الفصل العاشر
مَرَّتِ السَّنوات تَتوالى والحَرْب لا تزال دائرة بين بني العمِّ المُتناضِلَين في الفناء، وشبَّ الصغير في أثنائها وفَنِيَ الكبير، ونَبَغَ مِنَ الفُرسان جِيلٌ في إثرِ جِيل. ولكنَّ المُهلهِل لم تَهدأ ثائرته ولم يَرتَوِ بعدُ مِمَّا أسال من الدِّماء.
وتوالتِ المَصائب على بني شَيبان بعدَ وقْعَةِ واردات، كما تَوالتْ عليها قبلَ تلك الوقعة، فقُتِلَ همَّام بن مُرَّة في أثناء المَعركة، ثُمَّ قُتِل عمرو بن السَّدوس وقتَ الهزيمة. ولم يلْبَثْ بنو شَيبان إلَّا قليلًا بعد ذلك حتى رُوِّعوا بمقتَلِ رئيسهم الجديد والبَقِيَّة الباقية من قادتِهم وأبطالهم، وآخِرِ أبناء مُرَّةَ جسَّاس قاتِل كُليب. قُتِلَ جسَّاس ولكنه لم يُقتَل في مَيدان الحرب، ولم تَطعَنْه يدٌ غريبة ترصَّدَتْ له، بل أحاطت بمَقتلِه رَوعةٌ خلعَتْ عليه لونًا قاتمًا من الفَداحة، فما كان قاتِلُه سوى ابنِ أُختِهِ الهَجْرَسُ بنُ كُلَيب التَّغلِبي.
كان الهَجْرَسُ جَنينًا عند مَقتَل أبيه، ثُمَّ ولَدتْه أُمُّهُ جليلة بنتُ مُرَّة وهي بَين ظهراني قومِها بني شَيبان، وشبَّ فيهم ونما حتى أصبح فتى الفِتيان وزَينَ الشَّباب، فتى طويلُ القامَةِ عريضُ المَنكِبَين جميل الوجه، ولكنَّهُ كان مِثل أبيه تُخالِط جَمالَه قَسوةٌ من عبسةٍ بينَ عَينَين تَلمَعان لَمَعان فرِنْد السيف. وكان قليلَ الكلام فإذا تكلَّم عذُبَ قولُه في السَّمْع ووقَع في النفس. وكان عَظيم المُروءة يُسرِع إلى النَّجدة ولا يُبالي المَخاطر، فاتَّخَذَه جَدُّه مُرَّة أنيسًا، يُفيض من بَهجةِ شَبابه على شَيخوخَتِه التي تَطاوَلَتْ به، ويُرَفِّهُ بِمنظره عن الآلام التي توالتْ عليه. وجعَلَه خالُه جسَّاس في أهلِهِ ولدًا، وزَوَّجَهُ ابنتَهُ الجميلة سُعاد، يُريدُ بذلك أن يُكفِّر عن ماضي جريمته في قتلِ أبيه، وكانوا يُسمُّونه ابنُ جسَّاس حتى لا تدخُل الأحقاد إلى قلبه إذا عرَفَ أنه ابنُ كليب.
ولكنَّ مَكان الهَجْرَس في شَيبان غَشِيَتْه غِشاوَةٌ من الهموم منذُ قُتِل همَّام بن مُرَّة، ذلك بأنَّ ناشِرَةَ قاتِل همَّام كان فتًى تَغلِبيًّا، أحسنَ همَّام إليه وعطفَ عليه، بل حفِظَ حياتَهُ وليدًا ورَعاه طفلًا وفتى، حتى إذا بلغَ مَبلغَ الرجال لم يذكر إلَّا أنَّهُ من تغلِب أعداء شَيبان، فقتلَ الرَّجُل الذي أحسنَ إليه، وغدَرَ بمَن كان حقُّه أكبرَ من حقِّ الأبُوَّة عليه.
