(١) كيف التفكير في اللامفكر به بعد؟
كيف يحقُّ لي أن أقول عن فعلٍ ما أقوم به، إنه فعل تفكير. وهل هذا الفعل يشبه سواه من الأفعال حتى يحق لي أن أدعوه كذلك، هل هو كفعل الأكل والشرب والمشي. المرء يقول إنه يفكر. وينتظر المرء الآخر تتمة للعبارة؛ إذ إنه ليس واردًا أن يسكت فعل الفكر عمَّا يفكر فيه. فلا بد دائمًا من إتمام العبارة، كأن أقول إنني أفكر في هذا الموضوع أو ذاك؛ فالتفكير من الوجهة النفسية هو فعل يقع على حالة أو وضع أو شيء، ولكن الكوجيتو الديكارتي، ربط فعل التفكير بالذات التي تقوم به مكتفيًا بهذا الرابط عن تحديد الموضوع. «أفكر»، في عبارة الكوجيتو، لفظ يجيء مكتفيًا بذاته. وقد يكون صيغة تصريفية لفعل فكَّر يفكر، ومن خلال ضمير المتكلم. والتصريف النحوي هنا يفيد في إكساب الفكر كيانًا وجوديًّا. وهو الأمر الذي يجعل من الفكر شكلًا، مستندًا إلى كائن. والكائن نفسه لا ينتأ كمخاطب ولا كغائب، بل كمتكلم، ولكن المتكلم هو بدون شخصية متعينة. هو شخص لكنه ليس اسمًا متعينًا. وقد لا يكون فاعل التفكير مقصودًا لذاته. بل هو الفعل الذي يأتي كمصدر، وليس كفاعل.
هذا لا يعني أن الكوجيتو أكسب الفكر تصريفًا نحويًّا أنطولوجيًّا. نقله من الاسم العام إلى فعل مرتبط بذات. أدخله الزمان فحسب لكنه منحه، من خلال هذا التصريف، تحررًا نسبيًّا من الموضوع. «أفكر»، هو أقنوم قائم بذاته. والمفعول هنا ليس مستوعبًا بالفاعل؛ إذ إن اﻟ «أفكِّر»، هو فاعل ذاته وموضوعه في آنٍ. وهذا ما يميزه عن العبارة السائدة: أفكر أن أفعل كذا، أفكر في هذا أو ذاك من الأمور.
اﻟ «أفكِّر» يخرج من صيغ التصريف النحوي لكيلا يأتي كأفعال تنتظر إنجازات معينة في سواها، ما عدا ذاتيَّ إنجازها، اﻟ «أفكِّر»، بذلك أصبح، من دون بقية الأفعال، يؤسس حدس الوجود، بما هو أعمق من كل برهان تحليلي أو تركيبي على إثبات الكينونة. هو الفعل الوجودي بامتياز الذي ينقل عتبته الخاصة إلى عمق كل بيت. ويبقى خارجه في الوقت عينه.
سؤال ماذا يعني أن أفكر اليوم؟ يسكت عن الموضوع (بماذا أفكر)، ويتناول «الأفكِّر» كفعل لا يقع إلا على ذاته، ولكنه يحدُّه زمن معين وهو: اليوم. كأنما يعني الأفكِّر اليوم، هو غيره الأمس مثلًا، أو في أي زمن آخر؛ فالتعيين لا يأتي من الموضوع؛ إذ لا حاجة له، بل يكتسبه من اللحظة فقط. ومثل هذا التعيين لا يدخل صلب العبارة، لكنه يقدم لها ثمة بروفيلًا فحسب، يساعد العبارة على تكوين حضور ما، لكن هذا الحضور لا يخصصها، بقدر ما يمنحها ثمة حافة؛ ذلك هو التغيير الذي يطرأ على الكوجيتو الديكارتي، يجذبه من سياق التصريف الأنطولوجي، إلى التأشير الحدثي.
كأنما التفكير اليوم هو غيره بالأمس مثلًا أو غدًا، ولكن هل يتعلَّق الأمر بتغيير الفكر. وكيف لنا أن نصادر على هذا الموضوع دون أن نعيره انتباهًا. فإذا ما حُذف ذلك التعيين الزمني من سياق العبارة، فإننا نعود إلى سؤال الفكر عينه، وما يعنيه هو، بصرف النظر عن موضوعه، وكذلك عن أحواله عبر آنات الزمان. وقد يذكرنا حينئذٍ بعنوان هيدغر الشهير: ماذا يعني اسم الفكر، أو ما هذا الذي ندعوه تفكيرًا.
فإن سؤال الفكر لذاته قديم. وقد كان دائمًا المرجع الأخير للفكر بعد ترحاله الدائم في أسئلته للأغيار. والتغير الذي قد يطرأ على سؤاله إنما يأتيه من تعيين ما يأتيه من خارجه. فالعبارة الراهنة تحمل اختلافها إذن. إننا نودُّ أن نعرف حقًّا ما يعنيه تفكير الإنسان في هذا الحاضر. الحاضر المداهم ينبغي له أن يجيء جديدًا. فهل يصير الفكر نفسه إلى شيء من الجدة، لكن السؤال كأنما يبرئ الفكر من إنتاجاته السابقة. كأنه يطالبه أن يقدم استحقاق ذاته بصرف النظر عن إنتاجاته. فالسؤال لا يتوجَّه إلى نقد بعض هذه الإنتاجات. لا يتصدَّى لفكرة محددة، لمذهب، لأيديولوجيا؛ وبالتالي فإن الفكر هنا يسأل نفسه متغيرًا عبر آنات الزمان؛ فالتغيُّر الوحيد الذي يمكن أن يطرأ على الفكر من داخله، وليس من خارجه، هو الزمان، لكن الفكر لا يعرض نفسه خلال آنات الزمان. إنه لا يتجاوزه كيما يعود إلى الالتقاء به في لحظة أخرى. لا يمكن القول إن أحدهما، الفكر أو الزمان، هو بمثابة الجوهر بالنسبة للآخر الذي هو العرض. فكلٌّ منهما يحيل إلى الآخر دون أن يتجاوز نفسه. وإذا كان ثمة من دلالة للتجاوز في هذا السياق، فهو أن الفكر عندما يحيل إلى الزمان أو بالعكس، فإن كلًّا منهما يصيران كحدٍّ وليسا هما كذلك، أي كحدَّين، إنما يعبر عن احتياجه للآخر كاحتياجه لذاته. ولا يمكن إدراك هذه العلاقة التآخذية بين الفكر والزمان، إلا من خلال الحادثة؛ أي إن التآخذ ليس تمعينًا تجريديًّا، لكنه فعل حضور.
إن عبارة: التفكير اليوم، تطرح حدوثًا، يتشخص حضورًا. ومع حادثات العالم يتوقع المرء ضرورة أن يحدث ثمة فكر. وإلا لبدا الأمر كما لو كانت تلك الحادثات لا تحدث حقًّا، وكما أن العالم يكف عن كونه نفسه؛ فإن انبجاس حالة تآخذٍ حقيقي بين الفكر والزمان يؤذن بحادثة ما، يسترد العالم خلالها وجهًا حضوريًّا. فما يعطي دلالة أولية لتسآلنا: ماذا يعني أن نفكر اليوم، هو أن العالم ينتأ له ثمة حدوث، يصير له وجه ما. ومن المفترض أن المتسائل يرى الوجه، يحسُّ هجوم الملامح والنظرات، وغمغمة الكلمات. يحضر ويدفع سواه إلى الحضور بطريقة ما، لكن، مع ذلك، ما يجعلني أفكر، هو غير ما يجعلني أتساءل عن معنى تفكيري اليوم. والفاصل بين الحادثتَين هي حادثة ثالثة، تنشأ عن إدراكٍ يخصُّ هذه الحادثة الثالثة وحدها. ليس من الضروري كلما أثارني موضوع لأفكره، أن أفكِّر هذا التفكيرَ عينه في آنٍ معًا.
العالم الذي يفرض حضوره من خلال وجوهه وأصواته و… حادثاته، لا ينتظر حضوري فيه. وما أتأمله فيما يدفعني إلى تأمل حادثاته ليس شيئًا زائدًا عن اللزوم. إنه يمنحني اللحظة التي أشعر فيها وأتلقَّى إشارة عن وجود الضفة الأخرى. إنها إشارة الجَسر التي تعيد صلتي بالبحران المبحر حولي في كل اتجاه. وعندما أشرع في تسآلي عن الجَسْر، وما يُجسَر عليه، وإلى أين امتداد الجِسْر، وأين وما هي ضفَّته الأخرى، فإنني قد أسمِّي حالتي هذه انهماكًا في تفكُّر العالم أو في إبحاري فيه، وإنقاذي واستنقاذي من أعاصيره وأغواره. ومع ذلك أسمح لنفسي أن أتفكر في: تفكري العالمَ هذا، بقدر ما يبدو هذا النوع من السماح نافلًا ولا لزوم له؛ إذ يحقُّ لي أن أقيم هذا التسآل: هل أمكن تفكُّر الشيء أو العالم، لو لم يكن التفكر في هذا التفكر عينه ممكنًا أصلًا؟
ما نريد قوله على عجل إن فكرة الشيء ليس من الضروري أن تأتي مساويةً له؛ فقد تزيد أو تنقص عنه كمًّا وكيفًا؛ ذلك أنها حين تصوره إنما تصور نفسها معه، أو من خلاله. وما يقتطعه الفكر من العالم، قد يدعوه بالأفكار، أو الصور، لكنها هي في واقعها حادثات؛ لأن تفكُّر الشيء هو الانخراط في واقعيته، بما يمكن أن يشكل حدثًا جديدًا. والفلسفي يجعل من حقِّه إخضاع حادثة الشيء كفكرة أو صورة أو مفهوم، إخضاعها لإعادة التفكير فيها بالذات. ذلك أن الفلسفي يضاعف حادثة الشيء، بالشيئية التي جعلته كما هو؛ إذ إن الشيء هو عينه قبل أن يكون حادثته، ولا يصير إلى حادثته إلا بمضاعفته بالشيئية التي جعلته كما هو، وليس آخر، ولكن ينبغي ألَّا يؤخذ فعل «جَعَل» هنا، على محمل العلاقة السببية؛ فالشيئية طريقة في مفهمة الشيء وليس في إنتاجه (كما يرى هيدغر).
