(٢) من «الفكر المفكر» إلى «الفرد الحر»
أبحث عن فردي تحت أكوام القش، أبحث عن جوهري. ذلك هو السؤال حقًّا. والواقع فإن مسألة الجوهر ينبغي أن تعود إلى صميم السؤال الفلسفي، بعد أن عزلها المنطق بعيدًا في مجال تقنيات وقواعد البرهنة الشكلانية. هناك طريق آخر للبرهنة ينطلق من البحث عن الجوهر. فما يعنيه الجوهر ليس دائمًا هو عكس العرض. لا يمكن تقنينه تحت صيغة الثبات والاستمرار، بل لا بد أخيرًا من إعادة النظر؛ فالجوهر ليس مسألة منتهية. ولقد كانت دلالته اللغوية بالذات أفضل شاهد على عدم استنفاذه. فمتى يثبت الجوهر كجوهر، إلا عندما نكفُّ في البحث عنه. وعند ذلك كأننا نكفُّ عن التفكير.
بكل بساطة لا يستطيع سؤال الفلسفة أن يبرح حدود ما اصطلح عليه منذ الإغريق بمشكلة الجوهر. ونحن مطالبون من جديد أن نقترب ونتقارب من/ومع هذه الإشكالية، أليس الحديث اليومي العادي يطالب المتحاورين دائمًا بطلب الجوهري من الكلام. الاعتراض على المحاور يقوم في سياق عدم الاعتراف للآخر أن ما يقوله إنما هو جوهر الموضوع؛ فالمحاورة أصلًا مشروع في التقصي عن الجوهر. وما الحاجة إلى الحوار إن لم يكن ثمة شيءٌ غائبٌ أو أنه ناقص، وأنه لا بد من الاحتياز عليه بطريقة ما. المحاورة قد لا تنطلق من الغموض، بقدر ما يكون الغموض نفسه سببًا للسير نحو الوضوح. والمتحاورون قد يعتقدون أنهم يتشاركون في تقديم المعارف كلٌّ من جهته. لعله في النهاية يمكن بلوغ الحقيقة. ذلك أن تبادل الكلام يُدَّعى أنه في الوقت نفسه هو تعاطٍ مع المعارف؛ فالكلام مهما انتمى إلى السياق اللفظي فحسب، فإنه ليس تقنية مجانية، إنه يدور، أو يحسب أنه يدور حول أشياء، وأنه يتبادل طرح المعارف، أو على الأقل المعلومات. واليوم صار اسم المعلومة يُطلق على أقل الكلام. حتى الكلمة صارت عبارة؛ وبالتالي تحتوي على المعلومة. كل محاورة لديها ما هو باعث على وجودها. وقد لا يكون الاكتفاء بتقديم معلومة سببًا للقول إن هذه المعلومة حازت شرط المعرفة؛ وبالتالي قد تكون على درب الحقيقة. لا شك أن تراجع الهدف من طلب الحقيقة إلى التوسل بالمعرفة، إلى الاكتفاء بالمعلومة، أو حتى بالإشارة، لا يدلُّ فقط على مدى التنازل الثقافي الذي أوصلتنا إليه حتمية الاستجابة الآلية إلى شروط الحياة اليومية، مهما سُفِّهت وتسطَّحت، بل قد ينبئ بسهولة عن مدى التفتت الذي يصيب الجسد اللغوي ذاته؛ إذ يتحوَّل أخيرًا إلى أعراض تقود إلى أعراض ليس إلا. أليس هذا ما يعنيه أن اللغة كلماتٌ تبحث عن كلمات؟
لكن هذا التفتُّت أو التسطُّح عينه ألا يدلُّ على انصراف عن طلب الحقيقة في ذاتها، بقدر ما يعني أنه لم يعُد للجوهر ثمة أفهوم واحد ثابت، بل أصبح منفتحًا على أفاهيم لا حدود لها، إلى درجة أن هذه الأفاهيم نفسها قد تنثال انثيالَ الأعراض عينها. حتى إنه قد لا يتبقَّى أخيرًا ما يميز الجوهر عن العرض، إلا كونه قد صار عرضًا، ولكن بطريقة مختلفة. وأما أصل هذا الاختلاف فهو أن الجوهر قد يأتي عرضًا، وكالعرض نفسه، إلا أنه يجيء ومعه نظامه هذه المرة؛ بهذا ينفصل ويتميز عن العرض. هذا ما يوقف فجأة سيل الكلام. هذا ما يضع خاتمة للحوار؛ إذ إن كل كلام لا بد له من حد أخير ينقطع عنده. إن انقطاع سيل الكلام، قد يعني أحيانًا أن كل ما قيل وتم الحوار حوله، قد لاقى دلالته حتى في الصمت.
