الفصل الرابع
لم يجِد كليب استراحةً إلى الإقامة في مَنازله، ولم يكن في ثَورةِ نفسه يرتاح إلى النُّزهة في روضته، وعافَ الطعام فكان لا يُصيب منه إلَّا إذا ألحَّت عليه جليلة، ثم لا يَنال منه إذا أكل إلَّا اليسير. وعاف الشَّراب ومُجالَسة النُّدمان، وخُيِّل إليه أن الجوَّ الذي حولَهُ كله يأتمِرُ به ويُخادِعه. فكان لا يجِد راحةً إلَّا في الفَلوات، يضرِب في كبِدِها ويُغرِق شُجونه في السَّير الطويل والركوب العنيف، حتى تمنَّى لو صارتِ الحربُ لكي يجِد في ضجَّة مَعامِعِها ما يُبعِد عنه تلك الوَساوس التي ساوَرتْه، وكان الصَّيد أحبَّ ما يخرُج إليه، فكانت مُطاردَة الوَحش لا تدَعُ فراغًا لهواجِسِ غضبه المكتوم، تلك الهواجس التي كانت تزدحِم في صدره حتى يَضيق به كلما خلا إلى نفسه. فكان يخرُج إلى الصيد فيقْضي فيه يومًا أو أيامًا، ثم يرجِع حينًا قصيرًا فلا يلبَثُ إلَّا قليلًا، ثم يعود إلى الفَلَوات يلتمِس فيها التفريج عن قلبه المكروب.
قام يومًا من تلك الأيام من نَومِه في بكرة الصباح، فأخَذَ قوسَه وكِنانة سِهامِه وهمَّ بالخروج، وكانت امرأتُه جليلة تنظُر إليه وعيناها مُغرورِقَتان بالدَّمع، تتبَعُ حركتَهُ في لهفةٍ وَوَجَل، وتسأل نفسها متى يعود السلام إلى قلب هذا الزَّوج الحبيب الذي قد تبدَّلَ فصار لا يَطمئنُّ ولا يَستقر. وكانت آلامُها تزيد كلَّما تذكَّرتْ أن سببَ كلِّ هذا الذي أصاب زَوجَها من الاضطِراب، إنما هو أخوها الذي أثار عليه النُّفوس وتَجرَّأ عليه في غَيبتِه وأمام عَينَيه، ولم تستطِع هي ولا أحدٌ من أهلِها أن يَسلُّوا من قلبه الحقد الذي ملأه وملك عليه زِمامه. ولقد طالما حدَّثتْه وتوسَّلتْ إليه وسمِعَتْ أُمَّها تُجادله وتُحاوِل أن تَثنيه عن عداوته، وسمِعتْ أباه وهو يُعنِّفه ويُغلِظ عليه القول، ولكن ذلك كله ذهبَ مع الريح وبقِيَ جسَّاس يُغذِّي وَساوسه وعداوته بكلِّ ما استطاع أن يلتَمِسَهُ من عِلَل. فكان يرى في كلِّ نظرةٍ من نظرات كليب احتِقارًا، وفي كلِّ كلمةٍ من كلماته إهانة، وفي كلِّ فعلٍ من أفعاله آيةً جديدة على كبريائه وطُغيانه. ولجَّ به الخيال حتى حلَّتْ هذه الوَساوس مَحلَّ العقيدة لا يَتزعْزَعُ عنها، ولا يَقبَل المُجادَلة فيها، فكان هذا أبعثَ على زيادة تألُّمِها واشتداد حيرتِها.
فلمَّا رأتْ زَوجها خارجًا ولم يَستقرَّ في منزلها إلَّا بعضَ ليلة، برَّح بها الحُزن ووقفتْ في سبيله تنظُر إليه صامتةً والدَّمع يَجُول في عينَيها.
فنظر إليها كليب واهتزَّ فؤادُه إشفاقًا، وقال لها وهو يُحاوِل الابتِسام: ما لي أراكِ مُكتئبةً يا جليلة؟
وكأنَّ هذه الكلمة قد حلَّتْ عُقدة حُزنِها فانفجرَتْ تبكي، وألقتْ يدَيه على كتِفَيه وطوَّقَت بهما عُنقه، وأمالت رأسَها إلى صدرِه وهي تَنشج بالبُكاء.
