(١) سؤال العتبات
راهنية اللحظة السقراطية
في الحديث اليومي السؤال هو انتظار الجواب، وهو عتبة توصل إلى الباب، فينبغي البحث عن السؤال في غير مادته. إنه منقول إلى الجواب. والسؤال الذي لا يلقى جوابًا يفتقد قوامه وتسقط دلالته. ذلك أن التداول يركن إلى الأجوبة. والخيال العام لا يصبر على إثارة سؤال يعجز عن تجاوز ذاته. فلا يزال كل سؤالٍ معلقًا بجوابه. ومن مهمة الجواب إلغاء السؤال الذي سبقه ودعاه إلى التواجد. إن السؤال وميض موقت لا يلبث أن يحترق ليضيء شمعة قول آخر، والجواب قد يحتمل السلب والإيجاب، القبول أو الرفض. لكن السؤال وقفة بين الحالَين. ودون أن يدفع الجواب إلى الحسم في اتجاه معين، فإن له وقفة بين الحالَين؛ مما يعني أن السؤال قد يفتح مفترقًا، من غير أن يكون له جهة ما. وما إن تتحدد الجهة حتى يختفي المفترق.
والتداول في الأصل يطلق أخبارًا، شائعات، وأقاويل. هنالك ضمير الغائب: ويقال وقالوا، عرفنا أن، وعرفوا، وليس لهذا الضمير سوى أن يطرح ما في جعبته ويمشي إنه ليس مكلفًا ولا يكلف أحدًا مهمة الشك أو البرهان أو الإنكار. تلك كانت ثورة الأوردوكسا الإغريقية، أي الفكرة بالمعنى الأفلاطوني، على الدوكسا، أي الشائعة أو الرأي العادي. وعقلانية الفلاسفة الثلاثة، سقراط أفلاطون أرسطو، إنما جاءت بثقافة الأوردوكسا لتضع حدًّا لشبه العقلانية المخادعة لدى السفسطائيين، والحقيقة أن سقراط هو أول من ابْتَنَى ثقافة السؤال مقابل أكوام الجواب. هنالك حركة استقلالية للسؤال تجعله يجلس منقطعًا عمَّا ينبغي أن ينتهي إليه من حصائل المعرفة الإيجابية. السؤال السقراطي يتشبَّث بموقعه الانفصالي ذاك. إنه يؤسس لما يُسمَّى بفلسفة البدء. فالسؤال بَدْء لكنه لا ينتهي في كل ما يلحق به من خطوات مسافوية. إنه ذلك البدء الذي سيظل يوجد في كل ما يتبعه. والبدء هذا كان له مصطلح الواحد الرياضي، ثم الواحد الميتافيزيقي؛ فهو الرقم الموجب الأول بعد الصفر، والذي لا بد أن يتضمَّنه كل رقم يتبعه. لكن «البدء» السقراطي اعتصم بالسؤال، ورفض أن يتقدَّم عليه قيد أنملة. من هنا كان بدءُ السؤال الفلسفي؛ ذلك أن كل الأجوبة التي قد يقدِّمها تاريخ الفلسفة والإنسان معًا على مائدته لا تسد رمقه. وحده السؤال الفلسفي الذي يجترح بينه وبين الجواب مسافةً لا يمكنها أن تفضي إلى … الجواب. كل المذاهب التي ابتدعت أجوبة، وجلَّلتها باليقين والثبات، انتهت إلى الأدلجة. والفلسفات النادرة الناجية من جهنم الأدلجة هي تلك التي احترفت المكوث أو التشرُّد ملء المسافة بين البَدْء والنهاية، بين السؤال والجواب؛ فلم تتورط في جواب يدفن أسئلته الأولى أو يخفيها إلى الأبد. كما أنها لم تعتصم بالموقع التساؤلي إلى حد الشك النهائي. وسقراط الشكاك غير النهائي تلقفته «فكروية» أفلاطون شبه الدغمائية، ثم تجاوزته دغمائية الأورغانون الأرسطي، المنطقية الكاملة. غير أن السقراطية افتتحت تاريخ العقلانية، لكنها فضَّلت سُكنى العتبة فقط. فمهما اعتلت وتعملقت بعدها قصور الدغمائيات، يبقى أن الدخول إلى متاهاتها وقلاعها وأقبيتها، إنما يقوم على، ويعبر من «العتبة»، وبعض الداخلين يفضلون الارتداد سريعًا إلى العتبة، حيثما يمكنهم الاحتفاظ بموقع قد يلتقط «الداخل» و«الخارج» معًا بنظرة واحدة، انحرافية تفرعية دائمًا. هنالك لحظة سقراطية في تاريخ كل مذهب أو فلسفة، لا تشكل عتبتها فحسب، بل تخومًا حول ذاتيَّة مركزيتها؛ بحيث إن اللحظة السقراطية لا تؤهل المذهب في عين ذاته فحسب، إلا عندما يمكنها، كما شكلت عتبته، أن تشكل مخرجه، وتعود لتخرج منه سالمة كما دخلته. والفيلسوف المشروع عند نفسه، هو الذي يمكنه أن يربط بين اللحظة السقراطية بين «راهنيتها» وبين «آنية» أجوبته. بما يؤكد استمرارية تلك اللحظة بعد كل عروضه الخاصة. وأقصى ما يطمح إليه هو أن يتمكن من إدراج توقيعه في بعض هوامشها، بما يؤكد استمراريتها، وإن بطريقة مختلفة؛ فالأجوبة تمضي، ويبقى السؤال. يبقى بعد أجوبته باحثًا عن الجواب الذي لم يلتقِهِ بعد. والأصل ليس في الجواب، عكس ما هو متداول، بل يمثِّل السؤال ذلك الأصل الذي لا ترجع الأجوبة إليه، بقدر ما أن الأصل نفسه يلي كل ما يأتي بعده، من أجوبة أو سواها.
