الفصل السادس
ماتت «سراب» ناقَةُ سعد بن شميس ضَيف البَسوس، وما كان مَوت ناقةٍ ليقَع على قومٍ مثل ما وَقَع موت هذه الناقة على بني مُرَّة قوم جسَّاس. لقد حاوَلوا جُهدَ طاقتِهم أن يترفَّقوا في نزْعِ السَّهم من ضَرْعِها، وأنْ يُداووا جُرحَها، وكانوا يتلهَّفون على سلامَتِها كأنَّها مريضٌ عزيز يُحيط العُوَّادُ بِفراشِه.
فلمَّا ماتت اهتزَّ لها الناس، وقضَوا أيامًا في وُجومٍ يتوجَّسُون من خَوف ما قد تُطالِعُهم به الأماسِيُّ والأصباح، ولكن الأيام مرَّتْ أسابيع بعد أسابيع ولم يحدُث حدثٌ ممَّا كانوا يخشَون، فأخذتِ المَخاوِفُ تهدأ، وأخذ شُبَّانُ تغلِب يتفكَّهون فيما بينهم بتهديد جسَّاس، فقد عرَفَ العرَبُ أنْ يَثأروا لرِجالِهم بِطلَبِ الدِّماء، ولكن هذا جسَّاس يَثور لطلَبِ دَمِ فُحول الإبل انتقامًا للنِّياق! وكانوا يَقولون إذا رأوا جسَّاس بنَ مُرَّة: «ما بال الرُّكبان لا تسير بالحديث؟ ما بالُ هذا الثائر لا يزال يتربَّصُ بالفحول؟ هذا هو جسَّاس يَسكُن ويركُد ويخشَع بعد أن أظهَرَ له كُليب بن ربيعة أنه يَبرُّ بيمينه ويُحقِّقُ وَعيدَه، ولا يُبيحُ لأحدٍ أن يستبيح حِماه. وأيُّ امرئٍ يكون جسَّاس إذا قِيس بسيِّد ربيعة المَنيع؟ إنه تجرَّأ واعتدى وكان اعتداؤه بدعة، حتى إذا ما سطا كليب وأظهر له نَواجِذَهُ غضبًا خشَعَ ولَزِمَ الحدود.»
وكان جسَّاس في أثناء هذه الأيام يَسمَعُ الهمسات التي يَفتَكِهُ بها شُبَّان تغلِب، فتقَع في نفسه وقْعَ السِّهام، وداخَلَهُ من ذلك همٌّ مُضنٍ حتى حال لَونه، وصار لا يأنَسُ إلى أهلٍ ولا أصحاب، فما كان أحدٌ يَراه إلَّا في الأطراف البَعيدة المُوحِشة سائرًا وحدَه، فإذا أنِسَ إلى أحدٍ من النَّاس فما كان أُنْسُه إلَّا إلى فتًى صئيلٍ من أهونِ بُيوتِ بَكر وأضعفِها حَولًا، فتًى ضعيف لم يَشترِكْ مرَّةً فيما يُشارِك فيه الفِتيان من لهوٍ أو جد. ولم يَعرِف أحدٌ له مَحلًّا في أمرٍ تافِهِ أو عظيم. كان هذا عمرو بن الحارِثِ البكري غريم الكلب عسَّاف الذي عرَف الناسُ جميعًا قِصَّتَهُ.
