِهم والذَّبِّ عن حِياضهم. وهو أخو جليلة العزيزة، وما كان أجدَرَه أن يكون إليه حبيبًا ومنه قريبًا، فإذا كان قلبُ جسَّاس قد امتلأ غيرةً منه وحِقدًا عليه، حتَّى أطلق فيه لِسانه، فإن غَيظه قد يُسَلُّ وغيرته قد تهدأ. إنه لا يُحاول إذا لقِيَهُ أن يُخفي عليه ثَورتَه. ولكن ذلك أخفُّ كَيْدًا وأسلمُ عاقبةً من أولئك الذين يلقَونه بالبَسمات، فإذا تولَّوا عنه سَلَقوه بألسِنة حِداد. لقد تمنَّى كليب عند ذلك لو عاد جسَّاس إليه صديقًا يُؤنِسُه بمودَّتِه ويسنِد مُلكَه بشجاعته.
وما زالت هذه الخواطر به حتى أزاحتْ عن كاهله ثِقَلَه فتنفَّس نفسًا عميقًا، وشعَرَ بالأشجان التي تَضطرِم فيه تتصاعَدُ معها، ودبَّ إليه دَبيبٌ من السلام، وسار على رِسْله يُقلِّبُ طرفَهُ في الأفق الصافي وفي جوانب الرُّبى الخضراء.
وفيما هو في ذلك لمَعَتْ أمام عينِه لمعة على مرمى سَهمَين فرأى بياضًا يبرُق ثم يَنساب، فإذا هو بُطون الظِّباء وهي تَثِبُ في خِفَّة من خميلةٍ فوق طريقه لتقصد إلى أخْرى آمِنة إلى جانبٍ من الهضبة. فصرَخ صرخةً وهمَزَ فرسَهُ وحرَّك اللجام إلى قصدِها فانطلقتِ الفرسُ تعدو نحوها ووثَبَ عسَّاف يهدُر من حلقِه حتى سبقَها. وما كادت الظباء تحسُّ المُطارَدة حتى خرجتْ تَهيم على الهضبة الفسيحة تعلو وتهبط بَين ناشِزٍ من سطحها ومُتطامِن، والخوف يقذِفُ بها قذفًا، وقد مدَّتْ رءوسَها حتى بلغَتْ قُرونها الطويلة جانبي ظهْرِها. وعدا الكلبُ والفرسُ في آثارها، وطالتِ المُطاردة في تَيامُنٍ وتَياسُرٍ حتى بدا شيء من التردُّد على الظباء، فتفرَّقَتْ تُحاول أن تجد لها عاصمًا. ولكنَّ الهضبة الفسيحة لم يكن بها صخر تتوقَّلُ في جانِبه، فانطلقت تعدو في فزَعٍ حتى أدرك الكلب عسَّاف زَوجًا منها كان أثقلَ الرَّبْرَبَ وَثبًا، فجعل يَهرُّ في وَجهيهما ويَتواثَبُ من حولهما وهُما يُحاوِرانِهِ ويُحاوِلان الخَلاص منه حتى صار كليبُ على مَرمى السَّهم من الظَّبيَين، فجذَب قَوسه وسدَّد الرَّمْيَة إلى أقربهما إليه، وهو يُحاذِر أن يُصيب كلبه الباسِل برمْيَته، فإذا الكبشُ يَخرُّ وقد أصابَ السهمُ مِفصل كتِفِه، ثمَّ سدَّد رَميةً أخرى فإذا النَّعجَةُ تخرُّ على خطواتٍ منه وقد وقَعَ النَّصل ما بين عَينَيها، وهمَزَ كُليب فرسَه همزةً فوثبَتْ به حتى كانت عند الرَّمِيَّتَين، وهُما تفْحَصان الأرض بأظلافِهِما الدِّقاق. ونزل عن فرسِهِ في خِفَّةٍ وجرَّد سيفه فذَفَّفَ على الظبْيَين ومال عليهما يتأمَّل أعضاءهما في إعجاب.
ثم رفعهما إلى ظهر الفرس فربطهما في سَرجِه عن يمينٍ وشِمال، ثم مسح رأس كلبه وصاح به: عشاء طيب يا عسَّاف!