كل الأجوبة التي كانت تقدم إلى سقراط في الشارع الأثيني، لم تكن كافيةً أو وافية إلا لدعم جهل المسئول … الجهل ليس هدف السؤال السقراطي إلا بالقدر الذي يعني: الجهل فيه ليس اللاعلم ولكن: إقرارًا بحالة اللاعلم. فإن الوقوف في منطقةٍ خارج العلم إنما يتحدَّد بهذه الجهوية فحسب. وهنا فالجهل لا يتقرَّر بالنسبة لذاته، ولكن بالنسبة لنقيضه العلم. إنه استشعار بالعلم الذي لا يعرفه بعد، كلُّ معرفة تالية لا بد أن تعبر من هذه العتبة؛ فالجهل الذي يعرف نفسه أنه كذلك، يشكل بوابة العلم الوحيدة، وبدونه فالجهل ادِّعاء مطلق بالمعرفة.
والبيت ليس تكثيفًا للحميمية فقط، بل شيء أقرب إلى الصميمية. ويصير البيت غلافًا عظميًّا، بل صخريًّا لهلامية هذه الصميمية كيما لا تندلق في كل اتجاه. الإنسان حيوان بحري، هلامي قوقعي أصلًا، وهو لا يفارق قوقعته حتى يعود إليها، لكن عندما تنكسر القوقعة يفقد العالم حينئذٍ جهويته. هكذا السؤال، فإنه منسحب إلى العالم، إلى البرانية بداخلية سره الخاص، وسر السؤال أنه الباقي دائمًا بعد كل إجابة. السؤال هو العتبة هو حد البرانية موشكة على الانفراط فيما يتعدَّى كل حد، وهو حد الجوانية، مما لا يغنيه عن سؤال ذاته إن كانت تلك الجوانية ممتلئة بالشيء أو اللاشيء. السؤال عتبة لأنه لا يتقهقر إلى الخارج الذي أتى منه، ولا يتقدَّم نحو الداخل الذي يهدِّده بالانطواء والانمحاء. والسؤال السقراطي هو أساسًا بداوةٌ شوارعية مدينية أثينية. والبداوة تلك لا تحتمل بيتًا ساكنًا، ولكن بيتًا يسكن حركة الشوارع كلها. وسقراط في النهاية يكفُّ عن السؤال؛ لأنه يصير صيرورة لبيت السؤال. سقراط (بيت السؤال) جوَّاب شوارع المدينة وآفاقها الممزقة. والتقارب بين ملفوظة: جاب، وأجاب، صدفةٌ لغوية سعيدة. هناك ثمة ارتحالٌ شبقيٌّ متعشِّقٌ جسد كل سؤال يطمح طموحًا فلسفيًّا؛ فالجسدي الراغب بالجسد الآخر يحمل معه إليه كل جسديته، لا لكي يتخلَّى عنها أو يتحرَّر منها، بل لكي يكسب بها جسديةَ الآخر؛ فالسؤال لا يتخلص من نفسه بلقاء ثمة جواب ما، بقدر ما يتضاعف في ذاتي التسآل نحو جواب يعادل برانية السؤال، وتسكُّعه على عتبات الأبواب المغلقة، ذلك أنه ليس ثمة جوانية تعادل برانية السؤال.
