الفصل التاسع
كانت حربًا عنيفةً ليس فيها بُقْيا ولا هَوادة. كانت تغلِب تتعقَّب شَيبان أينما تحل، لا تترُك لها مُتنفَّسًا من الراحة، فإذا انتهتْ من وقعةٍ وانحازت شَيبان إلى منزلٍ بعيدٍ لتُداوي جِراحها وتُصلح سِلاحها، وتجمَّ خُيولها، فاجأها بنو عمِّها قبل أن تطمئنَّ في مُقامها الجديد، فيُوقِعون فيها وقعةً جديدة أشدَّ عليها وأنكأ لجِراحها. وكان المُهلهِل لا يفتأ يَذكُر أخاه في ليلِهِ ونهاره، ويَبكيه في شِعره، فلا يكاد قومُه يعودون من القتال حتى يُذمِّرهم ويُحرِّضهم، فيَثِبون معه إلى حيث يمضي بهم. وقد أسلموه قِيادهم واتَّبَعوه، لا يُجادِلونه في رأيٍ ولا يعصُونه في أمر؛ فقد وجَدوا فيه قائدهم الذي يَسبقُهم إلى الصدر، ويُفرِّق لهم صفوف العدو؛ يضرِب حانقًا، ويندفِع في غِمار الجموع ثائرًا، يطحن ويُمزِّق ولا تزيد أحقاده مع تمادي الحرب إلَّا اشتعالًا. وألِفَت تغلِب القتال حتى كأنَّهم يَجدون المُتعةَ في مناظر الدِّماء وضجيج الهَيْجاء.
وتزحزحَتْ شَيبان عن منازل اليَمن إلى اليمامة، ثُمَّ تزحزحَتْ حتى بلغَتْ أطراف القَفْر، تلتمِس النَّجاة من العدوِّ المُلِح، لعلَّ المُهلهِل يخشَع عنها بعد أن نال منها ما نال في وَقعاتِه العَنيفة. وحسِبتْ أنه يَستوحِشُ من تلك الفَلَوات، فلجأتْ إليها على ما تتجشَّم فيه من قسوة الحياة.
ولكنَّها لم تلبَثُ أن سمِعَت أنَّ عدُوَّها لا يزال يزحَف إليها، ويخترِق في سبيله الفدافِد الوَعْرة التي ظنُّوها تَحميهم وراءها.
وكان يومًا شديد الحرِّ من أيَّام الصيف عندما سمِع مُرَّة شيخ بني شيبان أن المُهلهِل قادِم في غزوةٍ جديدة مُغِيرًا بقومه تغلِب وحُلفائه من قبائل بكر والنَّمِر بن قاسط. وكان بنو شَيبان عند ذلك نازلين بآخِر مَنزلٍ حلُّوا فيه بعد هزائمهم المُتكرِّرة، فضربوا خِيامهم عند عَين واردات في أطراف اليمامة، بعدَ أن هجروا رياضَ نجد وأوديَتَها الخَصيبة منذ غلَبَهم عليها بنو عمِّهم في الوقائع الماضية؛ وقائع النِّهي وعُنيزة والذَّنائب. وكانوا لا يجِدون في وادي واردات إلَّا أقلَّ المراعي كلأً، وأشحَّ العيون ماءً، وأشدَّ البلاد حرًّا وإقفارًا، ولكنَّهم كانوا لا يَزالون يَأبَون النزول على حُكم عَدُوِّهم، وإن كان عدَدُهم قد صار إلى القلة، واضمحلَّ أمرُهم وضاعَتْ أموالُهم في حُروبِ تلك السنين الطويلة.
ووقَع نبأ الغارة الجديدة على الشَّيخ مُرَّة وقْع الصاعِقة؛ لأنه كان يعرِف قلَّةَ عدد فُرسان قومه، وكثرة المُتألِّبين عليهم من فُرسان القبائل الأخرى. وزاد في شدَّة الأمر عليه أنَّ سنواتِ الحربِ كانت سنواتِ جدْبٍ ذهبتْ بأكثر الأموال، وأنَّ السماء لم تُسعِف الشتاء المُنصرِم بما يُحيي المَراعي ويُسمِّن البهم ويدرُّ الألبان. وجعل يُقلِّب وجوه الرأي فيما هو صانِع في تلك الغارة؛ أيقِف مرَّةً أخرى لعدُوِّه القوي، أم يَستعدُّ للنُّزوح إلى فيافي الدَّهناء المُخيفة؟ وفيما هو في ذلك الهَمِّ الشاغِل أقبلَ عليه ولدُه جسَّاس مُسرعًا، فرفَع الشيخ بصرَه إليه صامتًا وهو يعبَثُ بلِحيتِه البيضاء بأصابِعه النَّحيلة في شيءٍ من الاضطِراب. فوقف جسَّاس لحظةً ينظر نحوَه وقد امتلأ قلبُه شفقةً على ذلك الشيخ المُتهدِّم، الذي ما زال يحمِل هموم قومه تلك السنين الطويلة بما فيها من الهزائم والمِحَن، وكان يُحسُّ بجريمته، إذ كان السَّبَبَ في إثارة تلك الفِتَن وإنزال تلك الكوارِث بقَومه. واقترَبَ من الشيخ فجلس القُرفُصاء إلى جواره، وقال بصوتٍ خافتٍ فيه رنَّة الرَّحمة: «أبي!»
