الفصل الثالث عشر
تجهَّز بنو بكرٍ للمَسير إلى وادي قضَّة، وقد انتعشَتْ وعاوَدَها الأملُ بعدَ الِانتِصار، فلم تُطِقِ الصَّبْر وأرادتْ أن تنتهِزَ فُرصةَ ما أصاب تغلِب من الوَهَن والجراح لكي تجعل الوقْعة المُقبلة قاصِمة الظهر. وزاد من حِرص بكرٍ على الإسراع إلى مُواصلة الحرْب ما بلغَها من أنْباء الخِلاف بين شُيوخ تغلِب وشُبَّانها، فقد سارتِ الرُّكبان بأحاديث ما يُضمِره المُهلهِل لامرئ القَيس بن أبان، وما أحدَثَه الهجْرس بن كليب من الفُرقة بين شُيوخ القوم وبين ناشِئتِهم. فعلِموا أنهم إن صَدَموا عدوَّهم صدمةً عنيفة لم يَجدوه إلا مُقسَّم الأهواء مُشتَّت الآراء. فلم تُقعِدهم شِدَّة الحرِّ عن الاستعداد السريع، ولم تَثنِهم الرياح العاصفة المُحرقة عن عزيمة المسير، واجتمعوا في ناديهم في لباس الحرب يَتشاورون في الخطة المُقبلة. وكان فيهم فُرسان من شَيبان وقَيس بن ثعلبة وعِجل وحنيفة، وفيهم الفارس الشَّاعر الذي ما زال رغم تقادُم السِّنين بطلَ الحروب؛ الفَند بن سهْل سيِّد قبائل بكر باليمامة، وقد أتى مع قومِه لنُصرة إخوانه عندما بلغَه اعتِداء المُهلهِل بقتْل بُجَير، وكان الحارث بن عباد في صدْر النادي، وقد جلس حولَه شيوخ العشائر والبُطون في حلقةٍ مُفرَّغة، وجلس سائر القوم في صفوفٍ غير منتظمة بعضُها يتداخَل في بعض.
ولمَّا الْتأمَ الجمع وقف الحارث يتكلم فقال: يا فوارس بكر! قد علِمتُم ما عقدْنا عليه النِّيَّةَ من السَّير إلى هؤلاء الظَّلمة، لا ندَعُ لهم مُتنفَّسًا من السلام حتى نُذيقَهم وَبال ظُلمِهم ونقذِف بهم في مَصارع بَغْيهم، ولكنِّي أُشفِق أن تَسيروا في وَقدَةِ هذه الحَرور، فهل تَرَون أن نُؤجِّل المَيسر حتى تهدأ هذه الرِّيح؟
ولمَّا أتمَّ قوله نظر إلى الحارث بن همَّام بن مُرَّة سيِّد شَيبان كأنَّهُ يدعوه إلى إعلان رأيه، فتحرَّك الحارث يُريد الكلام ولكن علتْ ضجَّةٌ من الجمع لم يَستطع معها أن يتكلَّم، فتريَّثَ وهو ينظر إلى من حوله في شيءٍ من الارتِباك. فوثَبَ جحدر بن ربيعة قائمًا وكان قصيرًا دميمًا، فما كاد يقِف حتى زادتِ الضجَّة اشتِدادًا، وتقاذَفَت نحوَهُ ألفاظ الدُّعابة والفكاهة، فلم يُرهِبْه ذلك بل أعلى صوتَه وقال بصوتٍ حاد: على رِسلِكم حتى أقول كلمة.
وما كادَ ينطِقُ حتى رمَتْه الرياح الثائرة بلفْحةٍ رمليَّةٍ اضطرَّتْه إلى أن يُحوِّل وجهه عنها، وانفجرَتْ ضحكة عالية لم يتخلَّف عنها أحدٌ من الشيوخ أو الشُّبَّان، فضَحِك جحدر مُشاركًا في المرَح الشامل، ولكنَّهُ لم يجلِس ولم يتردَّد، بل صاح بصوته الحاد: كأنَّني بهذه الرِّيح تُريد أن تعدِل بي عن رأيي، ولكنِّي وحقِّ أوال لا أنْثني عنه وإن قذَفَتْني السماء بصواعِقِها. لا بُدَّ أن نَسير اليوم إلى قضة.