وليس كل مغلق داخليًّا بالضرورة، كما أنه ليس كل منفتحٍ أو جوَّاب آفاقٍ برانيًّا بالفعل، وليس بين حدَّي هذه القطبية أفعال تفضيل، أو أية مقايسة منطقية أو ميتافيزيقية. والجهوية في هذه المشهدية تكاد تكون معماريةً خالصة. صحيح أن السؤال محلُّه هو اللسان، لكن موضوعه هو حامل هذا اللسان نفسه، والعالم كله من حوله وفيه، والشمولية في السؤال الفلسفي ليست نقصًا فيه، ولا إفقارًا له، لكنَّها تؤلف جسر الاتصال الاستثنائي بالثابت الوحيد في المحايثة كصيرورة، وهو ثابت التغير الدائم. فلم يسئ إلى الشمولية شيءٌ كالتعريف المنطقي للمفهوم (الذي كلما اتسعت قاعدته الكمية افتقرت خصائصه الكيفية)، في حين أن الشمولي يعني علاقة طردية بين الكم والكيف في آنٍ، وليس علاقة عكسية؛ لأن الشمولي يفتح المحدود على المحدود، جاعلًا الحد الذي يفصل هو الذي يصل بينهما، فعليًّا وليس تجريديًّا. أما اللامحدود فهو ثبات هذه العلاقة من كون أن الحد هو الذي يحدُّ ويجمع في آنٍ. فلا يضير الحد أن يخسر كَيْفه المحدود في النقلة إلى المحدود الآخر والآخر … لهذا فالكم والكيف في صيغة الشمول مُطَّردان معًا.
النقلة هي الثابت الوحيد في الصيرورة، وهي العملة أو المفردة النادرة التي تريح اللامحدود من فراغه، ومن تبعثره الفالت. المفردة التي تعبِّر عن إمكان الانتقال من محدود إلى محدود، من جواب إلى آخر، دون أن يضطر هذا الانتقال نفسه إلى اتخاذ شكل ثابت له، ودون أن تفرغ جعبته، في أي وقت، من بروز محدود معين أو اختفاء سواه؛ فالسؤال هو انتقال الشمولي نفسه من صيغة الامتلاء بالكم اللامتناهي والكيف المتناهي إلى صيغة الامتلاء بالمتغير وحده، بالفجائي والفوري، الذي لا يثبت شيئًا آخر غير فُجائيته وفوريته.
إن كان السؤال يبحث عن الأصل، فذلك لأن مهمته أن يذكِّر ﺑ «الشيء»، من وراء التصورات والاعتقادات والآراء المتراكمة فوقه، تحجبه وتغير منه. وهنا ينبغي التنبُّه إلى أن السؤال الفلسفي ليس تذكيرًا أو بحثًا عن أصل الشيء، ولكن عن الشيء عينه باعتباره أصل ذاته، أو على الأقل بما هو عليه واقعًا. ليس البحث عن «الأصول» بهذا المعنى سوى البحث عن الأشياء كأشياء، أو كأصول ذاتها، والمقصود واحد. ليس ثمة أصلٌ للشيء غريب عنه، وأصله هو متغيره الفريد الذي يجعل منه ما هو عليه، أو ما هو ليس كذلك. هو أصله الذي يحمله معه، يغيِّره ويتغيَّر معه وفيه.
كل ذلك لأن الشيء هو عين ظهوره. لا شيء يختفي أو يتخفَّى فيه إلا ظهوره ذاك. فما يخفيه لا يجيء منه، ولن يتساقط عليه مما ليس له أو منه. حتى «مفهوم» الجوهر فإنه لا يؤسس الظهور ولا يستوعبه، بل يغدو أضعفَ منه؛ لأن الظهور يحتمل في سياقه الجوهر، وكذلك اللاجوهر.
كل ما أبدعته فلسفة الظهور على يد مؤسِّسها الحديث هيغل، وطبعًا قبل هوسرل الذي اعتمدها منه — هو استعادة الفكر كظهور، بما يؤكد ارتجاع السؤال الفلسفي من سلطة المنطق الأرسطي إلى لحظة التسآل السقراطية، أو بما يعيد إدراج المعرفي في جوار الميتافيزيقي، وليس «تحت» قبته؛ فالتقدُّم حلقيٌّ دائري، بحيث إن كل نقطة تفارقها الحركةُ لا بد أن تعود وتلتقي بها. فإذا ما نُظر إلى التقدم الدائري من وجهة منطقية أرسطية، انحلَّ إلى مجرد «دور فاسد»، ويصدق بذلك هذا المصطلح المدرسي كليًّا هنا. أما إذا نُظر إليه من خلال المحايثة، فإن تقدم الدائرة هو تعاظم اتساعها واستيعابها، كالشبكة التي تتواصل وهي تتفاصل، لكنها تغطي أوسع مساحة. فالفكر هو الظهور، يولد فيه ويتنامى معه ويتماهى فيه. الظاهر ليس هو السطحي مقابل العميق، لكنه هو كل ما يعرضه الشيء عن ذاته وبذاته، حتى ما يخفى منه قد يندرج في منحًى من مناحي استراتيجيةِ ظهورِه عينه، ويمكن أن نتدرَّج في هذه الاستراتيجية حول الظهور والخفاء، إلى أن نبلغ كينونة هيدغر، التي يغدو كل ظهورها هو من قبيل «انسحابها».
