الفصل الثامن
اجتمع بنو تغلِب في نادِيهم، وقد أقبل الليل وأخذ البردُ يشتدُّ ويقسُو. وكانت النِّيران المُوقَدة في وسط الفضاء تُرسِل ضوءها على الوجوه، وتتلاعَب فوقَها في خُفوت، وتمتزِج بالظِّلال فتبدو الملامِح فيها غامِضة مُبهَمة. وكانت ظِلال الأشخاص تتراقَصُ على جوانب الكُثبان المُحيطة بالفضاء، كأنَّها أشباح مُتحرِّكة من الجان، تَخلَع على المُجتمَع رهبةً شاملة.
وكان القوم في اجتماعِهم قَلِقين لا يستقرُّ بهم حديثٌ ولا يَنْظُمهم رأي، بل كانوا مُتفرِّقين في حلقاتٍ مُتباعِدة، وقد مالتْ كلُّ جماعةٍ إلى ناحية تتناجى في حيرة وحَنَق، وتهبُّ فيهم بين حينٍ وآخر عاصِفةٌ من الهَياج، فيعلو ضجيجُهم ويَحتدِم جدَلهم ثمَّ يَعودون بعد حينٍ إلى التَّناجي القَلِق الحانِق والمُحاوَرة المُضطرِبة.
كانوا في ذلك الاجتِماع يَنتظرون عَودَةَ رُسلهم الذين ذَهبوا وراء بني عمِّهم بني بكر ليُفاوِضوهم في تدارُك الأمر ومُداواةِ الجُرح الذي أصابهم بقتل كليب، قبل أن يَسيروا إليهم بطلَبِ الثأر. وكان يظهَرُ من حديثِهم المُضطرِب أنَّهُم لم يكونوا مُتَّفِقين على رأي، ولا مُتَّحِدين في غاية؛ فكانت فيهم طائفة غَير راضيةٍ بالانتِظار تُنكِر إرسال الوَفد لمُفاوَضة العدو، وتأبى إلَّا المُبادَرة إلى القتال في طلَب الثأر، لا ترضى بِهَوادةٍ ولا مُسالَمة. على حين كانت طائفة أُخرى تُشفِق منَ الحرْب ووَيْلاتها، وتُنادي بالأناةِ والصَّبر مُؤمِّلةً أن ينزِل بنو عمِّهم البَكريُّون على حُكم العدل والإنصاف، فيُجيبوا إلى ترضِيةٍ شريفةٍ تطمئنُّ لها نفوسُهم، وتقنَعُ بها كرامتُهم.
وكانت هذه الطائفة تُظهِر في جِدالها الحانق أنها لا تُريد الحرب أنَفةً من زعامة ذلك السِّكِّير الماجن، عدي بن ربيعة «المُهلهِل»، ذلك الذي عرفتْه تغلِب كلها، لا يقطَعُ يومَه إلَّا على نَومٍ من أثر الخمر والنِّساء، ولا يقطعُ ليلَهُ إلَّا على مجلِسٍ للخمر والنِّساء. فهل كان مِثل هذا الخليع ليَخلُف كليبًا على زعامتهم؟ وهل كانوا لِيُلقوا قِيادهم إلى ذلك الشابِّ المُعجَب بجماله، التَّيَّاه في نَعيمه، الذي لا يُحسِن إلَّا المُناغاة والتَّغنِّي، والذي جعل وَكْدَه المُنادمة والغزَل؟ هل كانوا لِيأتَمِنوا مثلَ ذلك الشابِّ الداعِر على عزِّ تغلِب ومجدِها؟
وكان في صدْر النادي فارِس تغلِب أبو نُويرة، يجلِس مُحتَبِيًا بسيفِه، وتكاد لِحيته السَّوداء تلمِس رُكبتَيه وهو مُطرِق لا يلتفتُ إلى من كانوا حَوله، وكان ضوء النار المُلتهِبة يقَع على وجهه فتظهَر فيه أخاديدُه ونُدوبُه سوداء تكاد تملأ صفحته، وكان يسمع ما يتقاذَف به الشُّبَّان والشُّيوخ من عِبارات المُجادَلة، وهو يتغطرش فلا يدخل في شيء من أحاديثهم الحانِقة.