فعلتْ ضجَّة استِحسان صَحِبتْها ضحكاتٌ ومُداعبات، وصاح فتًى من آخِر الجمع: «قفْ يا جحدر فوق صخرةٍ حتى نراك.»
فزادتْ ضجَّةُ الضحك عُلوًّا، ولم يشأ جحدر أن يدَعَ الفُرصة بِغَير أن يَنتهِزها، فوَثَب على كتِفَي فتًى شديدٍ قريبٍ منه، فوقف عليهما وقال ضاحكًا: «هل أغيبُ الآن عن عَين أحد؟»
ثم نزَل سريعًا وهو يُشارك في الضَّحكات العالية التي لم تفتُر، وأشار بيده للقوم أن يهدءوا، فسكنَتِ الأصواتُ ونظرت إليه العيون، ومالت إليه الأسماع فقال جادًّا: نحن اليوم في جماعةٍ لم يجتمِع لنا مثلُها من قبل، فإذا نحنُ سِرْنا إلى العدوِّ فاجأناه بما لا قِبَلَ له به، وكانت المَوقِعة القاضية.
فتجاوبَتِ الأركان بصَيحات: مرحى! أحسنت!
واستمرَّ جحدر فقال: «ولكن لي عليكم شريطةً قبل أن أفرُغ من قَولي.»
فصاح به أفراد من جوانِب الجمْع: «لك ما شرطتَ فاحتكِم.»
فقال جحدر وهو يضحك: «لقد هممتُ أن أشترِط لنفسي نِصف هذا الفَيء الذي سنغنَمُه اليوم، ولكنِّي عدلتُ عن ذلك، وحسْبي أن أشترط أمرًا هو أهوَنُ عليكم منه؛ إذا نحن سِرنا اليوم في جماعتِنا هذه خَشيتُ أن يختلِط علينا الأمر فلا يُميِّز أحدُنا أصحابه من أعدائه، وأخشى أن يُخالِطنا العدوُّ وهو قليل، فلا نجِد دُوننا من نضربُه فيَضرِب بعضُنا بعضًا في حماسة القِتال.»
فنظر الناس إليه حينًا في صَمْت، وقد عَجِبوا أن يَمزج هذا الرجل العجيب هَزْله بمِثل هذا الجدِّ الجاهِم، ونهض الفند بن سهل سيِّد بكر اليمامة فقال: أما إنَّها لكلمة حقٍّ صدَقَ فيها أخي جحدر ونصح، فلقد أقبلنا عليكم منذُ قليل بوجُوه جديدة لم يسبِقْ لكم عهدٌ بها، ولا بُدَّ لنا من علامَةٍ نتعارَفُ بها.
وأقبل الجمْع بعضُهم على بعض يَتحاوَرون في الحديث، فقام الحارث بن عباد، وما رآه الناس حتى خشَعوا، وهدأتِ الأصواتُ وتحوَّلتْ إليه الأبصار فقال: أيها الإخوان! لقد صدَقَ أخي أبو ضُبيعة إذ قال إنَّهُ يجِبُ علينا أن نجعل لأنفسنا عَلامةً نتعارَفُ بها، وأرى أن نحلِقَ رءوسنا جميعًا فتكون تلك ميزتَنا وسِمَتَنا.
فوثَبَ جحدر على قدَمَيه وقال فجأة: «وماذا يبقى لي إذا حلقتُ لمَّتي يا أبا بُجَير؟»
فعلَتْ ضجَّة الضحك مرة أخرى، واستمرَّ جحدر يقول ضاحكًا: أنتم تَرَون أنَّ شَعْري نِصفُ قامتي، وبِغَيره يُصبِح لي وجهُ قِردٍ أصلع، فاتركوا لي لِمَّتي، وافعلوا ما شِئتم في لِمَمِكم.
