من الهوية «التنويرية» إلى الهوية النقدية

ليست تسمية الأشياء هي الأشياء عينها؛ فالمسافة بين الاسم والمسمَّى هي كالمسافة بين الجسد والعالم. بقدر ما هو الجسد/الاسم جواني في العالم بقدر ما هو العالم براني فيه وعنه. ولقد جعل اللغوي موضوعه الأكبر هو رسم الدلالة حتى يتمكَّن من اختصار المسافة مع الأشياء، وجعلها أليفة ومعروفة، ومن هنا جاء التعريف بالحد في المنطق؛ لأنه يقتطع المعلوم من المجهول. يصير المعلوم شيئًا متناهيًا، لكن الحد له جهتان؛ إحداهما نحو ما تحده، أي نحو الداخل الأليف، المعقول؛ والأخرى تظل مطلة على الخارج، على اللامتناهي.

تنشغل الثقافة بالدلالات لأنها هي بضاعتها التي يمكنها أن تستغني بها عما ليس له دلالة بعد؛ فالدلالات تعريفات أولية، لكنها تحتفظ بواجهة الحد نحو الداخل، وتتناسى واجهته الثانية، أي كل ما هو وراءه، ويتعدَّاه. وفي المركز من الثقافة يقوم العلم الذي يكفيه التعريف بالحد، ولكن الفكر يتطلع إلى الاعتراف. ذلك أن البرهان وحده لا يكفي إن لم يردفه التصديق، فلا يتوقف كيان الفرد أو المجتمع على ما يعرفه عن نفسه، إن لم ينتزع اعتراف الآخر به، وما يسمَّى بالحقيقة في عالم الدلالات المعنوية أو الإنسانية، كان يتطلَّب دائمًا العثور على توازناتٍ بين من يملك الحق، ومن يملك اعتراف الاستحقاق، ولما كانت هذه الموازنات غالبًا مكسورة من طرف على الضد من الطرف أو الأطراف الأخرى، فسرعان ما تقتحم الدلالات التداولية الساحة، تختزل التعريف بالتصنيم، وتلغي التصديق بطريق البرهان أو الاستحقاق، لتطرح ذاتها كبديل ترميزي، يخفي أصله الواقعي أو التصوري.

يراهن الفلسفي السياسي على صحة عودته إلى راهنية المايحدث بمدى قدرته على إزاحة حرب الدلالات، كما لو كانت حرب ماهيات مطلقة، أنجزت تعريفاتها، وراحت تطالب باستحقاقاتها الكاملة. فلا غَرْو إن كانت افتتاحية الألفية الثالثة قد تدشن حربًا أخرى بين المتحدات الفئوية داخل قلعة الهوي الواحد عينه. ذلك أن العجز عن إنهاء حرب الهويات الخارجية، كدروع ثقافوية لماهيات ميتافيزيقية، قد يعكس اتجاه الصراع نحو الداخل، يفرقع ذات الهوي عينه، إلى أضعف أو أضيق متحداته العنصرية أو المتعنصرة. مقابل فرط العالمية السليمة إلى عولمة زائفة، تتقهقر الثقافويات الماهوية إلى بربريات، والأكثريات الكليانية إلى أقلويات شرنقية.

لماذا يعود الفلسفي السياسي! لعله الوحيد الذي ما زال يدعي أنه حامل لذاكرة المعنى. وقبل أن يتم نسيانُ نسيان هذه الذاكرة، قبل ألَّا يسمى أحد المايحدث تحت عنوان إبطال الإنسان، وينسى هذه التسمية فإن المعنى عينه ينتظر تحرُّره من قاموس دلالاته؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