فلم يُرِدِ الشيخُ أن يُظهر شيئًا ممَّا كان في نفسه من الهم، فأسرَع مُجيبًا في هدوء: «لعلَّك قد علمتَ بنبأ تَحرُّك القوم نحوَنا يا جسَّاس.»
فقال جسَّاس بصوتٍ مُتردِّد: «هذا ما جئتُ أُحدِّثُك فيه.»
ومضت لحظةٌ قصيرة عليهما في صمت، ثُمَّ قال جسَّاس: «لقد رأيتُ يا أبي ما جلبتُ على قَومي من المصائب، وقد بدا لي اليوم عِظَم جُرمي عليكم وشناعةُ مَضرَّتي لكم؛ كنتُ شابًّا نَزِقًا لم أعرِف مَغبَّةَ عملي وعاقِبة تَهوُّري، حتى مرَّتْ بنا هذه الأحداث وتطاولَتْ علينا مُدَّة الحرْب هذه السنين، فعلِمتُ الحقَّ بعد أن تفلَّتَ الأمرُ من الأيدي، ورأيتُ أنني كنتُ كما وصفتَني يومَ قتلتُ كليبًا، جانيًا مَشئومًا مَنكودًا. علمتُ أنَّني لم أُحرِز لقَومي عزَّةً بقتْلِ كليب، بل أذهبْتُ عنهم عِزَّتهم، وفرَّقتُ كلمتَهم وأفشيتُ فيهم الثكل والوَيل.»
فلم يُجِب الشيخ على قوله بكلمة، بل ظلَّ مُطرقًا وهو يعبَث بلِحيتِه، وساد الصمتُ حينًا آخر، ثم استمرَّ جسَّاس قائلًا: «وقد عزمتُ يا أبي على أن أحمِل جريرَتي دُونكم، وأبذُل نفسي في فدائكم، لعلِّي أنقَعُ غُلَّةَ ذلك الصَّديان الذي لا يَرتوي من كلِّ ما أراق من دِمائنا.»
فرفعَ الشَّيخ رأسَه مُسرعًا وقد بغَتَهُ ذلك الرأي الجديد، وقال مُندفِعًا: «ماذا تقول يا جسَّاس؟»
فاستمرَّ جسَّاس يتكلَّم فقال: «لقد عزمتُ على أن أذهب إلى المُهلهِل وأُسلِّم إليه نفسي، لعلَّه يقنَعُ بي ويَنصرِفُ عنكم.»
فقال الشيخ وفي صوتِه غضْبةٌ ثائرة: «أبعدَ إذ كان ما كان؟ أبعدَ أنْ قُتِل من وَلَدي وقَومي من قُتِل في سبيل الحِفاظ والكرامة تُسلم نفسك إليه؟ أَتُلحِقُ بِنا المعرَّة التي كرهناها، وتُنزِل بنا الصَّغار الذي أَبَيْناه؟ وما لذَّةُ الحياة بعدَ من ذهبوا؟ وهل يَحلُّ بنا بعد اليوم إلَّا مثل ما حلَّ بقومِنا بالأمس؟ لقد أَبَيْنا أن نُسلمكَ لهم ونحنُ أعِزَّة، فلن نُسلمك لهم ولم تَبْقَ لنا عزَّةٌ نحرِص عليها. ليس بينَنا وبين المُهلهِل إلَّا الفناء.»
وكانت العزيمة الصارِمة التي في صَوته لا تدَعُ مجالًا للمُراجعة.
فنظر جسَّاس إلى وجهه المُجعَّد لحظة، وخفَقَ قلبه حُزنًا إذ رأى عليه أثَرَ الهمِّ الذي يُضمِره في قلبه، وأحسَّ أنه لا يزال الابن الصَّغير الضَّعيف أمام ذلك الأب الشيخ القويِّ الفتي. ولم يستطع إلَّا أن يغضَّ بصرَه وأطرَقَ إلى جواره مُوزَّع النفس كاسفًا.
ومضتْ لحظة أخرى في صمت، ثم استأنف جسَّاس القول، وكان في هذه المرَّةِ أكثر تَردُّدًا واضطِرابًا. قال: «إذا كُنتَ يا أبي قد عزمْتَ على المضيِّ في هذه الحرب فلا أرى لك أن تَبقى ها هنا.»