مهما كانت هذه الدلالة متباينة المعالم، فإنها استطاعت أن تقطع الكلام. ولقد يسمِّي اللسانيون ذلك انغلاق العبارة. وقد يعيدون أسبابه إلى عوامل كامنة في بنية العبارة نفسها، لكن كل انغلاق إنما يضيف حدثًا جديدًا إلى العبارة، وهو التوقف بعد أن كانت جارية. وهو الصمت بعد أن كانت ضاجة بالأصوات. وهو عدم العبارة، بعد أن كانت كلامًا حادثًا. إلا أنه ينبغي عدم التوحيد بين انغلاق العبارة وهذا المعيار الشديد الإحراج، وهو التفاهم. فما يوقف الكلام ليس دائمًا نجاحه في التوصيل، أو عدم هذا النجاح، أو درجات قليلة أو كثيرة منه. إن وقف الكلام قد لا يفسره غالبًا إلا حدثه الخاص.
على كل حالٍ فإن كون الإنسان عاقلًا أو ناطقًا، قد خلق تقليد البحث عن ماهيات الأمور. وإن هذا التوحيد دائمًا الذي دأبت عليه ثقافة الإنسان، بين اللغة وحاجة الفهم، قد تعتمد كذلك نوعًا من البداهة أن ثمة انفصالًا أصليًّا بين اللغة وحاجة الفهم. وإن اللغة ليست سوى صنيعة لهذه الحاجة، وإنه لو لم يَقُم العقل أساسًا على السؤال، لما كان يحتاج إلى أدوات، ابتكرها جهازُ اللسان. فاخترع الأصوات التي انقلبت إلى دالَّات ودلالات، ولكن ما حاجة الإنسان إلى كل هذا الجهد. ولماذا كان عليه أن يفهم فيتكلم فيبني ما بناه هذا التاريخ الرهيب؛ هذا العالم الآخر الذي لم يكن قائمًا قبله ولا بدونه، والذي لا صفةَ له على الإطلاق إلا أنه عالم هذا الإنسان … هذا الفكر الذي يفكر.
قبل أية أنتروبولوجيا فإن تعريف الإنسان هو أنه سابق لكل تعريف. ولم تخطئ الأنتروبولوجيا خطيئتها الأصلية، إلا عندما اعتقدت أن الجوهر هو الثبات، وأنه لا بد أن يتميَّز الإنسان بتلك الخصائل التي تكسبه هُويته الدائمة. في حين أن العودة إلى البداهة تضع هذا الثبات نفسه موضع السؤال، لا يعفيه من مرتبته كونُه لاحقًا، وليس قبليًّا؛ فالجوهر الذي يصير ثباتًا لا يعود هو ذاته. والثبات عينه عرَضٌ من بين الأعراض الأخرى لا يجوز نقله وتركيزه في حيِّز الجوهر فقط.