كان أبو نُويرَة يفكر عند ذلك حزينًا فيما تئول إليه أمور تغلِب إذا هي تعجَّلت الحرب، فإنه لم يكن إلَّا أبا عشيرةٍ بين العشائر، لا يَستطيع أن يقود عشيرتَهُ إلى الحرب وحدَها. وقد علِم أن تغلِب قد انفرَط عِقدُها فلا تستطيع أن تجتمِع على واحدٍ من فُرسانها، ولم يَجِد حوله من شُبَّان تغلِب أو كهولها من يستطيع أن يلمَّ الشَّمْل حوله، ويقود قومه جميعًا إلى النصر.
كانت تغلِب قد استَنامَتْ إلى بطولة أميرها وسيِّدها كليب بن ربيعة الذي فُجعوا فيه منذ يوم، وكان كليب مُستأثرًا بالزَّعامة والقِيادة والبطولة، فلم يدَعْ لغَيره مَجالًا إلى جواره. كانت تغلِب كلها رعيَّةً له تُطيعه إذا أمر، وتسير وراءه إذا سار، وتتَّجِه معه حيثما أشار، فلم ينبُغ فيهم من تعوَّدَ الأمر والقيادة، ولم يعتَدِ الناس أن يَلتفُّوا حَول أحدٍ من رؤسائهم، إذ كان كليب لا يدَعُ لأحدٍ منهم رِياسةً ولا سُلطانًا ولا جاهًا. كان يَستأثِر بالسُّلطان كله في غيرة؛ فلا يرى أحدًا من فُرسان قَومه يرفَع رأسَهُ إلى زعامةٍ حتى يبطِشَ به ويُذِلَّه ويَنزِع منه كلَّ مَطمعٍ فيها. فلم يكن في عشيرة كليب من هو جَدير بأن يقود الناس في تلك الأزمة الشَّديدة. لم يكن له ولد، ولم يكن في إخوتِه من يستطيع أن يَسدَّ مَسدَّه، فهذا هو أخوه عدي المُهلهِل لا يقطَع أيامه وليالِيَه إلَّا على مواعيد في مجالس اللهو والشراب. وماذا يستطيع مثل المُهلهِل الماجِن أن يصنَعَ إذا الحرْبُ شمَّرَتْ عن ساقها، وفتحت أفواه المَوت لفُرسانها؟
كان أبو نويرة يُفكر حزينًا في مصير تغلِب. وما كان له أن يُسارع إلى حربٍ لم يكن قومه مُستعدِّين لها، وكان يرى أنَّ الحرب إذا وقعَتْ لم تلبَثْ أن تكشِفَ عن تغلِب سِرَّ العزِّ الزائف الذي أسبَلَه عليها بطلُها. كان الحُزن يأخُذ على أبي نُويرة أسباب التفكير وهو جالِس في صدْر النادي ينتظِر عَودة الرُّسل الذين ذهبوا لمُفاوَضة بني بكر في مُصالَحة بني عمِّهم وإرضائهم في مَقتِل سيِّدهم.
وكان كلَّما سمِع ضجَّةَ الشُّبَّان وسبابهم وثورة مُجادلتهم تحرَّك في مَوضعه مُتألِّمًا، يُحاذِر أن ينطِق بحرفٍ خَوْفَ أن تنفجِر حفيظتُهم فيَجرِفهم المُهلهِل معه إلى الحرْب في رُعونة، وهم لا يُدرِكون ما يُدرِكه ولا يَعرفون ما يعرِفه. لقد عركَتْهُ الحوادِث في حياته وحلَب الدَّهر أشطُره، وجرَّب من الأمور ما لم يُجرِّب هؤلاء الأغرار — ذلك المُهلهِل الماجِن وشُبَّانِه الذين معه — هؤلاء الأُلى يَتحرَّقون إلى خَوض الحرْب قبل استِعار لهيبِها، حتى إذا ما أوقَدوا نِيرانها كانوا أسرَعَ الناس إلى الجَزَع منها.