فقال الشيخ في هدوءٍ وقد نظَر إليه فاتِرًا: «وإلى أين نذهب إذا لم نُقِم ها هنا؟ لقد اضطُررْنا إلى هذا المُقام اضطرارًا، ولم يبقَ لنا بعد هذا الموطن إلَّا الفيافي القاطعة، ولن يكون لنا فيها إلَّا العَذاب ثُمَّ الهَلاك. وإذا كان ولا بُدَّ لنا من الموت فليكُنْ على ظُهور الخَيل والسُّيوف في أيدينا.»
فقال جسَّاس وقد زاد اضطِرابًا وتردُّدًا: «لقد بدا لي رأيٌ إذا أحببتَ أن تَسمَعه.»
فقال الشيخ ولا يزال فاتِرًا: «قُلْ ما بدا لك يا ولدي.»
قال جسَّاس بصوتٍ خافت: «نَحمِل نِساءنا وأطفالنا ونَتسلَّلُ في أودِيَةِ اليَمامة حتى نبلُغَ مَنازِل تغلِب من وراء ظهورهم، فنتقوَّى بما عندَهم من أموال، وإذا رجَعوا إلينا بعد حينٍ ليَحمُوا حُرَمَهُم قابلْناهم وقد استرحْنا وهُمْ في جهدِ السفر الطويل.»
فتحرَّك الشَّيخ حركة ضَجَرٍ في مجلسِه وقال في لهجةٍ قاسِية: «تذهب إلى مَنازل تغلِب؟ وماذا نَجِد هناك سوى النِّساء والصِّبية، أو كلِّ ضعيفٍ من الشيوخ والمرضى؟ أتُريد أن تُعيد علينا مَعرَّةً فَوقَ معرَّة؟ ألَا تَذكُر يوم قَتَلَ (ابنُ غَنم) المرأة التَّغلِبيَّة؟ ماذا جَرَّ علينا قَتلُ المرأة غَيرَ العار الذي لا يزال لاحِقًا بابنِ غَنم وأهله وقَومِه؟ دعْ عنك هذا فإنَّك إن تَنصُر عدوَّك بمِثلِ هذا البغي. إنَّنا لو فعَلْنا ذلك الذي تُشير به لَما زاد علينا العرب إلَّا غضبًا، وكفانا ما جَلبْنا على أنفُسِنا من عداوة الأقوام.»
ولم يَطُلِ الحديثُ بعد ذلك بين الأب وابنه، فقد أقبل همَّام بن مُرَّةَ مُسرِعًا على فرَسِه وهو يُلوِّح بشملتِه في الهواء، وفي مَظهره ما ينمُّ عن الفزَعِ من أمرٍ خطير. فأسرَعَ الشيخ ليقِفَ على قدَمَيه وهو يترنَّح من ضعف الشيخوخة، وساعدَه جسَّاس حتى وقف، وسار بِخُطًى مُتعثِّرة نحوَ ولدِهِ المُقبِل ينظُر نحوه في لهفة، وجسَّاس إلى جواره يَسندُه من تحت إبِطه.
ولمَّا اقترَبَ من همَّام صاح به في لهفة: هل من جديد؟
فقال همَّام مُسرعًا: العدو وراء هذه الكُثبان.
وأشار إلى الرُّبى الصفراء التي عند الأفق، ثم قال وهو يَهمِزُ فرسَه: هلُمَّ يا جسَّاس، املأ لنفسِك قربةَ ماءٍ والْحَقْ بي، فإنِّي ذاهب لأُنذِرَ الناس.
ولم ينتظِر همَّام جوابًا، بل لفَّ لِثامَهُ فَوقَ أنفِه وفمه، ليلتقِيَ به الهواء اللافِح والحرُّ المُتَّقِد، ثم وثَبَ بفرسِهِ نحوَ منازل قَومه، فقال الشيخ وهو يَنظر في أثره: «ولدي!»
ثُمَّ غصَّ بريقِه فسَكت. ووقف ينظُر نحوَ التِّلال البعيدة كأنَّهُ في حلم.
ووَثَب جسَّاس إلى فرسه، فما هي إلَّا لحظةٌ حتَّى كان في أثَرِ أخيه، وغَيَّبَهُما الغُبار الثائر عن عَينَي الشيخ الحَزين.