الفكر لا يبحث عن الظهور، لا «يسأل» عنه. لا يتصور الفكرُ نفسَه أنه يمكنه أن يوجد خارج الصيرورة. حتى العدم ليس خارج الصيرورة؛ فلا محل للفكر إلا داخل الصيرورة. ليس هناك وحدة وجود بين المفارق — الفكر هنا — والمحايث، بل تتضح الحالة الفريدة التي تدل على كيفية الفكر، على طريقة وجود «داخل» الصيرورة، من خلال استعارة معمارية تسريعية معًا، وهي أن الصيرورة ليست إلا تتابعًا من تقاطعات الفكر مع المحايثة. ليست مهمةُ الفكر ها هنا تجسير العلاقات بين أزواج من المفاهيم. لا يأتي الفكر بالمفارقة إلى صميم المحايثة، ليس إلهًا، لا خارج العالم — العقلانية الميتافيزيقية — ولا داخله — عقلانية الحداثة الكلاسيكية؛ فلقد جاء هيدغر بثورة أن الاختلاف الذي يدخل إلى العالم مع الزمان، مع الإنسان، مع اللغة. ولكن ما هو هذا الاختلاف الذي «يدخل» العالم؟ وأين كان، وأين محلُّه قبل هذا الدخول؟ أليس الأصح القول إن العالم هو الواحد الكل الذي يلقى هُويَّته في ثبات الاختلاف، كاختلاف أن العالم هو «حمولته» الدائمة من الاختلاف.
ليس هذا التوصيف شعريًّا أو فكرويًّا، لكنه كوسمولوجي رياضي، وهو كون الأرضية الافتراضية للنظرية النسبية تنتمي إلى الفيزياء الكونية، لكنها في الوقت عينِه تولج في الفكر على هيئة الرياضة النسبية؛ فالنسبية هي لغة الفكر كونيًّا، وهي الجواب «الواحد» مقابل «الكل»، الكون، الذي يبقى مع ذلك سؤالًا، أو سؤالَ نفسِه على الأقل؛ فالمسافةُ بين «الواحد» و«الكل» هي حدسية وفورية على مستوى التجريد، لكنها على المستوى العيني تمتلئ بمتغيرات لا محدودة، إنها البرية الوحشية التي تعدو فيها كل «الاختلافات»؛ وبالتالي فإن الاختلافات نفسها هي الأشياء؛ فالاختلاف أقرب المفاهيم إلى الواقع وأبعدها عن التجريد. ولقد اعتبرت وظيفة العقل أنها موحِّدة، وأنها طريق الإنقاذ الوحيد من الفوضى التي هي السديم، الكاوس. ونُظر إلى الكاوس وطنًا مخفيًّا للامعقولية، إنه ما يقع خارج الحدود. والحدود أو التعيينات هي انتصارات وفتوحات العقل، يسجلها بحق الفوضى وضدها في آنٍ. كأن العقل يُطارد الأشياء «المجهولة» ويعتقلها في مسلسل أسبابها. إن الكشف عن السبب يبطل الشيء كسؤال، أما إذا ظلَّ السبب مجهولًا، فهذا قد يطيح بالشيء كشيء، يخرجه عن ساحة المعقول.
الظهور ليس سكونيًّا. تحركه الأسئلة والأجوبة؛ فهو ظهورٌ ليس مرشحًا لأن يظهر كله، ولا أن يغيب كله. والعلاقة معه علاقة كشف وانكشاف، وليست علاقة إبحار في المجهول (كالعالم) ولا انغمار في المغيوب (الدين والتصوف). بل هي علاقة انتظار باحث عما ينتظره. وقد يلقاه ولا يلقاه؛ فالكشف هو كشف الانتظار عينه. ولا يهم هذا الانتظار أن يعرف ما يبحث عنه سلفًا أو لا يعرف، لكن الآتي بعد ذلك الانتظار لن يحمل كشفًا أو سرًّا جديدًا، لم يكن يحمله انتظارُه عينُه من قبل، وعلى نحوٍ ما.
