الفصل الثاني عشر
كان صباحًا عاصِفَ الرِّياح ثائر الرِّمال، وكان الحرُّ على وقْدتِه ولم تطلُع الشمس بعد، تكاد الأنفاس تختنِق منه؛ حرٌّ يُشقِّق الشِّفاه ويحرِقُ الوجوه ويُحرج الصدور.
وكان فُرسان تغلِب مُجتمِعين واجِمين لِمَا بلغهم من تحرُّك قبائل بَكرٍ إليهم مرَّةً أخرى وإقبالِهم عليهم بالعدد الكبير والسلاح المشحوذ، والخيل المسوَّمة، ومعهم الحارِث بن عباد في قومِه بني قَيس بن ثعلبة.
لقد تألَّبَ بنو بكر لمُساعدة شَيبان منذ غضِبَ الحارث بن عباد لقتل ابنه بُجير، والتفَّ حولَهم من كان قعَدَ عن نُصرتِهم من العشائر والبُطون. وضعُفت تغلِب بمنِ انصرَف عنها من حُلفائها حتى لم يَبْقَ معها إلَّا قبائل النَّمِر بن قاسط، وذاقتْ في عامٍ واحدٍ مرارةَ الهزيمة الطاحِنة مرَّةً بعدَ مرَّة، وجعلت ترتدُّ من مَوطنٍ إلى موطن، وتنزِح من مَوضعٍ بعد موضع، حتى ألقَتْ رحالها أخيرًا عند «قضة» في أطراف نَجد من الشَّمال. ولكن الحارِث بن عباد لم يضَعْ ثأره، ولم يُهدِّئ من حِقده، بل كان لا يزال يثِبُ في إثرِ تغلِب لينتَقِم لقَتْلِ ابنه الحبيب بُجَير المظلوم. وكانت شَيبان تُقبِل معه على الحرب تحت راية الحارث بن همَّام بن مُرَّة كأنَّها الذئاب الجائعة، لتغسِل عن كرامتِها ما أصابَها من تغلِب في طوال السِّنين المُنصرمة.
اجتمعَتْ تغلِب في ذلك الصباح القائظ في رحْبة حِلالها، يتشاوَرُ قادتُها فيما هم فاعِلون في لقاء عدوِّهم المُقبل، فقد سمِعوا أنه مُغير عليهم بجَيشٍ خميس، ليُعيد عليهم الكرَّةَ بعد انتِصاره الأخير في وادي القُصيبات، يقودُه الحارِثان: الحارِث بن عباد، والحارث بن همَّام، الذي آلتْ إليه زعامة شَيبان.
جلس شيوخ تغلِب وأصحاب الرأي فيها، وفُرسانها الشُّجعان من الشباب، وقد لفُّوا اللُّثُم على وجوههم اتِّقاء الرياح اللافِحة، وعصْف الرمال يزيد نفوسهم الثائرة ضِيقًا.
ووقفَ الفارس الكهل امرؤ القَيس بن أبان يتكلَّم، فأرهفَ الجلوس آذانَهم لاختِطاف كلماته من أذيال الهواء الصاخِب، فقال: «أي قوم! لا تردُّوا اليوم نَصيحَتي فقد جرَّبتُم من عواقِب إغفالها ما كان أولى بكم لو تَجنَّبتموه. لقد نصحتُ المُهلهِل ألَّا يقتُل الفتى ابن الحارث فلم يقبَل نصيحتي، ولقد رأيتُم ماذا حلَّ بنا من وراء بَغْيه. رأيتُم تألُّب بني بكرٍ علينا بعد أن كانوا عونًا لنا، فلا يمضي يومٌ حتى نسمَعَ بحليفٍ منهم ينفضُّ من حولنا، أو نَصيرٍ مِنهم يَنطوي تحت لواء عدوِّنا. وإذا تمادى الأمر بِنا بعدَ اليوم لم نأمَنْ أن يَحلَّ بنا من الكوارث أمثال ما أنزلناه بآل شَيبان في تلك السِّنين. فالرأي عِندي أن نرحَلَ من هذا القفر الأجرَد، وحسبُنا ما لقِينا فيه من هزيمةٍ بعد هزيمة. فإذا نحن عُدنا إلى ديارنا …»
وأراد امرؤ القَيس أن يمضي في قولِه لولا أنْ قام شابٌّ وَسيم من طرف الجماعة، وصاح به غاضبًا: «حسبُك يا مرأ القَيس من حِقدك على المُهلهِل، فوَحقِّ مناة إنك لا تقول قولَك هذا إلا حَسَدًا له ومُنازَعةً لسِيادته.»
