(٣) من «تلك» الميتافيزيقا إلى التأويل إلى انتظار السؤال
أين هو عُري العالم حقًّا؟ وهل ثمَّة دلالة لهذه العبارة؟ آلية الحجب والكشف لم تَعُد تغري أحدًا، وحتى الفلسفة وموضوعها الظهور؛ وإن كانت «الفلسفات» انشغلت في لعبة الكشف والغطاء. كان الهم هو في كشف الغطاء. لا يبقى ثمة فارق بين قطبَي تلك الثنائية، رغم قدم استبدادها بساحة السؤال. ولقد عززت خانة الكشوف العلمية من هذا الاستبداد. فكل معرفة مخبرية؛ كل معلومة، ومادة لقانون «علمي»، تؤلف كشفًا. والغطاء ليس الإخفاء الأيديولوجي أو الطقسي أو الغيبي، أو حتى التغطية اللاعبة العابثة، لكنه هو الجهل الذي يقابله تقدم المعرفة. والعالم المادي موضوع لامتناهٍ للمعارف والمعلومات، لكن الكوسمولوجيا، أي ذلك الكون الذي يمخر عبابَه الإنسانُ، في مركزه أو في أطرافه، أو حتى في أصغر زاوية منه، وهو عالم السؤال، حيثما الكون هو مجهول الإنسان، الحقيقي؛ والإنسان فيه هو اختلافه الرئيسي أو الفريد. ذلك ما يعرفه الإنسان عن نفسه، وعن موقعه من الكون. والإنسان هو الاختلاف لأنه يحس المجهول، ويسمي اللامتناهي، ويختلق لنفسه دائمًا ثمة نتوءًا يقف عليه وسط التغير العظيم من حوله، الذي يسميه كذلك، ويشرع من موقعه ذلك في السؤال. فالأصل ليس في كشف الغطاء، ولكن في معاينة الظهور نفسه.
ومنذ بارمنيدس استيقظ الفكر على هجمة الكل. عبَّر عنه ذلك الفيلسوف البَدْئي بذلك الوجود الشامل، حيثما كل شيء هو موجود. حيثما كل موجود يذكر بالامتداد العظيم والحجم الهائل والوساعة المطلقة. هذا الكل يفجأ الوعي، يحاصره من كل جانب. سارتر أحس به مطبقًا على أنفاسه. باتاي اخترع أسطورة الاختراق حتى يلقى المنفذ. فوكو فتَّت الكل، ابتدع فكر الفجوات، هنالك دائمًا ما يُطبق على الوعي، على الصدر. فالكل ليس وهميًّا، لكنه يملأ كل شيء. والملاء وليس الفراغ، هو حاجز النفس، عقبة الانطلاق، عدو الحرية، الملاء يسد الطرق، ويحشو منافذ الاختراق. الملاء سكونيٌّ غاشم مظلم وإن كان يفيض ضياءً وشفافية؛ فالوجود طافح مهاجم، وزائد عن اللزوم. وسارتر استنجد بالعدم كيما يثقب الكتلة الهائلة، يُعمِل فيها صدعًا وشرخًا. فالإنسان وحده هو الكائن الذي يجلب العدم إلى الكتلة، يحلُّ فيها الصدوع والشروخ. والسؤال البَدْئي: لماذا كان وجودٌ ولم يكن عدمٌ، لم يكن احتفالًا بالوجود وحده بقدر ما شرَّع النداءَ على العدم. العدم هو غير الموجود؛ فهو موضوع السؤال الوحيد الأصلي. إنه أشبه بفسحة الحرية، النادرة. وقد يحيا المرء عمره بطوله دون أن يفوز بنعمة السؤال عن شيء ما؛ فالوجود حصار مطبق على أسراه، وقد لا يدري المحاصَرون أنهم كذلك أبدًا. والكهف لم يخرج أحد من أهله كيما يعود إليهم بحديث عن عالم آخر. و«الاختلاف» هو نوع من هذا الحديث الذي لم يقُله أحد بعد. ومن هنا يظلُّ السؤالُ سؤال أهل الكهف أنفسهم. إنه آخر المحاصرين الذي يتلهَّى الآخرون باجتراره كأسلوب يائس لفكِّ أسرهم، في حين لا يدري أحدٌ كيف ومن يفكُّ إسار آخر المحاصرين: ذلك السؤال، الذي هو نعمة الآخرين، ونقمة نفسه على نفسه، في آنٍ. وسؤال الطفل البريء سرعان ما تطبق عليه أجوبة الكبار الناضجين.
هيراقليط رفض سكونية الكائن العظيم المداهم من كل حدبٍ وصوب. تجاوز الخيار بين أحد قطبَي الثنائية: الوجود أو العدم. أخذهما معًا. اكتشف بديلًا عن الكتلة الصماء، حركية الخضم اللامتناهي الذي «يصير» العدم والوجود معًا. فالمشهدية سائلة تمامًا، والإطارات حالات من سيولة المشهدية عينها؛ فالكل ليس معطًى أبدًا. ما إن تدخل الحركة إلى صميم الوجود حتى يغدو «المستقبل» مؤسسًا حقيقيًّا وفريدًا، للوجود. والمستقبل هو موطن المجهول؛ فالمجهول هو المصير الدائم، يعود السؤال ليحتل العتبة من كل ما هو قائم وما سوف يقوم، لكنه سؤال ماذا؟ ذلك هو السؤال بَدْء الكلام بعد انقضاء جميع الأجوبة الصامتة!