تسآلنا عما يعنيه الفكر اليوم، قد يحرم الفكر من شيئية الشيء موقتًا على الأقل؛ إذ إن الفكر هنا يسأل نفسه وليس شيئًا آخر. وسؤال الفكر لنفسه حسبه الفلاسفة موضوعهم المفضل دائمًا. ومع ذلك كانوا يطلبونه عبر أقانيم أخرى: لاهوتية وكونية وحتى مادوية طبيعوية. ولم يحدث أن يرى الفكر نفسه خالصًا من أقانيم يخترعها ويتماهى معها، أو من شيئية الأشياء، إلا نادرًا. وعندما أُتيح له مثل هذا الموقع، فقد نحا مَنْحى الإبستمولوجيا. صارت له جاهزية المعرفة. اكتشف الفكر نفسه كعقل باحث عن الأشياء، صانع للمعارف. وكاد العقل أن يحتلَّ صفة المرجعية بدلًا عن الفكر. بقدر ما يتقدم العقل فاتحًا مغاليق الأشياء أمامه، بقدر ما يتراجع الفكر، أو يتم نسيانه؛ فالعلاقة قائمة بينهما، لكنها التباسية، ولا يُستنجد بالفكر أو يُنادَى عليه قائمًا بذاته مستقلًّا إلا عندما ينكر المعرفي ذاته، وتعود إلى الواجهة إشكالية الشيئية مواربة للأشياء، غير متحدةٍ بها تمامًا.
العقل وجد في العلم، الطبيعي منه بخاصة، ضالَّته المنشودة؛ يمدُّه بجنةٍ لا تنضب من المعارف. أما الفكر فقد بقيَ بدون موضوع. ليس لأنه يتجاهل العلم. بل لأن العلم لا يستنفد سؤاله. إنه بالأحرى يضيف أسئلته الخاصة بما يخصُّ موضوعه، ويتعدَّاه في الوقت عينه؛ فالعلم يغطي ساحة الأشياء. يُشارك في انبجاس حادثات الفكر، لكنه لا يستنفدها. وقد لا يقرُّ العقل بهذه الوضعية. وعندما يذكره الفكر بها يحيله إلى مسألة نسبية المعرفة؛ بمعنى أن العلم لا يحتاج إلى غير نظريته كيما يعقل العالم. ومع ذلك فإن الفكر لا ينكر عليه ذلك؛ إنما يسمِّي حصائل العلم بالوقائع؛ في حين أنه هو، الفكر، يسعى وراء حادثاته، وقائع العلم وحادثات الفكر لا يشكلان حدَّين لثنائية، لكنهما يقدِّمان طريقتَين في رؤية الشيء؛ فالعلم يعيد إنتاج الشيء كمعرفة. والفكر يذهب من هذه المعرفة أو بدونها إلى شيئية الشيء، فليس يكفي الفكر أن يلتقط الشيء؛ أن يعرفه ويفهمه، أن يكتشف واقعته كقانون علمي فحسب؛ إنه لا يتعامل مع الوقائع، لكنه يبحث عنها كحادثات. والمسافة المفهومية بين الواقعة والحادثة ليست شاسعة. بل لنَقُل إن المفهومَين يتنازعان معًا المقعدَ الواحد، لكن في حين أن العلم يقبض على «الشيء» ويسجنه في قانونه، فإن الفكر يلتقطه ويطلق سراحه في الآن عينه، عبر الشيئية، وما سواها كذلك.
العلم يضع نهاية الشيء عند حدود وظيفته، قانونه. والفكر لا ينهي الشيء ولا ينتهي هو منه. يدخله في تشكيل حضور ما. يحركه، ويكشف فيه حركيته. يشغله ملء شيئيته، وما يطفح منها كذلك. يلتقيه ويسميه: حادثة. والتقاء الفكر بشيئية الشيء يخلق من الالتقاء، من اللُّقيا، هذه، حادثة. تحدُّه وتتجاوزه معًا.
لأن التفاحة تثبت داخل قانونها العلمي، لكنها تختلف في أحوالها اللامحدودة، عَبْر تناولها الإنساني، التفاحة متدلاة من غصنها هي غيرها في لوحة، هي غيرها هدية الخطيئة الأولى، هي غيرها للجائع، هي غيرها لمكتشف ألوانها ومتعشق روائح عطورها. في كل حال تلتقطها الحواس وتتعامل معها بانفعالات وغايات صغيرة متباينة؛ فالتفاحة في علاقاتها مع الكائن تتخلَّل حدوثه، تغدو حادثة، ومختلفة عن نفسها في كل مرة. فكيف إذا ما أحدثت التفاحةُ قصةَ سقوط الإنسان إلى العالم مثلًا!
والشيء ليس الثمرة أو الحجر أو الطائر، أو كل ما يندرج تحت مسافات الحواس وما يتعدَّاها. ليس هو المادي فحسب، ولكن هو هذا العالم الذاتي، والذاتي الموضوعي، الذي ينضوي في حدود هذا الداخل، ما وراء اللحم والعظم، هو ما يحسُّه ويأمله ويجزع منه ويضمره، ويؤلمه، ويزدهيه هذا الكائن: الإنسان العالم. كل ما يعتريه يقلبه إلى حادثة، يدخله إلى حدوثه بالذات. فكيف إذا ما ارتقى الشيء إلى الفكر. فأية حادثة تلك. وأية حادثة تلك التي يصير شيئُها من شيء الفكر عينه، أخيرًا!
فالفكر تسآل للفكر، ليس تجريدًا باحثًا عن تجريد آخر. إنها لحظة انبجاس الفكر عينه كحادثة ذاته. ماذا يصنع الفكر بالعالم؟ إنه يحدث. ومع الفكرة يولد الفكر عالميًّا. ويحدث العالم اختلافيًّا. وليست هذه الصيغ هي من أفعال التفضيل والمفاضلة. والحادثة هنا ليست العظمى أو الدنيا، ولكنها لحظة تكثيف في الانسراع، في الحراك الشامل الذي غايته هي في حراكه بالذات. وسؤال: ماذا يعني أن أفكر اليوم، ليس ظرفيًّا زمانيًّا مفضلًا، إنه من طوارئ الحدوث. وكل امتيازه أنه بدون امتياز أصلًا. صدفته أنه يأتي على القول بدون فعل معين، ويطمح إلى أن يكون أداة تعيين طارئة لما لا يعرفه. إنه التسآل الذي يدَّعي، أو يطمح إلى الفوز بحافة ما، بنتوء موقت. في خضمِّ المداهمة ينبجس سؤال: ماذا يحدث؟ وقد يقع لهذا السؤال أن يتملَّك من شيئيته بدون شيء ما، أو لا يتملَّك شيئًا على الإطلاق.
ماذا يعني أن أفكر اليوم؟ يعلق سؤاله ذاك ليس الأجوبة فحسب، بل ومعها الأسئلة المعهودة، يعلقها في سلة واحدة ما إن ينفصل عن الأحداث والأقوال، ليسأل عن الحادثة، عن القول فحسب. قد تدهش هذه البادرة، وقد لا تعني أو تعني أحدًا، ولكنها قد تمتلك حقَّها الخاص. وبسرعة يكتشف الجميع أن لكلٍّ منهم حصةً ما من هذا الحق؛ فالفكر الذي هو حق نفسه أولًا، يشاركه فيه كل أحد، كما لو كان الفكر تملُّكًا خاصًّا لكل أحد، دون أن يكون كذلك فعلًا. فلا أحد يستثني نفسه من الفكر، ولا يقبل مكانًا في هامشه، بل في مركزه دائمًا. وهكذا، بالرغم من أن الجميع «يفكِّرون»، ولكن ما أقلَّ الفكر حقًّا، أو ما أقل معرفتنا به، أو اتفاقنا على هُويته: من هو، ومن يكون، وكيف نلتقيه يومًا؛ فالفكر يسأل الأغيار، يجد نفسه أحق الآخرين بأن يكون موضوع السؤال في لحظة نادرة استثنائية.
ما هي مفردة الفكر؟
وكالعادة فإن الفلسفي لا يقنع بالبداهة المباشرة، بل يعتبرها غالبًا من أغمض الأشياء. والفكر ومفرداته، هو وهي من بسائط الأمور عند تداولها، لكن فجأةً يحدث ما لم يحدث حقًّا، مفتاح الأبواب جميعها يحدث له أن يغدو مستغلقًا، حتى على قفله الخاص.