الفلسفي: السؤال؟
تاريخ الفلسفة الحقيقية، هو تاريخ الأسئلة وليس الأجوبة. وبينما تنخرط جميع العلوم الأخرى في تقديم الأجوبة أو الحلول، أو أشكال اليقين والمعارف، فإن الفلسفة هي أفقر الفقراء في هذا الميدان. ليس لديها أية معارف، وإن اعتقد الكثيرون أنها في أصلها هي البحث عن المعرفة. صحيح هي: البحث عن … لكن مسألة الوصول: إلى المعرفة، إلى هذا الحد الثاني والشاطئ الآخر من العبارة، هي غير المتحققة بالمعنى المتداول. ليس للفلسفي ما يتطلَّبه خارج ذاته، رغم أنه يتدخَّل في كل ما يعنيه ولا يعنيه، لا يتجاوز البحث نفسه «إلى» المعرفة إلا لكي يرتدَّ إلى البحث. وقد يحق للآخرين أن يصفوه بالبحث النافل والعقيم؛ إذ إنه في حين ينشغل الناس بهمومهم، فإن السؤال الفلسفي لا شاغلَ له حقًّا. رغم تطلُّبه الكل دائمًا فإنه ينقصه الواحد؛ ولهذا لا يسير السؤال في طريق واضحة، كما أنه لا يتوقف عند التقاطعات الملتبسة. بالأحرى فإن أرضه بدون دروب أو تقاطعات تشبه الأرض البور التي تسبق العمران. وتشبه الأرض التي انهدم فيها العمران. أما العمران نفسه فليس من شأنه.
الثابت الوحيد في الصيرورة هو كونها التغير الدائم. وهذا ما يطمح السؤال إلى أن يجعله مكانه. أي إن «مكانه» هو الذي «يكون» دائمًا. وإن مجاورة التكون أو الانفجار في تيار «الصائر» يحتمل معه مغامرة اللاتكون واللاصائر. والسؤال ليس وقوفًا على هذا الشفير بين الصائر وما يصير أو لا يصير إليه. ذلك ما يدعيه على الأقل لكنه سرعان ما يبدِّد نفسه ادعاءاته، فإن المقارنة بين ما يكتبه فيلسوفان في ذات البرهة التاريخية، وفي عين الظروف، تبرز كم هي مساحة الاختلاف عظيمة بين الكتابتَين، بالمصطلح والصياغة، بالهم والقول، باللغة والمنطق. ومع ذلك فكل كتابة تُقيم فلسفةً، وحتى: الفلسفة عينها، أو لا شيء على الإطلاق.
امتياز السؤال الفلسفي أنه كلما شرع في تناوله فيلسوفٌ، فإنه يكتبه كما لو أنه لم يكتبه أحدٌ من قبله. حتى عندما يعرض نصٌّ لهذا المفكر، لنص آخر لمفكر آخر، فكأنه يعرض لما لم يكن قائمًا. والسؤال الفلسفي لا ينمو، كل نموِّه أنه يحبو؛ لأنه طفل لا يكبر أبدًا. يظل ساذجًا وجاهلًا ومرتبكًا أمام أبسط حقائق العام وأشيائه. تتسمَّر عيون الناس على المناظر. وليس في عيون الفيلسوف أي منظر. ويُقال إن الدهشة حالته الدائمة، لكن ماذا يرى حتى يُدهش حقًّا!
ويقال إن السؤال الفلسفي مَجْلبةٌ للشك ومَهْلكةٌ لكل يقين. ولقد كان كثيرٌ من فلاسفة التبشير يدعون أنهم يؤسسون قواعد اليقين، كما يفندون دعائم الشك، لكن السؤال الفلسفي أثبت أنه لا يقدم أية ضمانةٍ سواء للسلب أو للإيجاب. وهو في الوقت الذي يدمِّر عدَّته الذاتية باستمرار، كيف يمكنه أن يخترع عدَّةً للآخرين. السؤال الفلسفي لا يخيف لأنه هو الخوف؛ بمعنى أنه لا يكاد يجد أمانًا أينما كان، حتى عند ذاته، حيثما لا شيء لديه يعطيه أو لا يعطيه، سوى خوائه. وهو خواء عنيد ليس تواقًا للامتلاء. بل لعله يكافح كيما يحتفظ بخوائه ذاك، فيما تزدحم كل الفراغات بمخزوناتها. السؤال الفلسفي متخفِّف سابقًا من كل حمولة، حتى حمولته اللغوية والدلالية معًا. فلا ترضيه أية لفظة، أية دلالة، تُلقى على كاهله. ويفرح أن يُدخِل الخلاء إلى الممتلئ واللامعنى إلى المعنى. وأنه إذا ما تورَّط واندرج داخل أية جوانية، فإنه يكافح للاحتفاظ ببرانيته وهو في الدواخل كلها. ومنذ زمان، والسؤال الفلسفي يرفض ادعاء الأعماق أو حديث الأعماق. كلَّما التقى عمقًا قصفه ببعض حمولته من الخواء، فتناثر العمق شَذرَ مَذرَ وطفحت بقاياه فوق السطوح. العمق هو كل ما يخلِّفه وراءه سقراط مشَّائيًّا في شوارع المدينة. وهو عندما عزا إلى نفسه مهمة توليد المعاني على شاكلة زوجته مولِّدة الأطفال. فإنه كان في الواقع يخاتل ويمازح، ويسخر حتى من نفسه؛ لأنه كان يعلم أن صنعته الحقيقية ليست سوى الإجهاز على المعاني من أجل تلك اللامعاني الأخرى التي قد يأتي بها فن التكوين أو التوليد، أو لا يأتي؛ فالتوليد ليس مسئولًا عما يولِّده إن كان إنسانًا أو مسخًا، أو مجرد لا شيء.