تسآلُ ذاتِ العين
عودة السؤال تؤذن بتجاوزية تعارضية بارمنيد — هيراقليط، الكتلة والخضم. الوجود السكوني المداهم، والصيرورة اللامتناهية؛ السؤال يبارح الواحد ولا يصل إلى الكل. يتجاوز الضفتَين معًا لينطلق مع الجسر المحلق.
لكن الفكر لا يفكر إلا تحت سلطة من عنف الخارج. والأجوبة قد تختزل هذا العنف، لكنها لا تلغيه. من هنا فالسؤال هو خروج كذلك من أزمة هذه العلاقة الالتباسية بين اختزالية الجواب، واستمرارية الخارج كقوة غير قابلة للاستنفاد. يستعيد السؤال موقعه المستقل خارج كل من أية صيغة للترميز، وأي موضوع تستحوذ عليه الصيغة. واستقلالية السؤال تستمد عونها المباشر من استقلالية البرانية عينها، ولكن بطريقة جوانية؛ فالسؤال ليس «جسرًا على» الهوَّة بين الجواني والبراني، لكنه اعتراف ذهني وإجرائي في وقت واحد، بكون الخارجانية هي أصلًا قوة، وأن الفكري ليس هو كذلك إلا تحت وطأة خارجانية القوة، وقوة الخارجانية، أما الترميز فإنه لا يبرح السؤال. يشكل مغامرة التجسير الذي من حيث هو يتملك من ضفة ما، فإنه يظل في حال من عدم ضمانه الضفة الأخرى، أي: أين هي حقًّا، وكيف هي، ماذا ولماذا الوصول إليها؟
هكذا، فإن ثقافة الترميز التي يبنيها الواحد قد تنجح في تأسيس ضمانة لإحدى الضفتَين، وهي ضفة الانطلاق غالبًا، لكنها تغامر في مجهول الضفة الأخرى. إنه المجهول الذي هو وطن القوة، ووطن التصدِّي للقوة كذلك، حيثما لا ضمانة لالتقاء التجسير بضفته الثانية.
وقبل أن يتبيَّن الفكر ما يعنيه بالحد، كانت مسألة الجَسْر على الأشياء أكثر ما تشغل العقل، كفاهمة، كقوة على الفهم، أو على العقل — أي الربط لغويًّا عربيًّا — فالجَسْر على الأشياء أسس منطق العلاقة قبل منطق الحد، أو الماهية، أو سؤال: ماذا، أو: ما هو. وذلك عكس ما يقوله التحقيب المعرفي من حيث نشأة السؤال المنطقي؛ فالتشكيل ليس سابقًا لعناصره، كما يقول الجشطالتيون ومن بعدهم البنيويون، اللسانيون منهم بخاصة، لكن التشكيل، إذا نظرنا إليه باعتباره عملية جَسْر على عناصره أو أشيائه، فلن تقوم إشكالية تسابق بينهما، أي بينه والأشياء؛ إذ لا يمكن تخيُّل الجَسْر إلا ومشهدية القنطرة قائمة، بما هي كذلك، وبما هي آتية والضفتَين معها، وما يسيل أو يوجد بين الضفَّتَين في آنٍ واحد.
إشكالية السؤال أنه يشرع في التشكيل لكنه لا يكمله؛ وأنه يمد الجِسر، لكنه لا يتم فعل الجَسْر، (بفتح الجيم). فالجَسْر يخسر، مع السؤال، يقين الضفة الثانية، كما أن إشادة جِسر، انطلاقًا من لا نهاية الخضم، بحيث تغدو الضفة الثانية بمثابة اللامتناهي، أي إنها تبدد نفسها دائمًا، هذه الإشادة قد يستشرفها الفلاسفة العظام. لكن معظمهم لم يكن يصبر على ضياع الضفة الثانية فيخترع بديلًا عنها. عوضًا من مغامرة البحث عن الجسر، يصطنع جسورًا. يعلِّق قناطر، ترتسم أقواسًا فوق الضفتَين الاثنتَين دائمًا، بدلًا من أن يخوض هؤلاء الفلاسفة «العظام» غمار المجهول الحقيقي المرتسم أمامهم، فإنهم يخترعون استراتيجية إلغاء العباب، مقابل التشبُّث ببناء السفينة فحسب!
إن المذاهب الكبرى تتعارض فيما بينها، لكنها تتفق حول دعواها بالقدر على اكتشاف طريقة ما في فعل الجَسْر على الأشياء. كل مذهب قنطرة. وكل قنطرة تقفز فوق النهر أو الهاوية، وتدَّعي الوصل بين الضفتَين. وحده السؤال السقراطي يظل قانعًا بالحافة الواحدة فحسب. ها هنا تنهض دائمًا، ليست تلك العمارة التي تمطر أساساتها تحتها، ولكن تعمق الهوَّة أكثر فأكثر، بما يجعل الفوز ببقعة من حافتها الثانية أشبه بفوز رسام عبقري بلوحة ترسم الليل.
ذلك أن الجَسْر، وليس الضفتَين، هو من عمل المستقبل. وأما الضفاف فهي، كلها، من جيولوجيا العالم، وليس من زمانه.