مفردات العقل موجودة متوفرة دائمًا، ولكن ما هي مفردات الفكر حقًّا. ليست هي الأفكار قطعًا، وإن كانت هي عملته اليومية. فالأفكار لا تتحدث إلا عن نفسها، حتى عندما يدَّعي بعضُها الإمساك بالفكر في جماعه. ولعلَّ مثل هذا الانحراف هو من شأن بعض تلك الأفكار التي لا تستطيع لفت النظر إليها، إلا إذا تَعَمْلَقت وزيَّنت لنفسها مبدئيًّا الإحاطةَ بالمطلق، بكلية الفكر.
وهنا تلفتنا هذه الملاحظة، وهي أن المعرفي العلمي يحدِّد برهانه بالموضوع الذي يفسره؛ بينما نرى المعهود من الفكرة أو الأفكار، أنها لا تستطيع تسويق بضاعتها إلا إذا ما حاولت احتكار السوق كله لها وحدها، كبضاعةٍ وعرض، وإلزام بالبيع من دون سواها.
إن الفكرة هي التي اخترعت تاريخيًّا وثنيةَ الحقيقة. تحتاج «الفكرة» في السوق إلى إلغاء صيغة الجمع لمفردتها؛ فالفكرة لا تقرُّ الأفكار، ولا تصبر على وجودها في صيغة الجمع. والفكرة هي الواحدة التي تغتصب الكل. وتعتبر اغتصابها ذاك اتحادًا مع الحقيقة. وهكذا فالفكر نفسه هو الغريب الوحيد بين أفكاره. وضمير الهاء الذي يرجع إليه هو موضع الاستفزاز. ذلك أن الفكرة المحتاجة إلى سند الحقيقة، تحتجُّ بالانتماء «إليه»، تتمسَّك بضمير الهاء لكي ترجع إليه، لكن حركتها نحوه، لا تلغي حركته هو نحوها؛ لأنه ليس هناك حركةٌ أو متحرك؛ فهي الموجودة وحدها، وأما وجوده (هو) فلا يثير مشكلة عند أحد؛ فالفكر لم يكن موجودًا أصلًا، حيثما ادَّعت الفكرة التقاطه لكي تدَّعي فيما بعدُ إلغاءَه.
الفكرة محتاجة إلى التشبُّث بإحاطة الفكر في منطوقها كيما تؤسس لذاتها ثمة سلطة. من هنا جاءت وثنية الحقيقة، وتنامت وتشعَّبت طقوسُ عبادتها. وبالرغم من الخلط العام بين الفكر والحقيقة، فإن اسم الحقيقة في حدِّ ذاتها يملك طاقة جذب، ويولد ذخائر الولاء، وقد يُستخدم كالحسام الفيصل ضد الكذب أو الوهم والاحتيال. ذلك أن الحقيقة قوة اجتماعية قبل أن تكون لغة للفكر، والعقائد تمترست دائمًا وراء أسماء الحقيقة، وأعطتها مضامينها الخاصة. وليس ثمة دين أو اعتقاد أو مذهب إلا وقدَّم نفسه إلى الناس أولًا على أنه تجسيد للحقيقة ومعيار لها؛ وذلك دون أن يعير أحدٌ من الاعتقاديين انتباهًا إلى الانقلاب الحادث في علاقة المعتقَد بالحقيقة؛ إذ سريعًا ما يتحول الأمر من كون الحقيقة تؤسس المعتقد، إلى كون المعتقد هو الذي يؤسسها ويصير لها معيارًا وحيدًا.
ومثل هذا الانحراف/الانقلاب ليس موضع استنكار إجماعي من قبل المتعاطين للشأن الفلسفي. فإن اليأس من بلوغ الحقيقة، بالحرف الكبير، دفع البراغماتيين إلى اعتبار أن المعتقد هو بديل الحقيقة. أو هو حقيقة كل يوم؛ فالمتداوَل يكتسب شرعيته من قوة تداوله عينه، أي من قدرته على الإقناع، وهكذا فإن شائعات الأفكار، قد تعتمد على ذاتها، ودون أية علاقة بالأفكار التي تحب أن تقترن بها، لكن سريان الشائعة قد يأخذ مكان ودور الإقناع؛ فالسريان هو حادثة الفكرة التي تنجي الفكرة نفسها من إكراهات الفحص والتدقيق، من مسئولية الإقناع وموجباتها.
ذلك هو الميل الطبيعي لدى «الفكرة» كيما تحل محل الفكر. سريعًا ما تفرز حولها شرنقة المعتقد. والمعتقد لا يقبل بأقل من ادعاء الحقيقة كاملة، لكن ليست كل المتداوَلات — بفتح الواو — هي معتقدات، إنه المتداوَل، أو وحده التداول، هو أرحب من أن يقبل بأسره في خانة المعتقد وحدها. ذلك أن المتداول يسمح للمعتقد ولسواه في الجري هنا وهناك، إلا أن المعتقد يرفض هذا الجريَ مقدمًا. فيطارده ويطرده من الساحات العامة والزواريب الملتوية. هنالك صراع يومي ضاج، ومستتر غالبًا بين المتداوَل والمعتقد، ولأن الأول أقل جموحًا وأكثر تواضعًا، فإنه قد ينجو بحمولته الخفيفة أصلًا، ويتقافز ما فوق الحواجز الخافية والظاهرة. وهكذا قد تولد ثمة أفكار ما في غير مظانِّها المعهودة. وما دامت أقرب إلى المتداوَلات منها إلى المعتقدات، فإنها ستظلُّ أقدر على أن تشيَ بالفكر الذي تدعي التعامل معه بوسائله عينها، وليس بسواها قدر الإمكان.
ها هنا يجول السؤال الفلسفي بين متداولات كثيرة من مثال الفكرة والحقيقة والرأي، والفكر نفسه، والعقل نفسه. والسؤال يخرج هذه العائلة الفكروية عن قواقعها الاصطلاحية، ويعيد صلتها الطبيعية بحركية التداول وحدها. وهو يفضل التعامل معها تحت صفة متداولات، أكثر من أي تمعين آخر لها. ذلك أنه محتاج في كل مرة يلتقي بعضها، أن يرى لها حالات غير متوقعة. وسؤال: ماذا يعني أن نفكر اليوم؟ ليس مجرد حالة واحدة من هذه الحالات فحسب، لكنه هو الذي يبني عتبات الدخول إلى كلٍّ منها، بما يجعل هذا الدخول إليها، أو عليها بالأحرى، بمثابة خروج وإخراج لها من دلالاتها المسبوقة، التي أمست مُعْتزَلات لها. فما يدفع إلى الفكر أكثر، في هذا العصر — أو في كل آنٍ حقًّا — هو أننا لم نفكر بما فيه الكفاية بعدُ. بهذا المعنى، وهو إعادة إطلاق مفردات الفكر كمتداولات، وليس كأقانيم. والتداول حصرًا ليس هو البراغماتية (المذهبية) وإن كانت تشغل حيزًا واسعًا منه، بما لها من تطوراتها الدائمة داخل العقل الأنغلوسكسوني. فاللسانية استردَّت التداول كمصطلح أشمل يمكنه أن يحدد أهم خاصية للغة، وهي كونها ممارسة تداولية. وحياتها الطبيعية هي في هذا التعاطي التبادلي بين الألسنة والعقول، بين الدلالات والتصرفات؛ فالتداول يدأب على طرح المعتقدات كقوًى قد توازي وجود الجسدي للإنسان.
وعندما يكون الهدف هو التقاط الفكر وهو يعمل ويحيا ويتحرك، ويظهر ويغيب كفكر، كجسدي آخر له شفافيته التجسدية كذلك، فليس ثمة من سبيل إلى ذلك إلا التقاء الأفكار كأجساد كذلك، لها حيواتُها؛ وللحيوات تلك أهواؤها، وإغراءاتها، عذاباتها، وأحلامها الممكنة والمستحيلة، وأخيرًا لها مغامراتها الطائشة أو العادلة؛ فالفكرة هي حادثتها أولًا. وأما عقلانيتها، أو منطوقها المعرفي أو المعياري فليس إلا أمرًا تاليًا على حادثتها؛ إنه آخر ما يُرجع إليه في شأنها؛ فالتصويب والتخطئة عياريتان مستعارتان. لا تحدثان للفكرة إلا بعد زوال حادثتها.