فصاح فتًى من وسط الجماعة يَمزح قائلًا: «اشتَرِها منَّا، فلن نَترُكها لك بغَير ثمن.»
فصاح جحدر في جِد: «أشتَريها بأولِ فارسٍ من العدوِّ يطلُع عليكم، لكم عليَّ أن أقتُل أولَّ فارسٍ من تغلِب يُقبِل نحوَكم.»
فصاحتِ الجماعة: «قَبِلنا قَبِلنا.»
فأشار الحارث بن عباد للجماعة أن تُنصِت إليه ثم قال: «لا بأس بهذا، نبيع لجحدر لمَّته، وأمَّا نحن فنحلِق لمَمَنا.»
فصاح الفند بن سهل ضاحكًا: «هذا إذًا يوم تَحلاقِ اللِّمَم.»
فنظر إليه الحارث باسمًا وقال: «نعم هو هذا، هو يومُ تَحلاق اللِّمَم.»
وسكتَ لحظة ثم قال: «وقد علمتُم أنَّ تغلِب تُقيم الآن في قضَّة وسطَ صحراء مُقفِرة، وسنكون نحنُ في أرضٍ غريبة لا نعرِف موارِدَ مياهها، ولا ندري لعلَّ تغلِب قد غَوَّرت آبارها، وطمَّتْ عيونها توقُّعًا لمَسيرنا إليها، فلا بُدَّ لنا من حِيلةٍ في تدبير ما نحتاج إليه من الماء قبل أن نذهب إلى عدُوِّنا في عُقر داره.»
فصاح جحدر وقد وثب قائمًا: «نأخُذ معنا من الماء ما يَكفينا حتى إذا ما التَحَم الجَيشان حَمَله لنا النساء وسِرْنَ من خلفِنا، فإذا عطِشْنا رجعْنا إليهنَّ لنرتوي.»
فصاح به شابٌّ ضاحكًا: «على أن لا يَروي النساء إلَّا حليقًا.»
فقال جحدر: «لك عليَّ يا ابن أخي ألَّا أعود إليهنَّ إلَّا مُعلَّمًا، وعلامَتي أنَّني لن أعود إليهنَّ إلَّا حامِلًا لهنَّ أسيرًا.»
وكان للفند بن سهل بِنتان قد وقفتا في فتَيات بكرٍ عند أطراف الجَمْع يَستمعْنَ إلى الحديث، وكانتا فتاتَين ذَواتي جُرأة وشهامة.
فصاحت كُبراهما: «نَسير وراءكم لنحمِل الماء؟ هذا لا نرضى به أبدًا.»
فتحوَّلتِ الأنظار إليها وقال الحارث: «وماذا تُريدين يا ابنةَ الكرام؟»
قالت الفتاة في حماسة: «تحمِل كلٌّ منَّا إداوةَ ماءٍ وهراوةً غليظة، فإذا مرَرْنا بِحليقٍ طريح أسَوْنا جُرحه وسَقَيناه، وإذا مرَرْنا بتغلِبيٍّ صريع قَضينا عليه.»
فعلَتْ ضَجَّة عامَّة من الجماعة؛ ضجَّة الإعجاب والأريحية، وقال الحارث ناظرًا إلى الفند: «لتُكنِ ابنةُ الفند أولَ امرأةٍ في العرَب أشركَتِ النِّساء في القتال!»
ثُمَّ نظر إلى الفتاة وقال: «هَلُمِّي يا فتاة، فمِثلُك من تَلِدُ الأبطال.»
بعدَ ساعةٍ كانت قبائل بكرٍ تتحرَّك سائرةً نحو قضَّة، وهي تملأ فضاء الأرض بالخَيل والرجال، والمَطايا من الإبل فَوقَها الظعائن من النِّساء، تَليها الرَّوايا تحمِل الماء، وفي آخِر القوم جاء العبيد يَسوقون جنائبَ الخَيل والإبل لتحلَّ محلَّ ما يُقتَل في الحرْب من الدَّواب.