السؤال هو كالغريب، كالداخل على الأهل، الأهلي، الآتي من خارج الحلبة ناثرًا الغربة أو الغرابة بين أوجه المتعارفين القدامى، والمتناسلين قرابيًّا، والمتعاهدين والمتعاقدين على الأعراف والقوانين، وخاصة على الدلالات، تلك، تنشر اللغة الأخرى الصامتة التي تنطق بها اللغة الصائتة. السؤال يقرع أو لا يقرع الباب، لكنه يدخل على كل حال إلى الأمكنة المأهولة والمنتظمة والمنسقة، لكنه يأتي بالريح التي تنثر الفوضى في المكان حولها. السؤال يفرغ الأمكنة من سكانها. يخلخل ما بينها. فجأةً تعود الدهشة إلى العيون. ذلك المتطفل الذي يدخل على الناس آتيًا من الغربة، ومن خلف جدران المدينة، ومن المساحات الشاسعة الفارغة من الأهل والزرع والضرع. إنه غريب حقًّا، ومجنون وبينهما قرابة أكثر من لفظية أو متصورة. كلٌّ منهما قد يقلب الأمور عاليها سافلها، إلا أن المجنون الذي يوطن اللامعقول وسط المعقول يعيد توطين عزلته نفسها داخل المجموعة. في حين أن السؤال كغريب، لا تنتهي غربته تجاه الآخرين إلا عندما يكفُّ عن ممارسة غربته، يكفُّ عن كونه سؤالًا عائدًا إلى مكانه الفارغ من صلب النص الذي نفر منه.
عندما اعتبر كيركيجارد أن سؤال الحقيقة: ما هي الحقيقة، هو الحقيقة عينها، فإنه كان يفضل مقاربة الحقيقة من أبوابها المشرعة دائمًا على ما ليس منها، ليس بحقيقة، وليس بما يضادها أيضًا. إن سؤال الحقيقة يعيدها إلى مظهرها الأصلي، كونها غريبة، أو اﻟ: غريبة. فلا يصرخ اللسان: وما الحقيقة إذن، إلا عندما يسد الضلالُ كلَّ المنافذ. عندئذٍ صرخة (الأين؟) هذه، تنادي المكان البعيد القريب الذي تسكنه عادة، أو لم تعُد تسكنه أبدًا، أيةُ حقيقة. إن الحقيقة كائن مغترب دائمًا. والسؤال هو ذلك الغريب عينه الذي يعلن أو ينادي على محل للحقيقة لم تعُد تؤدي إليه دروب العقل المبذولة. لا فرق بين الحقيقة ومحل لها. ذلك أنه بينما كل الدلالات والمعاني تجلس في أمكنتها المعهودة، وتمارس أفعال الألفة والتآلف فيما بينها، فإن الحقيقة وحدها مطرودة من الأمكنة عندما يقول اللسان اليومي: لا محلَّ للحقيقة اليوم. هذا التعميم يعلن كأن كل ما له محل راهن إنما يأوي ما لا ينبغي له أن يأويه. كل المتطفلين يغتصبون أمكنة لهم. وعندما تهلُّ الحقيقة، تتسمر في العتبة، تبحث عن مكان لها لم يعُد موجودًا. كل المدعوين احتلوا أمكنتهم، التي ليست أمكنتهم، ما كانت لهم من قبلُ؛ وفي المابعدُ الآتي ليس ثمة مكانٌ لأحد؛ لأن الماقبل أغلق كلَّ منفذٍ نحو المابعد. وحدها الحقيقة لا مكانَ لها. وعندئذٍ لا يفقد السؤال موضوعه الأصلي فحسب، بل يفقد نفسه، عندما لا يعود أحدٌ يعرف السؤال، يسأل عنه.
ماذا يأتي ما بعد الميتافيزيقا؟ هي الميتافيزيقا نفسها ومعها نظامها. أي ذلك السؤال الذي يقلب مقاربة الحقيقة كأقنوم جاهز في مكان ما، إلى الحقيقة التي لا يفوز منها إلا ﺑ: تأويلاته عنها؛ فالتأويل هو فضاء المابعد لكل ميتافيزيقا، ذلك أن سؤال الحقيقة ليس ولا يمكنه أن يكون استيعابًا لها، وإلا، لانهار كسؤال. ولقد رأينا أن السؤال لا يستطيع الانتهاء من استفهامه لذاته أولًا. وهو ما إن يضع العالم كله قُبالته، حتى ينخرط في معاينة اللامتناهي. ومع كل علاقة مخلصة للامتناهي، لا بد أن يغدو السؤال هو صيرورة سؤال، لكن اختلافية السؤال ليست من اختلافية موضوعه أساسيًّا، الذي هو اللامتناهي أو الكاوس أو العالم إنسانيًّا وكوسمولوجيًّا؛ بل لأن المعيار لم يكمن في السؤال على حدة (حيثما فضاء المنهجيات والإبستمولوجيات)، وليس في الحقيقة على حدة (حيثما فضاء المفاهيم والوظيفيات العلمية والمبادئ المنطقية)، بل أصبح ذلك المعيار نفسه يجول ذهابًا وإيابًا على تلك القنطرة، بين ضفتَي العبارة، بين سؤال السؤال لذاته، وبين كونه مسئولًا باحثًا عن الحقيقة. فما هي المعيارية التي تتخطَّى دائمًا كل سلالم القيم، ما دامت تلغي مفهوم السُّلم عينه مع كل حادثة تأويل.
ذلك أن التأويل، على عكس القانون العلمي، فهو ليس ثابتًا بين متحولات (وظيفيات). بل إن التأويل إنما يعطي حادثته عينها كمتحول بين متحولات أخرى، ولا يتميز عن سواه إلا بمعرفته لحالته تلك، كحادثة تأويل فقط، وزائدة عن اللزوم كذلك غالبًا، أي لا تحتمل الضرورة ولا تكتفي بالإمكان، بل تتأرجح بينهما.
