أيها الإنسان: كن واقعيًّا: اطلب المستحيل!

ليس العصر زمنًا للتخييل إلا لأنه يُعَصْرن الطوبائية من جديد. إنه ينقلها من مستوى الأحلام الجماعية إلى التعاطي مع أحدث ابتكارات التقانة. إنه عصر افتراضي، مرآوي، يحيا على انعكاسات الشاشات الضوئية، وقد أضحت أدمغة صورية، وكذلك تساهم الثقافة باستعادة اليوطوبيا عبر فيض من الكتب والفعاليات والمؤتمرات؛ فالحاضر الإنساني يفتقر إلى الأحلام، فيلجأ إلى جَعْل الواقع نفسه حلمًا لا يعترف بنفسه أنه كذلك؛ فهو يصنفه عبر مستحدثات الاتصالات الفورية. وحين لا يتبقَّى شيء قابلًا للحلم، للاعتقاد، فإننا مدعوون إلى إرادة الاعتقاد، بحسب فيلسوف البراغماتية الأمريكية، وليم جيمس. وقد عرض تاريخ التخييل الجماعي ثلاثة أحلام تحشيدية كبرى؛ فإما أن نطمح إلى ابتكار العالم الكامل بالاجتياح الإمبراطوري، أو حسب أخروية الدين، أو تحت سلطان نموذج اقتصادي. وهو المثال الراهن لتوحيد العالم، وذلك باختصاره إلى نخبة المال والقوة والعلم. فما سيكون صحيحًا وعادلًا ونظاميًّا بالنسبة لهذه النخبة لا بد له أن يغدو كذلك بالنسبة للجميع. أليست كل طوبائية منطوية على سلطانية استبدادية؟

هنالك دائمًا أوامر بالسعادة وتوحيد لأنماطها، وتأحيد لممارستها؛ فالسعادة الجماعية مقبرة للحرية. وفي هذه اللحظة من مدنية الغرب تُعلَن على الإنسان الأوامرُ بالسعادة الإجبارية. لا مناص من أن تكون غنيًّا ومترفًا وسعيدًا رغم كل شيء؛ ذلك هو الأمر اليومي الثقافي المباشر وغير المباشر؛ إذ إن التحقيب التاريخاني الغربي، يفترض راهنية المدنية بالنسبة لشعوبه فحسب، وإن هذه المدنية ليست سوى المدنية معاشة بأسلوب افتراضي مرآوي، وليس تخييليًّا فقط. وقد وفرته ابتكارات التقانة التواصلية الفورية، جعلت الواقع يتحدث لغة المستحيل دون أن يصيرَ هو كذلك. لماذا تعيد الثقافة الغربية البحث عن الطوبائي من جديد، وكأنها تخشى أن تفتقد جاذبيته التخييلية تلك، بعد أن راحت المرآوية التقنية تستعير أدواره، وتمارسها بأسلوب الواقع الذي فقد اسمه الواقعي، ولم يعُد يحفل به إلا كسبيل آخر مختلف للتعاطي مع المرآوي والافتراضي. وقد يكون الجواب أن المشروع الثقافي الغربي يوشك على التخلي عن الحلم الديمقراطي بواسطة المؤسسات، ليلتفت إلى حلم السعادة بطريق الأفراد وحدهم، وقد تصبح السعادة بديلًا لذيًّا حميميًّا عن جفاف الكائن الأخلاقي وشغفه بالعدالة، لكن آخر الفلاسفة الأمريكيين وأهمهم، جون راولز، لا يزال يتشبَّث بنظرية العدالة، باعتبار أن الخيار المتبقِّي لإنسان العصر، هو انبعاث كائنه الأخلاقي.

لن تكون السعادة شأنًا فرديًّا وسط عالم ظالم، قاهر ومقهور. فالطوبى عائدة، ليس كتعويذة سحرية، بقدر ما هي غائية إنسانية سابقة لأهدافها وحاملة دائمًا لهذا الأمر اليومي، لإنسان اليوم والغد: كن واقعيًّا، واطلب المستحيل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