ولكنَّهُ لم يقدِر على أن يبقى على صمتِه طويلًا؛ فإنَّ الجِدال بين الشُّبَّان والشُّيوخ قد حَمِيَ وأوشكَ أن يَصير إلى نِضالٍ وعِراك. ولم يُطِق المُهلهِل البقاء في النادي، فخرَج إلى الفضاء ينتظِر عَودة الرُّسُل في قلق، وتبِعَه بعضُ أصحابه من شباب القوم وهم يَسخطون ويَسخرون. ثُمَّ نهضَ شابٌّ يُريد أن يتبَع المُهلهِل فقال في تَهكُّم: ماذا تنظُرون هنا أيُّها القوم؟ إنَّ الوفْد الذي بَعثناه لكي يركَعَ عند قدَمَي بكرٍ سائلًا أن يَمُنُّوا عَلينا بالصُّلْح لم يَعُد إلينا منذ ثلاث، فلنذهَبْ إلى بُيوتنا، فما نحنُ بأهلٍ للحُروب؟
فتحرَّك أبو نُويرة قلقًا، وحاوَل أن يُمسِك عن الجواب، ولكن قام بعدَه شُبَّان يُريدون الخُروج وراء المُهلهِل، وأوشك الجَمْع أن ينفضَّ من حول أبي نُويرة.
فأشار إليهم بِيدِه أن يَتريَّثوا، ثُمَّ قام يتكلَّم فقال: لقد علِمتُم يا معشر تغلِب أنَّني أبو نويرة، أوَّلُ فُرسانكم عندَ اللقاء، وآخِرُهم عند اقتِسام الفَيء. وعلِمتُم أنَّني كنتُ عند كليب بن ربيعة في أكرم مكان، فما أُصيبَ فيه بعدَ المُهلهِل وقومِه أحدٌ مثلَ مُصابي. ولو كان أحدٌ من تغلِب يتحرَّقُ قلبه على طلَبِ الثأر، لكنتُ أنا ذلك الرَّجل قبل سواي، ولكن الحربَ تُحطِّم وتَفتِك؛ فإذا هي كشَّرَت عن أنيابِها وشمَّرَت عن ساقِها جمَحَتْ فلَنْ يَملِكَ أحدٌ أن يَكبَحَها. ولن يَستطيعَها إلَّا من عَركها وصبَرَ على حدِّ نابِها. وإني أُشفِقُ عليكم منها إذا أنتُم سارعتُم إليها وراء هذا الفتى الذي عرفتُم أمرَه؛ فهو لن يلبَثَ أن يَحنَّ إلى مُجونِه ويَذوبَ شَوقًا إلى خمره ونِسائه. والحربُ لا يَقوى عليها مثلُ ذلك السادِرِ في لَهْوه، الذي لا يكاد يُفيق من شَرابِه.
فتعالت من جوانب الوادي هَمهمَةٌ وتجاوَبَتِ الأصوات فيها بالجِدال العنيف والسِّباب، وهَمَّ بعضُ الناس إلى بعضٍ بالسُّيوف.
فصاح أبو نويرة غاضِبًا: على رِسلِكم أيُّها الفِتيان! فما هذه إلا طلائع الخِذلان.
فقام شابٌّ من أقصى النادي يهزُّ رُمحَه في يدِه وصاح: لقد حمَلْتَنا على الدَّنِيَّة، ورضيتَ لقومِك الذِّلَّة. هذه بكر ترفَع ذَيلها وتتمنَّع. وهل كان جديرًا بنا أن نأخُذَهم بغَير السَّيف؟ ما هذه الثرثرة التي لا تَزيدُنا إلَّا ذُلًّا. أمَا إنَّنا سنصيرُ في العرَب مُثلةً أو أُحدوثة؛ إذ وَترَنا قومٌ في عزيزنا فبَعثْنا وراءهم نَسألُهم أنْ يَمنُّوا بالسَّلام علينا. أيُّ عارٍ جلبتُم على قومِكم يا شُيوخ تغلِب!