وعلى هذا، فإن سؤال الواحد الكل يبدو أحيانًا لغلاة العلمويين، أشبه ببقايا ميتافيزيقية زائلة. قد أصبح سياقًا محوريًّا للعلوم الفيزيائية الفضائية؛ فالكونية أو الكلية ليست تجريدًا ذهنيًّا، وما تشوَّق السؤال إلى هذه الكونية، إلا لأنه كان يلقى ترميزها شبه الوهمي في فطرته عينها. وكل ما يفعله السؤال أخيرًا، بعد الرحلة الفلسفية والعلمية الشاقَّة، أنه يعمد إلى «تلويث» الواحد ببعض هذا الكل. ومنذ أن اكتشف هيغل أن تعيُّن الشيء بمثابة نفي لكل ما عداه، فإنه حرَّر السلبَ من احتكار المنطق له ضمن وظيفة شكلانية، ودشَّن بذلك استثمارًا جديدًا للسلب كلاعب رئيسي في تفعيل أقنوم الواحد الكل، أي في استرجاع السؤال إلى حافة الكونية، حيثما مكانه القلق العريق، كأنما السؤال هو الواحد، الذي ما إن تقوم قائمة حتى يمكن للكل أن يحضر، إن كان حضورًا منسحبًا، لكن الكل لا يمكنه أن يحضر حقًّا إلا وهو منسحب، وإلا لم يعُد كليًّا.
صحيح أن الانسحاب ليس هو السلب. وهذا هو الفارق الأنطولوجي بين استثمار السلب كحد حاسم وقاطع مع هيغل ومثالية القرن التاسع عشر، وبين الصيرورة – السلب، التي تقدم الحضور حركيًّا دائمًا لما يأتي ولما يغيب في آنٍ واحد؛ فدلالة الانسحاب تستوعب السلب وتتجاوزه. تعطيه بروفيلًا أكثر ألفةً ومدنية. وفي الوقت ذاته تسمح للسؤال الفلسفي أن يستردَّ العتبة، ويحتل الحافة بين كل المساحات، دون أن يقطع أسيرًا لساحة واحدة بعينها، لحافة واحدة.
إن السؤال يسأل نفسه وموضعه معًا. ذلك أن السؤال هو طريقة للاتصال بالآخر ولا بد من اختيار الطريقة، وفحص الطرق المتاحة، للتقرُّب من الموضوع؛ فالسؤال يضفي من طبيعته، من تسآله، على أدواته، وهو قبل الحديث عن إشكالية المنهج، فإن له قلقه المشروع حول الوسيلة والجدوى من كل تحققٍ له، من كل ما سوف يحدث له. وقبل أن يصبح المنهج أهم أبحاث الإبستمولوجيا، كانت له إشكاليته الأنطولوجية من إشكالية السؤال نفسه. ذلك أن منهج السؤال في إثارته وتشكيله. وأساليب تحققه وتوجهه نحو الهدف، يجعل من السؤال إشكالية نفسه أولًا قبل أن يكون إشكالية الموضوع. وهو لا يمكنه أن يتخلَّى عن ذاتي — تسأله طيلة ارتحاله عبر تسآل الأغيار. فلا يمكن للسؤال أن يقف خارج مغامرته. لا يترك للآخر أن يعطي، ويكتفي هو بالتلقِّي. ما يتلقاه السؤال من الجواب أو الأجوبة لا يملأ فراغه، ولا يسد جوعه، ولا يقطع إلحاحه. لا يرتد عليه من الأجوبة ما كان يتوقَّعه، أو يحدس به ويصطنعه اصطناعًا أوليًّا؛ إذ يظل السؤال باحثًا عن جوابٍ لا يتوقعه أبدًا. وخروجه عن نفسه، ومن نطاق نفسه، ليس ذلك إلا طمعًا بالفُجاءة التي لا يعرفها؛ إذ عندما تسكت كل الأسئلة يبقى سؤال الجواب وحده قائمًا، ذلك أن ديوجين يصرُّ على إضاءة مصباحه والتجوُّل به في وقت الظهيرة. ليس ذلك إلا لأن السؤال الفلسفي يطلب تعيينًا في اللامتعين؛ بحيث يذكِّر المتعين المضيء باللامتعين اللامضاء بعد، في كل لحظاته.
