الفصل الثالث
مضتْ أيام كانت مَنازِل بكر وتغلب في أثنائها لا تُظلِّل إلا وُجوهًا جاهِمةً عابسة، وكانت الأندية خاليةً لا يَتبادل فيها الشيوخ الهمَسات، ولا تُوقَد في وسط براحِها النيران، قد شغل الجميع هاجسٌ من توقُّع الفُرقة بين أبناء العمِّ الذين عاشوا معًا في رُبوع تهامة واليمامة سِنِينَ مُتَّصِلة يتقاسمون العَيش في سرَّاء وضرَّاء، ويَتعاوَرُون المُروج في رَعيهم وصيدهم، تجمعُهم جميعًا ذِكريات الجهاد المُشترَك مع عدوِّهم من ملوك اليمن وقبائله. فإن الصَّيحة التي صاحَها جسَّاس لم تكن إلَّا صدًى لما في قلوب شبابِ بكرٍ جميعًا.
كان الشيوخ إذا أحسُّوا من كليب طغيانًا طوَوا ما أحسُّوه تحت الصمتِ العميق وشفَّعُوا سابِق فضله. كانوا يُحسُّون أن كليبًا قد أطغاه الملك وأبطرَهُ ما يلقاه به قَومه من التبجيل والتكريم، ولكنهم كانوا كلَّما ثارت نفوسهم من طُغيانه تذكَّروا سابِق الذِّلَّة الي كانوا يَئنُّون تحت أعبائها عندما كانت قبائل اليمن تتحكَّم في أرضهم، فيُؤثرون الذِّلَّة لابن العم ويَصبرون على كِبرياء كليب وعسفه، فإن ذلك لا يُجرِّعُهم من الغُصَص مثل ما كانت تُجرِّعهم وطأة حُكم الغريب. ولكن جسَّاسًا صاح صيحتَهُ وتلقَّفها مِن ورائه الشُّبَّان ممَّن لم يُعانوا حُكم قبائل اليمن، ولم يَشهدوا عسفَ أقيالهم وجُور مُلوكهم. لم يرَ هؤلاء الشُّبَّان كيف كانت شُيوخهم تُقتَل وتُسجَن، ولا كيف كانت أموالهم تُسلَب، ولا كيف كانت حُرُماتهم تُستباح. لم يَشهدوا شيئًا من ذلك، وكان كلَّ ما شهدوه هو كِبرياء كليب واستِئثاره بالسُّلطان دُونهم وحِماية الوَحْش من صَيدهم.
فلمَّا سمِع هؤلاء الشُّبَّان صَيحة جسَّاس اهتزُّوا لها وردَّدوها فيما بينهم، لا يُبالون أن يُضرِموا في قبائل ربيعة نارًا لا تُطفئها إلَّا الدِّماء السائلة بين بني الأب والأم. فكان الشُّيوخ كلما سمِعوا صَيحاتهم أشفقوا وجزِعوا ممَّا يحمِله الغدُ من كوارث تفجَعُهم في الولد والحميم، وفي النفس والمال. لقد طالما عركوا الحروب وخاضُوا غِمارها، وما كانوا ليَخفُّوا إليها إذا استطاعوا إلى تَجنُّبها سبيلًا. لقد عمَّهم السلام ودرَّت لهم الأخلاف وأمرَعَتْ لهم المُروج، واستقرَّتِ السُّيوف في أغمادها، إذ هابَتْهم قبائل العرَب جميعًا وتحامَتْ عداوَتَهم وتركتهم يستمتِعون بثِمار النصر الباهِر الذي كان رمزُه وصاحبُ عَلَمِه كليب؛ وائل بن ربيعة.
كان الشيوخ يُشفِقون أن يستبدلوا بذلك السلام وهذا الرَّخاء حربًا، تستنزِف دمائهم وتُخرِّب عُمرانهم وتُضيِّع ما حازُوه من أموال؛ ولهذا قَضَوا تلك الأيام التي أعقبتْ صيحةَ جسَّاس واجِمين، كلٌّ منهم مُنطوٍ على نفسه يفكِّر فيما هو صانع بنفسه وفيما هو مُحتال فيه مع بنِيه وحفَدَتِه من أولئك الشُّبَّان الأغرار الذين لا يكتمون ما في نُفوسهم ولا يَنظرون في أعقاب نَزَواتهم.
ولكن الأمور لم تقِف؛ فإن قلبَ جسَّاس كان يَغلي من غَيظه وحِقده، فلم يدَع له اطمئنانًا في صباح ولا مساء، بل كان يدفَعُه ويَثُور به فلا يزال يضرِب في النُّجوع ليلمَّ بكلِّ فتَّاكٍ من الشُّبَّان يُحرِّضُهم وينقُل إليهم ما لم يَبلغْهم من أنباء عسْف كليب. فصار لا يأوي إلى مَنازل أهله إلَّا الساعات القلائل في طويل الأيام، فإذا آوى إليها لم يرتَحْ إلى حديث أحدٍ ولم يرتَحْ أحدٌ إلى حديثه؛ إذ استبدَّتْ بخياله صُورة واحدة، صورة كليب وهو يرفَعُ رأسَهُ عليه شموخًا وينظُر إليه ساخِرًا باسمًا، كأن السيِّد يأمُر بعض عبيده ويُشير إليهم بإصبعه فلا يَسعهُم إلَّا أن يَنحنوا وأن يُطيعوا.