فأخَذَ جماعة مِن الشُّبَّان يُذيعون المَطاعِنَ على هجْرَس، ويُحرِّضون على إخراجِهِ من بَينِهم حتى لا يُصيبُهم بِمِثل ما أصابَهم به ناشِرة. وسَمِعَ الهَجْرَس ما يقولون فيه، فداخَلَتْه الوَساوس والشُّكوك، واشتعلَتْ فيه الكبرياء والأنَفَة، وضاق صدْرُه بالإقامة في قومٍ يقول قائلهم عنه إنه ليس منهم. فما زال بِأُمِّه جليلة حتى أخْبَرَتْه بحقيقة أبيه، بعدَ أن هدَّدَها بأنْ يَسير في الأرض فلا تدري أينَ يُقيم، ولا أيَّ البلاد تَشتمِل عليه.
وما عَلِمَ أنَّ أباه كُليب حتى أظلَمَتِ الدُّنيا في عينيه، ودارتْ به الأرض وخرَّ صَعِقًا، ولم يُفِقْ من غَشيتِهِ حتى كان قلبه قدِ استَقرَّ على أن يَنتقِمَ لأبيه، وأن يَلحَقَ بعدَ ذلك بأعمامِه وذَوي صُلبِه. وجعل يُدبِّر الحِيَل ويغتنِمُ الفُرَص، حتى حقَّقَ غرَضَه وأنفَذَ قصدَه، فطعَنَ خالَهُ جسَّاسًا وأسرَعَ هارِبًا فلَحِقَ بعمِّهِ المُهلهِل في مَنازل تغلِب.
فكان هذا الحدَثُ تَتِمَّةَ الأحداث، وقاصِمَ الظهور ولم يَبقَ لشَيبان بَعْدَه من بأس، فقد ذهبَ بِذَهابِ جَسَّاس آخِرَ مَنْ بَقِيَ من أبطالها وهِيضَ جَناحُها وكُسِرَتْ شَوكتُها.
وبَقِيَ الشَّيخ مُرَّةَ في شَيبان وَحِيدًا، قد أحْنَتْ ظَهره السُّنون المُتطاولة، وعصفتْ به أحداثها المُتعاقبة، واجتمع عليه مُصابُ الهزيمة، وحُزن فقد الأعزَّاء من أبنائه ومن فُرسان قَومه الذين قَصفتْهُم الحروب واحدًا بعد واحد، وتركتْهُم مُعفَّرين في الأودية تَنهَشُهم السِّباع وجوارِح الطير. فتضعْضَعَتْ نفسُه وانطفأتْ فيه سَورَةُ الكبرياء التي كانتْ من قبلُ تدفعه وتَجْمَحُ به، فلم يَجِدْ بُدًّا من أن يَسعى إلى مُصالَحَةِ المُهلهِل والتَّذَلُّل له، حتى يَحفَظَ على قومِه البَقِيَّةَ الضئيلة التي بَقِيَتْ لهم من ذراري المُستقبل. كان لا بُدَّ له من مُصالحة المُهلهِل، إذا شاء أن يَبقى في شَيبان باقٍ من هذه الصِّبية الصَّغيرة التي كان يراها تَسعى حولَهُ وليس فيهم إلَّا من فقد أباه أو عمَّه، أو أُصِيبَ في بعض إخوته. لم يَبقَ في شَيبانَ إلَّا هؤلاء الضُّعفاء، بعدَ أن أفنى المُهلهِل في وقائعه كُلَّ من استطاع الحرْبَ من كهولٍ وشُبَّان. ولم يَجِد الشيخ مُرَّةُ من يلجأ إليه إلَّا الحارِث بن عُباد سيِّد بني ثَعلبة، ذلك الذي اعتزل الحَرْب منذ أوَّلِها، ولمْ يرضَ أن يُشارِك قومَهُ البَكرِيِّين مَيادِينَها؛ لأنه لم يرضَ عن ظُلمِهم وبَغْيهم في قتلِ كُليب، وإصرارهم على الظُّلم إذ أبَوا أن يُرضوا بَني عمِّهِم التَّغلبِيِّين في دَمِه الكريم.