الجَسْر على اللامتعين
التداول هو ساحات الحادثات، بيوتها ومدنها، وشوارعها وعالمها اليومي. والفكرة تلتقي حادثتها أصلًا كيما تصير فكرتها، أي فكرة الحادثة، وليس العكس. والتفكير ليس فعل الأفكار وحدها. أي لا يتوقَّف على استنباطها، وتراودها، وتنظيمها فحسب. ذلك هو نوع التفكير الذي هو أقرب إلى التأمل المجرد. وقد كان هدفًا لذاته مسيطرًا على دلالة النظر الفلسفي. ولا يزال ذلك الضرب من التفلسف يحتج بضرورة الحيادية والموضوعية والتنزُّه عن الوقائع اليومية، لدى صنف من الخبراء، بحسب ما يعنيه هابرماس من مصطلح الخبير، أي ذلك الباحث أو المختص التقني، أما التفكير بدون تلك الشروط القَبْلية التي تُفرض عليه؛ فهو ما يعنينا من طرحنا الراهن. وقد كان ارتباطه بسؤال ماذا يعنينا التفكير اليوم؟ يرده إلى الحدث، لكن ذلك لا يفيد أن يتعلق التفكير نفسه بالحدث، أي أن يكون ذا موضوع؛ فهو، بالطبع، لا يمكنه أن ينفكَّ عن الموضوع. هذا لا يمنع من أن نتوجه إلى التفكير باعتباره حادثةَ نفسه أولًا، وليس توجُّهنا هنا منطقيًّا ولا إبستمولوجيًّا. فأنا لا أريد أن أعرف هذا التفكير كيف يشتعل بجاهزيته الخاصة. لست الآن بصدد بحث في العقل المحض كانطيًّا، لكنني مُنْهم أصلًا أن ألتقي الفكر كحادثة نفسه، أي كتفكير، وكدت أن أحدِّده زمانيًّا، بهذا اليوم أو الحاضر. كما لو أنني أعيِّنه على الشكل الآتي: كيف أفكِّر العالمَ اليوم؟
ها أنا ذا أراني أعود إلى ربط التفكير بموضوع هو العالم، لكن العالم كموضوع يعيد إنتاج اللامحدود؛ وبالتالي ينزع عن الموضوع خاصيته بالتعيُّن. غير أن العالم يمنحني اللامحدود عيانيًّا وحياتيًّا. وبذلك يختلف عن اللامتعين تجريديًّا. والفكر حتى يتمكَّن من الفوز بهذا اللامتعين عيانيًّا وحياتيًّا، فإنه لا يمكنه أن يدخل العالم ويتعاطى معه إلا بطريقته العالمية. وهذا ما يريد أن يعنيه سؤالنا الأصلي: أي كيف يتسنَّى له أن يحدث حادثته عينها بطريقة تؤكد انتماءها إلى حدثان العالم، واختلافها عنه في آنٍ معًا؛ فالفكر هو من أخص القوى الفريدة التي يتمتَّع بها الكائن الإنساني، بكونه لا يوجد إلا في سياق تحقُّقه. أي وهو في حال التفكير. والحال هذه لا تتحدَّد بإنتاج الأفكار، ولكن بجعلها أصلًا حادثات نفسها.
وإذ كان عصرنا الذي يدفع إلى التفكير، أكثر من سواه، هو نفسه الذي لا يدعنا نفكر بما يكفي بعد، فذلك، وبهذا المعنى هنا، فإنه لا يدع الأفكار تصير حادثاتِ نفسها. أو بعبارة أخرى: أن الفكر لا يصير إلى التفكير بما يكفي بعد.
ليس العالم هو الذي يستعصي على الفكر، لكن الفكر لا يزال يفتقد حادثته فيه. وهو لن يجدها قريبًا. وليس المقصود أن يعثر على اللامتعين أصلًا، لكن إحساسه بهذا الافتقاد هو الذي يمكنه أن يضفي على اللامتعين (التعيُّن الوحيد) الذي يتقبله؛ لا ينتقص منه أو يتهدده بما يعارضه، لكنه يجتذبه من غيابه ويمنحه ثمة حضورًا ما.
عند هذا المفصل تحدث تلك الطيَّة التي اعتبرها سقراط ذات مرة مستحيلة. وهي أن افتقادك للشيء يعني أنك تعرفه (قبل أن تعرفه). وتلك هي التعارضية المنطقية الكبرى التي اعتمدها أفلاطون فيما بعد، لكي يؤسس عليها نظرية عرفانه المشهورة. فالمدخل إلى هذا الانشقاق الأكبر المؤسس للميتافيزيقا التقليدية، بين الشبه والمثال، اعتمد أصلًا على التعارضية المنطقية الإبستمولوجية، لينتقل منها إلى إثبات الثنائية على المستوى الأنطولوجي؛ فالواحد هو المنزَّه عن الكل ﮐ «تعددي»، وهو الواحد الكل كحيز للأنطولوجيا وحدها، لكنها تلك الأنطولوجيا الهيكلية المتشبثة باللاتعين، والخائفة عليه من أي حدوث، خشية انكساره وتصدُّع هويته، وتشويه تجانسيته المطلقة بأي طارئ فارق، قد يُدخل لوثة تغيير ما على تماثليته التامَّة.
أخرج هذا الفهمُ المنطقي الأنطولوجيا خارجَ العالم وجعلها نقيضًا له. صارت كل الدلالات نسبيةً أو تحريفيةً بالنسبة لدلالة اللامتعين؛ فالحادث عرضي ولا يستحقُّ أي اهتمام عقلي، لكن الفكرة هي همزة الوصل، هي الطيَّة التي تجعل حافتَي المتعين واللامتعين تلتقيان ولو لبرهة. تحدث الفكرة عندئذٍ ليس لأنها تتحدَّى التصنيف المنطقي، بل لأنها توجد أي أنها قادرةٌ على فرض «تعيُّنها» ذاك كفكرة، على الذهن الباحث عنها، وقد يخترعها، أو على المتلقي الذي قد تبهره فُجائيتها. ولا يتمُّ تعيُّن الفكرة إلا بقدر ما تفتح في بنيتها كوَّة ما نحو اللامتعين. أما إذا طُمست هذه الكوَّة، فالفكرة تخسر نفسها، تنحدر إلى مجرد تصور، وعندئذٍ تخضع الفكرة كتصورٍ إلى حاكمية مطابقتها لموضوعها أو عدمها. تصير إلى مجرد معرفة، أو معلومة.
هذه الكوَّة، الصلة باللامتعين، تمنح الفكرة شيئًا من الحرية، حرية المضاربة على الوقائع عينها بما يتعدَّى الوقائع إلى شبه مقترحات تعرض على الحقيقة، وتنادي على اسم الحقيقة؛ فالفكرة هي أشبه بطلب انضمام إلى صف الحقيقة كسبيل اعتصام مسبق ضد صفاقة الواقع ومداهمته المطلقة. ذاك أن الفكرة تراهن على الحقيقة كواقعة تتجاوز المبذول من الوقائع المباشرة. كأن الحقيقة ليست معطاة. وهي دائمًا محتاجة إلى فعل، استحقاق. والفكرة عندما تراهن على الحقيقة تتخذها ملجأً لها مقابل الوقائع، حتى عندما يحلو للفكرة أن تجهر بإعلان الحقيقة، أو الالتجاء إلى اسمها، فإنها لا تستثني نفسها من كونها واقعة، ولكنها تدَّعي واقعيتها أكثر من الواقع بالذات؛ إذ إن الأفكار عامة وبالجملة، تريد أن تبني عالمًا لا يكتفي أن يكون موازيًا لعالم الوقائع، بل يدخل معه في تشابك وتداخل وصراع. من هنا جاء جيل أيديولوجيا الذي أراد من الأفكار أن تغير الواقع. فليس هناك محايدةٌ بين العالمَين. وأحدهما، وهو عالم الأفكار، يشنُّ حرب اللامتعين على المتعين. إنه لا يتقبَّل الآخر كما هو. هكذا امتلأ تاريخ الفكر بمشاريع تغيير العالم. وأُتخم التاريخ بصراع الأديان فالأيديولوجيات. وجيلُ الأيديولوجيا ما زال متحكمًا رغم ظهور الجيل الثاني الذي أعطى للفكرة ليس مهمة تغيير العالم، بل فَهْمه فحسب أي تأويله. وأما الجيل الثالث الذي لم تره الدنيا بعد، وما زال في حكم النداء عليه فقط، فهو الذي لن يرفع شعار التغيير، ولا شعار الفهم من بعده، لكنه يريد أن يفعِّل الفكرةَ نفسها، أي أن يحولها إلى تفكير؛ أن يردها إلى جنينها الأول، وهو السؤال. ذلك ما يعنيه حقًّا أننا لم نفكر بما يكفي بعد.
إن نقل الفكر من لا تعيُّنه الأصلي إلى العقل، أو إلى إحدى مهماته كالتغيير أو التأويل، واختزاله في جاهزية محددة منه، سريعًا ما يؤدي (أي النقل) إلى هذه الفاجعة المتكررة، وهو تغلُّب المنتَج على المنتِج الأولي (بفتح التاء، والثانية بكسرها) ذلك لا يفترض أن الفكر يسبق أفكاره، لكن عندما يتشبَّث المجتمع بافتراض أن قيمة الفكرة تتجدد بقدرتها على تغيير الموضوع الذي تتوجه إليه، أو بما تقدمه من عدة الفهم والتأويل والكشف عن أسراره وأوالية تكوُّنه وامتثاله، فذلك يُعلِّي من العقل كمعيار، ويفقد الفكر كوجود؛ ذلك أنه ليس كالعلم قدرة على الجمع بين مهمتَي: فَهْم الموضوع وتغييره في آنٍ معًا؛ فهو يقلبه من سر نفسه، إلى معرفة، والمعرفة، رغم حمولتها الذهنية الواقعية معًا، إلا أنها حكمٌ تفاضليٌّ بالدرجة الأولى؛ ولهذا قلنا إن الفكر لا يفكر كفاية، كما أننا لم نقُل إن العلم لا يكشف عن معارف وظيفية بما يكفي حاجة الإنسان إلى سيطرةٍ أوسع على مجاهل الطبيعة والكون من حوله. بل كل ذلك يؤكد أن الحاجة إلى الفكر هي في تعاظم أكثر فأكثر، مع تقدُّم المعرفة العلمية وليس مع تأخُّرها. ليس ذلك لأن الفكر في هذه الحالة إنما يحسُّ عجزه عن مجاراة العلم، ولكن بالعكس يحس خواءً أعظم مع كل ما يدَّعي العلم أنه يملؤه ويمتلئ به.