بعدَ ساعةٍ كان فُرْسان بَني شَيبان يَسيرون نحوَ الكُثبان ليُلاقوا العدوَّ المُغِير، وسُيوفهم تبرُقُ في أيديهم، وأسِنَّةُ رِماحِهم تلمَعُ في ضوء الشمس الساطعة كأنها شَررٌ مُنبعِث من لهيب. وكانت الرياح الحارَّة تُثير الرمال، وتلفَحُ الوجوه وتكاد تَخنُق الأنفاس. ونظر مُرَّةُ إليهم وهم سائرون، فرآهم صفوفًا ضئيلة فوق خُيولٍ ضامِرة، يُسرعون إلى القتال وهم يَعلَمون أنَّ العدوَّ قد أقبل نَحوَهُم في عدَدِه وعُدَّتِه، يُريد أن يستأصِل بَقِيَّتَهم بعد أن أفنى منهم الألوف في وَقْعةٍ بعدَ وَقْعَة. واسودَّتِ الدُّنيا في عَينَي الشيخ عندما تذكَّر أنه لم يَبقَ له من قَومِه إلَّا هذه الفئة القليلة، ولم يَبقَ بيتٌ من بيوت شَيبان إلا وقد فُجِعَ في زهرةِ شَبابه وصَفْوةِ فُرسانه. فرفَعَ يَدَهُ إلى عَينِه ومسَح دَمعةً ترقرَقَتْ فيها، وقال كأنَّهُ يُحدِّث نفسه: «ألَا ما أقَلَّها من بَقِيَّة! لقد عشتُ حتى أرى هذا! فيا ليتني …»
ثُمَّ توقَّف عن إتمام قوله كأنَّه لم يَشأ أن يَدَعَ نفسه تَتمادى في هذه الخواطر اليائسة في مثل تلك الساعة الخطيرة. وهزَّ نفسه ووقف ينظُر بلهفةٍ إلى الفضاء الفسيح حيث يترجَّحُ ميزان القضاء.
وسارت الكتيبة الصغيرة حتى صارتْ في مُنبسِط الأرض، فوقفتْ تُنظِّم صفوفها وترتِّب خُطَّتها، فاختار همَّام جماعةً من الفُرسان ليكونوا معه طليعة، واختار جسَّاس جماعةً أخرى ليكونوا لهم رِدْءًا، وأُرسِلَت طائفة ثالثة مع عمرو بن السَّدُوس إلى ثَنِيَّة وادي واردات لتَكمُن للعدو، وتخرُج عليه إذا وجدَتِ الفُرصةَ سانِحة.
واتَّفَقَ قادةُ شَيبان على أن يتقدَّم همَّام إلى العدوِّ فيُحارِبُه ويُبارز أبطاله، حتى إذا التَحَم الجَيْشان واستحرَّ القتال، تظاهَرَ همَّامُ بالهزيمة، فيقِفُ جسَّاس بمِنْ معه في وجْهِ العدوِّ المُتقدِّم، حتى يتمكَّن همَّام ومن معه من العَودة إلى المُنبسَط الفسيح دون الكُثبان، ليَستريحوا ويَشرَبوا من قرَبِ ماءٍ يَضعونها في الرمال، ثم يَتظاهَرُ جسَّاس بالانهزام مُتياسِرًا، ويتقهقر بجماعتِه إلى ناحية الكمين، فإذا ما أوغَلَ العدوُّ وراءهم في السَّهلِ وظنَّ أنه أوقعَ بهم الهزيمة، وقصد إلى منازل شَيبان ليَسبِيَ من فيها من نِساءٍ وأطفال، ويغنَمَ ما بقِيَ بها من مالٍ وأثاث خرَجَ عليه كَمين ابنِ السَّدُوس فجأة، وعاد همَّام وجسَّاسُ يَكرَّان عليه بجماعتهما فيأخُذونه وهو آمِن مُشتَّت، مُشتغِل بجمع الأسلاب، ويُوقِعون به هزيمةً مُحقَّقة يَستردُّون بها شرفهم، ويَنتقِمون لِمَا سبَقَ من مُصابِهم.
ولَمَّا تمَّ تدبير هذه الخُطَّة تقدَّم همَّام وقد حمل قربَةً من الماء جعلها على عاتِق فرسه، وقال لأصحابه: «لا ينسَ أحدُكم أنَّ أمامه اليوم قتالًا مُجهِدًا في صحراء جرْداء، فليحمِلْ كلٌّ منكم قربَتَهُ فإذا صِرْنا عند الكُثبان جعلها في مَوضعٍ يعرِفُه، فإذا أجهَدَهُ القِتال قصدَها فارتوى ثُمَّ عاد إلى قتالِهِ نَشيطًا، فاليومَ لا يَموتُ إلَّا العِطاش.»
ثُمَّ هزَّ فرسه فعدا به نحوَ الكُثبان، وأصحابه وراءه يُسَوُّون سِلاحهم ودُروعهم، وقد امتلأت قلوبهم عزيمةً وأنَفَة. وكانت تغلِب لا تزال وراء الكُثبان تنتظِر أمرَ المُهلهِل بالسَّير، وهي تملأ الفضاء خَيلًا ورجالًا. وكانوا لا يَظنُّون أنَّ بني شَيبان يَجرءون على المسير إليهم، فقد كانوا يعلمون أنهم صاروا في قِلَّةٍ من العدد، وجهدٍ من طول الحرب، يُقيمون في أرضٍ قاحلة، ويُقاسُون مرارةَ العَيش في وادٍ قفر. وكان المُهلهِل يرى أنَّ تلك الغارة لا مَحالة تأتي عليهم، وتقضي على من بقِيَ منهم؛ ولهذا لم يتعجَّل في زحفِه، بل كان يُؤثِر المُقام في مكانه حتى يَفتُر الحرُّ وتميل الشمس، فيسطو عليهم سطوةً لا يَلبَثون معها أن يَتفرَّقوا، فيقتُل فيهم ما شاء حتى إذا أقبل الليل كان قد طواهُم في هزيمةٍ قاضية.