كان عمرو هذا يحمِل لكُليب بن ربيعة صنفًا من الكراهية عجيبًا، كان لا يتحمَّل أن يسمَعَ ذِكرَ اسمِه، فإذا سمِعَه اضطرَبَ واختلجَ ومَضى في سُرعةٍ تُشبِهُ الذُّعر، ولكنه كان لا ينطِق بكلمةٍ تنمُّ عن كُرهه، ولا يُشارك في الهمَسات التي يَتَهامس بها شُبَّان بكرٍ عن طُغيانه وعسْفه. وقد وقَع في قلبه هذا الكُره العجيب منذ يومٍ بعيد، إذ كان يَسير على مَقرُبةٍ من روضة كليب بن ربيعة، فنبَحَه الكلبُ عسَّاف الواقِف عند مدخلها، وهجَمَ عليه فمزَّقَ ثِيابه وعضَّهُ في فخذِه فكاد ينزِع نَسَاه، فجرى الفتى في ذُعرٍ خِيفة أن يراه الأمير المُخيف فيُوقِع به، كما كان يُوقِعُ بكلِّ من تجرَّأ واقترَبَ من مَوضع الكليب، وأحسَّ من ذلك ذِلَّةً طعنَتْ قلبه، ولكنَّهُ لم يستطِع أن يُنفِّس عنها بكلمةٍ إلى حميم.
منذ ذلك الحِين انقلب شُعوره بالذِّلَّةِ حِقدًا يأكلُ القلب، وزادت كراهتُه عُمقًا وقوَّة على مرِّ الأيام كلما تبيَّن له عَجزُه عن الانتِصاف من الأمير العنيف، وسمَّاه الناس منذ ذلك اليوم غريم عسَّاف سُخريةً وازدِراءً.
فلمَّا وقَعَ ما وقَعَ بين جسَّاس وكليب، ورأى ذلك الفتى ما آل إليه أمر جسَّاس من مُباعدة الناس وانطوائه على نفسه أنِسَ إليه فأطلَعَهُ على خبيئة نفسه؛ فإنه إذا لم يَستطِع أن ينتقِم بنفسه من الأمير العزيز قد يَستطيع أن يُنفِّس عن حقدِه إذا شارَكه جسَّاس بن مُرَّة، فهو في مِنعةٍ من أبيه شَيخ شَيبان وإخوته وأبناء إخوته، وكلُّهم من فُرسان بكر الذين لا يُسلِمُونه ولا يتخلَّون عنه، ولكنه كان يُحاذِر ويَتوارى إذا أرادَ لقاء جسَّاس خِيفةَ أن يراه أحد من أتباع كليب فيَشِي به إليه؛ ولهذا كان لا يَجتمِع به إلَّا خِلسةً في ظُلمة الليل في أمنٍ من الأنظار، فإذا ألمَّ به ساعة من نهارٍ لم يَبقَ معه إلَّا إذا اطمأنَّ على أنَّ العيون لا تراه، فإذا رأى أحدًا قريبًا ترَكَ صاحِبَه وذهبَ مُسرِعًا إلى بعض الشِّعاب.
ولمَّا مَضَتِ الأيام بغَير حدَثٍ جديد نَسِيَ الناس الأمر وحسِبُوه قد مضى، وظنُّوا أن جسَّاسًا قنَعَ بعُزلتِه وانصرَف عمَّا لا يَستطيعُه، واطمأنَّتْ تغلِب على رئيسها وبطلِها، واطمأنَّتْ بكر على أمنِها وسلامتِها، ولم يبقَ من ذِكر النَّاقة إلَّا فُكاهة عابِرة تُساق في مجالِس السَّمر.
غير أنَّ قلبَ جليلة كان دائم الترقُّب والحذَر، فقد كانت تعرِف أخاها وما كان يَملأ قلبه من الغَيظ الذي ظهَرَ لها ممَّا سمِعتْه منه، فكانت لا تزال تخشى الغدَ وما يأتي به، وتحسُّ في قُرارةِ نفسِها شُعورًا مُبهمًا أنَّ أخاها إنما كان ينتظِر الفُرصة السانِحة والغِرَّة المُلائمة.
فكانت تجلِس كلَّ ليلة في خُشوع قبل نَومها، تُناجي مَناةَ وأوال وتدعوهما ليَحفَظا لها زَوجَها العزيز.
