الحداثة اختيار بين الكوني والعدمي
التفلسف أساسًا يقوم على طلب اللامتناهي واستشرافه أو استشعاره، والتحرُّش بحياديته المطلقة. والإنسان الطبيعي العادي، إنسان كل يوم، متشوق لاختراق الحدود، طامح إلى التعرُّف إلى ذلك المجهول الذي يعمر نفسه ووجدانه، ويسكن آفاق الرؤية حوله. وبدون اختراق الفراغ يُصاب التفلسف بفقر الدم، ويتساقط في المصطلح والكلام المبهم. وكل تفلسف إن لم يختطف شرارة من لهب اللامتناهي فإنه لن يضيء عتمة ما، ولن يدخل غارًا محرمًا.
لكن اللامتناهي هو نقص الكائن المتناهي وهو كماله أو تكامله. وهو نداء الحرية والشوق إلى كل تغيير. والإنسان هو كائن اللامتناهي الفريد والاستثنائي. ولولا إصابته بلوثته لما ارتكب معصية تغيير العالم حوله. وكلما أوغل في هذه المعصية أعطى لها أسماءً شتَّى؛ فهو حين تعمق الهاوية بينه وبين اللامتناهي يرفعه إلى أعلى عليين، ويؤمِّره على أسراره ومصيره. وهو حين يشرع في ردم الهُوَّة معه فإنه قد يصور له غروره أنه قادر على ترويض اللامتناهي وتمدينه واستثماره في إنقاذ تناهيه من العدم المحتوم. ولا تزال الحضارة، تسرد بطولات ذلك الفارس الفاني الذي يؤيد نواقصه وخطاياه تحت أسماء القداسة وأضدادها، لكن قصة التفلسف مع اللامتناهي زوَّدت الأفكار الكبرى بحقائقها كما ببطلانها. وتلك هي لوثة الفكرة الخطرة. فمن حيث إنها تعد بجوائز السلام العظمى، فإنها تفجر حروبًا وتخلف نكبات كبرى. وحتى اليوم ليست المصالح وحدها هي التي حركت التاريخ، لكنها الأفكار الواعدة بالمطلقات من كل جنس ديني أو أسطوري أو أيديولوجي.
فالفكرة «الخطرة» لا تداعب اللامتناهي، لكنها تماهيه وتستثمره وتستغله وتنوب عنه، ممعنة في تغييبه وإقصائه. والفكرة «المفكرة» هي التي تقول خطرها ولا تضله أو تصطنع ضلاله. أما الفكرة الساكتة عن خطرها فتلك التي تختزل التفلسف إلى «الدوغما». وتفرض تداول الدغمائيات وتصارعها بدلًا من أسئلة الأسرار، وأسرار الأسئلة. وإن تصنيف الفكرة إلى الصامتة عن خطرها أو المفصحة عنه، صار يتقدم على تصنيفها الكلاسيكي إلى الصائبة أو الغالطة. وأما كيف تفصح الفكرة عن خطرها أو تسكت عنه، فذلك يعتمد على قدرة التفلسف أن يأتي بالفكرة و«نظامها» معها، أو غائبًا منها وعنها. إنه الفارق بين الحاوي المرح الذي يكشف ألغاز ألاعيبه إلى جمهوره بعد انسحاره بها، وبين الكاهن المشعوذ الذي يحصي غلَّته بعد كل حفلة تقديس وتدليس. فبدلًا من استغلال اللامتناهي في تبديد كيانات المتناهي وتسفيه قيمه، يريد سؤال الحداثة أن يعيد الحوار المتكافئ بينهما عبر تكافؤ النقص والكمال كمفردتَين في لغة الرغبة.
مع الحداثة يستردُّ الفكر قدرته على اختيار الطريقة التي يتعامل بها مع اللامتناهي. ومن نوع هذا الاختيار، ومن نموذج طريقة التعامل تتحدد الشخصية المفهومية لهذه الحضارة أو تلك. فإما أن يستعين الفكر باللامتناهي على صناعة المعرفي، وإيداع الكوني الإيجابي باكتشاف الطبيعة والعالم، وبناء الجمالي والغنائي، وفك عقال الحرية من أسر التقنين المفروض. وإما أن تبقى الهوَّة فاغرةً فاها المظلم بين المتناهي واللامتناهي، لتبتلع كل جسور المعرفة والجمال والحرية؛ من أجل تقديس الغياب والانسحار بالمعدوم، وشن حروب الإفناء المتبادل بين كنائس الوثنيات الدائمة (الحقيقية)؛ فالحداثة هي الاختيار بين الكوني والعدمي. وذلك هو دورها الصعب.