ذلك لأن ما يُفكَّر به هو دائمًا ما ينبغي أن يُفكَّر به. وهذا الإلزام الذي تنطوي عليه الفكرة لا يأتيها من أية معيارية خارجة عنها. ليسَت «حقيقتها» أو «دلالتها» كافية لتكون شفيعة لها. كأن المعيارية أهم من تلك التي تحمل رهان الكينونة وتهديدها العدمي كل لحظة؛ فالعلم إجرائي، أما الفكر فإنساني. هنالك مجال الإجرائيات، وهنا مجال الغائيات. فالمعارف يجوز عليها الصواب والخطأ، أما الفكر فلا ينعم بهذا الخيار أبدًا، وليس ذلك لأن الفكر محكومٌ بالصواب وحده، وغير مسموحٍ له بالخطأ في أي حال، فذلك كان أحد أكبر أوهام الميتافيزيقا الأفلاطونية، وليس ذلك لأن الفكر، ومع الفلسفة التأويلية، قد يحتمل المعيارية، وما يتعداها في آنٍ معًا؛ وليس كذلك لأن كل ما يعرض للفكر إنما يلزم الكينونة بأنعامه كما بآثامه … بل لأن الفكر يفكر فحسب.
فكيف يمكن التعامل مع القبفلسفي، «قبل» التورط في الفلسفي عينه؟ وهذا هو «السؤال» المنفتح الذي يعود عينَ نفسه، وما ليس كذلك أيضًا، بعد كل الأجوبة. إنه حادثة الفكر المفكر. وهو مصطلح اللامصطلح الذي ندعوه المايحدث. فإن عَراء هذا الملفوظ من أي غطاءٍ معياري، هو ضمان معياريته الأصلية.
إن ما يَدَعُنا للفكر، ما يتركنا نفكر، ينبغي أن ينتمي إلى عائلة الفكر نفسها. والعبارة هذه لا تخلو من رنَّة معيارية، لكنها لا ترتكب جريرة الفصل بين الدلالة والقيمة؛ فالفكرة لا تنضاف إلى موضوعها، لا تهبط عليه من علٍ، ولا تأتيه من لا مكان، وحتى عندما تكون الموضوعات مألوفة ومتداولة، من مثل الحرية، فإن مقاربتها بالفكر، تكتشف فيها ما يجدِّد فكرتها، لكن بالمقابل قد يمكن إضفاء الكثير من التصورات على أقنوم الحرية، واعتبارها كذلك بمثابة أفكار عنها، تطالب باعتبارها حقائق. أي إن فكرة «عن» الحرية، تريد أن تكون «هي» الحرية، وإن تاريخًا من تعريفات العدالة قد يطرح نفسه تاريخًا للعدالة نفسها. والفكر المفكر الذي لا يريد أن يمسَّ موضوعًا إلا وكان مستحقًّا له، أي للفكر كيما يفكِّره، فإنه لا يضفي من ذاته قيمةً استثنائيةً على الموضوع المختار، فحين يضع نفسه، بكل جلاله وهيبته، جاهزيته وعدَّته، تحت طائلة هذه القيمة نفسها، قد يحسُّ أنه يرتكب ثمة انزياحًا عن مكانه.
مثل هذا الانزياح/الانحراف يسدُّ طريقَ الفكر نحو صيغة تحققه باعتباره الفكر المفكر. يتخلَّف المايحدث عن فوريته. يقع الخلط اليومي بين «الأفكار» و«التجريدات»؛ فالتجريد ليس المضاد للواقعي، بل هو الخارج حتى عن علاقة الواقعي/اللاواقعي. ذلك هو الخطر المداهم للفكرة الذي يُحبط حادثتها، وينشر بديلًا عنها شائعات هائمة. إن إحباط الفكرة ليس هو امتحان صحتها أو فشلها، بقدر ما هو استلابها حادثتَها قبل وقوعها. فهنا لا يُدَع الفكر يفكر. يستعصي عليه ما هو ذاتيُّ استحقاقه: الفكر المفكر؛ فأيُّ فكر ذاك الذي لا يدري كيف يدع نفسه يفكر.
إن التجريد يقف خارج هذه العائلة من مفردات التفكير: الرأي، الفكرة، المفهوم، المعرفة، النظرية أو القانون العلمي؛ ومن ثم مفردة المفردات كلها؛ أي: الحقيقة؛ فقد يشتغل الفكر المفكر على هذه المفردات، يشتغل بها وعليها، يتردَّد بينها جيئةً وذهابًا، صعودًا وهبوطًا في مراتبيتها؛ تأخذه حمية الجدل، وحماسة الاطلاع والاستطلاع. كل ذلك من أجل أن يلتقيَ نفسه، فكرًا مفكرًا حقًّا. مشكلته قلَّما يلتقيها. وإذا ما وقع هذا اللقاء، وتحقَّقت تلك الندرة النادرة؛ يلتقط الفكر حينئذٍ حادثته. يصير الفكر المفكر. حادثته تلك هي معياريته التي من المحتم عليه أن يرتقي إليها، وهي لا تعلو فوقه أبدًا، بل تشكل بعض سقوفه المنضدة، وحادثة اختراقها في الآن عينه.
هذه الواقعة، حادثة أن يفكر الفكر، عبَّر عنها الفلاسفة بحالة البحث عن الحقيقة. ووحَّدها المتصوفون بسطوع النور، بالإشراق الذي يغمر الوعي، أو يحيط بالروح، أو يأتي بالروح إلى ذاتها. حادثة الفكر المفكر تمثَّلت بالوضوح والجلاء كمقياس يفرض نفسه وموضوعه على الوعي، منذ أن أرسى ديكارت ذلك الفاصل، من البداهة، الذي يقطع الشك باليقين، لكن «اليقين» ينهي رحلة الفكر، يدخله في سؤدد السكينة والطوبى المثالية، أو الأخلاقية والدينية وسواها. من هنا فالعلم بعد ديكارت أصبح يميِّز بين المعرفة والحقيقة: المعرفة جزئية وتشمل موضوعها، والحقيقة لا تتوقف عند الواحد إلا لتعاود وصله بالكل. أما صيغة: الفكر المفكر، فإنها تنصبُّ على التقاط الفكر كحادثة ذاته أصلًا. فلا يتوقَّف على اختراع الأنظمة المعرفية، وإغناء العقلانيات؛ ذلك لأنه لا يعرف حقًّا كيف يمكنه أن يكون نظامًا معرفيًّا أو نهجًا عقلانيًّا ونهائيًّا.
وحتى عندما يجري التعامل مع الفكر المفكر، من خلال ما اصطُلح عليه تحت اسم مفرداته، من مثل الرأي والفكرة والمفهوم … إلخ؛ فذلك التعامل لن يحصل على ثقة من كون أن تلك المفردات حقًّا تؤدي إليه، أو تعطي تشخيصًا عن فعله هو، أو عن حركاتها وآلياتها هي. كأنما الفكر المفكر في الواقع، إنما تعبر به مفرداتُه تلك مجرد عبور وتدَّعي لقاءات به، في حين يظل هو متابعًا لفعله الصامت، دون أن يؤشر على ذلك موافقًا أو غير موافق. الفكر المفكر، ليس مصنعًا للأفكار، ولا حتى مبدعًا أو مخترعًا لها. إنه بالأحرى يكاد يعمل في الدرجة صفر من الأفكار.
التفكير في «الصفر» من الأفكار
بل إن هذه الصيغة: الفكر المفكر التي ابتكرها هيدغر أساسًا، لا تريد أن تعني إلا أن هذا الفكر حين يفكر، فإنه إنما يفكر في الدرجة صفر من الأفكار. ليس هذا تبرئةً للفكر من الأفكار، بل من جثث الأفكار، بل تأكيدًا على أنه ليست لأية فكرة أن تقيس نفسها بالفكر المفكر. أقصى ما تأمل الفكرة في الوصول إليه هو أن تمتلك ثمة جاهزية قد تذكِّر به فحسب، على أن تسارع إلى مسح إشارتها تلك من دربه سريعًا. فحين يُؤتى مثلًا بمذهبَين في السياسة أو الدين، ويُدعى البعض إلى المقارنة (فكريًّا) بينهما، فليس هو الفكر المفكر الذي ينبغي أن تُحمل عليه هذه المقارنة بما تثبته أو تنفيه في هذا المذهب أو ذاك، بل بما يمكنها من أن تكشف داخل مساحتها بالذات كمقارنة، عن جزءٍ من الأرض العراء، التي تساهم أكثر في تمكين الفكر «المفكر» من أن يفكر في درجة الصفر من الأفكار، أي بما يتجاوز المذهبَين معًا. ويبقى مؤشرًا عليهما، وعلى تجاوزهما معًا.