فبَصبَص الكلب بذنَبه ونظر إليه كأنه يُضاحكه، ثم وثَب الفارس فوق ظهر فرسه فاستوى عليه ومسح بيدِه على رأسِها وعُرفها وأرخى لِجامها، وأخذ يتغنَّى ببعض شِعره.
وقضى كليب في عَودته ساعةً طويلة يسير على هِينتِه وهو يقلِّب نظره في الفضاء، وقد هزَّته نشوة أنستْه كلَّ شُجونه الثائرة، حتى مالت الشمس مُنحدِرة نحو الأفق الغربي، ولمعَت تحتها الأزهار تتألَّق بين بياضٍ في صُفرة، وحُمرة في زُرقة. فلمَّا بلغ جانب الهضبة ممَّا يلي روضته، نزل عن فرسِه وأرسَلَها فسارتْ وحدَها مُتَّجِهة إلى مضارِب الخِيام، وسار كليب وحدَه نحو الرَّوضة حتَّى تَبعثَ امرأته إليه الطعام. ورأى في طريقه إلى الروضة إبلَ جسَّاس صادِرة عن الماء، ورأى جسَّاسًا في عُدوَةِ الوادي على فرسِه يسير في أعقابها. وكان في يدِه رُمح قد رَكَزه في ركابه، فنظر كُليب نحوَه نظرةً قصيرة فرآه ينظُر نحوَه، وخُيِّل إليه وهو على تلك المسافة البعيدة أن نظرته لم تَخلُ من التَّحدي، فصرَفَ وجهه عنه ولم يُرِدْ أن يُفكِّر في أمرِه حتى لا يُعكِّر الصفاء الذي شمله من جولة اليوم.
ودخل الروضة حتى بلغ مَوضع الخميلة وسار في خِفَّة يرفع بيده أطراف الغصون المُتدلِّية باحثًا عن عشِّ القُبَّرة التي رآها في الصباح.
وكان يتغنَّى بصوتٍ خافِتٍ:
وما كاد يدير بصرَه بين الفروع حتى هاله ما رأى: كان العشُّ هناك مَحطومًا في أذيال الغُصون المُتدلِّية، وكانت الأفراخ فيه مَدكوكة قد سُوِّيَتْ بالأرض واختلطَتْ دماؤها القليلة بأعواد القشِّ والأوراق المُتساقِطة من الشجر.
إذن لقد دخل الرَّوضة دخيل تعمَّد أن يَستبيح حِماه حتى وطئ القُنبرة المِسكينة التي آوت إليه.
فاعتدل وتطلَّع فيما حولَه وعاد إليه الغضب أشدَّ ممَّا كان، ولم يَشكَّ في أنَّ ذلك الجريء الذي اعتدى عليه لم يكن سوى جسَّاس؛ فهو وحده الذي يستطيع أن يُقدِم على إيماءةٍ مثل هذه ليُظهِرَ بها ما في نفسه من استِخفاف. فهو الذي آذى كلبَهُ في الصباح، وما كان أحراه أن يكون هو الذي حطَّمَ عُشَّ هذه القنبرة المِسكينة وحطَّم أفراخَها الزُّغْب تحت عينَيها.
ولما رفع بصره إلى أعلى الخميلة رأى في الغصون القَصيَّة مواضع قضمٍ ونزع، فألقى نظرةً على الأرض فإذا آثار إبل، ورأى إلى جانب موضع العُشِّ رسمَ خُفٍّ على الرمال، فزاد يقينُه أنَّ جسَّاسًا هو الذي استباح حِماه. فذهَبَ وهو مُمتلئ من الغيظ وقد عزَم على أن يفصل فيما بينَه وبين الفتى الجريء؛ إذ صار الأمر بينهما إلى ما لا يُستطاع معه احتمال. ولمَّا همَّ بالسَّير لاحتْ له من خلال أشجار الرَّوضة ناقة تقطف الأوراق الخضراء من أعالي الغصون، وتسير مُتباطِئةً بين الشجر تنزِع من غُصونها لُقَيمات. فتأمَّلها فإذا هي ناقةٌ بيضاء ضئيلة البَدَن هزيلةٌ حدْباء الظهر، ليس لها سنام. ولم تكن هذه من إِبِل جسَّاس؛ فقد كانت إبِلُه حمراءَ عاليةً تهتزُّ أسنامها من خُصوبة المَرعى وعُذوبة المَورد، فوقف يتأمَّلها حتى نزلَتْ منَ الرَّوضة وذهبت لتختلط بإبل جسَّاس.