وخرَج كليب في صباح يومٍ كعادته، وكان يقصِدُ ذلك اليوم أن يتنزَّه عن الحي، فذهب إلى مَرعى الخَيل فركِبَ فرسَه الرَّباب، وكلبُه يلهَثُ في أثرِه، وسار سَيرًا هنيئًا وقلبُه مُمتلئ بنَشوةِ الصباح، وكان النَّسيم البارِد يبعَثُ في جِسمه نشاطًا وفي نفسه خِفَّة وسرورًا وتملَّكَه الطرَب إلى الحياة، فأخذ يُغنِّي بملء صدرِه، وبدَتْ له الدُّنيا تَفيض سعادة وجمالًا، ولمح أثناء سَيره شخصًا جاثِمًا عند ثَنِيَّةٍ من ثَنايا الوادي. فلمَّا وقَع بصَرُ الشخص عليه أسرَع ذاهبًا عن طريقه، فتبيَّنَه فإذا هو عمرو بن الحارِث الفتى الضئيل الذي كان يَراه أحيانًا يُجالِسُ عَبيدَه في مَراعي الخُيول، فلم يكترِث به ولم يحفَل بوقوفِه عند الثَّنِيَّة، ولا بإسراعه هرَبًا عند مَقدِمِه، فلم يكن عجيبًا أن يُسرِع مِثله ليبعد عن الطريق التي يَسلُكها سيِّد ربيعة.
وذهب إلى الرَّوضة فوقَفَ عند مدخلها حِينًا يتأمَّل جمال مَنظرِها، ويملأ عينيهِ من اخضِرار أشجارها ونَخيلها، ونُضرَةِ أعشابِها وزُهورها، وقد عقَدَ النَّدى قَلائِدَ مَنثورة على أديم الأرض الزَّبرجدي، وانتظمَتْ حبَّاتُه في أسلاك نَسْج العنكبوت، فبدَتْ كأنَّها دُرَرٌ تتلألأ في شُعاع الشَّمس المُشرِقة. وفيما هو واقِفٌ بفرسِه سمِعَ كلبَهُ ينبَح نباحًا يُخالِطُه انزعِاج، ثم سمِع من خلفِه وقْعَ حوافِر فرسَين يَقترِبان، فتكبَّر أن ينظُر وراءه لعِلمِه أنَّ الراكبَين إذا فَطِنا إلى وُجوده أسرَعا مُبتعِدَين، وبَقِيَ واقفًا ينظُر أمامه ويَتملَّى بِحُسن رَوضته، ولكنَّ وقْع الحوافر أسرَعَ وتقدَّم في تُجاهِه، حتى صار على قَيدِ خُطوات منه، وعند ذلك سمِع صوتًا يُنادِيه من ورائه: «يا كليب الرُّمح وراءك!»
فعرَف أنَّهُ صوت جسَّاس، ولكنَّه لم يلتفِتْ إليه، وقال في لهجةٍ ساخِرة: «إذا صدَقْتَ فأقبِل من أمامي.»
وما كاد كليب يَنتهي من كلامِه حتى أحسَّ طعنةً شديدةً في ظهرِه، فارتمى عن فرسِه ووقَع على الأرض يتشحَّطُ في دِمائه. ورنَّت في أُذُنَيه صيحات عالية وحشيَّة، ونزل جسَّاس مُسرعًا عن فرسِه واقترَبَ منه مُكشِّرًا كابن آوي إذا وجدَ جِيفة.
فنظر إليه كليب نظرةً تمثَّل فيها معنى الاحتِقار والحنَق، واختلط فيها شُعور الغَيظ والضَّعف، وهمَّ أن يقوم إليه فلم يقوَ على النُّهوض، ففحصَ الأرضَ بقدَمَيه وتقلَّب في دِمائه. وما هي إلَّا لحظةٌ حتى لحِقَه دوار النَّزيف، واعترتْه غَشية المَوت.
وأقبَلَ جسَّاس يَنزِع الرُّمح من ظهرِه وهو يُخضخِضُه في قسوةٍ ويقول له: «ذُقِ الموتَ أيُّها الطاغِية.»