كل تعاريف الإنسان تُصنَّف في خانات الأنتروبولوجيا وتاريخها الخاص. ذلك أن الثابت في عُري الإنسان هو أنه لا ثوب نهائي له، لا شيء يمكن أن يكسوه. فالعُري من الجوهر والعرض معًا، هو جوهر عُرْيه، المحكوم به. فإن الكوجيتو لم يستطع أن يعبِّر عن نفسه إلا بدلالة التفكير وحدها كحيِّز يقارب حيز الكينونة. هذه المقاربة تشكل أبسط البداهات لأنها وحدها تُبنى عليها بقية البداهات؛ في حين أنها «وحدها» لا تنبني إلا على ذاتها. ذلك هو منطق البرهنة الذي حاولت الديكارتية، بعد أن تحوَّلت إلى مذهب، أن تحصر نفسها داخله؛ فلقد أصبحت البداهة واحدية ذاتها، كما أنك لا تستطيع أن تطلق على العُري إلا صفة العري، فإن كل ما سوف يكسوه، ويتراكم فوقه، يؤكد الأصل، الذي يحاول أن يغطيه؛ فالمعرفي سوف يدخل أسطرة لعبة: الظاهر/الباطن؛ لعبة الحَجْب/الكشف. كما لو أنه طُلب إلى المعرفي ألَّا يجيء إلا لاحقًا على ما ليس كذلك. ومن هنا غدا تجوهر الجوهر في خفائه وليس في تجليه. فقدت البداهة الديكارتية بداهتها الأصلية. لم يعُد العُري حاميًا ذاته بذاته. صار محتاجًا لكل ما يكسوه ويحجبه. أصبح الأصل في الحجب، وليس في الكشف. والإنسان الصانع صار نقيض الإنسان المفكر. جاءت التكنولوجيا مدعية تصحيح خطيئة إبيميتيه. فلم تجد طريقةً إلى ذلك إلا بادعاء إلغائها، والعمل بالتكفير عنها، فيما يعرف بإنتاج المعارف، ومراكمتها، وتفتيتها إلى ما لا يحدُّ من المعلومات، بما يجعل الحقيقة نفسها آخر المعلومة، المجهولة تمامًا؛ لأنها تكون المنسية، في نهاية رحلة التفتيت: من الحقيقة إلى المعرفة إلى المعلومة، باعتبارها كمًّا تفتيتيًّا لا محدودًا.
لقد كان أهم وأخطر تفكير هو إقناع الحقيقة أن تكون معيار المعرفة. وذلك مقابل تخلِّيها عن الكينونة وانسحابها من العيش تحت طائلتها؛ مما جعل طلب الحقيقة مرتبطًا دائمًا بعدم وجودها، ليس كواقع فحسب، بل كإمكان كذلك. فصار الأمل أسهل، بل محتومًا، خلال تطور التاريخ، أن ينحدر المسار من مفهوم المعرفة إلى ترميز المعلومة، بدلًا من أن يتصاعد نحو الحقيقة، كانكشاف أصلي غير قابل، تأسيسيًّا، للحجب؛ وبالتالي لا يتوقف وجوده على انتظارات، تواقيت نزع الحجب. إن التمادي في لعبة الحجب/الكشف تنسى الموضوع المبحوث عنه، لكن اللعبة هذه تحولت إلى استراتيجية سمحت للعقل أن يتنازل عن ذاته، ويتحوَّل إلى عَقْلَنات؛ أي إلى أساليب وطرق في الحجب/الكشف. صارت المسافة نائية بين هذا العقل والفكر، بقدر ما تنخرط العَقْلَنات في ابتكار تلك الأساليب بهدف إنتاج المعارف، بل المعلومات، بقدر ما يشعر الفكر أنه غير معني تمامًا بهذا الانشغال، حتى لو كان هذا الانشغال راح يتم تحت عناوين الفكر نفسه. ألم ينحدر مثلًا استخدام مصطلح المفهوم إلى مستوى الدلالة على مستحضر للتجميل، كما نبَّه دولوز.