في تلك الأيام الجاهِمة الساكنة كان شابَّان اثنان لا يَعبآن بشيءٍ ممَّا يُفكِّر فيه الشيوخ، ولا يُبالِيان شيئًا ممَّا يصِل أسماعهما من ثورة جسَّاس. وكانا صديقَين شبَّا معًا وتقاسَما حياةَ النعيم في أكبر بيتَي ربيعة. نشآ في سلامٍ لم يَعرِفا مآزِقَ الحروب، وفي بحبوحة من العَيش لم تُلجِئهما ضرورةٌ إلى كبح النفس عن لذَّات الحياة. وكانا جَميلين ناعِمين ترَكَهما الأهل للَّهو، فلم تكن بهما حاجة إلى الجدِّ، واكتفى الشيوخ بأن يتحدَّثوا فيهِما وأن يَتهكَّموا بانصِرافهم إلى اللَّذَّات، وعنَّفوا عليهما في الأحاديث، ولكنهما لم يُبالِيا من ذلك شيئًا، فما كان يَضرُّهما أن يَسمعا رأيَ الشيوخ فيهما؛ إذ كان ذلك أبعثَ لهما على المَرَح والاستِهتار بالمُجون.
كان أحدُهما عدي — المُهلهِل بن ربيعة — الذي كان أخوه كليب يُسمِّيه زير النِّساء تَهكُّمًا وسُخرية، وكان الآخَرُ همَّام بن مُرَّة أخو جسَّاس.
ترك الصديقان الشابَّان مَنازل الحيِّ الساكِنة الجاهِمة، واعتزلا في رَوضةٍ من الرِّياض عند رأسِ وادٍ صخريٍّ ضيِّق تنحدِر جوانبه في درجاتٍ وَعْرة، تجري من فوقِها جداول من مِياه المطر المُجتمِعة عند رأسه، وكانت المِياه في هبوطها على الجوانب الصَّخرية تهمِس في خريرٍ رقيقٍ يُشبِه وَسوسة أوراق الأغْصان إذا هزَّها النسيم. كانت السفوح مُخضرَّة تكسوها خصَلٌ مُتفرِّقة من أعشاب بارِضة وشُجيرات قصيرة أحياها الموسم المَطير.
وأعدَّ الصديقان ليَومِهما عُدَّتَه من خمرٍ وفاكِهة وطعام، ورياحين من زُهور العرار العَطِرة البيضاء ذات الحدَقَةِ الصفراء، وبعثا إلى فتَياتٍ من خليعات القبائل ليُؤنِسْنَهُما في المُنادمة على الشَّراب كما اعتادا في مجالِسِهما؛ إذ كانا لا يَرهَبان أن يتحدَّث عنهما الناس، فما كان ذلك عنهما بالحديث الجديد.
وبقِيا في مَجلِسِهما إلى أن تصرَّم النهار، وهبَّ النسيم باردًا يُؤذِن باستِطالة الظِّلال، واضطربَتْ غُصون الأشجار، وتمايل سعَفُ النَّخلات ودارت الخَمر بهما فاضطجعا، ومالت النِّسوَةُ حولَهما يَتهاتَفْنَ بضحِكاتٍ وَسْنَى. ولكنَّ زقاقَ الخمر كانت في وسط جمعِهم بعضُها مُمتلئ وبعضها مفشوش، ولا يزالون يَملئون منها كأسًا بعد كأس، وهم كلَّما شربوا منها زاد بهم الظمأ وطلبوا المزيد. وفيما هم في ذلك لاحَ لهم قادِمٌ من أسفل الوادي، فنظرتْ إحدى النساء إليه وقالت ضاحكةً بلسانٍ مُتلعثِم: «هذا ضيف كريم!»
فنظرتْ أخرى نحوَه وهمَّتْ قائمة وهي تقول: «ما رأيتُه مرَّةً إلا كرهتُ الرِّجال.»
فجذبتْها أخرى وهي ضاحكة في خلاعةٍ وهي تقول: «لنَسقِينَّه معنا حتى يَلين، فإنَّا لا نعرِفُ الانهِزام.»
وعلَتِ الضَّحكات من الجميع حتى سمِعَها القادِم وهو يعلو فوق جانِب الوادي الصَّخري مُتَّكئًا على رُمحه، فرفَع نحوَهم رأسَه فرآه الجالسون، وصاح همَّام في شيءٍ من الفزَع: جسَّاس!