وفَهَق كليب فَهقاتِ ألمٍ ثُمَّ غُشي عليه، وكان يُفيقُ من غَشيتِه إفاقةً قصيرة، فيُحاوِل أن يتكلَّم فلا يستطيع إلَّا تَمتمةً خافِتة لا تُسمَع ألفاظها، ثمَّ اعتراه عطشٌ شديد فقال وهو لا يدري من يُخاطِب: «أغِثْني بشَربةِ ماء.»
ولكنَّ جسَّاسًا نظر إليه ثم ضَحِكَ ضحكةً مُخيفةً وقال في صرخةٍ جَشَّاء: «لا ابتلَّ لك رِيقٌ أيُّها الطاغية!» ووقف يتأمَّل نَزْعَه في سُرور.
وكان عمرو بن الحارِث في تلك الأثناء واقفًا وراء جسَّاس وهو يرتَعِد، وقد علَتْه صُفرةٌ تُشبِهُ صُفرة المَوت، فلمَّا سكن كليب أشار إليه جسَّاس أن يتقدَّم، فأتى إليه مُتردِّدًا، فطلب منه أن يُساعِده على تَغطِيةِ القتيل بالحِجارة حتى لا تأكُلَه السِّباع.
ولمَّا أتَمَّا وضْع الحِجارة عليه رَكِبا عائدَين نحوَ مضارِب الخيام، ولكنَّ عمرو بن الحارِث لم يَجرُؤ على أن يُواجِه قومَهُ بخبَر الجريمة، فركِب فرسَه لا يلوي على شيءٍ حتى دخل بيته، فقبَع فيه وهو يتفصَّد عرَقًا ويَهذي هذَيَان المَحموم، وركضَ جسَّاسُ فرسَهُ نحو خَيمة أبيه مُرَّة ليَحمِل إليه النَّبأ المشئوم، ولكنَّه لم يملِك نفسَهُ في ركوبه فبدَتْ ساقاه عارِيتَين وهو لا يَتنبِهُ إليهما ممَّا اعتراه من الذُّهول.
وكان الشيخ مُرَّة جالسًا في فناء بيتِه مع بعض بنيه وحفدَتِه وبعض إخوته وأبناء عُمومته، فرأى جسَّاسًا يُقبِل على فرسِه راكضًا عاريَ الرُّكبتَين، فالتفتَ إلى من حولَهُ وقال في فزَعٍ: «ما رأيتُ جسَّاسًا يركَبُ كما أراه اليوم.»
ثم صاح بابنه وقد صار على مسمعٍ منه: «ما بك يا جسَّاس؟» فقال جسَّاس في صرخةٍ مُفزِعة: «لقد طعنتُه طعنةً يجتمِع لها بنو وائلٍ غدًا رُقَّصًا.»
فقال مُرَّة وقد قام مَذعورًا: «ومن قتلتَ ويلك؟»
فقال جسَّاس في وحشِيَّة: «قتلتُ كليبًا؟»
ثُمَّ رفع رُمحَه فوق رأسِه وجعل يُلوِّح به في الفضاء، وقال في ضحكةٍ جنونية: «وأدركتُ ثأر البَسوس.»
فصاح أبوه وهو يرفَعُ يدَه كأنَّهُ يُريد أن يَضرِب: أكليبٌ في ثأر ناقة؟
فقال جسَّاس وهو يُلوِّح برُمحه فوق رأسه: أنا ابن مرَّة. أنا جسَّاس! لستُ ممَّنْ يُخفَر جوارُه.
فاتَّجَه إليه الشيخ وأخذ حفنةً من الرَّمل فرَماه بها في وجهه، وقال صارخًا: «ويلٌ لكَ من مشئومٍ منكود! ماذا جلبتَ على قومِك من الهَلاك؟ اذهبْ عنِّي فلستَ من أهلي، اذهبْ عنِّي فلقد سللتُ نفسي من جريرتِك!»
فرفَعَ جسَّاس رُمحه وهزَّه، وجعل يرقُص في سَرجِه كأنَّه يتغنَّى وهو يقول: «فزِعَ الشَّيْخ من خَوف القتال!»