فأسرَعَ كُليب في أثَرِها حتى أدركها، ثُمَّ وضَعَ يدَه على مِقْبَض سيفه ليَعقِرها.
ولكنَّه سمِع صوتًا من ورائه يُنادي في فظاظة: «تمهل يا كليب لا تفعل!»
فرفع يدَهُ عن سيفِه ونظر فرأى من ورائه جسَّاسًا ينظر إليه في غضبٍ ويَبرُق وجهه بما اعتاد من نظرات التَّحدِّي.
فقال له معبسًا: «أهذه الناقة لك؟»
فقال جسَّاس: «أجل. هي ناقتي.»
قال كليب: «ليستْ ناقَتُك فإنِّي لم أرَها من قبل.»
قال جسَّاس: «هي ناقَةُ ضيفٍ نزَلَ عندي وهي في جواري.»
فقال كُليب وقد عاد إلى القبْضِ على سيفه: «لقد وطِئت حِماي.»
فقال جسَّاس مُتحدِّيًا: «إذا كان لك حِمًى فإنَّ ناقة ضَيفي في حِماي.»
فصاح به كليب: «أتَحمِي عليَّ يا جسَّاس؟»
فقال جسَّاس: «قلتُ إنَّها ناقة ضيفي.»
فكظم كليب غيظه وقال مُتساهلًا: «لقد هممتُ أنْ أقتلها ولكن احْذَر أن تعود تِلك النَّاقة إلى الرعي في مَرعاي.»
فقال جسَّاس وقد ضحِك ساخرًا: «مرعاك! كأنَّنا لا يحقُّ لنا أن نرعى في هذه الأرض! إنما هي أرض بكرٍ، كما هي أرضُ تغلِب، ولم يوَرِّثْها لك أبوك ربيعة.»
فتألم كليب لذلك القول الذي لم يتعوَّد سماعَ مِثله وعلا الدَّمُ في وجهه، ولكنَّهُ تمهَّل في الجواب، ثم قال: «أنصحُك أن تُبعِدَ هذه الناقة عن إبِلِك.»
فأجاب جسَّاس مُتحدِّيًا: «لن أُبعِدَها، وسترعى مع إبلي وحقِّ مَناة.»
فتقدم كليب نحو الشاب وقال مُهدِّدًا: «أيها الفتى! وحقِّ آلهةِ ربيعة لئن عادتْ هذه النَّاقَةُ إلى الرَّعي هنا لأضعنَّ سَهمي في ضَرعِها.»
فضحِكَ جسَّاس مرَّة أُخرى ساخِرًا وقال: «لئن وضعتَ سهمك في ضَرعها ليكوننَّ لي شأن.» وصمتَ قليلًا ثُمَّ قال في حقد: «لئن وضعتَ سهمَك في ضَرعها لأضعنَّ رُمحي في لَبَّتِكَ.»
ثُمَّ همَز فرسَه ومضى وهو يطعَنُ الأرض بِرُمحه وعيناهُ تقدَحان شررًا.
فانتفضَ كُليب كأنَّما لذعته نار، وقال وهو ينظُر في أثَرِه: «أيُّها الفتى الوقِح! وَيل لك!»
فوقَفَ جسَّاس والتفتَ نحوَهُ رافعًا رأسه وقال: «سترى لِمَنِ الويل يا كليب.»
فقال كليب وهو يكاد ينفَجِر من الغَيظ: «وحقِّ مَناة لأكبَحَنَّ مِن سفَهِك.»