فضحِك مُهلهِل وقال: إنك لترْهَبُه رهبةً لا تحمِل مِثلها لأبيك مُرَّة.
فضحِك النِّساء وقالت إحداهن: وحقِّ مَناة لو جاء مُرَّة إلى هنا لأَبلَّنَّ لِحيتَه من هذا الزقِّ حتى تعودَ صفراء!
فصاح همَّام وهو يضحَك: حسْبُك أيَّتُها الخرْقاء فلسْنا عن الزقِّ في غِنى.
فَعَلا ضَحِكُ الجميع، وكان جسَّاس قد بلغ مَوضِعَهم وحيَّاهم في وجوم، فدعاه المُهلهِل إلى الجلوس وهو يضحك، ولكنَّهُ لم يُجِب إلى المرَح، وجلس صامتًا مُعبس الوجه، مُضطرِب الأنفاس، ومدَّ رُمحه أمامه وجعل يعبَثُ فيه بإصبعه وكفَّيْه، ويقرَع به الصَّخر حينًا، أو يرسُم به على الأرض خطوطًا، فقال له همَّام ضاحكًا: هل لك في كأسٍ يا جسَّاس؟
فأطرَقَ جسَّاس وزادت عبستُه عُمقًا وقال في صوتٍ خافت: قد حرَّمتُها على نفسي وأنت أولى بها.
فقال المُهلهِل يُمازِحه: لعلَّ لك ثأرًا فآليتَ لا تشرَبُ حتى تُدرِكه.
فقال جسَّاس في مرارة: بل ينبغي للعبْد ألَّا يَطرَب.
فلم يرتَحْ أخوه همَّام إلى جَوابه، وقال: ومن العَبد ويْحك؟ إنك جسَّاس بن مُرَّة.
فقال جسَّاس مُسرعًا وقد نظر إلى أخيه حانقًا: «وهل ينبغي لابن مُرَّة إلَّا أن يكون عبدًا؟»
ولم يرتَحِ النساء إلى هذا الحديث، فقد كان منظر جسَّاس لا يدَعُ لهنَّ جُرأةً عليه، فقُمْنَ واحدةً بعد أخرى وتَسلَّلنَ وتركنَ المجلِس الكريه.
وما سمِعَ همَّام إجابة أخيه حتى انتفَضَ كأنَّ النار قد لذَعَتْه، وهمَّ أن يرُدَّ على أخيه ردًّا قاسِيًا، لولا أنه رأى عبدًا يُقبِل وهو يحمِل على كتِفه شيئًا ضخمًا، فنظر إلى أخيه نظرة قاسية، ثم صرَف عنه وَجهه إلى العبد القادِم، فإذا هو من خدَم كُليب يحمِل على كتِفه وَعلًا من الصيد.
فقام المُهلهِل نحوَهُ مُسْرِعًا مُتعثِّرًا يكاد يَنكفئ، ومدَّ ذِراعَيه نحوَ العبد وساعَدَه على إنزال الوَعْل، وصاح وهو مُمتلئ بالسُّرور: «هدِيَّة بطلٍ حبيب، ربِحَ كليب وحقِّ أوال!»
فما كاد جسَّاس يسمَعُ صَيحة المُهلهِل حتى وَثَب قائمًا، وركز رُمحه في الأرض ووجهُه يَنمُّ عن الغَيظ والحقد، وقال يُتمتِم من بين أسنانه مُوجِّهًا الحديث إلى أخيه: تمتَّعْ بفضلات الكرام؟
ثمَّ انصرَفَ وهو يَطعَنُ الأرض بسنِّ رُمحه حتى غاب وراء الكُثبان.
ووقف همَّام أخوه ينظر في أعقابه حتى غاب عنه وهو يزدَرِدُ غَيظه، حتى لا يُفسد على نفسه مُتعة اليوم. ثم ذهب نحو صديقه ليُشاركه فيما هو فيه، فسَمِعه يسأل العبد: ومتى عاد كليب من صَيدِه؟
فقال العبد في خضوع: حضر الساعة ومعه الصيد، فسأل عنك حتى علِمَ بأنك خرجتَ منذ الصباح، فأعطاني هذا وأمرَني أن ألتَمِسَك حيث تكون لتذُوقَ من صَيده.
فصاح المُهلهِل في حماسة: «أنعِمْ مساءً يا كليب! إنك لتذكُر على البُعد زير النِّساء.»
ثم ضحِك وشارَكه همَّام في ضَحِكه قائلًا: كليب للصَّيد والحرْب، وأمَّا المُهلهِل …
ولم يُتمَّ همَّام قوله لأنَّ المُهلهِل صاح ضاحكًا يُتمُّ له كلمته: والمُهلهِل للمُجون والشَّراب.
ثم علا ضَحِكُهما وأقبلا على الوَعْل يُساعِدان العبد في سلخِه وإعداده للطعام.