لجأ مُرَّة إلى الحارث وخضع له يَستلين قلبه، ويَستعطِفه على تلك البَقِيَّة الضعيفة من شَيبان. وطلَبَ إليه أن يبعَثَ إلى المُهلهِل فيرجوه أن يَقنَعَ بما أصاب من دِماء بكر، وأن يَمُنَّ عليه بالصُّلح فقد صار هامَةَ يومِهِ أو غدِه، فهوَ لا يَحرِص على شيءٍ إلَّا أن يدَع لهؤلاء الصِّبية من شَيبان فرصة الحياة، فرقَّ له الحارِثُ ولم يَشأ أن يَزيدَ آلامه بِلَوم، أو أن يُذكِّره بما مضى من بَغْيِهِ وكبريائه. وخفَّ إلى مَعونَتِه مُبادرًا، فأرسلَ إلى المُهلهِل وفدًا يَرجُوه أن يعود إلى مُسالَمَة بني عَمِّه بعد أن أصابَ منهم من أصاب في ثأره. وأراد أن يَسُلَّ بَقِيَّةَ الحِقد من قلب المُهلهل، فبعثَ إليه مع الوفدِ بِوَلدِه بُجَير ومعه كِتاب قال فيه: «إنِّي مُرسِلٌ إليك ولَدِي بُجيرًا وهو عندي حَبيب، وفوَّضتُ إليك الأمر فيه، فإنْ لم تكن رَضيتَ اليوم بِمَنْ قتلتَ من شَيبان فدُونك ابني جُعِلتُ فداءك! فإمَّا قَتلتَهُ بأخيك الكريم فهو كُفء لَه، وإما أطلقْتَه مُتكرِّمًا إذا رأيتَ أنْ تَمُنَّ به علي، وأنا في الحالَينِ راضٍ ما دُمتَ تَعود بعدَ ذلك إلى السَّلام، وترضى بإصلاح ذات البَين، فقد مضى من الحَيَّين في هذه الحروب الطويلة من كان بقاؤه خير لنا ولكم.»
ومضَتْ أيام بعدَ سَير الوفْدِ إلى المُهلهل، وكان مُرَّة ينتظِر عودَتَهم في قلقٍ ولهفة، وقد مَلك عليه الحُزن قلبَه، فلمْ يدَعْ فيه مكانًا لتَجَمُّلٍ أو اطمِئنان.
وكان في يومٍ من هذه الأيام جالِسًا في فناء مَنزله، وإلى جانبه صديقٌ له من بني عُمومتِه، يُحاوِل أن يُعزِّيَه ويُخفِّف عنه، ولكنَّ اليأس كان يَملِكُ على الشيخ كلَّ أمرِه، فكان لا يَتمالَكُ نفسه من البكاء. فقال له صاحبه: أمَا تَتجمَّلُ بالصَّبر يا أبا همَّام؟
فقال الشيخ والحسْرة تغلِبُه: «ماذا بَقِيَ لي في الحياة يا أبا مالك حتى أتجمَّل وأصبِر؟ إنْ هُما إلَّا يومان أقضيهِما في البكاء ثم أمضي.»
فقال أبو مالك عاطفًا: «لئن بَكيْتَ يا أبا همَّام لقد حُقَّ لك البُكاء. ولكنَّا كُنَّا نتأسَّى بصبرِك ونَتثبَّتُ بِثباتِك، فلَسْنا نَمِلك اليوم معك لا الرِّثاء لأنفسنا لِمَا فقدْنا من أُسوتِك.»
فقال مُرَّة مُتنهِّدًا: «واحرَّ قلباه! لم يَبقَ لي أحدٌ من ولدي، لم يَبقَ لي إلَّا هذه الصِّبية الصغار من أبنائهم، وقد حكَمَ الدَّهرُ عليَّ أن أعيش لأراهم حَولي أيتامًا ضعافًا … واحَرَّ قلْباه يا همَّام! واحرَّ قلباه يا جسَّاس!»