فوضع يدَه على رأسها ثم ضمَّها بعَطف، وقال لها: «إنَّني لا أُطيقُ بكاءك يا جليلة، فما الذي يُحزنك؟»
فقالت له في بُكائها: «لو كنتَ تتألَّم لحُزني لما غبتَ عنِّي كلَّ تلك الأيام، إنك لم تأتِ من صَيدِك إلَّا الليلة وأراك تُبكِّر بالخُروج.»
فقال لها وهو يُحاول الابتسام لتهدئتِها: «أتُحبِّين أن تكوني معي يا جليلة؟ لقد وددْتُ لو ركبتِ الخيل ورمَيتِ بالقَوس، فإنك خَير من أحبُّ صُحبته.»
فقالت جليلة وفي صوتها رنينُ اللوم: «بل تُريد أن تَبعِد عن منزلك وتَتعمَّد أن تَغيب عنِّي.»
ثُمَّ نظرَتْ في عَيْنَيه قائلة: «بحقِّ مَناة يا وائل ابقَ معي، بحقِّ أوال لا تخرُج اليوم عنِّي.»
فقال كليب باسمًا: «كأنَّك تَخشَين عليَّ إذا خرجتُ؟»
فأسرَعَتْ قائلة وقد خفَضتْ رأسَها: «بل أخشاك أنت. إنَّني لا أخشى عليك؛ فليس في قبائل ربيعة من يتجرَّأ عليك.»
فزمَّ وائل شفتَيه وصمت لحظة، ثم قال كأنه يُحدِّث نفسه: «ليس في ربيعة من يتجرَّأ عليَّ؟»
ثم تدارَك كلِمته فضحِك وقال: «لا تَخشَي يا جليلة.»
فنظرَتْ إلى وجهه ورفعتْ كفَّيها إلى عارِضَيه فضمَّتهُما بينهما، وقالت بصوتٍ مُتهدِّج: «لمَ لا تستقرُّ في بيتِك حينًا؟ لم لا تَبقَى هنا كما كنتَ بين أهلك وقومِك؟ إنك كلَّ يومٍ تضرِب في أفقٍ جديد، وقد يَحمِلك الصَّيد إلى مَهالِك البيد. لستُ آمَنُ عليك أن تقتحِم أرضًا فيها عدوٌّ لك، ولا آمنُ أن تَبْدرَ منك بادِرة فلا تملِك نفسك.»
فقال وقد مدَّ يدَه إلى رأسها، وجعل يمسَح بكفِّه على شعرها: هَدِّئي رَوعَك ولا تُطيعي جزَعَك.
ثُمَّ ضمَّها إلى صدرِه ضمَّةً أودَعَها ما في قلبِه من المحبَّةِ لها.
فقالتْ جليلة: وماذا عليكَ لو أقمتَ اليوم؟ إنك لم تذُق راحةً منذ أيام، وأوْلى لك لو بقِيتَ اليوم في منزلِك.
فقال وائل مُتردِّدًا: وما الذي يَحمِلُك على هذا القول يا جليلة؟ لقد طالما خرجتُ وأقمتُ الأيام في صَيدي ولم أرَ منك مثل هذا الحُزن.
وسكتَ حينًا ثُمَّ قال ضاحكا: لقد قلتِ لي هذه الليلة أنك كُنتِ عند عرَّافة تغلِب، وهذه تَميمتُها قد وضعتِها بيدِك حول عُنقي، ولم أُرِد أن أعصيَكِ حتى أُزيل عنك خوفَك، فهل هي التي أمرتْكِ أن تُقعِديني؟
فحوَّلتْ عَينَيها عنه ولم تُجِبْه، فضمَّها إليه باسمًا وقال لها: إذن فهي التي حذَّرتْك من خُروجي، وأنت تُريدينَني على الاحتجاب حتَّى تأذنَ لي عرَّافتُك.
فتبسَّمَتْ جليلة ابتسامة ضئيلة، وأخفَتْ وجهها في صدرِه وقالت: وماذا عليك لو أطعْتَني؟
فقال لها: أتُحبِّين أن تتحدَّث الناس أنَّني خَشيتُ أن أخرُج؟ لقد تحدَّثَتِ الأندية بما قال جسَّاس عن طُغياني وكِبريائي، أُتريدين أن تتحدَّث المَجامع بأنَّني احتجبتُ خَوفًا حتى تأذن لي عرَّافة تغلِب؟
فقالت جليلة في عِنادٍ وهي تنظُر إليه: ألا تُطيع رجائي؟ ألا تُجيبُ توَسُّلي؟ بحقِّ حُبِّي لك أطِعْني إذا لم تَجِد من حُبِّكَ لي ما يَحمِلُك على البقاء. ابقَ اليوم إلى جانبي. لا يستطيع أحدٌ أن يقول إنك خَشِيتَ الخروج. أنت فارس العرب وسيد ربيعة كلها، ولن يستطيع أحدٌ أن يقول إنك تَخشى.
