الفصل السابع
كان همَّام بن مُرة مُختليًا بصديقه المُهلهِل عدي بن ربيعة كعادتهما يَشرَبان الخمر عند رَبوتِهما المُختارة في عُزلةٍ من قومِهما، وجلسا يلعَبان النَّردَ وهما يرشُفان الشَّراب، وانتهى الدست، وكان المُهلهِل غالبًا، فمدَّ يدَه إلى كأسِه مرتاحًا ورفعها، فنظر فيها إلى الخمر المُصفَّاة وجعل يَشَمُّها في شغف، ثم رفعها إلى فمِه وهو يضحَكُ ضحكةً ماجِنة، وقال ناظرًا إلى صاحبه: أبشِري يا أرامِلُ ربيعة! إنها جَزُور من خَير مال همَّام بن مرَّة.
فرفع همَّام كأسَهُ ليشرَبَ منها، وقال وهو يُجيبُ بضحكةٍ مثل ضحكة صاحبه: ما كانت أموال همَّام بن مُرَّة لتُباح إلَّا للأرامل.
ثم وضع الكأس وقال للمُهلهِل: دست آخَر إذا شئتَ أن تُطعِم سائر أرامِل تَغلِب.
وكان المُهلهِل قد شرِبَ كأسَهُ في جَرعة، فقال وهو يمصُّ شفتَيه: مَهلًا يا عدي! فإن حَظِّي اليوم غالب.
ووضع الكأس، وأخذ النرد في يدِه فضرب به ولعِب لُعبته، فإذا النرد يُواتيه بلعبةٍ بارعة، فصاح صيحة فرحٍ ولعب اللعبة وهو يقول: لئن طال بنا المجلِس لم أدع لك يا همَّام مالًا.
فقال همَّام وهو يضحك: أرى الحظَّ يُواتيك يا عدي منذ اليوم.
ثم رمى النرْد فخرج له أخسُّ وجوهِه، فضحك الصاحبان معًا، ورفعا كأسَيهما فرشفا منهما، ثم لعِب همام لعبته وقال: أرى السَّعد لك خِدنًا يا عدي، يُواتيك في لُعبك كما يواتيك في حُبِّك، هل رضيَتْ عنك سلمى؟
فرمى المُهلهِل النرد وهو يقول: ما أبالي إذا هي لم ترضَ عنِّي.
وكانت رميةً رابحة أخرى، فضحِك الصاحبان ضحكةً عالية، ولعِب المُهلهِل لعبته وهو يقول: أما قلتُ لك إنني لن أدعَ لك مالًا؟ أبشري يا أرامِل بكرٍ وتغلِب بجَزور أخرى من أموال همَّام!
واستمرَّ الصاحبان يَلعبان ويشرَبان حتى مالت الشمسُ للمَغيب، وكان المُهلهِل في كلِّ مرةٍ غالبًا حتى قمَر صاحبه بعشرِ جُزر من ماله ينحرُها لأرامل بكرٍ وتغلِب، ثم جلسا يَتناشَدان آخِرَ ما قيل في قبائل العرب من شعر، وجعل المُهلهِل يُنشِد صاحبه بعض ما قاله من الغزَل في صُويحِباتهما اللاتي كُنَّ أحيانًا يرضَين عنهما ويشارِكْنهما مجالس المُجون، وأحيانًا يُغاضِبْنهما ولا يَحضُرنَ مجلسهما. وفيما كان المُهلهِل يُنشد بعض شعرِه رأى صاحِبَه يلتفتُ إلى ناحيةٍ من الوادي وينظر إليها في اهتمام. فقال ضاحكًا: أراك فاترًا عن سماع الشِّعر يا همَّام، كأنَّ شعري لا يُعجِبك.
فلم يُجِبه همَّام إذ كان مُنصرفًا بنظره إلى أسفل الوادي، فالتفتَ المُهلهِل ومدَّ عُنقَه ليرى أين ينظر صاحبه، وقال له في مُجون: هل أقبلتْ سلمى؟
ولكن همَّامًا لم يُجبْه، بل قام من مجلسه وسار هابطًا إلى الوادي الذي تحتهما، فأتْبَعه المُهلهِل ببصره فرأى جاريةً تُشير إليه تستعجله أن يذهب إليها.
فقعَد المُهلهِل ينتظِر عودته وملأ لنفسه كأسًا، وأخذ يتغنَّى وحدَه بشعرِه حتى رجَع صاحبه وهو مُمتَقِع اللون مُضطرِب، يكاد يتعثَّر في خُطاه، فقال له المُهلهِل ضاحكًا: ماذا حملتْ إليك الجارية؟
فقال همَّام مُتردِّدًا وهو يُحاول الابتسام: هات لي كأسًا.