ذلك هو الصميم من دعوة نيتشه إلى قلب نظام القيم «العليا» السائد؛ إذ «الفكر المفكر» يتسكع غالبًا، مجهولًا، خارج أفكاره. وما لم يفكَّر به بعدُ قد يكون هو المقياس غير المتحقق لكل ما يفكَّر به؛ فأهمية الفكرة هي فيما لم تقُله بعد. والعصر الذي يدفع أكثر إلى الفكر، ليس هو الجدب من الأفكار، بل هو الأخصب من بين بقية العصور. ذلك أن الفكر هو القوة الإنسانية الوحيدة، كبرى القوى وأعظمها، التي لا توجد إلا خارج مؤسساتها، والتي تمارس سلطتها المطلقة بدون أية سلطات، وبالرغم من أية سلطات. أما المتداوَل من الفكر فهو أضعفه. وحتى يمكنه أن يخطَّ بعض حروفه لا بد له أن يمسح كل المكتوب في اللوح المحفوظ (أو ليس كذلك تمامًا!)؛ فالتفكير في درجة الصفر من الأفكار هو الالتقاء الاستثنائي بالفكر المفكر، خارج كل صنائعه. ما يتبقَّى من الفكر بعد كل المواسم هو ما لم يفكَّر به بعد. والعيش تحت طائلة هذا الهاجس هو الذي يميز الثقافة الحية عن الثقافة الميتة. وكيركيجارد، وهو الذي دعا ذات مرة إلى تلك «الفكرة التي ينبغي أن أعيش من أجلها وأموت.» لكن المسألة ليست في التشبُّث بالفكرة كصنم، بقدر ما تصير إلى ذلك الصنم والمعول الذي يحطمه في آنٍ معًا. ما يحفظ الفكرة ليس هو ردها إلى أصولها، بقدر ما تصير هي الأصل لسواها.
ماضي الفكر ليس مستقبله فحسب. إنه هو الزمن الذي يتفرَّغ إلى آناته الثلاث من ماضٍ وحاضر ومستقبل، ويبقى هو غير المتفرِّع أبدًا؛ لأنه «حاضرُ» الآنات الثلاث؛ فالفكر هو كالزمن الذي هو الكائن الوحيد الذي لا يحضر إلا من خلال انقضائه. وكما قال أفلاطون: «فالزمن هو الصورة المتحركة للأبدية.» شرط أن يعاد فهمُ الأبدية هنا كاستمرار الاختلاف داخل الزمن عينه. والفكر يحتاج إلى الزمن كيما يظل محتفظًا بأبديته من خلال انقضائه، أو بالرغم منه. والزمن يحتاج الفكر كيما يصبح لغة إنسانية؛ فاللغة هي خشبة المسرح الأخيرة لإخراج التمثيلية، وظهور الممثلين وحركات أفعالهم وأقوالهم، ولنتوء الخلفيات والكواليس، وجوف المسرح، وما وراءه إلى ما لا نهاية. وكلام اللغة هو أوضح برهان مستمر على الظهور والاختفاء معًا. ذلك أن الكلام له جناحان هما الفكر والزمن، يخفق بهما، ويغيب بهما ومعهما؛ فالفكر كالكائن مضطر للخروج من سديميته، التي لا يُقال عنها شيء في العادة، إلى سديمية أخرى تحتمل الحضور والغياب معًا، من نوع هذا الوجود في العالم، الذي هو وجود في — قلق — العالم نفسه؛ حيثما لا ضمانة هناك إلا في مواجهة العدم، والتعامل مع ترميزاته اليومية بما يغيِّر منهما معًا، من الفكر والعالم؛ فالفكر لا يخترع الاختلاف ولا يكتشفه، بل يراه ويعرفه في ذاته أولًا؛ لأن الفكر هو علامة الكائن الوحيد الذي ينبجس من العدم ويعوم في العدم. والعدم هو التماثل في اللاشيئية، والكائن هو الصدع الفريد، هو الثقب في كرة الفراغ اللامحدودة؛ هو الذي يحمل استحقاق السؤال، ولماذا كان وجود وليس عدم؛ فالكائن، الذي هو الإنسان، قد يظل سادرًا في العدم الذي جاء منه، ويعيش فيه، إن لم يستيقظ فيه ذات يوم السؤال؛ وسيكون ذلك هو «اليوم» الأول من الزمن، كما سيكون السؤال ذاك: هو أول الكلام. ينبثق الكائن حينئذٍ اختلافًا عن اللاكائن حوله. وهذا ما يدهشه في نفسه وفيما حوله. وما إن تشرع اللغة في التسمية حتى تتكوَّن إشكالية الشيئية؛ فالشيئية لا توجد الشيء، لكنها تبني المتَّكأ «الأول» كذلك للهوية. ما لم يتمتع الشيء بشيئيته فأي لزوم لسؤال عن هُويته. «العالم من امتثالي»، عنوان أهم موقف لشوبنهاور. هو عينه المرادف للتعريف الحداثوي: العالم هو من تسميتي. أنا الكائن الآتي من عدم لا أعرفه، إلى عدم عليَّ أن أعرفه، فإنني لا أمتلك إلا كلامي الذي سوف يمنح أشياء العالم من حولي أسماءها، أو بالأحرى تسمياتي لها وعنها.
إن هول هذا الوجود الموجود هناك كله، والجاثم بعض ظلِّه في الأقل، على الصدر، يسميه الفلسفي منذ بارمنيد وهيراقليط بالكاوس أو السديم أو الكائن اللامتناهي. وهو ذلك الترميز الذي يتساوى القول عليه بالوجود أو العدم. وهو الموضوع الذي يشكل خلفية الثقافة وهو البرية الوحشية المستمرة هناك، التي تبدو بالنسبة لها، كل البريات الأخرى فقيرة وألاعيب لغوية خالصة بما فيها «حقائق» العلوم الصحيحة نفسها(؟). والإنسان الفرد يصيبه من بريتها المطلقة، تلك إحدى أهم حوادثه على الإطلاق، وهو الفكر قبل الموت ثم موت الموت بدون فكر على الإطلاق؛ ويصيبه قبلها كذلك كل لحظة أوامرُ صغيرة من الحسم والظلم والعنت: أن يكون أو لا يكون. أما أتفه أحواله اليومية مع ذاته ومع الآخرين، ومع هذا العالم الذي له شأن معه كل حين. وحول كل شأن، فإنها تتدافع عبر ألفاظ الوصف والتقويم، وترافقها حالات النفس المبهورة مرة أو المذعورة، المدحورة، أو المتصورة آنيًّا، والخائفة غالبًا.
هذه الصيرورة الصغيرة الفردية المحايثة للذرة المفردة، كما للذرات المجموعة، تكتب كل لحظة، باتضاع وانصياع غالبًا، وبتمرُّد مكبوت أو مفجور نادرًا، تكتب أسرار تلك العلاقة الدموية الشفافة، اللادموية في النهاية، مع الكاوس الذي يسكنني كما أسكن منه أصغر زاوية زائغة من أية خارطة. فإنني، أنا ذرة الوجود اليتيمة، مطلوب مني أن أحول كل ذرة عدمية ألمسها إلى ذرة وجودية، دون أن تتخلَّى عن بذرتها العدمية الأصلية، فأن أفكِّر على الطريقة الإغريقية مثلًا، هو أن أفوز بحافة من الكاوس، بمهلة شاردة من انسراعه المطلق. وأن أفكر على الطريقة الإلكترونية المعاصرة، هو أن أسترد من تحت كاوس «المعلومات» خانة الكاوس الأصلية. هو أن أستردَّ تفاؤلي بقدرتي على ابتعاث اللامسمَّى، كخط أخير للمقاومة في وجه بحران/طغيان الأسماء كلها.
سلطة الخطأ
فالتفريع لا يستبعد التأصيل، لكنه ينتزعه من الأصل الواحد، وينشره أصولًا لا تُحدُّ في التفريعات اللاتُحد. وهكذا فالميتافيزيقا ليست قبة في أقصى العلياء، ولا أفقًا جغرافيًّا يفر ما وراء الآفاق كلها، منذ أن لم تعد جذرًا سكونيًّا كامنًا في أعماق الأرض، كما تصورها ديكارت في استعارته المجازية، مؤكدًا وحدة المعرفة الفلسفية كشجرة منبثقة من جذورها في الميتافيزيقا، ومتفرعة أغصانها إلى بقية العلوم، دون أن ننسى الجذع المتين الذي تمثله الفيزياء ما بين الأصول والفروع. والحقيقة فإن الشجرة ما فوق الأرض سوف تنسى أصولها تحت الأرض. وما اعتبره ديكارت بمثابة جسم الشجرة بجذعها وأغصانها، سوف يبطل إشكالية البحث عن الأصول والفروع بجملتها؛ وبالتالي يأتي اليوم الذي ينكر فيه الأحفاد والأولاد جدتهم العجوز، لكن هذا الإنكار لاقى سريعًا تعويضه التاريخي الأخطر؛ إذ سرعان ما انقلبت الميتافيزيقا إلى معمارية من الطراز الأول، تشيد أهراماتها الكبرى في شوارع خفية موازية لشوارع العلوم. وكان إصرارها على امتلاك الحقيقة الشمولية مقابل كشوفات العلم وفتوحاته المعرفية، يضطر الميتافيزيقا من مفارقة الفكر المفكر، من مبارحة السؤال إلى فَبْرَكة الأجوبة الإطلاقية التي تغلق منافذه الدائمة على الهواء الطلق.