ثُمَّ أخذ يبكي بكاءً مُرًّا، وصمتَ جليسُه ينظُر إليه في حُزن عميق، وأقبلتْ عند ذلك امرأةٌ تَسير في بطء، تتعثَّر بأذيال ثَوبها الأسود، وتمسَحُ عينَيْها بطرفِ خِمارها الذي أسدلَتْهُ على وجهها تُخفي تحتَهُ عَبَراتِها. فلمَّا صارتْ إلى جوار الشيخ، وقفتْ صامتةً تنظُر إليه لحظةً ثم غَلَبَتْها العَبرة، فجعلتْ تَنْشجُ ووضعَتْ كفَّيْها على عَينَيها.
فتنَبَّه الشيخ إليها عندما سمع شهقاتها، فنظر إليها بعينَيه الكليلتَين، وقال بصوتٍ امتزجَتْ فيه بحَّةُ البُكاء بهِزَّة الإشفاق: جليلة؟
فقالتِ المَرأةُ من بين شَهقاتها: «نعم جليلة يا أبي! جليلة الشَّقِيَّة يا أبي!»
فمَدَّ الشيخ إليها يدَيْهِ المُرتَعِشَتَين وقال بصوتٍ مُتهدِّج: «تعالَي يا ابنتي اجلِسي إلى جواري، وامزُجي دَمعك بِدَمْعي؛ فقد أصبحتُ مِثلك لا أستطيع إلَّا البُكاء.» ثُمَّ جعل يَنشجُ مثلها نَشيجًا مُرًّا.
فجلسَتْ جليلة إلى جنبه، ووضعتْ يدها على رأسه وأسندتْ رأسها باليَدِ الأخرى وأخذتْ تُشاركه في البكاء، فلم يَقْوَ أبو مالك على البقاء معهما فقام عنهما، فذهب وهو يرفَعُ يدَه إلى عَينيه ليمسح دمعةَ مُواساة لم يَستطِع أن يَمنعها. ومضتْ على الوالد وابنتِه ساعة في البُكاء، وكأنَّ الدَّمع قد أزال عنهما بعض وُجومِهِما وفكَّ من عُقدة الحديث بينهما، فالتفتَ مُرَّة إلى جليلة قائلًا: «كفْكِفي دمْعَك يا بُنيَّتي!»
فمسَحَتِ المرأة بكفِّها على ظهر أبيها وقالت: «لستُ أدري يا أبي ماذا أقول لك. لم أجدْ في نِساء العرَب من هي أشدُّ منِّي نَحْسًا، ولا أبلغُ منِّي شقاءً، حتى وكأنَّ الزمان لم يجِدْ سواي غرَضًا!»
فمَدَّ الشيخ يدَه إليها فأخذ يدَها ولكنَّه لم يتكلَّم.
فمضَتِ المرأة تقول ولا تزال تنشجُ بينَ كلماتِها: «لم يكفِ هذا الزَّمان ما أصابَني بقتْل زَوجي وفَجيعتي بإخوتي وأبناء إخوتي وأعمامي، فأبى إلَّا أن يجعلَني دائمًا بينَ القاتل والمَقتول، ويقِف بي أبدًا بين السِّنان الطاعِن والقلبِ المطعون؛ قُتِلَ زَوجي وكان قاتِلُه أخي، ثم قُتِل إخوتي وقومي في ثأرِ صاحِبي، فكان الانتِقام له يَبتُر أعضائي ويقطَعُ أوصالي، ثم حُكِمَ عليَّ أن يكبُر ولدي الهَجْرَس بين ظهراني قَوم أبي، وهو يَحمِل في دمائه عداوَتَهم، ويَضمُّ بين جَنبَيه قلبًا يُطالبه بالثأر منهم، حتى انتهى أمرُه إلى ما انتهى إليه من فَجيعتي بآخِرِ إخوتي الذي أكرَمَه وربَّاه، وزَوَّجَه بابنتِه وواساه بنفسه. ثُمَّ سار إلى قومه ليُشاركهم في حربِهم على قومي، فقلْبي عليه يتحرَّقُ ومنه يَتمزَّق. إن أصابَ أصابَني وإنْ أُصيبَ أثْكلني، واحرَّ قلْباه! وأينَ المَوتُ مِنِّي يا أبتاه؟»
وكان لقولِ جليلة عند الشيخ أثرٌ أبلغُ من أثر التعزية، فجفَّ دمعه وسكن نَشيجُه، وهدأتْ أنفاسه منذ وجَدَ مُصابَ ابنته أفدحَ من مُصابه، ورآها أجدَرَ منه بالمُواساة وأحقَّ بالرحمة.