وتحرَّك لسماع هذه الكلمات جماعةٌ كان جُلُّهم من شُبَّان تغلِب الذين لا يَرَون في المُهلهِل إلَّا بَطلَهم المَهيب، وفارِسَهم الذي لا يُبارى، يُحبُّون أن يَسروا وراءه في كلِّ مَوطن، ويُطيعونه وإن مضى بهِم إلى برْك الغِماد من أقصى الأرض؛ فقد تعلَّقَت نفوسُهم به وحلَّ الإعجابُ بِهِ من قُلوبهم حيثُ لا تبلُغُ النصيحة.
وارتفعَتْ أصوات هؤلاء من جوانب الجَمْع يقولون: «صدقْتَ يا هَجْرَس! صدقتَ يا هَجْرَس بن كليب! بعدًا للجُبَناء! لا نُطيع غير المُهلهِل.»
ونظر الشيوخ حولَهم مُتردِّدين، وقام بعضهم يُريد الكلام فلم يَقوَ على إغراق ضجَّة الشباب الثائر. فلم يجِد امرؤ القيس بن أبان بُدًّا من الصَّمت، ومضى ذاهبًا عن الجمع وهو غاضِب حتى قبَع مُعتزلًا في حِلَّته. ونهض القوم بعدَه في اضطرابٍ وضجيج، فانصرَف الشيوخ واجِمين فُرادى وثُناء، واجتمع الشُّبَّان في صعيدٍ واحدٍ وقد جرَفتْهم الحماسة، وساروا والهَجْرَسُ بن كليب في طليعَتِهم قاصِدين حِلَّة المُهلهِل، يَهتفون به ويُجدِّدون العهْد على طاعته؛ فقد كان المُهلهِل في ذلك اليوم مُقيمًا في بيته، لم يحضُر في ذلك الجَمْع من أثر جِراحٍ أصابتْه في آخِر وقعةٍ أصابتْهم بكر فيها؛ وقعة القُصيبات.
كان المُهلهِل مُستلقيًا في فِراشه، وكانت ابنتُه سلمى تمسَح الدِّماء عن جُرحٍ عميقٍ في أعلى ذِراعه، بعد أن ضمَّدَتْ سائر جِراحه، وكانت تُحدِّثه عن زَوجها وابن عمِّها الهجْرَس بن كليب الذي تزوَّجَها عندما لحِقَ بعمِّه في بني تغلِب. ولمَّا انتهَتْ من غسْل جُرحِه بالماء الساخِن ذرَّت عليه رمادًا من أعوادٍ طرْفاء محروقة، ولفَّتْ حوله ضمَّادة من الصُّوف. فقال لها أبوها: أما قال لك الهَجْرَس أين خرَج اليوم؟ لقد بكَّر في الخُروج قبل أنْ أراه.
فقالت له سلمى مُتردِّدة: «ذهب إلى الناس ليرى ماذا يصنَع بهم ابن أبان.»
فتحرَّك المُهلهِل في مكانه قَلِقًا وأراد أن يَمدَّ يده إلى سيفه، ولكنَّه ردَّها مُمتعِضًا من الألم الذي أحسَّهُ عندما حرَّكها، ونظر إلى ابنته وقال لها في غيظ: «لقد تحرَّك ابن أبان منذ اليوم، أو يَحْسَبُ أن هذه الجِراح تُقعدني في كِسر بيتي؟ لا وحقِّ مَناة، لا أدعه ينفُثُ سُمَّه. ولأسحقَنَّ رأسَهُ قبل أن يستطيع أن يبلُغ مأربه.»
ثُمَّ تحامَل حتى قام وقال لسلمى: «ألقي علي ردائي وشملتي، فلأذهبنَّ إليه لأُهشِّم أنفَه قبل أن يرفعه.»
فقالت سلمى: «لا يَرُعك ابنُ أبان يا أبت، فإن الهجَرَس هناك يرى ويَسمع، ولا أظنُّه يدَعُ له مَجالًا لإفساد الناس وتفريق كلمتِهم. لقد حدَّثَني الهجْرَس عن أصحابٍ له تَواعَدوا على أُهْبة ليُفسدوا على ابن أبان تَدبيره، وقد أخذوا السِّلاح وجعلوه تحت ثِيابهم، فإذا لم يَستطيعوا تَدارُك أمرِه باللفظ حَكَّموا بينهم وبينَه السَّيف.»