وكان اليومُ التالي صِنْوَ سابِقِه في الحرِّ اللافِح والريح الثائرة والشمس المُحرقة والرمال السافِية. واجتمعَتْ قبائل بكرٍ كلها تحتَ لواء الحارِثين؛ الحارِث بن عباد على جناح، والحارث بن همَّام بن مُرَّة على جناح، وأبطال القبائل كلٌّ منهم في قومه يَتساندون ويَتعاونون فيما بينهم، والتقى الجَيشان، فكان أول من برَز من بكرٍ جحدر بن ضُبيعة يلتمِس ثمن شعرِه الذي لم يُحلق، واندفع إلى تغلِب فجأةً فاحتَضَن أولَ فارسٍ طلَع عليه، ولم يَكنِ التَّغلِبيُّ على استعدادٍ لذلك النَّوع من المُنازلة، فهي طريقة ابتكرَها الحارث بن عباد وتعلَّمَها منه في ذلك اليوم جحدر بن ضُبيعة؛ أن يَهجم على عدُوِّه في سُرعة البَرْق الخاطِف، فلا يضرِبُ ولا يطعَن، ولكن يَحتضِنه ويعدو به راجعًا إلى قومِه. وعاد جحدر بأسِيره مَطروحًا أمامه على ظهْر الفرس وهو يُحرِّك رِجلَيه وذِراعيه في الهواء يائسًا. فضحِك فُرسان بكرٍ وصاحوا مُرحِّبين، وغضِب فُرسان تَغْلِب وتَصايحوا يُحرِّض بعضهم بعضًا على دفع الهجْمة بأُخرى مِثلها، وما هو إلَّا قليل حتى التَحَم الجَيْشان في حربٍ عامَّة.
ومضى مُعظَم النهار والقِتال على استِعاره، والحارث بن عباد يطعَنُ ويضرِب في تغلِب، والمُهلهِل مع جِراحه يَفري فَرْيًا في بكر، ودفَعَ جحدَر المِسكين ثَمَن لمَّتِه عظيمًا، فإنه ما زال يُحارب حتى جُرح، فلمَّا مرَّتْ به فتَيات بكرٍ حَسِبْنه تَغلبيًّا، فطلَبَ منهنَّ شربةَ ماء فأهوَيْنَ عليه بالهراوي، وهو كلَّما صاح بِهنَّ أنه بَكريٌّ حسِبْنَه يَخدعُهنَّ فزِدْنَ في ضربه شِدَّةً حتى قتَلْنَه كما قَتلْنَ كلَّ جَريحٍ آخَرَ غير حليق.
ولمَّا أحسَّتْ تغلِبُ شدَّةَ وَطْأة عدُوِّها عليها لجأتْ إلى الحِيلة القديمة عند العرَب، فأدبرَتْ مُستهزِمة، وتَبِعتْها بكر وهي تظنُّ أنَّ اليوم قد انتهى إلى نصرٍ تَشتفي به من عدُوِّها، ولكنَّها ما كادتْ تبلُغُ وسْطَ السهل، حتى رأتْ تغلِب وقد وقفتْ فجأةً عندما نادى المُهلهِل صائحًا: «وا كليباه!»
وكانت تلك عَلامةً فوقَفَ الفُرسان وارتَدُّوا على بكرٍ وهي في تَفكُّكِها مُستنيمَةً إلى توهُّم النُّصرة، واهتزتْ بكر هزةً عنيفة من الصدمة، وأقبل عليها المهلهِل كالصاعقة، وحوله حلقةٌ من الصناديد يَضربون كأنهم يَحصدون حصدًا، فتردَّدَ البَكرِيُّون مَليًّا ثم تزعزعوا، ثم لَوَوا لُجُمَ الخَيل وولَّوا الأدبار يَطلُبون النَّجاة من سيفِ المُهلهِل ومن حوله.