في عصر المعلوماتية، أصبح فرط المعلومات السبيل الأول إلى حجب الحقائق. هكذا تؤكد تكنولوجيا المعلوماتية أنها سيطرت على قوانينها الخاصة إلى درجة تحييد الفكر نفسه؛ فالإنسان الصانع لم يعد يُصدر تصريحًا ميتافيزيقيًّا بحتمية الحرية، لكنه انتهى إلى تأكيد حتمية تعارضه مع الإنسان المفكر. والمعرفة لم تَعُد سبيل الحرية. ذلك أن فرط المعرفة أدَّى إلى عزلة الحقيقة أكثر فأكثر. انتهت لعبة الحَجْب/الكشف، إلى تصيير الكشف عينه طريقة مثلى في الحجب، لكن بشرط ألا ينجم الحجب، هذه المرة، عن وسائل غريبة تقف خارج ساحة المحجوب عينه.
كيف وصلنا إلى هذا المأزق، أن تغدو أحدث عقلانية أذكى أعداء الحرية. كيف تغدو كل المعلومات مبذولة، لكن الحقيقة مع ذلك ممنوعة أو ضائعة. كحال ذلك الغريق في اليم، والذي يموت من العطش، مع ذلك.
ولكن لماذا هذا الربط بين الحقيقة والحرية؛ ذلك لأن بروميثوس وإبيميتيه أخوان توءمان. إذا كان الأول يمنح نار المعرفة، فإن الثاني يخلق الحاجة الكينونية للجسد العاري أن يحصل على الدفء، والأسطورة ليست فجر الفكر فقط، لكنها مادته الحية المتواصلة كذلك.
لقد ألقى كانط على مجمل هذه اللوحة الكينونية عبر الكوجيتو الديكارتي، صفة الحرية المتعالية مقابل الحرية العملية، ذلك أنها حرية لا تزال حقًّا تهتم بمسألة الكشف عن الجوهر، ولكنها لا يمكن أن ترى ساحة له إلا هذه الكونية الشمولية؛ وهي كونية ليست تيولوجية أصلًا؛ لأنه يخترقها قانون العِلِّية في مختلف قطاعاتها، لكن الانتقال من الحرية المتعالية أو الكوسمولوجية هذه إلى الحرية العملية، لا يتم بنسيان الأولى، بل بالارتكاز إليها، وباستدعائها الدائم، في مختلف منعطفات البحث عن الفعل الحر؛ عن هذه الحرية العملية التي يمارسها الأفراد تارةً أو غالبًا في وجهها السلبي والمهاجم، ونادرًا ما نلاقيها في وجهها الإيجابي.
ولكن كيف تكون الحرية سلبية؟ عندما تحاول أن تقيم استقلالية الفرد، فتدفع عنه أول ما تدفع أنظمة الإكراه والاستتباع. عندما تُفهم هذه الاستقلالية انزياحًا عن الطبيعة أو العالم، ومعها المستوى الغيبي أو اللاهوتي، أو الإله باسمه المباشر، لكن لا تتوقَّف الحرية عند هذه الصيغة الهجومية؛ فهي مضطرة أن تفكر الآخر، في الوقت الذي تفكِّر حاملها، ذلك الفرد الذي يتشبَّث باسمها، كأنه يتشبث بما هو أكثر من ماهيته، إنه كينونته، لكن الكينونة لا يختزلها الفرد، وهو هذا الكيان الفرداني، فإنه يحتاج إلى الاندراج في موضع ما من الكوني. غير أن هذا الاندراج ليس استيعابًا يمارسه الكلُّ على الجزء؛ فإن الكانطية تحفظ دائمًا المدار الكوني باعتباره الصيغة الوحيدة لبناء مشروعية الاستقلالية؛ لأن الفرد الذي يطلب فورية حريته، بحماية استقلاليته، إنما يحتاج إلى شَرْعَنة هذا المطلب/المبدأ، باعتبار أن كل فردٍ آخر يُشارك في هذا المطلب بدوره؛ فالحرية هي الجوهر الأخير المتبقِّي لكل الأفراد من أجل أن يكون كل فردٍ مشاركًا للإنسان على طريقته الخاصة.