لكن إن كان التأويل يشكِّل المحل الفلسفي لما بعد الميتافيزيقا، فإن السؤال يقع محله فيما بعد الميتافيزيقا والتأويل معًا. قد ينبثق منهما، لكنه يغلقهما كدائرةٍ واحدةٍ متكاملة، مكتشفًا كذلك مساحة من البرانية خارج الدائرة، لم يجرِ استشرافها بعد. لكن السؤال لا يقطع مع الميتافيزيقا فحسب، باعتبارها تاريخًا أو قصة للتحقيب المعرفي، تخترع تتابعية من أقانيم «عن» الحقيقة، ويدَّعي كل واحد منها زواجًا أرثوذوكسيًّا متعاليًا معها؛ بما يساعد العقل على أن يمارس في ظلها أفعال نسيان الكينونة، واحدًا بعد الآخر، بل إن مجيء السؤال، بعد ركام التحقيبات المعرفية والنموذجية، يقطع كذلك، وبالإضافة إلى الميتافيزيقا الكلاسيكية، مع التأويل كثورة على «الرحم» الأصلية، وقصة تزويرها المتنامية، التي هي قصة استهلاك الكينونة، وإضعافها تحت أحمال النسيانات النمطية.
مثلما في البَدْء كان السؤال، كذلك يأتي السؤال بعد كلٍّ من الميتافيزيقا والتأويل ليس كنهاية للفلسفي، بل كأحد الحدود لتقدم البدء في كل ما يليه، لعودة القبفلسفي باعتباره ما بعد الفلسفي. والرحلة من «تلك» الميتافيزيقا إلى التأويل، إلى السؤال، لا تطرح تحقيبًا معرفيًّا جديدًا؛ فالجديد حقًّا في هذه التتابعية هو استرداد السؤال لاستقلاليته خارج كل موضوعاته السابقة. فالميتافيزيقا و«ما بعدها» أي التأويل، كانا يشتغلان على الجَسْر، على بناء القنطرة ما فوق الصيرورة، على ابتكار إمكانية الضفة كمحل للذات، والضفة المقابلة كانعكاس لها، للذات. وأما الصيرورة التي تجري بين الضفتَين، فإنها تتابع صيرورتها لا تؤثر ولا تتأثر بما يُجسَر عليها. ذلك أن الميتافيزيقا وما بعدها: التأويل، شُغلا بالأجوبة. والفارق بينهما أن «تلك» الميتافيزيقا أوغلت في نسيان الكينونة، وكان تقدُّمها «وداعًا طويلًا» للكينونة. أما التأويل فحاول قطيعة مع الميتافيزيقا. غير أن القطيعة ليست قطعًا مع موضوعها، بل على العكس فإن التأويل دأب على استرداد الميتافيزيقا اختلافية، بمعنى أنه في كل مرة يرتدُّ عليها، أو على بعض ظاهراتها، فإنه يعيد قراءتها تفكيكًا، أي من حيث كانت قصة وداع طويل للكينونة؛ أو بعبارة هيدغر نفسها «من حيث إنها قصة انسحاب الكينونة.» لكن التأويل، وعند مؤسسَيه الأولَين: نيتشه شعريًّا كينونيًّا، وهيدغر فلسفيًّا كينونيًّا، أن تتأتَّى من خلال أمكنته، ولما يحدث ألَّا تتأتى أيضًا؛ فقد بقيَت الميتافيزيقا هي الشاهدة الوحيدة على من كان يمكن للكينونة أن يقع لها سواء في انتظارها، أو خلال الإمعان في غيابها وتغييبها؛ فالميتافيزيقا هي قصة الانتظار والفشل في آنٍ معًا، والتأويل هو التفكيك لالتباس الانتظار والفشل، إنه الوجه الآخر للميتافيزيقا. إنه الميتافيزيقا المضادة.
يخرج التأويل من ثنائية: سؤال/جواب، ليجلس وحده كسؤال مضاد خارج الثنائية عينها. ذلك أن الميتافيزيقا قدمت حقبًا من المفاهيم التي كانت ردودًا على الأسئلة، تنهي الأسئلة، ودائمًا كان يأتي المفهوم/الرد، مقطوعًا عن سؤاله، ليقيم أيقونته، ليعمر نصبًا تمثالًا، ليؤكد علامة فارقة ما، لينشئ جَسْرًا ينجح في النهاية باختلاق ثمة ضفتَين ساكنتَين على جانبَي صيرورة مآله، وهي أصلًا بدون جوانب ولا ضفاف ولا سواحل.
«العولمة ليست سوى بديل التفكير تقنيًّا عن التفكير بالتقانة، و«سواها» في آنٍ واحد.»
هذا السوى، أو منطقة الاختلاف، هو المرشح للانكماش تدريجيًّا، والتفكير تقنيًّا في التقانة عينها، يعني استخدام وسائلها بالذات للتعامل معها، ومع ما ليس كذلك. ذاك هو الفارق بين تاريخ للميتافيزيقا نجح في مأسسة نسيان الكينونة، لكنه لم يستطع أن يضاعف ذلك النسيان بنسيانه. فإذا كانت الميتافيزيقا هي قصة العدمية المتمادية، لكنها كانت تلك العدمية التي تذكِّر دائمًا بالموضوع الذي تدأب على إعدامه، شاءت أم أبت، ولم يكن ذلك هو تاريخها المزدوج لما انبثق التأويل أصلًا، ولما استطاع أن يضع حدًّا لقصة الازدواج تلك، لكن وضع الحد لا يعني التخلُّص مما يسبق الحد، ذلك أن التأويل، حسب تجاربه الكبرى المعاصرة، هو أن يحرر ما هو (الراهن دائمًا) مما هو (الآن — وقتيًّا)، أن يأتيَ بالميتافيزيقي نفسه و«حادثته» معه.