وكانت فتَياتُ بكرٍ عند ذلك في آخِرِ السهل يَسعَين سَعْيًا حثيثًا ليُدرِكْنَ قَومَهنَّ الذين أسَرَعوا في آثار تغلِب المُنهزِمة. وفيما هُنَّ في سَيرهنَّ أبْصَرْنَ فُرسان بكرٍ مُقبلين نَحوهُنَّ مُنهزمين، وقد تصدَّعَتْ صفوفهم وتشتَّتَ شَملُهم وخُيول المُهلهِل في آثارهم تَصيح: «وا كليباه!»
فوقفْنَ صَفًّا في طريق الخيول المُقبلة، وخرجتِ ابنةُ الفند إلى صدَرِ الصف، وصاحت: «إلى أينَ يا خِفاف القلوب؟»
وأخذتْ تُنشِد والفَتَيات يُنشِدن وراءها:
فاضطُرَّ الفُرسان أن يقِفوا خَوف أن يَطئوا الفتَيات بخُيولهم، ثم سمِعوا نَشيدَهنَّ فثارتْ كرامتهم وأحسُّوا الخجَل من هزيمتهم، ودعا بعضهم بعضًا للثَّبات، ووجد القُوَّاد فرصةً لتثبيت القلوب ولمِّ الشَّعث، وثَنَوا أعِنَّة الخَيل إلى وجهِ العدوِّ اللاحِق بهم، وتقدَّموا إلى لِقاءِ المُهلهِل ومن معه، وكان أعنفَ اصطِدامٍ وأشدَّ قتال.
وأدرك الحارث بن عباد قومَه المُنهزمين بعد لأي، وكان لم يَنهزِم معهم بل وقفَ في جماعةٍ قليلة يُحارب في مَوضعه الأول.
وجاء الشَّيخ الشُّجاع الفند بن سهل كذلك لمَّا رأى أنَّ مكان الحرْب قد تحوَّل، وجعل يُحرِّض قومَه وهو يُحارب في طليعتِهم، ورأى الحارث بن عباد المُهلهِل وهو لا يَعرِفه في وسط فُرسانه لا يَدنو من كتيبةٍ حتَّى يُفرِّقها، ولا يُقبِل على جماعةٍ حتى يُشتِّتها، فنظر حوله وقال صائحًا: «هذا صَيدٌ كريم.»
ثُمَّ ركضَ فرَسَه النعامة مُتَّجهًا نحوَ الفارس المجهول، وما هو إلَّا قليل حتى كان عائدًا وقد وضَع الفارس المُخيف أمامَه على ظهْر النَّعامة، والبَكريُّون يَستقبلونه بِصيحة فرَح تملأ الفضاء. وما كادتْ تغلِب ترى المُهلهِل أسيرًا حتى ولَّى فُرسانها الأدبار وتعقَّبَهم فُرسان بكرٍ يَتخطَّفونَهم بالرِّماح.
وسار الحارِث وأسيرُه أمامه، وإلى جِواره الفند بن سهل حتى بلَغوا مُؤخِّرة الجَيش فألقى الأسير على الأرض ووقفَ يتأمَّلُه.
وكان الفارس الأسير في عدَّةٍ كاملة من سِلاحه ودروعه، لا يظهر منه إلا عَينان تَبرُقان من وراء المِغفر. فلمَّا ألقاه الحارِث على الأرض قام مُطرقًا كاسِفًا، فسأله الحارِث: «من أنت لا أُمَّ لك؟»
فقال الفارس المُقنَّع: «أنا أسيرك.»
فسأله الحارِث: «ما بال رُمحِك طويلًا؟»
فقال الفارس: «لم يُغنِ عنِّي طولُه.»
فقال الحارث ساخِرًا: «رُمح الجَبان طويل.»