كان المُهلهِل لا يزال في خَيمتِه يَستظلُّ حتى تميلَ الشمس عن كَبِدِ السماء، فإذا كتيبة شَيبان تطلُع من وراء الكُثبان وتهبِطُ على فُرسانِه كما تَحلُّ العاصفة فجأة. فاضطرَبَ الجمعُ المُحتشِد، وتَواثَبوا إلى خُيولِهم وتَصايَحوا يدعو بعضهم بعضًا، ويُنادي قَريبُهم البعيد. فوجَدَ همَّام في ذلك الاضطراب فرصةً فانتهَزَها، وأهوى بجماعته القليلة على من لَقِيَه من أدنى القوم، فقتلَ فيهم مَقتلةً عظيمة، حتى همَّ سَرَعان بني تغلِب بالانهِزام، ودفع المُنهزِم أخاه من ورائه، وكادتِ المُفاجأة تنتهي في تغلِب إلى نكبةٍ كارثة.
وعند ذلك أقبلَ المُهلهِل من أقصى المَيدان في سلاحٍ تامٍّ ودرعٍ ضافِية، واندفعَ إلى عَدُوِّه كأنَّهُ سَهمٌ انطلق من قَوسِه لا يتردَّدُ ولا يميل، وهو يضرِبُ بالسَّيفِ تارةً ويطعن بالرُّمح أخرى، فلا يَصمدُ إلى فارسٍ حتَّى يُجدِّله، ولا يُجالِدُ بَطلًا حتى يَصرَعه، كأنَّ صخرةً تهوي حيث هوى. وهو كُلَّما ضرَبَ فارسًا صاح بصوتٍ يُدوِّي: «وا كليباه!» فعرفَتْ شَيبان الضَّجَّةَ وعرفَتْ أنَّهُ مُهلهِل بن ربيعة الذي آلى على نفسه ألَّا يزال دَهرَهُ على أُهبَتِه لا ينزِع جَوشَنَه ولا يضَعُ درعَهُ ولا بَيضتَه.
ووجَدَ بنو تغلِب عند ذلك مُتنفَّسًا من الوقت للاستعداد، فركبوا خيولهم سِراعًا واجتمعوا من أطراف الفضاء خِفافًا، وعاد الذي كان ينهزِم، واطمأنَّ الذي كاد ينخلِع وأحاطوا بكتيبة همَّام حتى كادتْ لا تجِد ثَلمةً للفرار.
ولكنَّ بني شَيبان وإن كانوا قلائل في العدد، كانوا من فُرسان اعتادوا مُقارعة الأبطال، وطالَتْ بهم مُنازلة الشُّجعان، فما زالوا يَتلقَّون الضَّربات بالدُّروع، ويَتواثَبون فوقَ خُيولهم كالسَّعالَى من الجِن، حتى استطاعوا أن يَخرُجوا من حلْقَةِ العدو، وقد أوشكتْ أن تَلتئم حَولَهم، وأسرعوا فوقَ الكُثبان مُنهزِمين نحوَ الفضاء الفسيح الذي دُونها. ولحِقَتْ بِهم خُيول تغلِب غير مُتردِّدة، وتدفَّقَتْ وراءهم كأنَّها السَّيل ينحدِر إلى بطن الوادي. ولكن المُهلهِل بَقِيَ حيث كان، فما كان مِثلُه ليتبَعَ مُنهزِمًا؛ فهُوَ للِقاءِ العدوِّ المُقبِل، وليس لاقتِفاء المُنهزِم المُدبر.
كان جسَّاس عند ذلك رابضًا بمن معه وراء الكُثبان، فلمَّا رأى خُيول تغلِب تتدفَّق فوق الكُثبان أسرَعَ إليهم فوقف في سبيلهم، فعطفَ المُغيرون عليه وتركوا همَّامًا ومن معه يَمضُون في سبيلهم.