يشتغل التأويل على الميتافيزيقا كوداع طويل للكينونة. ويشتغل السؤال على التأويل باعتباره ميتافيزيقا أخرى موازية ذات حمولة مزدوجة: من الميتافيزيقا التقليدية السابقة، ومن قراءات التأويل لها تفكيكًا، لكن السؤال ليس حقبة فكروية ثالثة تنضاف إلى حقبتَي الميتافيزيقا والتأويل. إنه حالة برانية خالصة، جغرافية مواقعية، وليست تاريخانية. لا تجد ذاتها إلا خارج كل الأجوبة. تسبق البرمجة وتأتي بها، حولها، بعدها، السؤال يرى إلى الميتافيزيقا وموازيها، التأويل، أنهما يشكلان سكة بخطَّين، تجتازهما العقلانية نفسها باستمرار، وهي ما تصفه بهما. وأما السؤال فيرى نفسه خارج كل هذه «العدَّة» بسِكَّتها وقطارها ومسافريها. إنه يلتقي تضاريس للأرض وللكون خارج السكة، وتمتد على جانبَيها إلى ما لا نهاية، وذات نهايات أيضًا.
إن السؤال هو ما لا يدري عن نفسه بعد ما هو، حتى يتمكَّن من استدراج أجوبة لا يتوقعها أبدًا. يرشَّح كآخر محاولة للتعامل مع القبفلسفي، ليس كزمن ضالع في قِدَم العالم فحسب، ولكن كلحظة البَدْء الذي يظلُّ يتقدم على كل ما يليه. فهذه القبلية ليست عقلًا «فعَّالًا» يعلو عقلًا «مستفادًا» — على طريقة الفلسفة العربية — وليس تعاليًا معرفيًّا على طريقة كانط، والعقلانية الغربية الخاصة بين المتناهي واللامتناهي بين التكثيف والكاوس، بما يشبه طريقةً لفلسفة الانسراع، أو محايثة الانسراع عند دولوز، إن كلًّا من الميتافيزيقا، كعدمية تجهل نفسها، ومن التأويل كتفكيك، من حيث هو منهجية طاردة للمناهج، مثلما هما خطَّان لسِكَّة واحدة ينتجهما ويتجاوزهما التحقيب المعرفي، وقد صار ملتصقًا بهما يقدمان معًا فإنهما؛ وإذ يتقدمان معًا العقلانية، واللاعقلانية كطريقة أخرى للعقلانية. وبذلك لا يمكنهما أن يتعرَّفا حقًّا على البرانية إلا بأسلوب الداخل. فهما منشغلان بثقافة الأجوبة أكثر مما هما قادران أن يصبرا على السؤال كغائية نفسه.
الميتافيزيقا وتأويلها الجديد لاهثان، كعادتهما دائمًا، وراء اصطناع العقلانية/اللاعقلانية، وإلقائهما وجوهًا مغايرة على العالم، فرارًا من مواجهة وجه العالم الأصلي. وحتى الظهور الفينومينولوجي، كآخر تجليات ثورة العقلانية المتواصلة، فلقد انتهى إلى حَجْب وتحجيب متفشٍّ لإمكانية — افتراضية العالم الأصلية، كجوهر ظهوره، وهو في حال برانية بالنسبة لذاته؛ وبالتالي فهو ممتنع — ليس بالضرورة المنطقية، بل الوجودية — على كل دخول إليه إن لم يكن في الأصل — أي هذا الدخول عينه — ممتنعًا بدوره على كل جوانبه.
ما يمكن قوله إن الميتافيزيقا، كوداع طويل للكينونة نفسها واستردادها، والتأويل، كمحاولات إبداعية، ونداءات ذاكرية على نسيان الكينونة، وليس على استدعاء الكينونة نفسها واستردادها، هما وجهان لعملية واحدة تدأبان، منذ أفلاطون، على مضاهاة ظهورية العالم، بظاهرنيات أفكار عن العالم. فكانت صناعة العقل للقناطر تجسر على الأنهار والسواقي فرارًا من الانقذاف إلى خضم الصيرورة ومحيطاتها. وقد جاء فيما بعدُ التحقيبُ المعرفي الذي أغرم بتغير القناطر، بدلًا من الجَسْر عينه، بل حماية لاستمراريته.
فلم يُعرف بعدُ فيما إذا كان العقل هو من اختراع الفكر، أو من أضغاث أحلامه. ولقد كان جهد التأويليين الكبار، من هيدغر إلى غادامير، التقاط الانزياح الدقيق بينهما. فإن هيدغر رأى بينهما ذلك الانزياح، تأرجحًا؛ وقد خُيل إليه أن التأويل هو ضمانة الانزياح؛ ولذلك كان لا بد من استرداد جينالوجيا المعاني وهي على منافذ رحمها الأصلية، في اللسانيات الإغريقية، حيثما لا تزال الألفاظ على علاقات رحمية مع السديم، مادتها العضوية والوجدانية الأولى، فحيثما كان اللوغوس ينبثق تارةً عن الكاوس، أو يستقطب نفسه قُبالته، فإن ثمة علاقة رقمية تصل بين الملفوظ والمفكَّر به، ولكن ما إن بدأ الانشقاق يَتَمَنْطَق ويَتَعَقْلَن ما بين المعرفة والحقيقة، حتى تباعدت المسافة بين العقل والفكر. زادت التباسًا تحت وطأة تنامي ثنائيات أخرى، شكَّلت تمفصلات الميتافيزيقا مع ذاتها (مذاهب ودلالات، مفاهيم ومعايير)، وهي تحسبها تمفصلات كينونية بين اللوغوس والكاوس.