وعلا الضَّجيج مرَّةً أخرى، وتزايدَتْ ألفاظ السِّباب.
فقام أبو نُويرة وأشار بيدِه حتى سكتَ الناس، فقال في صوتٍ هادئ تُشبِه نغْمتُه أن تكون اعتذارًا: لقد كان حقًّا علينا أن نُعذِرَ إلى بني عمِّنا قبلَ أن نبدأ حربَهم. ولقد عرفتُم أنَّ العرَب لا ينصُرون الظالِم، ولا يُؤازِرون من اعتدى. لقد قَتل جسَّاس كليبًا، وذهب إلى الناس يزعُم أنَّهُ ما ثار عليه إلَّا لطُغيانِه وما قَتَله إلَّا لظُلمه. وذهب الناس عنه بين مُصدِّقٍ ومُكذِّب. فإذا نحن عَجَّلنا إلى الحَرْب بادئ البَدء لم نذهبْ إلَّا بكلمةٍ مَصدوعة ورأيٍ مُتفرِّق. فإذا كُنَّا قد آثَرْنا أن نُرسِل إليهم رُسلنا، فما هذا إلَّا لكي نُعذِرَ إليهم، فنكون بهذا قد قُمْنا بما يجِب علينا من رِعاية الحُرمة، وحِفظ الحقِّ الذي يُوجِبُه الرَّحِم بيننا وبين بني عمِّنا. فإذا هم أبَوا أنْ يَنزلوا على حُكم الحقِّ ويُرضُونا بالقصاص من الكُفء؛ إذا هُمْ أبَوا أن يُسلموا إلينا جسَّاسًا نقتُله في ثأرنا، سِرْنا إليهم وكُنَّا عند ذلك يدًا واحدة، وسنرى قبائل العرَب عند ذلك من ورائنا تشُدُّ أزرَنا، وتقوِّي عضُدَنا. ولعلَّ قبائل بكرٍ لا تُجمِع على الظُّلم، فيقْعُد بعضها عن حربِنا، فإذا لاقَتْنا شَيْبان وحدَها بعدَ هذا، كان الحقُّ يخذُلها، ولم تَجِد مِن ورائها من العَرَب من ينصُرُها.
ولمَّا انتهى من مقاله ارتفعتِ الأنظار إليه شاخِصةً لا تطرُف، كأنَّها تُحملِق فيما وراء الأفق البعيد تَستشفُّ ما وراءه. وبقي أبو نويرة صامتًا يُدير بصرَه في القوم لحظة، ثم همَّ أن يعود إلى القول ليُتمَّ ما بدأه من الأثر، فإذا صوتٌ يعلو من ناقةٍ تحنُّ وترغو في أنينٍ مُتقطِّعٍ عميق، تحمِله الرِّيح في الليل الساكِن من بعيد؛ فسكت أبو نويرة وأصغى إلى الصَّوت، وسكن الجَمْع في مَجالِسه يُنصِت، فقد عرَفوا أن تلك ناقَةُ الحارِث بن حي أحدِ الرُّسل المُوفَدين إلى بكر، وكانت الناقة والِدةً في الحيِّ تركتْ فصيلها، فما كادتْ تعود وتقترِب من مَوضِعه وتَشَمُّ رائحته حتى ضجَّت له بالحنين.
ومضى بعد ذلك حينٌ خرجَ فيه جماعة يتلقَّون الوفد، وبقِيَ آخرون ينتظرون حتى أقبل الرُّسل وأناخُوا إبلهم وأتَوا إلى النادي، يُحيط بهم جماعة الشُّبَّان ومعهم المُهلهِل مُشرِقَ الوجهِ مُتهلِّلًا.