فعلَتْ ضحكةٌ ساخِرة من حوله، واهتزَّ الفارس من وقْع الإهانة ولكنَّه لم يتكلَّم.
ولمَّا خمدَتْ أصوات الضحك قال الحارث: «لقد حسِبتُك المُهلهِل؟»
فقال الأسير: «وأنَّى لك أن تُصيبَه.»
فقال الحارث في غَيظ: «وحقِّ مَناة لو رأيتُه ما نجا منِّي.»
فقال الأسير: «أتُريد أن تراه؟»
فقال الحارث مُسرعًا: «من أجلِهِ سَعيْنا إلى هنا.»
فقال الأسير: «وماذا تفعَلُ لو دَللتُك عليه؟»
قال الحارث ساخرًا: «أُطلقُك حُرًّا.»
فقال الأسير مُتهكِّمًا وفي صَوته اضطِراب يَسير: «ومن يَكفُل لي صدقَك؟»
فظهَرَ الغضَبُ في وجه الحارث، ولكنَّهُ أجابَ في لهفة: «سلْ من شِئتَ أن يَكفُل لك صِدقي.»
فتقدَّم الأسير إلى الشيخ الشُّجاع الفند بن سهل، وكان إلى جوار الحارث وقال: «أُريد هذا ضامِنًا.»
فنظر الشيخ إلى الحارث مُتردِّدًا، فقال له الحارث: «اضمَنْ له يا أبا مالك.»
فقال الشيخ: «ضمنتُ لك وفاءه، فمن أنت؟»
فلم يُجِبْه الأسير، بل نظرَ إلى الحارث وقال له: «أتُريد أن ترى المُهلهِل؟»
فقال له الحارِث بحِقد: «نعم، قلتُ لك أُريد أن أراه لأضَعَ هذا السَّيف في قلبِه.»
فنزَع الفارس بيضتَهُ عن رأسه وقال: ها أنا ذا المُهلهِل فاقْتُلني إنِ استطَعْت.
فأسرَع الشيخ الفند بن سهل، ووقفَ دُونه خَشية أن يُبادِر الحارِثُ إليه فيقتُلَه وينقُضَ عهدَه في ضمانه، فيَلْحَقُه من ذلك عارُ الأبد.
وارتفعَتْ همهمةٌ في الجمْع المُلتفِّ حَول المُهلهل، بين صيحةِ غضَبٍ وأنَّةِ أسفٍ وآهةِ حِقد.
ووقفَ الحارث بن عباد قابِضًا على سَيفه وهو يرتعِدُ من الغيظ، وقال في حقد: «ثَكِلتك أُمُّك أيُّها المُخادِع!»
فقال المُهلهِل ثابتًا: «الحربُ خُدعة.»
فنظر الحارِث إلى الفند بن سهل وهو واقِفٌ بينَه وبين أسيره وقال: «لقد هممتُ لولاك يا أبا مالك …»
ثم سكتَ وذهب بَعيدًا وجلسَ على صخرةٍ وهو ثائر النفس، وقد بدا على وَجهِهِ أثر الحِقدِ والاضطِراب، ثم أطرَقَ يُحدِّث نفسه ويَئنُّ من شِدَّة الغيظ: «وا بُجيراه! هل أُهدِر دمَك وقاتِلُك في يدي؟»
والتفَتَ الفند بن سهل إلى المُهلهِل وجعل يتأمَّل وجهه ويتفرَّس فيه، ولم يَملك نفسَهُ من الإعجاب بمَنظرِ ذلك البطل الدَّموي، الذي لم يضعْ سِلاحَهُ كلَّ تلك السنين، ولم يُطِعْ في ثأره الهائل نَصيحةً ولا توسُّلًا، وعلت وَجهَهُ بِرغمِه ابتسامةٌ خفيفة ثم قال له: «لا أُبالي أن أنْجُوَ بِحياتي كما نَجَوتَ يا مُهلهِل.»