إن العقلانية أو الميتافيزيقا، بدلًا من اكتشاف العالم، أنشأت عالمًا فكرويًّا موازيًا وحاجبًا له في وقت واحد، فما إن أُعلن عن انتهاء الميتافيزيقا حتى تهاوت الأبنية الموازية والوسطية؛ لكن مثلما كان تاريخ الميتافيزيقا ليس وداعًا طويلًا للكينونة فحسب، فقد أصبح هذا الوداع نفسه يفرِّغ أدلجة شمولية، دعمت اختلاق أيديولوجيات أخرى تاريخانية، ينسخ بعضها البعض الآخر. فما كان يعنيه هيدغر والتأويليون — التفكيكيون — معه وبعده، من إنهاء الميتافيزيقا هو إلغاء الفكرويات الوسطية، ومواجهة عُرْي العالم، والعودة إلى الموقف البدائي الذي واجه فيه بارمنيد الوجودَ المداهم من كل حدب وصوب، هذا الهول الذي جعل فيلسوف البَدْء يصرخ من الرعب: ولماذا كان وجود، ولم يكن عدم! ذلك هو الموقف من القبفلسفي الذي حاولت الفلسفة ما بعد السقراطية أن تفرَّ منه، بتجاوزه وابتكار أجهزة وأجيال متتابعة من الأجهزة المفهومية؛ فالأجهزة الوسطية تبني قناطرها ما فوق تيارات المياه السائلة، الماضية في حال سبيلها. تعقلن كل ما هو سيولة ذاته، وتنطوي جميعها على تنويعات من ثقافة المعيارية المطلقة، فعالية الوساطة تلك أثبتت العقلانيات، وأقامت سلطة «العقل»، بين الفكر والعالم. وكثيرًا ما حل الوسيط أي العقل وصاحبه الفكر مكرهًا أو مستضعفًا، فتغطى العالم بتسميات معرفية خالصة؛ كاد أن يغدو الفكر هكذا بدون موضوع. ذلك ما كان يعبر عنه بنسيان الكينونة.
إن اللحظة الراهنة ليسَت للوقوف على أطلال اليقينيات المنهارة؛ بل تشبه لحظة البَدْء مع بارمنيد وهيراقليط؛ مع أن الأولى كانت حقًّا تشكل العتبة؛ إذ تملك خيار الخارج والداخل معًا، في حين أن الثانية تقع بعد الحسم في اختيار الداخل وقيام تجربته السلطوية المتمادية كعقلانوية وسيطة أحادية، هكذا صارت غائية نفسها. ومع عصر انهيار (المداخل) كلها ذات التوجُّه الوحيد الطرف نحو الذاتوية التمركزية، لن تكون أوهام الذاتوية هي التي تتهاوى من تلقاء ذاتها فحسب، بل يبدو أن العقل نفسه يفضل الانحياز نهائيًّا إلى التوحد مع التقانة، مُتخلِّيًا عن مهمة ابتكار الأدلجات، وذلك مقابل صعود الأسطرات التي تقود (أسطرة العالم) بعد مرحلة نزعها عنه، كأنها كانت مجرد انحراف تاريخوي عابر؛ فالعقل صار يفضل أن يتفكَّر في التقانة تقانيًّا، وليس غير ذلك، أي فكريًّا. بالمقابل يبدو أنه ليس للعالم، إزاء مداهمة التقانة إلا الاعتصام بالأسطورة ثانية ما دام سؤال «الفكر بما يرجع إليه وحده»، ما زال مجرد نداء على المجهول فحسب، كأنما العالم وحده يعود مجهوله إلى المغيوب الدهري، عندما لم يتبقَّ له ثمة وجه مستعار يُعرف به، وكانت تلصقه بوجهه الغامض أدلجات الماضي القريب.
أمام مداهمة المجهول من جديدٍ فوق ركام الأجوبة المستهلكة لا يبقى سوى السؤال.
فالميتافيزيقا لم تنجح في إنقاذ العقل من مصيره المحتوم في الاتحاد الأخير مع التقانة. وجاءت ثورة المعلوماتية استيلاءً متماديًّا على معظم وظائف العقل من تحليلٍ وتركيبٍ وبرمجة، وذاكرة ذاتية وموضوعية لا محدودة. تضاءلت الفروق بين العَقْلَنة والبرمجة الآلية. تلاشى الانزياح من صميم البنية الوجدانية لذلك التحذير الهيدغري البَدْئي: التفكير في التقنية بطريقة غير تقنية. فما حدث هو أنه لم يَعُد مسموحًا للعقل أن يعقل ذاته والعالم إلا تقنويًّا. وبالمقابل يبدو أن نسيان الكينونة صائر هو الآخر إلى «حتمية نسيان نسيان الكينونة»؛ بحيث لن يقوم قريبًا شاهد ما على ما حدث، كيما يشرع ثانية في اكتشاف المايحدث، وفي البحث عن انزياحه الممكن، الذي يعدو شبه مستحيل.