وفي كل مرة يجري تصنيف الحريات، لا يُتجاوز المفهوم المتعالي أو الكوسمولوجي للحرية فحسب، بل يُقدَّم مفهومُ الاستقلالية وكأنه لا يزال محفوظًا؛ وبالتالي قادرًا على تبرير الصنف الجديد من حزمة حريات، يراد تعميمها أو تسويقُها في هذا العالم الذي يراد له أن يفخر باسمه الجديد: السوق، على حطام كل مضامينه الأخرى المستبعدة، والموسومة الموصومة بالمتخلفة.
ليس هذا ما يمنع قيام موضوعات خاصة لأجناس وأنواع من الحريات، ولكن شرط ألَّا يكون ذلك حجبًا للمسألة الجوهرية: وهي تناول الحرية كتناول الفكر؛ بحيث لا ترجع إلا إلى ذاتها، كالفكر الذي لا تعنيه موضوعاته، بقدر ما عليه هو أن يمنحها مشروعيتها، عندما يضطرها إلى الكشف عمَّا فيها من عناصره عينها، ولا ترجع إلا إليه وحده.
بالمقابل بقدر ما تفتح الحرية على الفكر، على الكينونة، بقدر ما هي لعبة الفرد أولًا وتأسيسًا على ذاته الخاصة؛ فهي تتميَّز عن بقية المعاني الإطلاقية كونها أصلًا تجول في حيِّزه «الخاص»، هذا الكائن الإنساني الذي يظلُّ حامله الواقعي اليومي هو الفرد. ومن هنا كان هذا الربط الجوهري عند كانط بين المتعالي والعملي؛ على أن الجانب العملي، وحده الذي يتيح للجوهر أن يتجوهر، أي أن يدخل عملية التزمُّن. وهو الأمر الذي يفترض قيام الحساسية من حيث إنها مجال العلية، وفي الوقت عينه تثبت ضرورة الحرية؛ لأنه مع الحرية لا تطغى العلية على الكائن الإنساني، بقدر ما تمنحه القدرة على فهمها من ناحية، والقدرة على التدخل في إجراءاتها، وصولًا أخيرًا إلى إنتاج الفعل الجديد الآخر الذي لم تصنعه تلك العِلِّية بعد، وهو فعل الحرية وحدها، كفعل الفكر، غير عائدٍ إلا إلى ذاته.
ولذلك ليس ثمَّة تعارضٌ منطقي أو أنطولوجي بين الحرية والعلية؛ فالاستقلالية لا تحدث بمنأًى عن العالم، وهي ليست أداةَ نفي له، بقدر ما هي إحضارٌ له على مستوى واقعيته المباشرة، وما يتجاوزها في الوقت عينه. ومع ذلك فإنه على الصعيد العملي تبدو سلبية الحرية، من حيث كونها خطأً دفاعيًّا عن الكائن مقابل طابع الغزو والهيمنة والقمع الذي قد تمارسه ظروف الحياة مع الآخرين، ضدهم ومعهم في الآن عينه.
الفردية الحداثوية بدون ذاتوية
ليس غريبًا أن تعجَّ أدبيات الحرية بحديث القمع والتسلُّط أكثر منه بحديثٍ عن الحرية بالذات؛ فالإلحاح على استقلالية الفرد قد ينقل السلبية من حيز الحرية، إلى حيز ما يعارضها. وبذلك تظهر الاستقلالية أنها أقرب إلى الإيجابية مما يبدو للوهلة الأولى، إنها دفاع مشروع عن مفهوم الفردية، باعتباره يعبِّر عن حق الفرد بصياغة طريقته الخاصة في تعاطيه مع كائنه الإنساني. في حين أن ما يعارض هذه الاستقلالية، من إرادة القمع والاستتباع، يهدد هذا التعاطي بالذات. وبذلك يقف الاستتباع على طرف نقيض من الكائن الإنساني عينه. فيضاد كونيته. ومن هنا تأتي حاجته الملحة إلى اصطناع القداسة، أو الاختفاء وراءها، كبديل عن كونية الحرية. فإن التقديس بمختلف أشكاله المتوالية في التاريخ، من اللاهوتي إلى السلطوي إلى الأيديولوجي، إلى العلمي المباشر، كأن الوسيلة الأسهل لمنع جدلية الحجب/الكشف، إنما يتحقق غالبًا وذلك بحذف القطب الثاني منها، وهو موضوع الكشف، وجعله طريقة أخرى في تنويع الحجب، ورفعه دائمًا إلى مستوى نظام الأنظمة المعرفية السائدة، أي إلى القداسة، كمحلٍّ للمعيارية المطلقة.