فطعنَتْ هذه الكلِمة قلبَ المُهلهِل، وأحسَّ صِدْق تأنيب الشيخ فقال: «ولكنِّي أُطيل حَياتي لأُطيل فِيكم فتْكي.»
فسمِعَ الحارث هذه الكلمة فكأنَّما هو وَحشٌ رابِض أغضبْتَه، فأقبلَ مُسرعًا وقد لمَعَتْ عيناه بالشَّر، فأسرَع الشيخ الفند فاعترَضَ سبيلَه وقال له مُحذِّرًا: «على رِسلك يا أبا بُجير؛ لقد ضِمنتُه.»
فصاح الحارث ثائرًا: «وحقِّ مَناة لا ينصرِف عنِّي هكذا.»
وكان خبرُ أسْرِ المُهلهِل قد ذاع في الجَيش وانتشر حتَّى بلغَ النِّساء في الحي، فعلِمَتْ به أمُّ الأغرِّ زَوجة الحارث، فأقبلَتْ تَسعى في هلَعٍ حتى وقفَتْ إلى جوار الشيخ، ثم جعلَتْ تتوسَّل إليه قائلة: «بِعْني أخي، امنُنْ عليَّ به، إنْ قَتْلَه لا يُعيد بُجيرًا بل يَزيد قلبي جُرحًا.»
فتردَّد الحارِث وهدأ قلبُه قليلًا وتحرَّك مُتردِّدًا ثم قال: «إذًا فليَدُلَّني على رجُلٍ من قومِه أقتُله بِبُجير.»
فذهبَتْ أمُّ الأغرِّ إلى المُهلهِل ترجوه أن يفعَل ما يُريد زَوجها حتى لا يفتِكَ به. وصمتَ المُهلهِل لحظةً وهو مُطرِق، ثم رفع رأسَهُ وقد جال على وَجهِهِ ظِلُّ ابتسامة، ولكنَّها كانت ابتِسامة غلٍّ وحِقد، وأشار إلى أقصى الفضاء وكان فيه بعضُ فُرسانٍ من أهل الحِفاظ لا يزالون يَتجاوَلون ويَتحارَبون، وقال للحارِث: «أترى ذلك الفارِس صاحِب العِمامة الحمراء؟»
فالتفت الحارِث بلهفةٍ إلى حيث أشار المُهلهِل، وقال: «نعم، فمن هو، وهل هو كفء لولدي؟»
فقال المُهلهِل: «هو امرؤ القَيس بن أبان.»
فما كاد الحارث يَسمَعُ اسم الرجل حتى وثَبَ على النَّعامة وقصَد إليه، وما هي إلَّا لحظات حتى صرَعَه وقتله، وعاد راكضًا فرسَهُ يَصيح: «لا خير في تغلِب بعدَ امرئ القَيس، ولئن فاتَني المُهلهِل بِخِداعه فقد اشتفيتُ بسيِّد تغلِب وشيخِها.»
ولم يخلُ وَجهُ المُهلهِل من دلالة الارتياح عند ذلك، فقد كفاهُ الحارث مَئونة ابن أبان وخِلافه عليه ومُعارضتِه لمَشيئته في قَومه.
ولما أقبل الليل كان المُهلهل طليقًا يَسير كاسِف البال، ويتبَعُ آثار قومِه الذين ارتَحلوا من قضَّة هارِبين نحوَ الشمال، وكان كلَّما مرَّ بشِعبٍ من الشِّعاب رأى جماعةً يَحمِلون صريعًا أو يُعينون على السير جريحًا، ويَسعون في آثار قومِهم بعدَ المَوقِعة الطاحِنة.
ولم يَخلُ بيتٌ في تغلِب بعد يومِ تَحلاق اللِّمَم من بُكاءٍ على قتيل، أو قلقٍ ولهفة على حياة جريح. ولم يقِفْ بِهم السَّير في هَرَبَهم حتَّى بلَغُوا أكناف السَّواد من أرض العِراق خَوفًا من غاراتِ بَني عَمِّهم المُنتَصِرين.