كان الانزياح من الميتافيزيقا إلى الأدلجة وبالعكس، من الأدلجة إلى الميتافيزيقا، يفاقم من الشرخ بين المعرفة والحقيقة. وفي حين يتابع العلم مراكمة المعارف في كل ميدان، فإن الأدلجة تستولي على حيز الحقيقة، وتحصِّنها ضد مصادرها الحيوية من تلك المعارف؛ فالأدلجة لا تراهن على الحقيقة، ولكنها تدَّعي الاحتياز عليها. وهكذا تضع نفسها في مستوى شمولية ما تدَّعيه. باسم الحقيقة العظمى تُكافَح الحقائقَ الصغرى أو البسيطة. وبالطبع لن يتوصَّل أحدٌ إلى التعامل مع تلك الحقيقة العظمى. والواقع فإن الأدلجة تستثمر عند الميتافيزيقا ذلك الإصرارَ على كونها الباحثةَ عن الكينونة بما هي كذلك، فتقدم نفسها لها وكأنما سبق لها أن احتازت على هذه الكينونة عينها. ليس ذلك ذنبًا تُسأل عنه الأدلجة وحدها دائمًا. ذلك أن الميتافيزيقا التي تصرُّ على تعريف نفسها بأنها الباحثة عن الكينونة، فإنها في واقع الحال تعتبر أنها عثرت مقدمًا على الكينونة قبل أن تبحث عنها. وهكذا كثيرًا ما تصير ميتافيزيقا ما أدلوجةَ نفسِها، قبل أن تداهمها الأدلوجة من أي مكانٍ خارجًا عنها. ذلك هو سبب الثورة على الميتافيزيقا نفسها، وكأنها هي الأيديولوجيا عينها.
من هنا انزرع ونما وترعرع شيء اسمه سلطة الخطأ، دون أن يسميه أحدٌ بذلك إلا بعد فوات الأوان، في مختلف منعطفات تاريخ الأفكار. في البداية هناك الاندفاع وراء الفكرة، وكأنها الحقيقة المطلقة. وعند المنعطف الأول الذي يصيب الفكرة بالتصدُّع الذاتي، سرعان ما توصف بالفكرة الخاطئة. فالفكرة لها تاريخ تعيش فيه كحقيقة، ثم تموت فيه كخطأ. ذلك أن الفكرة هي التي تتبنَّى الحقيقة، وهي التي تعترف من ثم، بعجزها عن بلوغها، لكن موت الحقيقة في الفكرة، قد يكسب الفكرة حياةً أخرى؛ إذ يمكن للأفكار الخاطئة أن يُكتب لها العيشُ أكثر من الأفكار الصائبة.
والفكرة الخاطئة التي تحيا وتستمر هي التي تبني شيئًا لا يعترف به إلا لاحقًا، وفي الوقت المتأخر دائمًا، اسمه سلطة الخطأ، لكن الاعتراف به لا يضع له حدًّا. ذلك أن سلطة الخطأ هي الرائجة أكثر من أي اسم سحري آخر يقال له سلطة الحقيقة. ذلك أن شبه الفكر، وليس الفكر، هو الذي سريعًا ما يتقبَّل ويستقبل السلطة من خارجه، سواء كانت سلطة للخطأ أو للصواب؛ لأن «شبه الفكر»، حتى يخفي وضعه المنكسر أصلًا، فإنه لا يمكنه أن يخرج إلى الناس إلا وفي فمه «كلمة الحق» الفاصلة، سواء تدشينًا نهائيًّا لفكرة ما، أو دفنًا لها، وتشييعًا لها إلى قبرها الأخير. وهكذا كانت حروب «الأفكار» فيما بينها، أشدَّ حروب الحضارة ضراوة.
إن شبه الفكر ما إن يدَّعي اختراع الفكرة النهائية، حتى يقيم فعلًا وواقعًا، سلطة الخطأ. وفي هذه الحالة لم يعد يمكن وصف الفكرة بمادتها كفكر أبدًا؛ إذ إنها ما لم تَعُد تحتمل قول الصدق أو الكذب يُطلق عليها. إنها سلطة الخطأ وحده. وتتسلَّح مباشرة باسم آخر يحتكر الأبهة والجلالة: العقيدة.
ويقال إن الناس تحركهم الاعتقادات، وليس الأفكار، لكن الاعتقاد هو أول ما يقطع «فكرته» عن نسغها الأصلي، عن الفكر. فما إن يُفجأ بفكرة أخرى، حتى يقاومها. وبذلك يتحوَّل إلى سلطة الخطأ. متى تصبح الفكرة معتقدًا، عندما تدعي احتكار الفكر، بمعنى أنها تقطع نفسها عن الفكر. تصير إلى الموقع المعادي حتمًا للفكر. فما هي الزهرة التي تدعي احتباس الربيع كله بين وريقاتها المعدودة. أليس الأفضل أن تغمز بعينها نحو الربيع، بدل أن تحجبه، كلما حاصرتها أنظار المعجبين؛ أم أنها تصير إلى تلك الشوكة التي تكاد تفقأ النظرة المرتطمة بها؛ فالزهرة الجميلة، ليست هي كذلك إلا لأنها تذكرنا بكل الزهور الأخرى التي لا نعرفها، وتدفعنا أكثر إلى المناداة أكثر على الربيع الذي حملها وأينعها، سواء أردنا له ذلك أو لم نرده. فهل الفكرة موجودة حقًّا، أم أنها هي المنشودة والمبحوث عنها دائمًا؟ في حين أن سلطة الخطأ تكاد تكون هي الموجودة فعلًا ما دامت قادرة على طرد نقيضها، لكن هذا الطرد عينه هو الباعث على التجاوز. فإن استفحال الخطأ يولد ويجدد من عزيمة التعديل والتصحيح، ولكن من هو الذي يعين الخطأ، وكيف يحدث التعيين. ألا يعني ذلك أن سلطة الخطأ تحمل معها كذلك أمكنة كسورها، مرئية أو محجوبة. فكل تعيُّن هو سلب. والخطأ مضطرٌّ إلى تعيين ذاته تحت اسم نقيضه، أي كحقيقة. وعند ذلك قد يخسر قواه الخاصة كخطأ، وكسلطة للخطأ، ويعجز عن التعويض عنها بادِّعاء قوى الحقيقة، التي لا يمتلكها أصلًا؛ فالخطأ لا يمكنه أن يحتمل «تهمة» الحقيقة إلى ما لا نهاية، أي ادِّعاءها.
لذلك قلنا إنه ليس ثمة ما يعود إلى الفكرة نفسها دون سواها، إلا مدى قدرتها على استعادة صلتها العضوية بالفكر نفسه الذي هو مرجعها الأصلي. ولا تتحقَّق هذه المعيارية «الصغرى» إلا بمدى ما تكشف الفكرة عن شحنة الفكر التي تملكها، وتثيرها في محيطها، مما يجعلها تتوالد في أفكار أخرى، عبر المضاهاة والمعارضة، أو التجاذب والتنافر؛ فالفكرة المتميزة عن أية سلطة تلتصق بها من خارجها، هي تلك التي يمكنها أن توجد كلما شاءت، خارج نفسها والسلطة المتدربة بها، إن حياة الفكرة هي خارج جسدها، كأنما في نهاية التحليل لا وجود للفكرة، إلا في كل ما لا يحمل اسمها الأصلي.
الفكر المفكِّر يتأرجح على الحدود الوهمية بين الميتافيزيقا والتراجيديا. يطمح من جهة إلى بناء الخارطات العقلانية فوق الأراضي الجيولوجية الخام، وفي الوقت عينِه يكتشف عقم كل خارطة، يمزقها، باحثًا تحت نثاراتها عن أعاصير التكوين واللاتكوين الأولى، في خلايا الهيولى الخالية إلا من عدمية الأزلية الأبدية في ثقوبها السوداء المنسية. ومنذ نيتشه، فإن الفكر المفكر يسعى إلى رد الميتافيزيقي إلى أصله في التراجيدي، أو على الأقل يحاول أن يردَّ أو يحرِّر الميتافيزيقا من تاريخانيتها الغربنية الخاصة؛ معيدًا إياها إلى ميتافيزيقا بدون ذلك التاريخ، أو بدون شخصيتها المفهومية المُعطاة لها، من خلال خصوصية تحقيبها المعرفي؛ ذلك هو الهم الهيدغري الأهم؛ فالميتافيزيقا الميتافيزيقية هي استعادة سؤال الكينونة، من تحت كل الأجوبة المتلبِّسة لجسدها غير الجسدي أبدًا. والفكر المفكر لا يقر إلا بحتمية واحدة، وهي أنه لا خلاص من سؤال الكينونة سواء برفضه أو قبوله، وحتى تناسيه. وقد اختارت الميتافيزيقا الغربنية الطريق الثالث؛ وهو تناسيه، لكن هذا التناسي ينتهي الأمر به إلى أن يذكرنا بوضعيته المضاعفة: كفعل نسيان مقصود أو غير مقصود لذاته، والموضوع الواقع عليه فعل النسيان، أي تسآل الكينونة، أو الكينونة عينها كتسآل.
