الانهمام بالذات كلحظة نقدية

يهدف العلم إلى تقديم المعرفة بدون ذات. تهدف الفلسفة إلى تقديم ذات باحثة عن المعرفة. ويظهر أن العبارتَين إنما تنشغلان بالذات؛ الأولى بطريقة سلبية، والثانية بأسلوب حركي، يحتمل الإيجاب والسلب معًا. واعتاد النص الفلسفي الحديث والمعاصر أن يقسِّم نفسه إلى مرحلتَين؛ كان في إحداهما مهتمًّا بإقامة استقلال العقل وحريته إلى درجة إنماء ذاتوية كلية، بديلة عن تراث المرجعيات الإطلاقية المفارقة. ثم احتاج في مرحلة لاحقة، ليس إلى تحجيم الذاتوية إلى مجرد ذات فحسب، بل إلى الانخراط في معارك طاحنة ضد سيادتها الأولية، ومركزيتها الواحدية. ثم عندما تآلف النص مع انزياحاتها، عمد إلى تنازل أقنومها، كما هو عند نفسه. فألحَّ على تشظيتها، والتباري في إشهار انكساراتها، والتقنن في عرض مشهديات لغوية واصطلاحية عن أساليب انهزامها، وهَزْمها هي لنفسها كذلك. فهي بعد أن كانت مركز العالم، أخذت وحدتها بالتبعثر والتوزع والبحث عن الهوامش كذلك، كأمكنة وملاجئ أخيرة لها. وبعد أن كان التاريخ ينقاد بها، صارت الذاتوية حقبة من تحقيب أوسع لا بد أن يتجاوزها.

لكن مثلما تكلم هيغل عن حيلة التاريخ ودهائه، كذلك لا يزال فلاسفة التفكيك يتبارون في كشف ألاعيب ذات لا تقرُّ بهزيمة، وتنبعث أشباحها حيثما تتهاوى أصنامها؛ إلا أنه بدلًا من معارك التصفية والانبعاث، مع الذات، فإن الفكر منذ عصره الإغريقي الذهبي، كان يبحث عن طريق ثالث؛ كان يطمح إلى ابتكار طرق للتعامل مع الذات. عوضًا من الانصياع إلى جبروتها، أو السعي إلى تدميرها، فإن هناك الأمر الآخر الأصعب لكنه الأجدى، وهو «التعامل» معها. وهكذا يغدو سؤالي عن ذاتي يخصني وحدي. إنه كاشف لتلك المساحة الملتبسة بيني وبين نفسي، لكن ليس ذلك انفصالًا، بل نوع من البحث عن ذات النفس بأسلوب النفس عينها. وقد يكون مثل ذلك السلوك هدفًا لأخلاقية مغايرة، تهمل مسألة التوافقات مع العادات الجماعية. وتربط بين بزوغ الفرد وترسُّخ الحداثة. ذلك أنه مع الحداثة أصبح يمكن الحديث عن الإنسان بصيغة المفرد.

غير أنه إذا كان من السهل إعادة الربط بين ذات مفردة وموقعها الصدفوي، وبين الحدث التاريخي، أو الحقبة المدعوة بالحداثة، فإنه على الصعيد العام لا تزال الذاتوية الكلية تلعب الدور الذي يتعرَّض لمصائر الثقافات ويعرِّضها ولا يزال إلى تنافس العنصريات. فإن نمو استقلالية وجودية وحقوقية للفرد لم تعكس ضعف الذاتويات المطلقة لدى الجماعات المتقدمة التي تعزو لنفسها الأحقبة في قيادة الإنسانية، أو استلاب الآخر من إنسانيته. هنالك إذن تعارض حقيقي بين تَشْظِية إيجابية للذات على مستوى الجسدي والفردي، تقابلها صنميات متعملقة في مجال العلاقات بين العائلات الإنسانية الكبرى والتابعة.

وفي مَسْرَحة الثقافة العربية الراهنة، فإن ثمَّة غموضًا يلفُّ مولد الجسدي كفضيحة اجتماعوية، وليس ذلك الجسدي الذي ينبثق كلحظة نقدية في شرعة جديدة تُدعى الانهمام بالذات، كسبيل لاكتشاف إنسانية أخرى، تعاود تذكر تمثالها المنسي الذي يحملها كل لحظة؛ ذلك الجسدي المغدور دائمًا، إما بالتورية اللفظوية والطقسية، أو الاستعراء المبتذل.

فإن مولد اسم الفرد ملتبس كما هو اسم الأمة، كما هو دليل الحرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