وقاتل جسَّاس في جماعته قِتال المُستميت، وكان الفضاءُ الرَّحبُ أرْفَقَ بهم، وأطلَقَ لحركاتهم، فكانوا يَفرُّون ثُمَّ يَكرُّون، ويُحاوِرون عدُوَّهم ثم يَعودون إليه، حتى خُيِّل إلى بني تغلِب أنَّهم يُلاقون جَيشًا خميسًا وعددًا عديدًا. وزادت هَيبةُ الفئة القليلة في قلوبهم فتردَّدوا في لقائها، وتَحامَوا بَطْشَها وقِتالَها، وعلا ضَجيجُ القتال وتجاوَبَ الفضاء بأصوات الحديد، فسَمِعَها المُهلهِل وهو في مكانه يستريح مِمَّا نالَه من جُهد القِتال الأول، فأسرَع مُبادرًا فاعتلى الكثيب وأشرَفَ على الفضاء، فرأى كتيبةَ جسَّاسٍ تطحَنُ قومَهُ في قِتالها العنيف، فانحدَرَ نَحوها يَصيحُ صيْحته. فما سمِعَتْ تغلِب الضجَّة حتى اشتدَّتْ عزائمها فحمَلَتْ حملةً شديدة. ورأى جسَّاس أنه لن يَستطيع الثَّبات أمام ذلك التَّيار الآتي، فانهزَمَ بجماعَتِه مُتياسِرًا نحوَ جانب وادي «واردات» وتَبِعَهم مُهلهِل يَصيح: «وا كليباه!»
وسمِع جسَّاس الصَّيحة فعرَف أنَّ ذلك الفارس هو مُهلهِل المُخيف، وغلى الدَّمُ في رأسه عندما تذكَّر من قتَلَ من إِخوَتِه ومن قَومِه، وكان العطش قد أجْهَدَهُ وطول القِتال قد أجهَضَه، ولكن الغَيظ غلَب عليه، فأشار إلى فارِسَين قريبَين منه أن يَنحازا بجماعَتِهما إلى جانب الوادي، وعاد هو نَحوَ عدُوِّه مُحنقًا يَطلُب القتال الذي لا هوادةَ فيه.
ووقف جسَّاس وجهًا لوَجهٍ أمام عَدُوِّه الفاتِك وناداه أنْ يُقبِلَ عليه للنِّزال، فأقبل مُهلهِل نحوَهُ كأنَّهُ يقذِفُ بنفسِه قذْفًا، ووقَفَ فُرسان تغلِب على مسافةٍ بينهما ليَرَوا ما تنتهي إليه مُبارزة القَرينَين.
قال جسَّاس صائحًا صَيْحةً وحشِيَّة «إليَّ يا مُهلهِل! أنا قاتِلُ كليب! أنا جسَّاس بنُ مُرَّة إنْ أردتَ ثأرَك.»
وما سَمِعَ المُهلهِل اسم جسَّاسٍ حتى اندفع نحوه مُحنقًا وغصَّ بريقِه من شِدَّةِ الغضب، فلم يُجِبْ إلَّا بضربةٍ كادَتْ تَشقُّ البَيضَة عن رأس جسَّاس وتنفُذُ إلى دِماغه.
فترنَّح جسَّاس لِشِدَّةِ الضربة، ولكنَّ البيضة دَفعَتْها عنه، ثمَّ تَمالَكَ نفسه بعدَ قليلٍ وأهوى بِسيفِه نحو رأسِ خَصمِه فضرَبَهُ ضربةً أودَعَ فيها ما في قلبه من حقدٍ وغضب، فتحوَّلَ المُهلهِل عنها سريعًا، فوقَعَتِ الضربة على عُنُقِ الفرَسِ فقدَّتْه، ووقَعَ الفَرَس كأنَّه جُلمود صَخر.
ووثبَ المُهلهِل إلى الأرض حتى لا يَقَعَ تحت الفرَس القتيل، ورمى سَيفَه عند ذلك وقَبَضَ على رُمحِه الطويل وهزَّه في يدِه حتى ارتاح إلى قَبضتِه، ثُمَّ سدَّده إلى قلبِ جسَّاس وأسرَع فقذَفَه به.
وأدهشَتْ هذه الحركة جَسَّاسًا فلم يَستطِع أن يأخُذَ رُمحَه في يده، ولم يقدِر على أن يَبلُغ المُهلهِل بِسيفه وهو بعيد عنه، فلمَّا رآه يقذِف نَحوَهُ الرُّمح البارِقَ تحوَّل عن فرسِه إلى الأرض كالنَّمِر الأرقط، فلم تُصِبِ الضَّربة إلا جانِبَ درعِه، ولكنَّها كانت ضربةَ غاضبٍ مُحنِّق فزلزَلَتْه، وكادتْ تُلقِيه صريعًا.
في تلك اللحظة سُمِعت صَيحة عالية من وراء المُهلهِل، فالتفتَ فُرسان تغلِب إلى جِهتِها، فإذا كَمين ابن السَّدُوس يَهوى نَحوهم من جانِب الوادي يُريد أخذَهم من وراء. وكان المُهلهِل على وشْك أن يُتبِع ضربته بأخرى، فلمَّا رأى الكمين مُقبلًا نحوَه أسرع إلى فرسٍ قُتِل صاحبُه، فوثَبَ عليه واتَّجَه مُسرعًا نحوَ العدوِّ المُقبل، وهو يقول في غيظ: «لهفَ نفسي على فوتِ جسَّاس!»