فحوَّل وائل عَينَيه عنها حتى لا يرى دمعها، وقال: «إنَّ حُبِّي لكِ يا جليلة لا يَعدِله عندي في الحياة حُب، ولكنك لا تَرضَين أن يتحدَّث الناس عنِّي حديث السُّخرية أو يَظنُّوا بي الخَوف، مُريني أن أخرُج إلى صيدي وأن أُخرِس لسان عدوِّي.»
وسكت لحظةً ثم قال: «وإذا كنتِ تَخشَين أن يتعرَّض أخوك لي فإني أعدِكُ أنَّني سأفسِحُ له من صدري وأمدُّ له من عَفوي.»
ثُمَّ تخلَّص برفقٍ من بين ذِراعَيها، واتَّجَهَ نحو باب الخيمة، ووقفتْ جليلة تنظُر إليه في صمتٍ وقلبها يَخفقُ وعيناها لا تزالان تدمَعان.
ولمَّا خرج كليب إلى باب المنزل لاحَ له يربوعٌ يَجري من جانب الوادي، فأسرَع إلى قَوسِه فوضع فيها سهمًا فرمى اليَربوع قبل أن يَبلُغَ الجانب الآخر من الوادي، فصرَعَه في مكانه وقد أصابَ السَّهمُ رأسَه. وأراد عند ذلك أن يجعل وَداعه مَرِحًا، فنظر إلى زَوجتِه وضَحِكَ ضِحكةً عالية وقال لها: «هذا عشاء عسَّاف يا جليلة.»
فلم تملِك جليلة إلَّا أن تبسَّمَت وصاحت به: حرَسَتْك مَناة!
ووقفتْ تنظر إليه وهو سائر وتتأمَّل قامته المُعتدِلة، ورأسَه المرفوع وخُطاه الواسعة، وكان كلبُه عسَّاف يسير كما اعتاد في آثاره يَتشمَّمُ مَواطئ أقدامه.
ولمَّا بَعُد وأوغل بين الكُثبان أسرعَتْ جليلة خارجةً إلى طرف الوادي، وسارت تُهروِل حتى دخلتْ في شِعبٍ من شِعابه، وقصدتْ إلى بيت العرَّافة لتلتمِسَ لزَوجِها عِندها بركةَ إلَهَيها مَناة وأوال.
وسار كليب حتى بلغَ مَرعى خيله، وكانت في وادٍ مُجاور، والعبيد مُشتَّتُون في أنحائه بعضُهم يتعهَّد الأمْهار، وبعضُهم يُعلِّم ما شبَّ منها ويُروِّضها، فنادى كليبٌ أحدَهم وأمرَه أن يأتي له بالرَّباب، وكانت أحبَّ خيله إليه، فأسرعَ العبد إليها حتى قادَها إليه، فأقبلتِ الفرسُ تَسير إلى سيِّدها كأنها صديقٌ يسعى إلى صديقه. حتى إذا قربتْ منه جعلتْ تُحرِّك رأسَها وهي تَصهلُ كأنها تُبدي سُرورها بلقائه، ورفعتْ ذَيلَها، وضربَتِ الأرضَ بِحوافِرِها، فمسح كُليب رأسَها وعُنقَها وهو يَبتسِم لها، ثم وَثَبَ على ظهرِها وركِبَها عُرْيًا، وقد أخذ كِنانة سِهامه في كتِفِه اليُسرى وجعل القَوسَ في كتِفِه اليُمنى. ولَمَّا استقرَّ في رُكوبه مسح رقبةَ الفرس، وهمَزَها قائلًا: «هيا يا رباب.»
وكأنَّ الفرس قد فهِمتْ خِطابه، فانطلقتْ تعدو مثل وعلٍ برِّي، وغابتْ براكِبها وراء ثنِيَّة الوادي، وانطلقَ الكلبُ يجري في أثرها يقفِزُ فوق الحِجارة، ويُحاول أن يلحَقَ بها لاهثًا.
