صدمة الاعتراف باللااعتراف
ماذا يعني أن نفكر اليوم؟ ليس سؤالًا ترفًا. لكنه مفاجئ ومُصدمٌ أحيانًا للمزاج العام الذي اعتاد ألَّا يفكر، ولا يدري أنه يفكر أو لا يفكر. والسؤال هذا كأنه يطرح اختيارًا. كأنما هناك طرق كثيرة وممكنات متعددة مفتوحة أمام المزاج العام. وعليه هو أن يختار منها ما يشاء أو ما يلائمه، لكن المشكلة ليسَت في نوع التفكير، ولا حتى في مناهجه، ولكن هي في الحد الأدنى من الشعور به، بوجوده، بضرورته؛ ومن ثم بممارسته، واختيار الطريق الأنجع فيه وإليه. إذا كان هذا شأن «المزاج العام» من كونه لا يفكر أصلًا، ولا يعرف حالته تلك أبدًا، فكيف إذا ما طالبه أحدهم بأن يفكر في الفكر نفسه.
تلك هي حرفة لا يريد أن يسمع بها أحد. أما المثقف فهو يصرُّ على تجاوز تلك الحرفة إلى سواها. وقد اعتاد ألَّا يلقى نفسه، ليس بعد السؤال، ولا بعد الجواب، ولكن بعد انقضاء حرفتهما معًا؛ فالمثقف العربي عادة هو في منأًى عن هذه الحرفة. وقد اخترع بديلًا عنها التنقل بين الأجوبة الجاهزة: ودائمًا كان محل السؤال والجواب في غير مكان من أمكنة الإشكاليات العربية المطروحة، أي خارج أمكنتها العفوية والطبيعية.
ولقد يقول لسان حال بعضهم: وهل نحن نفكر حقًّا لكي نتساءل عن معنى تفكيرنا اليوم. ألا يُصادر هذا السؤال على افتراض حال أخرى، تلزم الآخرين بصفة أنهم عادة يفكرون، وأن لهم أن يقدموا لنا شروحًا عن حال تفكيرهم ذاك، إذا ما سُئلوا عنه، وعن كيفيته وخصائصه وموضوعاته، وحصائل عنائه ومشقاته.
غير أن الفلسفة لا تقنع عادة بالأحوال القائمة. وهي قد تعتبر وضع اللاتفكير حالة تفكيرية كذلك. وما تحتاجه الحالة هي أن تثير لدى البعض ثمة إشكالية ما؛ فالثقافة التي لا تفكر لا تناقض نفسها فحسب، لكنها تخشى مع السؤال أن تداهم فراغها بغير أدواتها المعهودة. وسؤالنا الراهن: ماذا يعني أن نفكر اليوم؟ لا يطمح إلى أكثر من صدمة أولى، لا تأتي من جهة، ولا يتحمل مسئوليتها فاعل معين. والصدمة كذلك لا تراهن على تحقُّق مستحيلات على إثرها. كما أنها لا تنتظر تصاديات لنبرتها الهامزة والمقطوعة حال هَمْزها.
وعندما لا نفكر حقًّا، ولا نريد أحدًا يدفعنا إلى التفكير، ولو كان ذلك العصر الذي لم نفكِّر عبره كفاية، فإنه لا مهرب لنا من مواجهة عدم الفكر. وتلك هي خطوة متقدمة فعلًا. وهي الإقرار بالأقل، باللافكر في الذهن والبيت والجامعة، وهنا وفي أبعد آفاق العالم. و«هنا» قد تحوز صدمة السؤال على شيء من صدفية رهانها هذا اللا-تفكُّر. فهي تثبت شيئًا في الحد الأدنى، وهو أننا لم نكن نعرف، وكدنا أن نعرف قليلًا أننا — لا نفكِّر، وأن هذا اللا-تفكُّر، ليس إطلاقًا من نوع تلك الحكمة الهيدغرية، المصطلح عليها بعبارة: اللامفكَّر به بَعْدُ. وأن هذا اللامفكر، لا يمتُّ لما هو من قبل ولا من بعد. فهو ليس من نوع الظاهر المبذول الذي علينا تجاوزه، ولا هو من الخافي المسكوت عنه، والذي يستفزنا كيما نصرح عنه ونفضحه.
وقد يكون لحظة فقط من لحظات الفكر في الدرجة صفر من الأفكار. وإذا كان هو كذلك حقًّا فإنه قد يستحق إذن بعض رهانه. أو لا يستحق حتى عدم المعرفة بصِفْره ذاك.