لا مهرب من الكينونة. وكما برهن باسكال؛ فإنه من أجل إنكار الكينونة، ينبغي تعريف الكينونة، ولكن من أجل تعريفها ينبغي القول إنها كائنة، وهذا يعني بالتالي افتراض وجودها. فإن سؤال الكينونة يُطْرح إذن، من تلقاء ذاته، سواء شئنا أو لم نشأ. الكينونة كائنة هنا وهناك، ولا مفرَّ من إشكاليتها. وفي الحياة اليومية يطرح المرء وجوده على مستوى تحقيق رغائبه وطموحاته. وتقوم العقبات في وجه هذا التحقيق، فيكاد يفقد الفاشل أو اليائس أو المُعاني إحساسه بوجوده؛ فالصراع من أجل تأكيد الذات ليس طلبًا لاعتراف الآخرين، بقدر ما هو امتلاء بشعور القدرة، وتنفيذها وممارستها. وبين الحاجة إلى الوجود، وتحقُّقاته ينبثق الفكر المفكر من أجل بناء العلاقة، علاقة الكائن بالعالم من حوله؛ فالكائن في كل لحظة هو في انهمام بوجوده، من أجل ما لم يوجد بعد؛ فالجَسْر على الضفة الأخرى هناك، وليس لقاءها النهائي، هو فعل جوهري، قد يلغي المسافة بين الكائن والكينونة، يمنحه شعورًا بالاتحاد معها. وبذات اللحظة ينقلب الأنا أفكر إلى الأنا الحر، لكن اللحظة النادرة في حياة المرء قد يقاربها بقدر ما تنأى عنه. إن طلب الحرية منذ الآن، يجعلها تدخل كل آنٍ، دخول الطيف والوهم والمستحيل؛ مثلما لا مهرب من الكينونة، لا مهرب كذلك من الحرية، والسعي وراءها وهي غائبة، وستظل غائبة، لكنه ذلك الغياب الذي يملأ حضور الكائن على مستوى المناداة عليها، والعدو وراء شراكها.
سوف يظل الفكر المفكر باحثًا عن ذلك الجوهري الذي يفرُّ منه. يتخيَّله ولا يدركه، وما السعي إلى معرفة «ماهية» الأشياء إلا ترميزية حضارية كبرى، عمَّا يعنيه سعي الكائن إلى الاحتياز على الجوهري في وجوده. وقبل أن ينظم المنطق ما يعود إلى الجوهر أو إلى العرض، وما يدفع إلى تصنيف الأفكار على شكل معارف، وما يؤسس العلم والصناعة، وإنشاء الطبيعة الثانية الموازية للطبيعة الأصلية والمتجاوزة لها، فإن الإنسان يحفزه لحياته وأهدافه الفردية والعامة ذلك الشعور بالقدرة، والحاجة إلى تحقيقها، المعبَّر عنها بإرادة الاقتدار. وليست تلك سوى سَعْي غامض عميق للاتحاد بالجوهري، مقابل أعراض الزوال والنقص والإعاقة والاستبداد. وقد يتقمَّص الجوهري الرغبةَ في تلبية أبسط حاجة كالطعام والمأوى والأمن، إلى أعلى الرغبات الفردية والجماعية، وما يسمَّى بالمشاريع النهضوية الكبرى للحضارات الحيَّة.
ينبثق سؤال: ماذا يعني أن نفكر اليوم؟ كأنما مشروع الفكر بتمامه ما زال في لحظة البَدْء؛ إذ لا يكون الفكر إلا بدئيًّا؛ فهو يجدد بكورة العالم أو براءته، وكأنه يولد لساعته، في لحظة الشروع بالتفكُّر فيه، بما لم يفكر فيه من قبل.
وبالرغم من أنه، منذ «نقد العقل المحض» لم يعُد يجدي التفكر في الماهية كشرط للتفكر في الظواهر والأعراض؛ وبالتالي نُحِّيت عن الاهتمام الفلسفي أفكار كلية، صُنفت أنها من نوع «الشيء في ذاته» كالله والروح والكون، إلا أنه إذا لم تكن هناك أجوبةٌ نهائيةٌ فيما يتعلق بمثل تلك الأفكار، فلا يعني هذا أنه على الفكر أن يحبس نفسه عن لانهائيته بالذات، كجوهر لا يكفُّ عن التجوهر، بقدر ما يتوجَّه إلى الجوهري من كل شيء، الذي لا يمكن أن ينصب مجهوله أبدًا على حساب معلومه، ولعل الدرس «الجوهري» المتبقي، الذي ميَّز الفينومينولوجيا ودفعها فوق تراث الثورة النقدية المتواصلة منذ أيام كانط، إنما يكمن في هذا الفارق المفهومي. وهو أن الشيء في ذاته ليس أصلًا منطقة ماورائية نائية، وتتصف بكونها ممتنعة على الفهم، إلا لأن الفَهْم عينه، وعبر إحدى مذهبياته المسيطرة فحسب، يمنع نفسه وسواه عن التعامل معها. والمنهج الظاهري عينه، غير المتمذهب، يكتشف بسهولةٍ أنه ربما كان هو المسئول الوحيد، من بين المنهجيات المعرفية الأخرى عن ملاحقة الشيء في ذاته، ليس في خفية عن ذاته، بل كظاهرة أخرى، وكسواها من ظاهراته، مع هذا الفارق في القراءة فحسب: بين قراءة ظاهرات «الشيء» كنصوص، وقراءة «الشيء في ذاته» كظاهرة من نوع آخر، كظاهرة تناصية على «نصوص» الظاهرات الظاهرة.
الفكر المفكر يتجاوز هذه التصنيفية، شبه المدرسية المتجددة. وسؤاله عما يفكر فيه اليوم، ليس سوى محاولة لاسترداد ما لم يعثر الفكر عليه حتى اليوم. ما هو؟ بكلمة واحدة هي الحرية، وحتى لا تظل الكلمة معلَّقةً في تجريديتها التماثلية، فإن المُنادَى عليه، والمُفتقَد حتى اليوم هو الفرد الحر. وقد كان يمكن القول إنه هو الفرد دون تلك الصفة، التي من المفترض أن تكون هي محتوى الفرد وشكله في آنٍ واحد، لكن استخراج الصفة من الموصوف (الحرية من الفرد)؛ ومن ثم إطلاقها على كامل موضوعها، هو بمثابة تعيين الفرد بأخص ما يكونه ويمتلكه؛ و«الحر» هنا هو معادلُه الطبيعي، أو جوهره، أو ما كان يُصنَّف في مرتبة التعريف الجامع المانع؛ فالنص والتناص متحدان في عبارة: الفرد الحر. إلى درجة أن التعريف هنا يدخل خانة المصادرة على المطلوب. كما لو أن تاريخ الفكر، أو تاريخ الإنسان، كان باحثًا دائمًا عن حادثته التي تخصُّه وحده، تحت سيول من طوارئ الحادثات الأخرى التي تورط فيها، وأقحم فيها، تبناها ورفضها؛ وتمزق باستمرار بين مختلف تسميات الفكرة، من عقيدة ومذهب ومفاهيم ومعارف وشائعات، ويقينيات وشكوك. لم يَفُز الفكر بحادثته بعد. كما أن الفرد الحر لا يلد أبدًا ولادته النهائية. أحدهما يبحث عن الآخر، كما لو كان باحثًا عن ذاته.
والكتاب سلسلة محاضراتٍ جامعية يحاول فيها الفيلسوف أن يستردَّ جوهر السؤال حول الكينونة، باعتبارها تتبدَّى من خلال «الفكر المفكر». والكتاب يأتي ثمرةً عاليةً لعصرٍ فلسفي، يلقي بأسراره الأخيرة أمام طلابه، قرَّاء المستقبل.
والكتاب سلسلة محاضراتٍ جامعية يحاول فيها الفيلسوف أن يستردَّ جوهر السؤال حول الكينونة، باعتبارها تتبدَّى من خلال «الفكر المفكر». والكتاب يأتي ثمرةً عاليةً لعصرٍ فلسفي، يلقي بأسراره الأخيرة أمام طلابه، قرَّاء المستقبل.
Deleuze avec Guattari: Mille plateaux, p. 31. Minuit, 1980.
والمصطلح مأخوذ أصلًا من نبات الجذمور، والمقصود أن التفريع، كجذور الجذمور الانتشارية، لا يرجع (لا إلى الكل ولا إلى الواحد)، وهو ما سوف يعبر عنه بالشبكة لتصوير تفرعات الدلالة، وتجاوز تعارضية الميتافيزيقا التقليدية المعتمدة أصلًا على تجريد المنطق الصوري، بين الثابت والمتغير، الأصل المختلف بالهُويَّة عن الفروع.
جون أوستين أحد مؤسسي تيار الفلسفة التحليلية الأنغلوساكسونية التي ستطبع الفكر الفلسفي المعتمد على اللسانيات، في بريطانيا وأمريكا. ونظرية «اللغة كأفعال» أو العبارة باعتبارها فعلًا لغويًّا، سوف تحل عنده محل التفكير: إنه يطرح السؤال الأساسي: كيف يمكن التفكير بالكلمات؟ والإشارة إليه في نصنا هنا لا تتعدى التذكير بأهمية ذلك السؤال، ومدى تطابقه مع سؤالنا عما يعنيه التفكير عامة. وهو ما سوف نتعرض له، عبر نمو البحث.
L’origine de la tragédie, texte établi par Colli Montinari, ed. Gallimard.