وقضى كليب ذلك اليوم في الصَّيد حتى مالتِ الشمس نحوَ الغرب، ثمَّ عاد وقد حمَل زَوجًا من وُعولٍ عصماء تكاد الرَّباب تَنوء تحتَهما، وقد تدلَّى أحدُهما عن يمينٍ وآخَرُ عن يَسار، فلمَّا بلغَ مَرعى خُيوله في الوادي المُجاوِر لمَنازله أسرَع إليه العبيد، فوثَبَ عن فرسِه وقال يُنادي الغُصين: أينَ المُهلهِل اليوم؟
فتردد العبدُ حينًا ثم قال: لا أظنُّه اليوم في مَنازله.
فقال كليب: احمِلْ إليه وعلًا من هذَين أينما كان يا غُصين.
ثم سار نحوَ الرَّوضة وقال وهو لا يلتفت: امسَحوا الرَّباب ثم قرِّبوها منِّي عند الرَّوضة.
ومضى نحو روضتِه والعبيد يُسارعون إلى الفرَس ليُزيلوا ما علَق بها من أثر الدِّماء، وسار الكلب كعادته يتمسَّح في أذيال سيِّده ويشمُّ آثاره، حتى بلغ كليب الرَّوضة فسار بين شجرِها المُلتَف، وأقعى الكلب عند المدخل ينظرُ فيما حولَه وهو يلهَث.
وقضى كليب هناك ساعةً يسير بين الخمائل ويتأمَّل زهرها وأغصانها، حتى بلغَ خميلة القنبرة، فوقفَ عندها هُنيهة وسرَتْ فيه هزَّةٌ من الغضب، ولكنه مضى سريعًا إلى خميلةٍ أخرى حتى لا تلحُّ عليه الذكرى.
ولم يلبَثْ أن عاد إليه الهدوء وهو يَسير فوق رِمالٍ ناعمة، جعَّد سطحها مرُّ الريح، فبدا مثل الغدير قد انداحَتْ عليه خُطوطٌ مُتراقِصة من لمْسِ النسيم، واطمأنَّ إلى أنَّ حِماه ما زال عزيزًا لم تَستبِحْه اليوم قدَمٌ جريئة. فلمَّا بلغ آخِرَ الرَّوضة واطمأنَّ إلى سلامتها وأنَّ امرأً لم يطأ بقدَمٍ عليها، عاد أدراجَه خفيفًا حتى صار عند مدخلها فرأى عبدَهُ وفرسَه، فوثَبَ على الرَّباب واتَّجَه إلى منازله.
ولمَّا خرَج من الرَّوضة رأى عن بُعدٍ شخصًا يسير مُسرعًا وهو يخبِطُ الأرض بزجِّ رُمحه، فتأمَّله فإذا هو جسَّاس، وكان مُتَّجِهًا نحو مَراعي إبله في الوادي المُجاور، فاعترَتْه لمَرآه قبضةٌ لم يتمالَكْ منها نفسه، ولكنَّهُ أخذ يصرِف نفسه عنها، واستعاد صورة جليلة لعلَّها تَسلُّ من صدره تلك المَوجِدة التي كان يُجاهد نفسه في مُغالبَتها. وفيما هو في ذلك سمِع كلبَهُ ينبَح نباحًا شديدًا، فالتفتَ نحوَهُ فإذا هو يعدو مُسرعًا نحو جسَّاس في غضبٍ يُريد أن يهجِم عليه فيَعقِره، فهمَزَ فرسَه لكي يُدرِك الكلب الغاضِب وصاح به ليثنِيَه، ولكنَّ الكلب اندفع في شراسةٍ حتى وثَبَ على جسَّاس، فما أدرَكَه حتى مزَّق ثوبَهُ وأوشك أن ينهَشَ لحمَه، فوقف جسَّاس والرُّمح في يدِه يُسدِّده إلى الكلب، ولكنه عدَلَ عن ذلك فجأة، واتَّجَه نحوَ كليب وشخَصَ إليه بِبصرِهِ حينًا لا يطرُف ولا يتحرَّك، وخشَعَ الكلب عندما أبصر سيِّدَه قريبًا منه وسمِعَ زَجْره. وكاد كليب ينطِق بكلمةٍ يَعتذِر بها إلى صِهره الحانِق، ولكنَّ الكلمة وقفتْ على لِسانه إذ سمِع جسَّاسًا يقول له بصوتٍ أَجَشَّ: «هلُمَّ إذا شئتَ فأنت أولى بهذا!» ورفَع رُمحَه كأنَّه يُريد نزالًا.