وما هو إلَّا قليل حتى اصطدمتِ الكتيبة المُقبِلة بمُهلهِل ومن معه، وقد أقبلَتْ بعد راحةٍ من القتال، فكانت على قِلَّةِ عددِها ثَقيلةَ الوَطْأة شديدة الضربة.
وعادتْ في الوقت عَينِه جماعَةُ همَّام بعدَ أن رويَتْ واستراحت، وعادت معها كتَيبةُ جَسَّاس بعد أن تنفَّسَتْ.
والتَحَم عامَّة جَيش شَيبان بعامَّةِ جَيش تغلِب، وعلا القِتال وعمَّ الِاضطراب، واختلَط الجَمْعان وفشا في الجانِبَين القَتْل وتَعالى فيهما الضَّجيج، وتردَّدَ النَّصْر بينهما؛ فتارَةً تنحازُ تغلِب إلى الكُثبان، وتارةً تنحاز شَيبان إلى جانب الوادي، وتفرَّق المُتقاتلون، فمُنهزِم يتْبَعُه خَصمه، وراكِضٌ يلجأ إلى قومه، ومُتعَبٌ يلتَمِس صخرةً يَستريح عندها، وظامِئ يَطلُب شربةً يرتوي بها، ومالَتِ الشَّمس إلى الغروب وميزان القتال لا يزال مُترجِّحًا، تارةً يَميل مع شَيبان وأخرى يَميل إلى تغلِب. وفي أثناء ذلك الهرَج الشَّامل علَتْ صَيحةٌ من جانب الكثيب حمَلَتْها الرياح الثائرة مع رمالها، وكان يَمتزِج فيها رَنين الفرَحِ الوَحْشي بجلجلَةِ اضطِرابٍ وفزَع: «قُتلَ هَمَّام بنُ مُرَّة! قُتل سيِّد شَيبان!»
وسَمِعَ المُتقاتلون تلك الصَّيحة وهُم لا يعرفون من أين أقبَلَت، فوقَفوا في مَواضِعهم حينًا يتلفَّتون في دهشة، فهلْ هي بعضُ خُدَع الحروب، يقذِفُ بها أحدُ المُتحاربين يقصِد بها قصدًا؟ أم هو فارس من فُرسان تَغلِب أصاب قرينًا من فُرسان شَيبان يَحسَبُه سيِّد القَوم فصاح تلك الصيحة، وهو واهِمٌ قد اشتَبَهَ الأمر عليه؟ أو هو رَجلٌ مُدَّعٍ من بني تغلِب يُريد أن يُباهي لحظةً بأنه قد هدَّ شَيبان بِمَقْتل سيِّدِها، لكي يتحدَّث الناس باسمه حينًا فيُرضِي غُرورَه حتى يظهر الحقُّ بعدَ لأي، فيكون قد أصاب من جلال البطولة نَصيبًا مَخلوسًا؟ أم قد فترَتْ تغلِب عن القِتال وأعياها ثَباتُ شَيبان فصاح رِجالها تلك الصَّيحة، لكي يَتستَّر وراءها المُهلهِل ويأمُر رِجاله أن يكفُّوا عن القتال مُكتَفين ذلك اليوم بما نالَهُم من جِراحٍ دامِية في النِّضال العنيف؟ تردَّدَت كلُّ هذه الخواطر في قلوبٍ مُختلِفة، وتلفَّت فُرسان شَيبان وهم وقوفٌ لعلَّهم يَرَون بَطلَهم همَّامًا فيَعرفونه بدرعِه المُعلَّمة وفرسه الكُمَيت النبيل. وأَصاخُوا بالأسْماع لعلَّهم يَسمَعون صوتًا يرتفِع بتكذيب الصَّيحة الخَبيثة فيَطمئنُّوا على فارسهم الباسل، ولكنَّهم لم يَسمَعوا من ذلك شيئًا، بل سَمِعوا الصَّيحةَ الأولى تتردَّدُ مَرَّةً أخرى في قَسوةٍ كأنَّها من صوتِ القضاء.
وأقبلَ بعضهم على بعضٍ يَتساءلون: من يكون ذلك الصائح؟ وهل هو مِمَّنْ يَعرفون من فُرسان تغلِب؟
وعند ذلك تردَّدتِ الصَّيحة، وكانت في هذه المرَّةِ صرخةً ردَّدَتْها صفوفُ العدوِّ في فرَح: «قُتِلَ سيِّدُ شَيبان!»
فلم تَلبَثْ شَيبان أن تفرَّقَت، ولم تلْبَث عزائمهم أن تَضعضَعَتْ، وتردَّد الفُرسان لحظة، ثم جَرَفَهم خَوفٌ كأنَّهُ السَّيل، فركضوا خُيولهم يطلُبون مَضارِبَ الخِيام لعلَّهم يَقدِرون على حماية الحُرَم فيستطيعوا النَّجاة من العدو المُنتصِر.