ثُمَّ نزَل عن فرسِه واقترَب من أبيه قائلًا: «دعني أيُّها الشَّيخ وحدي، لستُ أريدُ حِمايتك، فقد عرَفتُ أنك لا تَجرُؤ على الدِّفاع عنِّي.»
فانتفضَ الشَّيخُ في غضب، ونظر نحوَ ابنِهِ المَخبول لحظةً وهوَ حائر، واستغْلَقَ عليه التفكير والقول فلم يُجِبْ بكلمة، بل وقف مَشدوهًا ينظرُ إلى من حوله في اضطراب، وقد وقَعَ رِداؤه عن كتِفَيه وسقطتْ عصاه من يدِه المُرتعِدة، وصاح بعد حينٍ بصوته المُختنِق: أين همَّام؟
وكان أبناؤه وحفدته قد هبُّوا جميعًا، فوقَفُوا حولَه في حيرةٍ ودهشة، وتقدَّمُوا نحوَهُ يرفَعُ بعضهم الرِّداء ليُغطِّي به كتِفَيه، ويَمدُّ آخَرُ يدَه بالعصا إليه وهم سكوت من الجزَعِ والحُزن.
فصاح بهم الشيخ في حنَق: أين همام؟ أهو اليوم في لهوه؟ أين هو؟ اذهبوا إليه فليجئ!
وكان في ثورة نفسه يتحرَّك في اضطِراب، ويتردَّد مُتَّجِهًا إلى جهةٍ ثم يرتدُّ عائدًا إلى أخرى، ثم وقَعَ نظره على شَيخٍ كان جالسًا في جواره، فرآهُ لا يتحرَّك في مكانه، فمدَّ مُرَّةُ إليه يديه كأنَّهُ يَستنجِدُ به في حِيرته، فقام إليه الرجل مُتباطئًا، ثم قَبَضَ على ذِراعه وانتحى به جانبًا، فلمَّا صار الرَّجُلان بحيثُ لا يسمعُ أحدٌ حديثَهُما، قال مُرَّة وهو لا يكاد يُبين: «ماذا ترى يا أبا عامر؟»
فقال أبو عامر في هدوء: «أترى تقدِر على إعادة كليب؟ أيعود الأموات إلى الحياة؟»
فنظر مُرَّة إليه مَبهوتًا ولم ينطِق بلفظ، فاستمرَّ الشيخ في كلامه هادئًا: «لقد كان ما كان، ولم يبقَ إلَّا النظر فيما يكون، وأنت إذا تمادَيْتَ في لوم جسَّاس خذلتَ بني بكر وبني شَيبان إذا احتجتَ يومًا إلى نُصرتِهم.»
فهدأ مُرَّةُ قليلًا وقال: «وماذا ترى يا أبا عامر فداؤك نفسي؟» قال أبو عامر: «إنَّ تغلِب لا بُدَّ غاضِبون ولن يَقعُدوا عن طلبِ الثأر منك، وإن تبرَّأتَ من جريرة ولدِك، فدَعِ اللَّوم والجَزَع وأظْهِرْ للقَوْمِ شِدَّةً؛ فإنَّ ذلك أدعى أن يَقتصِدوا في طلَبِ الثأر، وذَمِّر بني بكر وحَرِّضْهم على القِيام لنُصرة جسَّاس.»
وسكن الرَّجُل قليلًا، ثم نظر إلى الشيخ مُرَّة وقال له هامسًا: «يا أبا همَّام. أما إنَّها لطعنَةُ حُرٍّ أبي! أما تذكُر كيف كان كليب يَسومُنا الذُّلَّ ونحن لا نستطيع أن نرفَعَ نحوه عُيوننا.»