فغلى الدَّمُ في رأس كليب ووضع يدَهُ على مِقبَض سيفه، ولكنَّهُ تردَّد بعد قليل، ورفع يدَه ونظر إليه صامتًا لحظة، ثم أدار عنه وَجهَهُ وقال في مرارة: لقد وعدتُ جليلة.
ثم انصرَفَ مُتَّجِهًا إلى مَنازله وهو لا يكاد يرى ما أمامه من شدَّةِ غضبِه المكظوم، ووقفَ جسَّاس لحظةً ينظُر في آثاره وهو مُضطرِب القلبِ يكاد يَتمزَّق من الغيظ، وقد طعنتْه الكلمة التي سمِعَها في صميم فؤاده وزادَتْ حِقدَه التِهابًا.
ولمَّا بلغَ كليب ساحةَ بيتِه هبَّ من فيها سِراعًا، ولكنَّه وثَبَ عن فرسِه وسار نحوَ خَيمته مُطرقًا، وقامت جليلة مُسرعةً في لهفةٍ تُريد أن تبلُغ باب الخيمة قبل أن يدخل، فقد كانت تُريد أن تتريَّث به قليلًا قبل الدُّخول حتى يَطأ خُطوطًا رسمتْها بدقيقٍ عند بابها، ولكنَّ كليبًا سار مُسرِعًا فلم تُدرِكْه جليلة حتى دخل إلى الخيمة بِغَير أن يَنظُر إليها، ووقفتْ جليلة مُضطرِبَةَ الصَّدر تنظُر نحوَهُ وشعور الخَيبة يثور بأنفاسها، فلقد ذهبت في الصباح، بعد أن خرَج زَوجها، إلى عرَّافة تغلِب، واستعانَتْ بها أن تُدبِّر لها من سِحرِها وكهانَتِها ما يمنَعُ الشياطين عن وُلوج بيتِها، ويحفَظ لها الزَّوج الحبيب من وَثباتها. فصنعَتْ لها العرَّافة دقيقًا تخطُّ به رسمًا عند مدخل البيت، لكي يَطأه كليب إذا عاد داخلًا، وأمرَتْها أن تَذُرَّ منه في أركان البيت وتحت أوتاده، وأن تَجعلَ منه تحتَ وسادتها وحَولَ فِراشِها لَعلَّ زَوجَها يُصيب بِخُفِّه أو بيدِهِ منه شيئًا. فإذا فعل ذلك أمِنَ المَهالِكَ، وكان محروسًا أينما سار وحيثما استقر.
وشردَتْ جليلة ببصرها نحو الخطوط المرسومة عند الباب لترى هل مسَّها زوجها بخُفِّه، ولكنها رأتِ الخطوطَ سليمةً كما رسمَتْها، فعادت ببصرِها إلى كُليب، وراعَها ما على وَجهِه من علامات الغضب، ثُمَّ تنبَّهَت إلى أنه دخل ولم يبسِم لها ولم يأخُذها بين ذِراعَيه كما عوَّدها. فقالت لهُ في صوتِ العِتاب: عِمتَ مَساءً يا ابن العم.
فقال كليب وهو يُحاول الهدوء: عِمْتِ مساءً أيَّتها الحبيبة!
ثم عاد إليها ففتح ذِراعَيه يُريد أن يَصرِفها عن اضطِرابه وغضبِه، فألقتْ نفسها بين ذِراعَيه وقالت مُتردِّدة: لعلَّك قضيتَ يومًا هنيئًا في رياضِ الخُزامى.
فقال وهو يَلفُّها بيُمناه ويشمُّ شَعرَها بشغف: وأين الخُزامى من عِطرِك؟
ثم أرسلَها وحاولَ أن يصرِف نظرَه عنها، فخنَسَت في صدرِه وطوَّقتْه بذِراعَيها، وقالت بصوتٍ خافتٍ فيه رنَّة الحُزن: حمدًا لمَناة إذ أراك سالمًا.
ثم أخذَتْ تنشجُ في هدوء.
فقال يُحاوِل صرفَها عن حُزنها: وكيف مضَّيتِ أنت اليوم يا جليلة؟ هل عاودَكِ الدوار؟
وكانت جليلة حامِلًا يَعترِيها دوارُ الوَحَم بين حينٍ وحينٍ فيُصيبها بضيقٍ شديد.
