السعادة أم الحرية
الفلسفة هي كتابة الحرية. لو أرادت الحرية أن تكتب نفسها لما كتبت إلا الفلسفة، التي هي بدورها ليس لها من مرتكز أنطولوجي إلا الفكر بما يرجع إلى نفسه أولًا وآخِرًا. فهل يمكن للفلسفة كذلك أن تكتب السعادة، لا أن تكتب عنها فحسب. قديمًا اعتُبرت الحكمة طريقًا وحيدًا لإدراك المعرفة التي هي معرفة السعادة، أو الفرح بانبثاق الحقيقة، لكن من هو حقًّا ذلك الفيلسوف «السعيد» الذي خرج على الناس ذات يوم صائحًا: وجدتُها، وجدتُها. وكان قصده أنه وجد الحقيقة، مثلما كان فرح العالم باكتشاف معرفة علمية رياضية جديدة. فلا أحد من الفلاسفة يمكنه ادعاء الحقيقة، ولكن أمكن لسقراط أن يعلن كشفه العظيم، وهو أنه يجهل الحقيقة، دون أن يكفَّ عن الجري وراءها.
والناس في عصرنا يعيشون فقرًا مدقعًا من السعادة وإليها، لكن أسوأ ما يمكن أن يحدث للمرء هو أن يعبر في جوار السعادة دون أن يعرفها، أو أن يكون شخصٌ آخر متنعمًا في أحضانها دون أن يطلق عليها اسمها؛ إذ إن للسعادة أحوالها الغامضة التي قد لا تتطابق مع أسمائها، ولا تقعد في أمكنتها المعهودة من التصنيفات والتعيينات الشائعة عنها. ومنذ القديم دأب حكماء اليونان بخاصة على تجهيز وصفات، أو التبرع بالنصائح والإرشادات، للباحثين عن سبل العيش الرغيد. أما الحكمة المعاصرة، فبعد أن شُغلت باختراع المذاهب الكبرى، ثم بشَّرت بانهيارها وجلست على حطامها، راحت تذكِّر الناس بأحوالهم الفردية المنسية تحت عواصف الشعبويات المنقضية، والمستحدثة، معتذرةً بأن الحضارات اضطرت دائمًا إلى اختراع الطوبائيات، كيما تؤجِّل المواجهات الحاسمة بين البائسين وأسباب بؤسهم الفعلية. وكانت الجماهير مستعدةً أبدًا للتصديق أنه لا يمكن الدخول فرادى إلى جنات عدن. لا بد من التحشيد الإنساني بالكم والنوع معًا، لكن يخرج علينا، في نهايات التجارب الكبرى المنهارة، مَن يقول إن انقضاء الأيديولوجيات ربما يعيد الفرد إلى مواجهة مصيره وحيدًا في نهاية الشوط؛ وبالتالي لعل هذه العزلة الإجبارية قد تمهد لتعاليم سقراطية جديدة، تبدأ من إقرار المفكر، وليس الإنسان العادي فقط، بأنه جاهل، وأنه آن الأوان أخيرًا لأن يعرف جهله، وأنه انطلاقًا من هذه اللحظة، ربما سيعبر بالسعادة، وقد يتعرف إليها، ويلتقط بعض أذيالها الهاربة.
في هذه الحالة لن ينتظر الفرد أحدًا يأمره بأن يهندس مسراته، بحسب المواصفات المقنَّنة في أسواق الإعلانات المبوَّبة حول الحياة السعيدة، في الوقت الذي لا يزال إنسان العصر مفتقرًا إلى أبسط شروط حريته. وقد يقال في الغرب إن الرفاه أنسى الناس حقًّا ماذا تعني الحرية؛ فليس المتخم حتى الثمالة هو الإنسان الحر حقًّا. وقد يكون أحدهما نقيضًا للآخر، فما زالت المدنية الراهنة عاجزةً عن ابتكار النظام الاجتماعي الذي يمكنه إقامة العلاقة المتوازنة بين الحرية والسعادة. وماذا عن هذا الصنف من الناس الذين يرفضون مقدمًا ضرورة هذه المعادلة الوهمية. إنهم يفضلون أن يوصفوا بأيتام الجنة، على أن يكونوا ضحايا الرفاه الكاذب. ذلك أن الباحث عن فرح الحرية لا يهمه في المحصلة النهائية إن كان يستحق جائزة السعادة، أم أنه أصبح مكتفيًا بكرامة الحرية بدلًا من استبداد أوهامٍ لسعادة مستحيلة.