ولمَّا سلَّم القوم واطمأنُّوا في مَجالِسِهم حولَ النار بينَ الكُثبان قام أبو نُويرة ببطءٍ وهدوء، وقال يُخاطِب كبير الوفد الحارث بن حي: إذًا صدَقَ الظنُّ وأصاب الحِسُّ؛ فقد عُدتُم من بكرٍ بسيوف مُصلَتة ورماح مُشرَّعة.
وساد الصمتُ لحظة، ثم رفع الحارث رأسَهُ وتكلَّم بصوته العميق وهو مُطرق فقال: سيَعرفون غدًا أنَّهم ظلموا وما عدَلُوا، وستُقيم تغلِب حقَّها على حدِّ السَّيف، وتَنال منهم بالقَسْر ما أبوا بالسَّلام.
فتحرَّك الشُّبَّان في مَجالِسهم قَلِقين، وهمُّوا بالوثوب غاضِبين، فقال أبو نُويرة يُخاطِب الحارث: ألم تُنصِف بني عَمِّك يا أبا حي؟
فقال الحارِث في تَردُّد: لقد أنْصَفْنا بني عمِّنا فما أنصفوا، طلبْنا إليهم أن يُسلموا إلينا جسَّاسًا نقتُله في كليبٍ فنحقنَ بذلك بَيننا الدِّماء، فقال أبوه مُرَّة: «إنه ركِبَ فرسَه وضرَب في الأرض وهم لا يَدرُون أيُّ البلاد انطوَتْ عليه.» فطلَبْنا إليهم أن يُسلموا لنا أخاه همَّامًا، فهو كفءٌ كريم نقتله بقتيلنا، فقال مُرَّة ساخرًا: «إن همَّامًا أبو عشيرةٍ وعمُّ عشيرةٍ وأخو عشيرة، كلُّهم بطل فارس، ولن يُسلموه لو أردتُ أن أدفَعَه إليكم لتقتلوه بِجريرةِ غَيرِه.» فقُلنا للشيخ: «إذن فقد رَضينا بك أنت لتكون مُطفئًا لثأرِنا.» فقال الشيخ في عناد: «والله لا أُسلم نفسي قبل أن أجُول في الحَرْب جولةً وأموتَ مُناضِلًا.» ثُمَّ قال في كِبرياء وغلظة: «ولكنِّي أعرِضُ عليكم غير هذا، أُعطيكم ألفَ ناقةٍ سُودِ المُقَل لتكون دِيَةً كريمةً لقتيلكم!»
وسكتَ الحارث لحظةً وقد بدا على وجهه الغَيظ، وانفجَرَ الجُلوس في غضبةٍ واحدة، فلم يَستقرَّ أحد منهم جالسًا، ولم يَبقَ فيهم أحدٌ صامتًا.
وصاح المُهلهِل وقد كان إلى ذلك الوقت ساكنًا: «وا كليباه! تُقتَل وأنت العزيز في ثأرِ ناقةٍ عَجْفاء، ثُمَّ لا يُبذَل في دَمِك الغالي سوى الجُزُر. وا كليباه! هل كُنتَ لِتُباع بالنِّياق ليَشرَبَ القوم ثَمَنك لبنًا؟»
وعَلَتْ على أثَرِ قوله ضجَّةٌ تَصُمُّ الآذان. وتصايَح الشُّبان من جوانب النادي: «ويلٌ لبكر! الحرب والفناء لبكر!»