فقالت جليلة: ما أُبالي اليوم دوارًا.
ثم تشبَّثَتْ به واستمرَّت تقول: قل لي بِحَقِّي عِندك. أغاضبتَ أحدًا؟ هل تعرَّضَ لك جسَّاس؟
فلم يستطِع كليب أن يكذِبَ في جَوابه بعد أن ألقتْ إليه ذلك السؤال الصريح.
فقال: «ولكنِّي وعدتُك يا جليلة.»
ثم سار داخلًا حتَّى بلغَ صدْر البيت، فجلس على فَروةٍ قد فُرشَت فيه، وذهبتْ جليلة إلى ناحيةٍ أخرى من الخَيمة فحملتْ إناءً مَملوءًا باللبن، وأتت به فقدَّمتْه إليه وهي صامتة، ثم جلسَتْ إلى جانبه تنظُر إليه في شيءٍ من الوُجوم، فشرِبَ كليب بعض اللبن ووضع الإناء إلى جانِبه، وقرَّبَ جليلة إليه وجعل يُحدِّثُها بما كان من أخِيها وهي تَسمَع مُطرِقة.
ولمَّا انتهى من وصف ما حدَث من جسَّاس نظر إليها بابتسامةٍ مُرَّةٍ وقال: «ولكنِّي مع ذلك أعفو عنه لأنه أخوك يا جليلة.»
فقالت جليلة: «أنت سيِّد ربيعة كلها ولا يَضرُّك نزَقُ شابٍّ مِثله.»
فقال كليب: «سوف أصبِرُ عليه حتى تَغضَبي لي.»
فقالت بصوتٍ ثابت: «حاشاك أن يَلحَقَ بك ما يُغضِبني. ومن يظنُّ أنَّ في حِلمِك نقصًا؟ بل من يَستطيع أن يجعَلَ جسَّاسًا لك قرينًا؟»
قال كليب: «لقد عرفَتِ العربُ يا جليلة، إنَّهم لا يُكبِرون إلَّا العزيز، ولا يُجلُّون إلَّا المنيع.»
فرأتْ جليلة صِدق قوله، ولكنَّها آثَرَتْ أن تُداري جَزَعَها، وعزمت على أن تسعى مرة أخرى عند أخيها وأبيها لعلَّها تتدارَكُ الخطْب، وتتَّقي تلك الكارثة التي كان قلبها يُنذر بها. وأخذَت تُلاطف كليبًا وتُسلِّيه، واستطاعتْ بعد قليلٍ ما تستطيعه الزوجة المُحبَّة وحدَها، فإذا الحديث يعود إلى عُذوبتِه، وإذا زَوجُها الغاضِب يرتدُّ حبيبًا رقيقًا، يتحدَّثُ باسمًا إليها واصِفًا لها ما كان في يَومِه من مُطارَدة الوَحْش، وصَيد الوُعول من قُلَل الصخور، ويتغنَّى لها بمحاسِن الرَّباب، وبَسالة كلبه عسَّاف وهو يُمشِّط بأصابعه شعرَها.
فقالت جليلة باسِمةً: «وأين ذهب الصَّيد؟»
فقال: «أهديتُ مُهلهِلًا أخي وَعْلًا ليكون طعامًا له في شرابه، وأغلبُ ظنِّي أنه اليوم لاهٍ مع أخيك همَّام.»
وأراد أنْ يُتمَّ حديثَه فقاطعَتْه قائلة: «وأين إذن نصيبي؟»
فضَحِك وضمَّها إليه وقال: «أما يكفيك كُليب أيَّتُها الحبيبة؟»
فانحنَتْ برأسِها على صدْرِه وهو لا يزال يعبَثُ بشعرِها الأسود، ثم همَسَ في أُذُنها يقول: «ستجدينَ بعدَ حِينٍ عنِّي سلوةً يا جليلة.»
فقالتْ جليلةُ في شِبْهِ صَيحة: «ومن ذا يُسلِّيني عنك؟»
فضَحِكَ وقال: «ولدُك الذي سيُقبِل بعدَ حِين.»
فقالت وهي تُحرِّك رأسَها على صدره: «لن يَزيدَني ولَدِي إلا حُبًّا.»
ثم استَسْلما معًا لأحلامِ المُستقبَلِ العَذْبة.