فانتفَضَ مُرَّة، ومدَّ يدَه مُسرِعًا فأمسك بِذِراع أبي عامر، وتلفَّتَ حوله حَذِرًا، ثُمَّ قال هامسًا: «أو ترضى يا أبا عامر؟»
فقال الرَّجُل: «أمَا وحقِّ الآلهة جميعًا، لقد وددتُ أنَّ طعنةَ جسَّاسٍ قد مُدَّتْ بها رِماح بكرٍ كلها. كان كليب طاغيةً يَحمي المراعي ويمنَعُ الماء أن نَرِدَه، ويُبالِغ في طُغيانه، فيجعل كلبَهُ يأمُر سادتنا، وما كاد أحدٌ يستطيع أن يرُدَّ عليه لفظًا.»
فتنفَّس الشيخ مُرة، وقال ولا يزال صوتُه هامسًا: ولكنها الحرْبُ يا أبا عامر! هي الحرْب الطاحِنة والبلاء العظيم.
فقال أبو عامر: أراك سكنتَ إلى الدَّعةِ يا أبا همَّام! وماذا تخشى من الحرْب وأنت فارسُ بكر العتيق؟ هل تُسلِسُ ربيعةُ القِياد لِمَنْ يكرَهُ حرَّ الجِلاد؟
فسكتَ الشيخ لحظةً يفكِّر فيما يقوله صاحِبه، واستمرَّ أبو عامر فقال: وما فضلُ تغلِب على بكرٍ حتى يَستأثِروا دُون بني عمِّهم بهذا الأمر؟ أقنَعتَ يا مُرَّة بأن تكون صِهر العزيز؟ أقنَعْتَ يا شيخَ بكرٍ بما يُلقيه إليك بنو أبيك من فَضلات عِزِّهِم؟
فصَرَّ الشيخُ على أضراسِه، ثُمَّ سحَبَ صاحِبه من ذِراعِهِ وعاد نحوَ ولَده، وكان أهدأ عندَ ذلك قولًا.
ولمَّا صار عند الجمع المُنتظر، قال يُخاطِب ولده: «نحنُ للحرْب يا ولدي! أنت مِنَّا ولن تُسلِمَك بكرٌ أبدًا. لستُ أسلِمُك حتى أُقتَل دونَك مع قَومي، أو نُشعِلها نارًا حامِيةً على قَوم الطاغِية الظالم.»
فلمَّا سمِعَ بنو شَيبان قول شَيخِهم مُرَّة، اهتزُّوا وعادت إليهم نفوسُهم، وتَصايَحوا: «يا لبكر! قتل الطاغية!»
واندفَع جسَّاس عند ذلك إلى أبيه فعانَقَه وقبَّل يديه، وقال في خُضوع وصوتُه يكاد يختنِق من التأثُّر: «لا عدِمتُك ناصِرًا يا أبي!»
ثُمَّ أخذَ رُمحه وهزَّهُ فوقَ رأسِهِ وجعل يرقُصُ رقصةَ التَّحدِّي والاعتِداد بالنفس، ويتغنَّى بأناشيدَ يدعو فيها قومَهُ إلى حربِ الطُّغاة.
وصاح مُرَّة في قومِه وقد تبدَّلَتْ لهجتُه، فقال: «يا بني شَيبان سأضرِب بأطرافِ العَوالي، وأَنْفي الذُّلَّ عن قَومي وشَرَفي، فما كانت بكرٌ لتَرْضى أن يُخفَر جوارُها أو تستكين لطاغيةٍ يُذِلُّها.»
فقال أبو عامر: «يا بني شَيبان، من يكون للحرْب إذا لم تكونوا فُرسانَها؟»
فتصاعَدَتْ صيْحاتٌ من القوم «سَنَسلُّ السيوف وندفَع الظُّلم! لقد هلَكَ الطَّاغِية! سندفَعُ البَغْي، ونَحْمي قومنا من العار.»
واختلى مُرَّةُ وأبو عامر ساعة، ثم بَعَثا الرُّسُل إلى قومِهم في شِعاب الأودِيةِ بالاستِعداد للرَّحيل؛ فقد عَلِما أنه لم يكن لشَيبانَ بعدُ مُقامٌ في جوار تغلِب، وأنَّهُم لا بُدَّ لهم من انتِظار الغدِ وما يأتي به من الأحداث.