ثُمَّ نظروا إلى المُهلهِل وقد علا وجهه بَريقُ الانتصار، فقام ليَتكلَّم، واتَّجَهت إليه الأنظار فقال: «لقد عَلمتُم أنَّ كليبًا كان لكم عزًّا ومجدًا، به سُدْنا وبسيفه انتصَرْنا وعلَتْ كلمَتُنا، ولقد أكلَ الحسَدُ قلوب أعدائكم فلم يَجدوا لكم رِزءًا أشدَّ عليكم من فَقْد كليب، ولم يعرفوا جُرحًا أوجَعَ فيكم من طعنةِ فُؤاده، فهم إذا أصابوه لم يَقصِدوا إلا مَجدَكم، ولم يَطمَعُوا من وراء مَقتلِه إلَّا أن يَسودوكم. فوَحقِّ مَناة وأوال، وحقِّ السيف والرُّمْح، وحقِّ المُصاب الفاجِع، والظلم المُوجِع لنأخذنَّ بثأرِ كليبٍ حتى لا يبقى في بكرٍ مَوضعُ ثَأْر، ولنأخُذنَّ بحقِّه كاملًا، حتى لا يبقى عضو منه أو جارحة لا نَثأرُ لها، بل لنأخُذنَّ بثأر الشَّسْع الذي كان يربِطُ به نعْلَه، نقتُل به عزيزًا منهم وسريًّا من سُراتِهم.»
وكان الغضب قد بلغ منه عند ذلك مَبْلغ التوقُّد، فاحمرَّ وجهه وتقبَّض، ولمعَتْ عَيناه لمعانًا وَحْشيًّا، وتصلَّبَتْ أعضاؤه وهو يُشير بيدِه مُهدِّدًا. وسَرَتْ عَدْوى غضبِه إلى الحاضرين، فلاحتْ على وجوههم علائم الثورة، واكتسَتْ جِباههم بظلال الدماء، ونظروا إليه وقد ملأهم العَجَبُ أن يكون هذا الثائر المُتوَثِّبُ عدي بن ربيعة «المُهلهِل»، الذي كان لا يعرِف إلَّا الخمر والتغنِّي بالنساء.
ولم يشعُر القوم وهم في هذه الثورة بقُدومِ جماعةٍ أقبلتْ عند ذلك، ووقفتْ عند طرفِ الجمْع لتسمع آخِر مقالةِ المُهلهِل، وتشهد الغَضْبة الشاملة التي عمَّتْ نادي تغلِب في تلك الليلة.
ولما خمدَتْ حدَّة الثورة تقدَّم الوافدون نحو المُهلهِل ومدُّوا إليه أيديَهم بالتَّحية، وقال كلٌّ منهم له كلمةَ تعزِيَة، ثم ذهبوا نحوَ أبي نويرة فرحَّب بهم وفسَّح لهم المَجالس في صدر المكان، وعاد الهدوء بعد قليلٍ إلَّا همَسات بين الجالسين يُعرِّف بعضُهم بعضًا بهؤلاء الوافِدين.
وبعدَ قليلٍ وقف أبو نويرة فأشار بيده إلى الجمع أنه يُريد الكلام، ثم قال كلمةً رحَّب فيها بالمُقبلين، وشكر لهم سعيَهم بالعزاء، وصمَتَ لحظة، ثُمَّ أشار إلى كهلٍ من الضيوف قائلًا: «بطلُ بني بكر الحارِث بن عُباد.»
فتطلَّعَتِ الأنظار إلى الرجُل الذي أشار إليه أبو نويرة، وكان رجُلًا طويلًا قد وَخَطَ الشَّيبُ لِحيته، ولكن قامته المُعتدلة وبغاء جِسمه المتين، واتِّزان حركاته وهدوءها كانت تنمُّ عن أنه زعيمٌ اعتاد أن يقود وأن يُغامِر، وأن يأمُر وأن يُطاع. وبعد لحظةٍ من السُّكون قال أبو نُويرة يُخاطب ابن عباد: «إذ شئتَ يا أبا ضَبْعة.»