فلوى جسَّاس عِنان فرسه حتى صار أمامه وجهًا لوجهٍ وقال ساخرًا: «ما قلتُ سفَهًا ولكنَّهُ الحقُّ يَصدَعُك. نحن الذين سوَّدناك، لم تَسُدْنا بعبيدك بل سُدْتَ لأنَّنا عزَّزْناك. أحارَبْنا معك حتى انتصرتَ بنا، ثم تُريد أن تَجعلنا عبيدًا لك؟»
فخَشِيَ كليب أن يخرُج الفتى في قوله إلى أكثر من ذلك، فاكتفى بأن قال: «سأعرف كيف أؤدبك.»
ثم مضى عنه مُسرعًا.
وصاح جسَّاس من ورائه: «بل يُؤدِّبك رُمحي.»
وكانت جليلة واقِفةٌ عند باب البيت تحمِل في يَدَيْها صحفةً فيها طعام وشراب، فلمَّا وقعَت عَينها عليه عرَفَتْ فِي وجهه الغضب، فارتاعتْ واضطرَبَ فُؤادُها، وألقتْ بالصَّحفة وسارت مُسرعةً نحوه ووجْهُها ينمُّ عمَّا يثور في نفسها من المخاوف.
ولم يأخذها بين ذِراعيه كعادته إذا أقبل، ولم تَهمُّ هي بالاندفاع إليه كعادتها عندما تراه راجعًا، بل وقفتْ على خطوةٍ منه، وجعلتْ تفرك بيديها لتُزيل أثرًا من الدُّهن فيهما، ثُمَّ قالت وهي تُحاوِل إخفاء ما بها: لقد أصبْتَ صيدًا كريمًا يا ابن العم.
فقال وهو يُعلِّق سيفه في عمود الخيمة في وجوم: «بل أصبتُ شرًّا مُستطيرًا وحقِّ مَناة.»
فقالت وهي تُمانع نفسها من إظهار الجزَع: «هل غضبتَ لأمر؟»
فقال مُتجهِّمًا وقد نظر إليها: «أترَيْن يا جليلة أحدًا من العرَبِ يَمنَعُ منِّي جاره؟»
فقالت: «ومن يَجرُؤ على ذلك إلَّا أن يكون عمَّك مُرَّة. هل حدَث بينكم أمر؟»
فقال كليب: «لم أرَ أباك اليوم.»
فقالت جليلة في شيء من الارتياع: «إذن هو جسَّاس بن مرة.»
فقال كليب بحقد: «وشَتَمَني.»
فقالت جليلة وقد أقبلتْ فَطوَّقتْه بِذراعَيها: «دع جسَّاسًا يا ابن عمِّي إنَّه فتًى أخرَق.»
فقال كليب وهو يتخلَّص من ذِراعَيها: «أخرق؟ أعليَّ أنا يكون خرَقُه؟»
فعادتْ جليلة إلى التَّعلُّق به وقالت: «أتوسَّل إليك يا ابن عمِّي أيها الحبيب، أتوسَّل إليك ألَّا تقْطَعَ رَحِمَك.»
فقال كليب: «هو الذي يقْطَعُ الرَّحِم. أتَرْضَين أن يُهان كليب يا جليلة؟»
فقالت جليلة وقد أخذَتْ وجهَهُ بين يدَيْها: «اعفُ عنه من أجلي، اعفُ عنه يا كليب. هو أخي فأكرِمْني بالتَّجاوُز عن خطئه، عِدْني بحقِّ مَناة أن تفعل.»
فسكت كليب ولم يُجِب، وحاول أن يتخلَّص من يديها، ولكنها تعلَّقتْ به، واستمرَّت تتوسَّل وترجو.
ونظر إليها كليب فرأى دمعةً تنحدِر على خدَّيْها وهي مُتَّجِهة إليه بِعَينَيها المُغرورِقَتَين. فتردَّد لحظةً ثم ضمَّها بين ذِراعَيه بقوَّةٍ وقال لها: «لقد طالما عفوتُ عنه يا جليلة من أجلك.»
ثم قَبَّلها بين عَينَيها، ومضى يُحدِّثُها فأفضى إليها بما كان من جسَّاس.