ورفع بصره الكليل إليها ينظر في وجهها، فاعترضَتْه سحابةٌ من الظلمة تَغشاه، ولكنه استطاع مع ذلك أن يُدرِك ما أصابَ ابنتَه الجميلة من تَغيُّرٍ وتَبدُّل، لقد ألهَتْه الهموم كلَّ تلك السنوات عن أن يملأ عينَيه منها، ولم يلحَظْ فِعل السنين فيها، فلما رآها عند ذلك رأى امرأةً نحيلةً شاحِبة؛ وَجْه عَلَتْه الغُضون وبَشرةٌ تكمَّشَت، وعودٌ ضئيل ونظَرٌ كليل، وجِسم مُتهدِّم، ونفْسٌ يَفيض منها الحُزن واليأس، فنَسِي حُزنه في لحظةٍ وجعل يُحاول التَّخفيف عنها، وغاضَ دمعُه وأخذ يعمل على تخفيف دَمعها. قال: «لقد مَضى دَهرٌ على قتلِ كليب ومضى بعدَه من الأعزَّاء من سَلكوا سبيل الماضِين قَبلَهم. وهل في الحياة بقاءٌ يا ابنتي؟ ولئنْ كان مُصاب جسَّاس حديثًا يُصيبُ القلب لقُربِ عهده، فإنَّ حُزني عليه أذهَلَني عمَّا كان يَليقُ بي، ولم يكن الهَجْرَس في قتلِه يا ابنتي إلَّا أحدَ العرب يَثأرُ لأبيه، ولعلَّ هذا المُصاب يكون آخِرَ الدِّماء، ولعلَّ ذلك الضَّبعان القاسي مُهلهِل بن ربيعة يجِد في قَتْل جسَّاس ما يَروي ظمأه ويَكفيه من ثأره.»
فوقعَتْ كلماتُ الشيخ في قلب جليلة مَوقِعَ الدُّهنِ على قُرحَةِ الحَريق.
فمسحَتْ دموعها وخفَّتْ شدَّةُ نشيجها، وقالت وهي أقلُّ يأسًا: «وبماذا أجابَ المُهلهِل على رسالتك يا أبي؟»
فقال الشَّيخ بعد صمتٍ قصير: «لعلَّ الرُّسل يَعودون اليوم. لقد كان مَوعِدُهم أمس ولكنهم لم يعودوا.»
وهمَّتْ جليلة أن تَستمِرَّ في حديثها، ولكنَّ أبا مالك أقبلَ عند ذلك مُسرعًا نحوَ الشيخ، فعَلِمَتْ أنه يُريد التحدُّث إليه، فقامتْ ذاهبةً نحوَ الخِيام، وقد أسدلتْ خمارها على وجهها ولا تزال عيناها تَبُصَّان.
ووقفَ الرَّجلُ عند الشيخ لحظة، ثم قال بعد تردُّدٍ قصير: «لقد عاد رُسُلنا إلى الحارث بن عُباد.»
فرفَعَ الشَّيخ رأسَهُ بِحركةٍ سريعة، وقال بلهفة: «ما خَبرُهم؟»
فقال الرجلُ بصوتٍ أجشَّ مُخيف: «كان ردُّ المُهلهِل قتلَ بُجَير.»
فنهَضَ الشَّيخ يتحامَلُ ولا يقوى على النهوض، وأسندَهُ صاحِبُه حتى وقفَ على رِجليه مُترنِّحًا، ثم قال في فزعٍ ويأس: «قَتْل بُجَير؟ قَتْل بُجَير بن الحارث؟»
ولم يَنتظِر جوابًا على سُؤاله، بل سار مُضطرِبَ الخطوات وأبو مالك يَسندُه من ذِراعه وقصَدا نَحْوَ خِيام الحارث بن عباد.