فوقف الحارث مُتَّكئًا على رُمحه، وتكلم وفي صوته رنَّة من الحزن فقال: «يا أبناء العمِّ من تغلب! لقد علمتُم ما كان مِمَّا لا حيلةَ فيه. وكان فقْدُ كليب مُصابًا جليلًا، عمَّنا معاشِر بني بكر كما عمَّكم، وأصاب أفئدتنا كما أصاب أفئدتكم، وكُنَّا نرجو أن يُنصِف إخوانُنا بنو شَيبان من أنفُسِهم، فيحقنوا الدماء ويُخمِدوا نِيران حربٍ لا يُصيب فيها الرجل إلَّا أخاه، ولا تَقطَعُ فيها يمينُ المرءِ إلَّا يُسراه. ولكنَّ بني شَيبان لم يُنصِفوا ولم يَعدِلوا، ولجُّوا في العِناد وأصرُّوا على البغي، فلا حاجةَ بنا إلى نُصرتِهم، ولا رغبةَ فينا إلى مُؤازرتِهم، فنحنُ بعد اليوم بِمَعزل، وإنْ كُنَّا لا نملك أن نُحارِبَهم معكم، فلسْنا بناصِريهم عليكم؛ ولهذا عزمتُ على أن أكسِرَ سِهامي وأنزِعَ الوَتَر عن قَوسي، وأسيرَ بأهلي ومن أطاعني لأبعدَ عن هذه الفتنة. ولعلَّ إخواننا يَجدُون بعد الغيِّ هُدًى.»
ثم قعَد إلى جوار أبي نويرة يبن همهمةٍ خافِتة تنمُّ عن ارتياحٍ وشُكران.
وتعاقَبَ بعد ذلك الخُطباء من الوافِدين، بعضهم من قبائل بكر الأخرى: بني عِجل وحنيفة ويَشكر، تُعلِن الانفِضاض عن إخوانِهم بني شَيبان أو الانتِصار لتغلِب ومُؤازرتها، وبعضُهم من فروع النَّمِر بن قاسِط، جدِّ بكرٍ وتغلِب الأعلى، وقد جاءوا لنُصرة بني أبيهم التَّغلِبيِّين على بني أبيهم البَكريِّين الذين تَمادَوا في البغْيِ والظلم.
وهكذا صارتْ قبائل ربيعة كلها يدًا واحدة تُطالِب بدَمِ بطلِها، وأصبحتْ شَيبان في عُزلةٍ تستعدُّ للمُقاوَمة وحدَها، والدِّفاع عن جريمة ولَدِها الثائر الباغي جسَّاس بن مُرَّة.
ولما همَّ المُجتمِعون بالانصِراف بعد ذلك وقف عدي بن ربيعة «المُهلهِل» في سكون، وأشار بيدِه إليهم قائلًا: على رِسلكم يا بَني أبي!
فوقف القوم ينظُرون إليه، وكانوا عند ذلك أكثر إقبالًا وأسلسَ أسماعًا. فقال: «لقد علمتُم ما كنتُ عليه من ضلالٍ وغي، وانصِرافٍ إلى اللهو والمُجون. لا أُنكِر ذلك، ولا حاجة بي إلى نُكرانه، ولستُ أُدافع عن نفسي ولا أُبَرِّئها؛ فقد كنتُ سادرًا في ظِلِّ كليب، كفاني بِشجاعتِه مَئونة الجِد، وصَرَفَني جاهُه إلى اللَّهو في غَير قصد، ولكن قتلَه سلبَني حِمايتَه وأفقدَني جاهَه. وعليَّ أن أقطعَ سائر أيامي في قضاء دَينِه والوفاء له. وقد آليتُ منذ اليوم على نفسي، وعقدتُ بينكم مَوثقًا، أنَّ الخمر عليَّ حرام لا أذوقُها، وأن النِّساء عليَّ حِمًى لا أقربُه، وأنَّ الطِّيب لا يمَسُّ جِلدي، وأنَّ الماء لن يَبلَّ جَسَدي حتَّى أثأرَ لِكُليبٍ ثأرًا تَطيبُ له نفوسُكم …» ثُمَّ تردَّد قليلًا وقال بعدَ صمتٍ قصير: «وتَطِيبُ له نفسي.»
ثم سار مُطرِقًا وسار القَوم في إثرِه أجمَعين، وقد تمثَّلَتْ على وجوههم عزيمةُ الجدِّ وطلَب الثأر.