ما يتبقَّى من أوهام «تلك» الميتافيزيقا هو وهم العولمة، ولعله أخطرها على الإطلاق؛ لأنه يريد أن يؤدلج الفراغ، ويفرض ثنائية كذروةٍ لتراث الثنائيات السابقة كلها كما يلي: إما أن يكون المآل في إلغاء الانزياح كما لو كان تخليًا نهائيًّا من العقلانية، أو عن التقانة كأعلى إنتاجٍ لها. وإما الاندراج الطوعي في إعادة أسطرة العالم، وتغيبه أفقيًّا وعلويًّا في آنٍ (!). بين التقانة كذروة للعقلانية، وبين أسطرة العالم مجددًا، تحاول العولمة أن تأسر إنسانية الألف الثالث بين فكَّي إحراج، هو ذروة الوهم الميتافيزيقي التقليدي، كمآلٍ لرحلة نسيان الكينونة؛ بما يجعل من نسيان نسيان الكينونة أيديولوجيا «نهاية التاريخ» ونهاية الأدلجة نفسها، كثقافة وحيدة للمستقبل القادم ما بعد التاريخ. تحاول العولمة أن تختلق، تسيس ثنائية الوهم الأخير. تحصر وتحاصر خيار النهاية بين مصيرَين، أحلاهما مُر.
لكن السؤال يخترق هذا الحصار عينه، ليس خياره بين فكَّي التعارضية الثنائية التقانة أو الأسطرة. السؤال يزيح الثنائية بفكَّيها. فخياره هو رفض إحراجها المصطنع من أساسه؛ إذ إن العولمة كآخر أيديولوجيا، هي صاحبة ترسيخ ونشر الوهم بحتمية الثنائية، والمفاضلة، أو السقوط المحتوم (؟) بين فكَّيها. ذلك هو رهان الأدلجة الكونية الحاسم الذي تمثله العولمة كانتهاء من مشروع العقل نفسه واكتسابه جائزة التقانة، بديلًا عن ماضيه الفلسفي، و«حنينه» الميتافيزيقي الملح إلى القبفلسفي حيثما منطقة الالتباس ثابتة مع انبلاج كل فجر، ما بين انخساف الليل وانبثاق النهار، وحيثما كان العقل يشتغل ميتافيزيقيًّا ثم تأويليًّا، وهو يعتقد أنه ينشط دائمًا على حوافي الكينونة، رافعًا باستمرار، وعلى هذه الحوافي، سؤال الفكر، باعتباره أي العقل هو الأحق به دائمًا دون سواه مقابل العالم أو الأخلاق أو السياسة، أو في مواجهتها واختراقها من داخلها إبستمولوجيًّا، وتحويليًّا تكوينيًّا.
وما تريد أن تؤدلجه العولمة، مقابل تاريخانية العقل تلك، وخصوصية مأزقها المتنامي مع انتصاراتها وفتوحاتها الكبرى، وانسحابات الكينونة أكثر فأكثر، ما تريد أن تؤدلجه العولمة هو تثبيت هذه الانتصارات، وذروتها في التقانة كتجربة استحقاق وحيدة للعقل، تبرر إلغاء تاريخانيته وطمس خصوصية تعارضها (المتخيل) بين جوهرها وأعراضها؛ ما يطرد ذلك المأزق إلى منطقةٍ خارج الموضوع. فالعولمة تسترق التقانة من تاريخانيتها، من منتجها الأصلي: العقل؛ ومن قصة أزمة هذا الإنتاج مع نفسه عندما كانت التقانة تارةً تقوم كشاهد على إبداعية منتجها، وتارةً تعمل على استيعابه وامتصاص دوره، واستقلالية ذلك الدور. فالعولمة كخاتمة للأدلجة، تضع حدًّا لهذا التأرجح، تنقله من دوره في تكوين مشهديات التحقيب المعرفي خلال صراعه مع هوامشه الميتافيزيقية المستبعدة، إلى وظيفة الاختزال المتمادي لساحات الحرية؛ لبرانيتها المطلقة وحصرها في جوانية الاستقطاب من جديد بين حدَّي الثنائية: حد التقانة مقطوعة عن تاريخانيتها، أو حد الأسطورة مستعيدة لكامل التاريخ الذي أوجدها ثم عايَشها، ثم تخلَّى عنها ولا يزال.
من هذه الإشكالية الدقيقة استطاع التأويل على طريقة غادامير دائمًا، أن ينزاح مما يشتغل عليه من نصوص قدسية، وحتى فنية، أو فكرية وسواها، إلى الانهمام بذاته، أي بهذا الاشتغال عينه. وحده يصير أقرب إلى كيانية ذاتي السؤال، وأبعد عن صيغة: أجوبة الأسئلة، أو الأجوبة؛ فالتأويل هو نصه وتناصُّه معًا. ولا يدخل، يفصل يصل، ما بين الحدَّين إلا التأويل عينه.