ونظرتْ تَغلِب إلى مُهلهِل يَنتظرون ما يقول بعد سَماع ذلك النَّبأ الخطير، فقد أجهدَهم القِتال، وما كان مَقْتل مِثل همَّام بالنَّصر اليَسير، فهل يَسير بهم المُهلهِل بعدَ هذا النَّبأ حتى يُجهِزَ على بني شَيبان وهُمْ في دَهشتِهم واضطرابهم؟ أم يَأمُرهم بإيقاف الحرْب والاكتفاء من ذلك اليوم بقتلِ همَّام؟
ووقفَ المُهلهِل صامتًا لحظةً بعد أن سَمِعَ الصَّيحة وكان لا يزال في سِلاحه ودرُوعِهِ كقطعةٍ من الحديد، ورآه الفُرسان يَركزُ رُمحَه في الركاب، ويسنِدُ عليه رأسَه حِينًا، ثُمَّ رأوه يرفَعُ رأسَهُ ويُشير إليهم قائلًا بصوتٍ خافت: «ليهنئكم النصر أيها الفُرسان، وحسْبُكم اليوم ما كان!»
في تلك الليلة كان مُهلهِل يَجول في أنحاء الوادي يَسير في أثَرِ فتًى ضئيلٍ حائل اللَّون، حتى إذا بلغَ الفتى الجانب الأدنى من الكُثبان، وقفَ وأشار إلى جِسمٍ مَمدودٍ على الأرض مائلٍ إلى جنبه، وقد اختلطَتْ حولَهُ الرِّمال بالدِّماء، يَمدُّ يدَه نحوَ قربَةِ ماءٍ في حُفرةٍ بين الرِّمال.
وقال الفتى في لهْجةِ المُباهاة مُشيرًا إلى ثَنِيَّةٍ وراء الكثيب: «هناك انتظرتُه حتى اشتدَّ به العطش، فأتى ليَرتوِيَ من قربتِه التي جعلها في جانبٍ من الرِّمال، فلمَّا جلس ليَستريح ويشرَبَ تَغفَّلتُه وطعنتُه، وكانت طعنةً قاضية.»
فنظر المُهلهل نظرةً ساهِمة إلى الجُثَّة الممدودة وإلى وجهها المُعفَّر، وغاب حينًا في صمتٍ وتفكير، ثم اختلجتْ شفتاه قليلًا ونظر إلى الفتى وقال: ألَا تعرِفُ فضْلَ همَّام عليك يا ناشرة؟
فقال الفتى: نَعَمْ لقد أخبَرَتْني أُمِّي.
وكان ناشِرَةُ فتًى من تغلِب ولدَتْه امرأةٌ فقيرة أرادتْ أن تَئِدَهُ بعدَ ولادتِهِ خَوفًا من الفقر، خَشيةَ ألَّا تجِدَ طعامًا يَكفيها مع ولدِها، فأحسنَ همَّام إليها وأعطاها ناقَةً ولودًا تَطعَمُ من لَبَنِها، وضمَّ الطفلَ إليه ليعيشَ مع أهله، حتى شبَّ ناشِرة وعرَفَ أنَّهُ تَغلِبي، فذهَبَ إلى قومِه تغلِب ليُحارِبَ معهم في وقْعةِ واردات.
وبعدَ صمتٍ قصير أردفَ الفتى قائلًا: لم أعرِفْ في شَيبان أكرَمَ منه لأقْتُلَه في ثأرِ كليب.
فحوَّلَ المُهلهِل بَصرَه عن الفتى، ثُمَّ نظر إلى القتيل الطريح كأنَّهُ يُريد أن يَملأ منه عَينيه، ثم قال والدُّموع تَجري في مَآقيه: «أي همَّام! يا رُبَّ ليلةٍ جمعتْنا على المَودَّة، ويا رُبَّ حديثٍ تَبادَلْناه على الصَّفاء. إنِ الثأرُ حبَّبَ إليَّ قتْلكَ فأنتَ كُفءٌ كريم، ولكنَّ قلبي يُنازِعني إليك يا صديقَ الشبَّاب. وإن كبِدي لحَرَّى عليك يا خليل الصِّبا. ما قُتِلَ بعدَ كليبٍ من هو أعزُّ مِنك علي، وما بَقِيَ بعدَكُما في الحَيَّينِ من يُعقَد الخير عليه.»
ثُمَّ التفَتَ إلى الشابِّ وقال في وجوم: اذهَبْ يا ناشِرة وغيِّبْ وجهَكَ عَنِّي.
ومضى نحوَ مُعسكر الجَيش، وترك الشابَّ مَشدوهًا حائرَ الفؤاد، ولم يَستطِع المُهلهِل أنْ يبقى بعدَ ذلك في واردات.
ففي تلك الليلة نفسِها كان يَسير في طليعةِ قومِه عائدين إلى أرضِهم، فقد هزَّهُ قتْلُ همَّام فلَمْ يدَعْ له رغبةً في مُعاودة القتال.