فالسَّلْب بعد هيغل وماركس ليس زمنًا موقتًا. ليس ثمة ديالكتيك مثالي أو مادي يمكنه أن يقرِّبه ليلغيه. لم يعُد السلب استثمارًا بيد العقل استخدامه متى يشاء وإقصاؤه متى يريد. أصبح المتعين ليس سوى طريقة تكثيفٍ لِلَّامتعين؛ فالسلب لا يقع على حوافي المتعين لكنه يؤسس تعينه كذلك. والسؤال هو الصيغة شبه العقلية التي تجسِّر العلاقة بين المتعين واللامتعين، إنه سؤال التكثيف الذي يحتاج إلى كلٍّ من المتعين واللامتعين معًا. هو الجسر الذي لا يوجد بين الضفتَين منفصلتَين فحسب، بل متداخلتَين، وعرضةً للانجراف إلى عمق النهر بينهما، والذي قد يكوِّنهما ويدمِّرهما ساعة يشاء.
إن الرحلة الطويلة الشاقة الغنية التي أنجزها وابتناها الجدل الهيغلي؛ من أجل أن يفسر الكينونة الفارغة من كل تحديد بما يمكن أن تصنعه وتمتلئ به، ما إن تتحرك مع نقيضها المفترض، الذي هو منها وهو جوهرها على كل حال، أي الذي هو العدم هذه الرحلة التي صار اسمها التاريخ الكلي للروح، أو للمطلق الكينوني المتجسم عبر حركة التاريخ الإنساني، يريد هيدغر أن يقطعها عكسيًّا، أي يتراجع هابطًا إنجازاتِ التاريخ نفسها؛ لاسترداد حقبة ذلك اللا-نظام الأول، المتخيل والمرمَّز والمفترض، لكنه هو الكفيل وحده باستعادة العتبة التي ليست هي البَدْء، بل قد يجعل البَدْء ممكنًا لا ممكنًا.
إن الكينونة تحتاج إلى الزمان، إلى التاريخ كيما ينشئ لها لغة ترميزية تساهم في إنشاء موازاة لِلُغزها، ولا تجد مثل هذه الحاجة قابلة للتجسُّد إلا بفاعلية السلب، وذلك، كما شهدت عليه أعمال هيغل العملاقة، فإن هيدغر يتعامل مع الكينونة من خلال قلق الحالة الإنسانية عينها. فالفلسفة تحديث، ومنذ القديم، عن الكينونة، وأهملت سؤال الوجود، أو تلك الحالة الإنسانية التي تضع الكينونة عينها موضع إشكالية، من خلال إشكالية وجودها (أي الحالة الإنسانية). وهو البدء الخاص الذي يكتشفه هيدغر لأول مرة، ويتميز به ليس عن الفلسفة التقليدية، بل عن التيار الألماني المثالي والنقدي، من كانط وهيغل؛ لأن القضية الإشكالية، أو جوهر التسآل لم يعُد يحفل بالثنائية أصلًا، ليس مضطرًّا للاختيار بين «الكل» أو «الواحد»، لكنه متورط ومُنْهَمٌّ بهذه العلاقة الالتباسية مع نفسها أصلًا: الواحد الكل، في آنٍ. ذلك أن الانهمام بالكل ألغى السؤال الفلسفي ليحلَّ مكانه الترميزُ التجريدي فالديني، وأخيرًا الأيديولوجي كذلك؛ فإن الانهمام بالواحد قد أدَّى إلى توزُّعات العلوم الإنسانية بين النفسية والإنسانية (الأنثربولوجية) والحيوية (البيولوجية). وهكذا لن يتم استرداد السؤال الفلسفي إلا عندما تحضر إشكالية الواحد الكل، التي لا تأسر الوجود في خانة الحد الأول، أي الواحد، ولا تنشر الكينونة عبر لا نهائية الحد الثاني (الكل)؛ فالوجود أو الموجود ليس شِبْهًا ولا عَرَضًا. وهو لا ينزل نزولًا ميتافيزيقيًّا أو إسكاتولوجيًّا من الكل. كما أنه عندما يصير الواحدُ هو الكل أو العكس، فالحدَّان يفرغان من أي مضمون مجددًا, والأفلاطونية هي التي أسَّست هذا النوع من الاختيار