وكان الصديقان قد تعاهَدا على الصِّدق لا يُنكِر أحدُهما من صاحبه حديثًا؛ فقال له المُهلهل مُعاتبًا: أراك تكتُم عنِّي سِرَّك يا همَّام.
فقال همَّام مُرتبكًا: أما إنَّهُ لقولٌ لا أُصدِّقُه.
فقال المهلهل ضاحكًا: لعلَّها تُنبِئك بغدْر سلمى؟
فقال همَّام في وُجوم: لا أُبالي اليوم سلمى!
وكان المُهلهِل سادرًا في الخَلاعة لا ينصرِف عن أحاديث الخمر والنِّساء، فقال: إذن فهي مَيُّ أو أميمة.
فقال همَّام مُتكلفًا الابتسام: أيُّ زيرٍ أنت يا عدي!
فضحِك المُهلهِل من قوله، فما كان أحبَّ إليه أن يُلقَّبَ بهذا اللفظ الماجِن الذي سمَّاه به أخوه الحبيب كليب بن ربيعة. لقد سمَّاه زير النساء فتلقَّف الناس عنه ذلك الاسم، فما كانوا يذكرون المُهلهِل إلَّا به. ولكنَّ المُهلهِل كان يُحبُّ أن يسمَع اللَّقب الذي اختاره له الشقيق العزيز على ما به من تعنيفٍ ولَوم. وماذا عليه أن يُسمِّيَه الناس زيرًا؟ فهذا أعذَرُ له أن يَسدُر في غوايَتِه، وأحرى بأن يحمِل الناس على تركِه لنسائه وخمره، ولا بأس عليه منه إذا كان هو يفوز باللَّذَّات، فقال لصاحِبه: دعْ ذكر هذا، فأنت أولى بهذا الاسم منِّي. ولكن ماذا قالت لك الجارية؟
فلم يكن لهمَّام بُدٌّ من أن يَصْدُق صاحبه، فقال جادًّا: لقد زعمَتِ الجارية أن جسَّاسًا قتلَ كليبًا.
فضحِك المُهلهِل ضحكةً عالية، وقال وهو يملأ كأسَين: أما إنها لفُكاهة من جارية لَكاع، إنَّ جسَّاسًا لا يقوى على أن ينظُر إلى ظهر كليب بن ربيعة. خُذ هذه الكأس.
فتناوَلَ همَّام الكأس وشرِب منها قليلًا، ونظر إلى صديقه وهو يرفع الكأس ويتجرَّعُها، وشعَر كأنَّ حِملًا ثقيلًا يَنزاح عن عاتِقه، وقال له مُداعبًا: أترى لو صدَقَتِ الجارية، أكُنتَ ثائرًا لأخيك؟
فتجهَّم وجهُ المُهلهِل وقال مُتلعثِمًا: وحقِّ مَناة ليس له من كفءٍ إلَّا أنت.
فقال همَّام: أتُحبُّ أن تراني قتيلًا يا عدي؟
فتقبَّضَتْ عضلاتُ وجهِ المُهلهِل وبرقَتْ عيناه، وهزَّ رأسه في عُنفٍ وقال: والله ما أدري أيُّكما أحبُّ إليَّ يا همَّام. دعْ هذا الحديث فلستُ أحِبُّه.
فتنفَّس همَّام في حُزن، ونظر إلى صاحبه وقد مال رأسُه واختلَّت حركته، حتى صار لا يستوي من السُّكر، وكان الليل قد أقبل فنظر همَّام حوله وقال: أحسُّ التَّعَب يا عدي والليلة مُظلِمة.
فقام المُهلهِل وهو يترنَّح، وأسنده صاحبه من ذِراعه حتى ركِب فرَسَه عائدًا إلى منزله، ومضى همام معه حتى بلغَ ثَنِيَّة الوادي التي تفترِق عندها الطريق إلى مَنزلَيهما، فودَّعه وأسرعَ إلى مضارب قومه، فرآها خاليةً وقد ارتحلوا عنها؛ فهمَزَ جواده وانطلَقَ في أثرِ قومه وهو يلتفتُ بين حينٍ وحينٍ إلى ورائه في الظلام، لعلَّه يرى ضوء نارٍ يملأ به عَينَيه من الدِّيار العزيزة التي شهِدَت لذَّاتِه ووَثَباتِ لَهْوِه مع صديقه الخليل عدي بن ربيعة.