فاطمأنَّ المُهلهِل لقولِها شيئًا، ولكنَّهُ أطرق قليلًا ثم رفع رأسه وقال: «ما ينبغي لي أن أُطيل احتِجابي عن الناس يا سلمى، قد عرفْت الناس، فهم لا يذكرون من تَطول غَيبتُه. هاتي شَملتي ورِدائي.»
فلم تستطِع سلمى إلَّا أن تُطيع، فذهبت إلى رُكنٍ من الخيمة وأخذت تلتمِس لأبيها بعض ما اعتاد لِبسه في نوادي قومه من ثياب الدِّيباج الأصفر، والقباطيِّ البيضاء وبُرود اليمَنِ المُوشَّاة. وحملتْ من ذلك شيئًا في يَدَيها ليختار منه ما يُحب، ولكنها سمِعَتْ ضجَّةً كانت تقترِب عند ذلك، فيها أصواتٌ ترتفع حِينًا وتَخبو حينًا، فوقفَتْ في مكانها لتسمع، وأصاخ المُهلهِل بأذُنه في شيءٍ من الدهشة. ثم اقتربتِ الأصوات واتَّضحَت، فإذا هي صَيحاتٌ تهتف باسم المُهلهِل سيِّد ربيعة، ومَيَّزت منها سلمى صوت زَوجها الحبيب الهَجْرس بن كليب. فتبسَّمتْ وتبسَّم المُهلهِل، وقد وقع في قلبَيهما أن الهَجْرس قد حمل معه تغلِب وأفسَدَ وحدَه تدبير ابن أبان. وألبسَتْ سلمى أباها ووضعتْ ثوبًا من الدِّيباج على كتِفه، فلمَّا صار الهجْرَس وأصحابه في رحْبة الحيِّ خرَج عليهم المُهلهِل هشًّا بشًّا، فما كاد جَمْع الشباب يراه حتى علَتْ أصواته في تحيةٍ صاخِبة تردَّدت أصداؤها بين ثنايا الشِّعاب. فتبسَّم المُهلهل وَرَكَز رُمحه في الرمل واتَّكأ عليه بِيُسراه، وقال بعد أن هدأتِ الأصوات: مرحى يا شباب تغلِب! لقد أقررتُم عَيني وأزلتُم ألمي. إن جِراح الحرْبِ التي مزَّقَتْ جسمي تنطِق مُرحِّبة بكم، كأنَّ في كلٍّ منها لسانًا يتحرَّك بشكركم. لقد ثارتْ تغلِب منذ سنين طويلة تُطالِبُ بدَم بطلها الذي لم يكن في العرَب له كفء، وأميرها الذي عجز النِّساء أن يلدْنَ مثله وإن تَطاوَل الدَّهر. ولم يكن في تلك الدِّماء التي أُريقَتْ من العدوِّ ما يقوم بدَمِه أو يفي لنا بحقِّه. بل لقد قُتل من أبطالنا في مواقعهم من لا تَشفينا دماء بكرٍ جميعًا من وترِنا بهم. فليس بيننا وبين القوم إلَّا حدُّ السَّيف وأسِنَّة الرِّماح، لا نُوادِعُهم ولا نَخِيم عن لقائهم حتى نُفنِيَهم تَقتيلًا ونُقَطِّعَ أوصالَهُم تقطيعًا. وا كليباه! هل نُرجِعُ السيوف إلى أغمادها ولا يزال في بكرٍ شريف؟ وا تغلِباه! هل ندَع دِماء من قُتل من تغلِب ولا يزال لعدوِّكم جمع؟ ليس بيننا وبينَهم إلَّا طعنُ الكُلى وضرب الرِّقاب، وتَفليقُ الهام وتَخريق الصُّدور. وإذا كان في تغلِب من زعزعَتْه أول الصَّدمات فبُعدًا للجُبناء! ألا بُعدًا للجُبناء!
فتلقَّفَ الجمع هذه الكلمة وصاح في حماسة: «ألا بُعدًا للجُبناء!» وجعلوا يُردِّدونها.
وسكت المُهلهل عند ذلك فإنَّ الضجَّة التي علتْ من صَيحات الجمع المُضطرِب أغرقتْ آخِر كلماته فلم يستطع المُضيَّ في الحديث، وعاد السَّيل الثائر من ساحة المُهلهل، وتفرَّق بين الأحياء مُناديًا للحرب، فلم يبقَ في مَنازل تغلِب من تجرَّأ على أن ينطِق بِحرفٍ في ذِكر امرئ القَيس بن أبان.