الذي يختصر العلاقة بين الحدَّين إلى مجرد محاكاة، ويُسجَن الفكر في اختيار عقيم لأحد الحدَّين؛ تارةً عن طريق التفريق بينهما على قياس الفرقة بين الأصل والشبه، بين الواحد والكثرة، بين الهُويَّة والآخر، بين المُنتِج (بكسر التاء) والمُنتَج (بفتحها)، وتارةً كاختيار لأحد الحدَّين ضد الآخر. وكان جدل الترابط أو التآخذ، الكشف والستر، بين الأصل والأشباه، اختصر السؤال إلى مهمة المحقق الأمني أو الاجتماعي الذي يخترق الأستار، ويكشف عن الأصول والأسباب العميقة، مقابل الأشباه والأعراض. وكذلك فإن الانشغال في البحث عن «العلة الأولى» أسَّس تقاليد السؤال الفلسفي، قروسطيًّا دائمًا. وقد كان أوضح جواب مغلوط اخترعته الأفلاطونية، ثم قدسته الأديان، وجسَّدته الأيديولوجيات الكليانية المعاصرة، إذ فقدَ السؤال بذلك موضوعه وهو سؤال ذاته، ليغدو سؤال الأصل والشبه والواقع. فليس «نسيان الكينونة» إلا لتواري السؤال، واحتلال الجواب لمكانه ومكان السؤال، وبنيته الأنطولوجية الإشكالية، ودوره الفوري والراهن، في وقت واحد. كان ذلك هو موت السؤال قبل أن يُولَد.
والأجوبة المغلوطة ليسَت مقتصرةً على الأفراد، بل إن الجماعات كأممٍ وثقافاتٍ يمكن أن تنخرط في أفخاخ الخطأ وتتعامل معه من وراء القدسيات والعادات الجمعية والإسقاطات الوهمية، لكن المسألة ليسَت في الجواب الصح أو الجواب الخطأ مع ذلك؛ فالأجوبة تتساوى جميعها من حيث المعيار، عندما ينعدم السؤال أو يغيب. وقد تنسلُّ وتتسلسل الأجوبة من بعضها، إلى ما لا نهاية، ويسمي بعضها البعض الآخر بأسئلة، وهي ليست كذلك أبدًا. الفوز بالسؤال يتطلَّب كسر الحلقات المفرغة التي تدور فيها سلالات الأجوبة المتناسلة عن بعضها. والفكر المعتصم بسؤاله يصير أشبه بذلك الشاعر الجاهلي الصعلوك المطرود والمطارد من قبل القبائل جميعها. والناس إما أنهم يركنون إلى دواخل بيوتهم، أو جائلون في الشوارع، لكنَّ أحدًا لا يمكث بين بين، على العتبات وحدها فقط. ذلك هو الموقع والموقف الأكثر خطرًا دائمًا. رغم أن موقع العتبة موقف لا معقول، لكن اعتبارًا منه قد تشتغل العقلانيات، ومع ذلك فكل عقلانيةٍ لا تُكبِّد نفسها عناء احتمالها لعتبتها عند كل بلاطةٍ تبتنيها في قصرها المنيف، ولهذا السبب سرعان ما تُسقط المذاهبُ حسابَ العتبات من سجلاتها، فتختنق داخل القصور المنيفة التي تصبح بدون مداخل ولا مخارج. إلا أن السؤال الموغل في قاعات القصر ودهاليزه، لا يكفُّ عن التلفُّت وراءه حتى لا يفقد طريق العودة، براعته الخاصة هي انسراعه اللماح في اجتياحاته البرقية لمعظم القاعات والدواوين المغلقة، وفي انسراعه الأكثر نحو المداخل التي تغدو مخارج، وإطلاق قدمَيه مع الريح، اعتبارًا من العتبات القائمة هناك، نحو كل اتجاه.
Deleuze: Le pli. Leibniz et le baroque. ed. Minuit.
Deleuze: Différence et répétition, PUF 1969. p. 164. et des suites.
Deleuze: Le Pli, ed. Minuit.
يُراجَع كتاب ما هي الفلسفة لدولوز، الترجمة العربية الصادرة عن مركز الإنماء القومي – المقدمة.