ولمَّا بلغَ المُهلهِل منازله طالَعَتْه ضجَّة من قِبَلها؛ فدار به رأسُه المخمور وخُيِّل إليه أنَّ الضَّباب يُغطِّي ناظريه، ثم رأى أمامه النساء يَندُبن ويَبكين ويَشقُقْن ملابِسَهنَّ ويَلطُمنَ خُدودَهُنَّ، فعجِبَ وحار كأنَّه في حلمٍ مُزعج، ونزل عن فرسِه يَسألهنَّ عمَّا أصابَهُنَّ في لسانٍ مُعْوَج، فكان لا يَسمعُ إلَّا صياحًا أو سبابًا، ثم رأى الرِّجال يَضطرِبون في الظلام ويَتنادَون في فزَع، وقد أقبل بعضُهم على سلاحه يكسِره، وبعضُهم على خَيله يَعقِرها، فكان ذلك كلُّه عَجبًا من أمرِهم لم يفهَم منه شيئًا إلَّا أن يكون الخَبَل قد أصابهم. ومرَّتْ في خَياله الفاتِر صورة كليب، وتذكَّر قولَ همَّام إذ قال له حديث الجارية، وساءل نفسه: أيكون جسَّاس قد قتلَ كليبًا؟ أليسَ هذا الذي يراه بعضَ أحلام الخَمْر ووساوِسِها؟
واقترَبَ من الناس يُريد أن يَسألهم، فجعلوا ينظرون إليه في ازدِراءٍ ثم يصرِفون عنه وجوههم، وسمِع قائلًا منهم يقول: لم يبقَ لنا إلَّا هذا السِّكِّير الماجن، الذي لا يكاد يُفيق.
ومضى في سَيره حتَّى بلغَ ساحة بيته، فصاح بِمَن هناك وقد عاد إليه بعض وَعْيِه: ما بالُكم تكسِرون السِّلاح؟
فأسرعَتْ إليه امرأتُه وصاحتْ به وهي حانقة: قتلوا كليبًا وأنت مُنصرِف إلى شرابِك ولهوِك!
فنظر إليها المُهلهِل في غضب، وقد وَخزتْه كلماتُها وثار الدَّمُ في رأسِه حتى ذهب عنه أثرُ الخمر، وقال لامرأته: ماذا تقولين يا امرأة؟
ورفع رأسَه واعتدل في وِقفته، وتغيَّر لونُ وجهه فصاح به القوم في غضب: قُتلَ المَنيع العزيز، فكن حيث شِئت. كن حيث شِئت، فما نراك تُبالي.
فارْبدَّ وجهُ المُهلهِل ونظر إلى قومه غاضبًا، واكتسى مَظهره عزمًا لم يعهَدْه فيه أحد، وقال كأنه يُفيقُ من حلم: «قُتلَ كليب؟»
ثم ذهب إلى جانبٍ من الفناء، فجلس على صخرةٍ ووضَعَ ذِقنَهُ على يده، وجعل ينظُر إلى القوم حينًا، وهُم في شغلٍ عنه بما هُم فيه من اضطراب وجَزَع، يكسِرون السُّيوف والرِّماح، ويَتصايَحون لكي يَبعثوا إلى الخَيل يَنحرونها؛ فاشتعل قلبه غضبًا، ودبَّتْ فيه ثورةٌ عجيبة، فوثَبَ من مقعده، وصاح صَيحةً تردَّدتْ أصداؤها في الليل المُظلِم: أيُّها الحمقى! ماذا تفعلون؟
فنظر إليه القوم في عَجَب، ورأوه يتَّجِه إليهم عنيفًا، فوقفوا ينظرون ماذا يُريد منهم ذلك السِّكِّير. ووقف رافعًا رأسَهُ وعَيناه تلمَعان، وضوء النِّيران المُلتهِبة تتلاعَب على وجهه المُربدِّ، وقال لهم بصوتٍ أجَشَّ: إنكم تَسبُّونني منذ الليلة، وما أنتم إلَّا كبعض النِّساء، أراكم تكسِرون السلاح وتقتُلون الخَيل، وأنتم الآن أحوَجُ ما تكونون إليها.
فنظر إليه الرجال لحظةً لا يُصدِّقون آذانهم إذ يَسمعون. أهذا المُهلهِل الذي يُكلِّمهم؟ واستمرَّ المُهلهِل فقال: دَعوا الحُزن للنساء، دعوهنَّ يَشقُقنَ الثِّياب ويصبُغنَ الوجوه، ويصرُخنَ ويبكين. أما أنتم فاتَّخِذوا السُّيوف وأعِدُّوا الخَيل وقوِّموا الرِّماح. دُونكم الحربُ فاستعدُّوا لحربٍ ضرُوس.