ودخل الهجْرَس إلى خَيمة عَمِّه فحدَّثه بما كان من قول ابن أبان وما كان من ردِّه عليه، ثم قال: ولا أحسَبُ الأمرَ ينتهى يا عمَّاهُ إلى حيثُ انتهى إليه لو طال بنا المُقام.
فقال المُهلهِل وقد عبَس عَبْسةً عميقة: أجلْ يا ولدي! لن أطمئنَّ وهذا الأرقَمُ يَتحيَّن الفُرَص للوثوب، ولكن هوِّنْ عليك فما كان عمُّك ليخافَ هذه الزَّواحِف.
فقال الهجرَس: إنَّ امرأ القيس قد ذهب إلى منزله اليوم، ولا أراه يَجرؤ على أمرٍ إلَّا بعد أن تنصُره هذه الفئة من الشيوخ.
فأطرَق المُهلهِل حينًا ثم قال في غَيظ: وحقِّ آلهة وائل ما هو بِمُنتَهٍ حتى أُذيقه عضَّة سَيفي. ولولا أن يقول الناسُ إنَّ المُهلهِل يقتُل أصحابه لَمَا أبقيتُ عليه منذ حين. لقد عرفتُه ورأيتُ خِلافَه عليَّ منذ نَصحَني في أمر بُجَير. وإنه ما قال كلمته التي قالها بقصدِ النُّصح ولا الخَير، بل قالها لتسير في الناس فتكون وَصمةَ عارٍ تلحَق بي.
فقال الهجْرَس: «وإنه لا يزال يتحدَّث بها إلى الساعة، وكانت هي أولى كلِماته في اجتماع اليوم.»
فقال المُهلهِل: «ويلٌ له من خبيث! إنه ليُضلِّل الحمقى من قَومي إذ يَسمعون أنه نَصَحَني بالعفوِ عن الفتى المِسكين ابن أُختي أمِّ الأغَرِّ فعصَيْته، وقتلتُ الفتى بغَير جريرة.»
فقال الهَجْرس: «صدقتَ يا عمَّاه، فقد رأيتُ أثرَ قوله في الناس منذ تكلم، فأخذوا يَتهامَسون فيما بينهم عمَّا أصاب تغلِب من جرَّاء مُخالفتِكَ وقتلِ الفتى.»
فصاح المُهلهِل: أغرارٌ وحقِّ أوال يا ولدي، ما بعثَ الحارس بولدِه إليَّ إلَّا وهو يأمُرُني بالكفِّ عن حربِ قَومه، فلو خالفتُه وأبيتُ إلَّا الحرْب لَمَا كان منه إلَّا أن ينصُر قومه. لقد عرفتُ منذ تحرَّك الحارِث أنَّهُ إنما غضِبَ لمَنْ قُتِل من بكر، وأنَّهُ لا يريد إلَّا التِماس الحِيلة لإثارة الناس عليَّ، فبعثَ بابنه بُجَير حتى يُظهِر للعرَب جميعًا أنه قد أرضاني ورغِبَ في إنصافي، ولو لَمْ أقتُلْ بُجَيرًا لَمَا عدَلَ عن الحرْب، ولَمَا انصرَفَ عن نُصرة قَومه. لقد عرفتُ أنه عدوٌّ منذ بعثَ إليَّ رسالته، وما كان ينبغي لي إلَّا أن أبدأ عدوِّي بالحرْب قبل أن يبدَأني.
وسكت لحظةً ثُمَّ نظر إلى الهجْرس وقال: دعْ هذا يا هجْرس فليسَ يُغني القول عنَّا، هي الحرب فلنمْضِ إليها. سنمضي إليها قبل أن تلتئِم هذه الجِراح، هَلُمَّ يا وَلَدي فلنْ نُطيل الحبْل لابن أبان ليَمضي في مكره وكَيده، لأحمِلَنَّهُ على الحرْب حملًا. إذا لم يكن من الحَزْم أنْ أُلجِمَه سَيفي، هَلُمَّ يا ولدي، فالليلة نَستعِدُّ للقاء عَدُوِّنا.
ثم خرج وسار الهجْرس إلى جِواره يَقصدان مَجمعَ القوم في الطرف الآخَرِ من المحلَّة.