في هذه الذروة يشارف التأويل فضاءه الرحب. لا يستطيع أن يبارح المعيارية تمامًا إلا وهو مصطحب معه تاريخها الكامل، «تلك» الميتافيزيقا. امتيازه الحقيقي عن أن يكون مجرد مذهب أو عقلانية تزيح عقلانية أو مذهبًا آخر، حسب إيقاع تحقيبات الميتافيزيقا نفسها، هو أنه كتأويل، إنما يأتي ببديل المتذهب في مجمله، لكنه لا يمكنه أن يذكر باللامفكَّر به، إلا وهو يستعيد المفكر به عينه؛ فالتأويل ميتافيزيقا مضادة، أهم امتيازاته كونه يعرف أنه كذلك. فلا يبرح ما يختلف عنه، إلا ليعيد استحضاره مطابقًا لذاته واختلافيًّا عنها في آنٍ واحد.
لذلك لا يمكن القول إن التأويل زمن تالٍ على «تلك» الميتافيزيقا، لا يشكل مساحة ما بعديتها. إنه بالأحرى لا يزال يعيش زمنها الأول، محترفًا اختراقَ حرماتها، والتطفل على حميمياتها، نابشًا أسئلتها الزمنية تحت استيهاماتها الأفلاطونية الكبرى التي لم تنجُ منها أية مذهبية، إن لم تتخذها نبراسًا أعلى، كما تدلُّ عليها إشارات قمم العقلانية الحداثوية. فالتأويل يكتشف أسئلة «تلك» الميتافيزيقا المدفونة تحت أجوبتها الكليانية. قد يقارب منطقة السؤال؛ يلمحه، ويبشر به، لكنه يتراجع دون ممارسته كلما أوشك على اقتراف الادِّعاء: الإمساك بإشارته الأولى. ذلك أن التأويل كحقبةٍ لمابعدية «تلك» الميتافيزيقا قد تشقُّ الطريق نحو تلك الإشارة الأولى، لكنها لا تعبِّده؛ كي لا تضطرَّ إلى السير عليه وصولًا إلى وطن الإشارة، حتى لو كان سير التأويل ذاك فتحًا مبينًا، وريادةً غير مسبوقة.
لكن استفادة هذا الحقل المعرفي الجذَّاب، لمعظم أسطراته التي اختلقها وعاش عليها، فإن طيلة الربع الثالث من القرن العشرين سرعان ما أدخلها في عداد تصفيات هذا القرن لمعظم «حكاياه» الفكروية الكبرى، اختصاصه المميز.
كأن القرن العشرين كان قرنًا نيتشويًّا بمعنى الكلمة، كان حقلًا تجريبيًّا رهيبًا لذروية القيم وانهيارها. تلك التي كشف نيتشه عن كونها تؤسِّس هيكلة «تلك» الميتافيزيقا، وتعبر عنها بالعقلانيات، سواء منها المثالية أو الواقعية. وقد غطت تمفصلات المشروع الثقافي بين العقل والعالم، وأنتجت تحقيبات ما قبل الحداثة، وما بعدها، وسمَّى هيدغر قصة التحقيب في ذاته، تاريخًا لنسيان الكينونة، وتماديه إلى تخوم نسيان نسيان الكينونة. أما اللحظة النيتشوية فهي التي أعلنت عدمية هذا التحقيب؛ فالميتافيزيقا ليست سوى نظام أنظمة معرفية واحد يرجع إلى منظومةٍ معينةٍ من القيم. وهذه المنظومة اخترعت جهازًا خارقًا سمَّته العقل. وقد سعت إنتاجاته كعقلانية إلى مداهمة لمجهول العالم، محققة فيه فتوحات كبرى: اعتمدت التقانة كعقلانوية أداتية شمولية، قادرة على احتواء متغيرات كان موضوع والاحتياز على أسراره، وتكريسها لصالح ذاتوية إطلاقية تحاول إعلاءً تشميليًّا لمنطقها يوازي شمولية الكون نفسه، لكن الذاتوية تلك لا تستطيع موازاة الكون، فتطرح نفسها بديلًا عنه تدأب على إعدام متمادٍ لظهوريته. تخترع ألاعيب الحجب والكشف، الباطن والظاهر. يتبدد الظاهر من أجل الظاهر المحجوب. وبين حدَّي هذا التفريق نما وترعرع جهاز التمييز، باعتباره مصنعًا لتفريخ ثقافة الثنائيات، وفرضها على كل نصٍّ، كتناصِّه الوحيد الممكن. بمعنى أن «أفعل التفضيل» صيغة متطفلة تدخل على صيغ بقية الأفعال لتختلق، وتُصنف وتنضد أشباح وقائعها كقيم، لا تلبث حتى تنقلب إلى بدائل عن هذه الوقائع؛ تحجب ظهور الوقائع لتبرز «خفاء» اللاوقائع التي تسميها معاييرَ وقيَمًا. من هنا جاءت عمومية «تلك» الميتافيزيقا. فإن أفعال التفضيل والمفاضلة تطرد وتطارد أفعال الوقائع كحادثات نفسها أولًا. وليست اللحظة النيتشوية سوى التذكير بخامية المايحدث؛ وكل ما كان يحجب هذه الخامية إنما يسرق حادثة العالم الأصلية؛ وبالتالي يعدم السؤال تحت أكوام هائلة من الأجوبة. والجواب إيجاب دائمًا حتى ولو حمل صيغة السلب والنفي. يضع حدًّا لحدوث العالم، بالجواب الذي تأنس محاولًا العودة بها إلى عنوانها الآخر الضائع، لكنه «الراهن» دائمًا، وهو السؤال، أو «هذه» الميتافيزيقا الأخرى التي تبرأ من أسمائها المعهودة.
لعل أول وآخر ما سأل عنه إزاء عُري العالم مجددًا: النداء على الفكر بما يرجع إليه وحده.