ثم ترك الناس وُقوفًا، وذهب عنهم صامِتًا مُطرقًا، يَعلوه شيءٌ من الحَنق وشيء من الخِزي، حتى إذا ما صار في بيتِه ارتمى في رُكنٍ وجعل يبكي وحده، ويَتمثَّل ما هو فاعِل إذا أصبح الصباح.
واجتمع نساء تغلِب في تلك الليلة للنُّواح في بيت سيِّد ربيعة، وعلا صُراخُهنَّ حتى تردَّدتْ أصداؤه في جوانب الشِّعاب.
وكان في وسطهِنَّ امرأةٌ طويلة القامةِ سمراء اللَّون، هيفاءُ دَعجاء، قد شقَّتْ ثِيابها، ونشرَتْ شعرَها الأسود الطويل، وعفَّرَتْ وجهها الجميل، وكانت تختلج وتهتزُّ من شدَّةِ البُكاء، وكان النِّساء يُشِرنَ إليها ويَتهامَسْنَ بين صرَخاتِهنَّ: هذه جليلة ابنة مُرَّة سبَبُ البلاء، إنما هو أخوها جسَّاس وقومُها الجُناة.
وهاجتْ إحداهنَّ فصاحَتْ في عَويلِها وهي تنظُر نحوَها: ما مُقام الأعْداء بينَ ظهرانِينا؟
فنظرَتْ جليلة بِعَينَيها المُحمرَّتَين، وقالت بين شهقاتها: إنما أنا المَفجُوعة المَكلُومة.
فصاحتْ بها أخرى في مرارة: إنما أنتِ وقومك سبب البليَّة، أخرُجي عنَّا أيَّتُها البَكريَّة.
ثمَّ تعالى الصُّراخ والسِّباب من جوانب الفناء.
فقالت جليلة وهي تنشجُ بالبُكاء: علِمَ الله ما أُقاسي وما أُلاقي! إنمَّا المُصاب مُصابي.
فعلتِ الضجَّة مرَّةً أخرى وانهالَتْ عليها قذائف السِّباب: إنما أنتِ شامِتة! إنما أنتِ عدُوَّة! ابعدي عن منازلنا! لا بقيتِ بينَنا.
فقامتْ جليلة غَضْبى، وقالت وهي لا تزال تختلِج وتضطرِب: كيف أبعدُ عن مناحةِ زَوجي؟ إنَّني صاحبتُه، وأنا التي فُجِعتُ فيه، وهذا الجَنين الذي في أحشائي يتفجَّع معي في مُصابه. ولئن كان مُصابكم واحدًا فمُصابي مُضاعف: هذا زوجي قُتل، وهذا أخي مطلوب بدَمِه؛ فنُواحُكنَّ مُصانعة ومُجاملة ونُواحي تفجُّعٌ وتوَجُّع. بعض نفسي يبكي على بعض، وبعض دمي يثور ببعض، ولو شئتُ لسِرتُ مع قَومي، ولكنِّي آثرتُ البقاء في تغلِب، حنينًا إلى قومِ صاحِبي، حتى لا يُولَد هذا الجَنين بين قَومي فيكون فيهم غريبًا عدُوًّا.
فضَجَّ النساء وزاد اضطِرابُهن، وجعلنَ يَشتُمنَ جليلةَ ويَطرُدْنها، وأقبل بعضهنَّ نحوَها يُرِدْن إخراجها دفعًا والإيقاع بها؛ فلم تستطِع إلَّا أن تخرُج، ولا تكاد تنظُر طريقَها وقد حبَسَ الحُزن لِسانها. وأسرَع عبدُها فأعدَّ لها مَطيَّة، وسارتْ حتى ركِبَتْ في طريقها، وانطلقَتْ تتبَعُ آثار قومِها وهي تقول: «واحر قلباه! قتل الحبيب، وقاتِله أخي! تَعْسًا لمَناة وويلًا لأوال.»
ثم جعلتْ تُنشِد:
وكاد الحُزن يُذهب عنها لُبَّها، وهي ثائرة وحدَها تطلُب آثار قومِها، ولا يُصاحِبها في ظلام الليل إلا عبدُها يقود ناقَتَها.
وأصبحَ الصَّباح عليها وقد أدركتِ القوم، وسارت معهم في غمرةٍ من حُزنها، وحثَّ الرَّكب المَطيَّ يَطلُبون أرضَ اليمن ليَمتنِعوا بها، ويَعتصِموا في جِبالها من تغلِب قوم كليب.