وفي الحقيقة فإن الفرد ينمو ويزدهر في حمى «نقد العقل النظري»، ويستعد لتسلُّم خصائصه الواقعية مع «نقد العقل العملي»، إلا أن العقلانية بعد كانط لم تستطع أن تقدم الكونية بأسلوب الفرد، مما دفعها إلى إعادة تجريده ضمن شمولية العَقْلَنة الحديثة، برفعه إلى مستوى العقل الذي لن يبقى الفرد مجرد حامل له، ولكنه سيرضى به معادلًا له أنطولوجيًّا، بعد أن تأمله معياريًّا إلى ما لا نهاية. بدلًا من الفرد والفردية سوف ينبثق أقنوم جديد: الذاتية، وبذلك تضيع خصوصية الفرد مرة ثانية مع الحداثة الكلاسيكية، مثلما ضاعت قبلًا في ظل المفارقة اللاهوتية. مما يدفع إلى الملاحظة أن به الاستعصاء الذي يواجه التيارات الكليانية، سواء منها المفارقة أو المحايثة، يتمركز حول مفردة عينها. فكيف التدبُّر مع هذه المفردة … التي هي في الوقت عينه ركيزة الكونية، ودليلها الحي الوحيد؟
غير أن فرار الذاتية من معضلة الفرد جعلها لا تنجو من المواجهة مع الحرية. فلم تستطع التعامل معها إلا من جانبها السلبي فحسب، أعطت الذاتيةُ نفسَها حقَّ اكتساحِ الطبيعة فالعالم، فكل ما عداها؛ وبالتالي حكمت الذاتية على نفسها منذ البداية ألَّا تتمتع إلا بهذه الحرية السلبية. كأنها حكمت على الحرية ألَّا تكون إلا قطبيةً في مواجهة قطبية الآخر. لا تطيق التفكير في ذاتها وفي الآخر في الوقت عينه، حتى تغدو ملامسةً للحرية الكونية؛ فالثنائية فكر انقسامي يؤكد الذات مقابل إلغاء الآخر.
على ضوء هذه الانقسامية بدا التاريخ والسياسة والاجتماع، كلٌّ منها علمًا انقساميًّا. لا يستطيع أحدها التفكير إلا حسب نظام التثنية. فمنذ هيغل وُضع العقل مقابل العالم، والفرد مقابل المجتمع، ونُظر إلى التقدم كدليل لتفوق القوي على الضعيف. ولن يحدث أن يتحد العقل بالعالم كيما ينتهي التاريخ، مثلما أمل هيغل. مقابل الذاتية الانتصارية التي أجَّلت مفهوم الفرد إلى ما لا نهاية، برزت الموضوعية كعقيدة ثابتة في واقعة الحتمية ونجاعتها في العلم، وصولًا إلى أعلى ثمراته في التكنولوجيا؛ فالحتمية الحديثة تسخر من العلية القديمة على المستوى الكوسمولوجي؛ حتى أصبح من السهل إزاحة الحرية من مفهومها المتعالي على الطريقة الكانطية، والتعويض عنها بتصنيفات الحريات حسب قطاعات العلوم الإنسانية؛ فأمكن مضاهاةُ حزمةٍ من الحريات ذات الصنف السياسي أو الحقوقي، بسواها من الصنف الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي … إلخ، والانتصار لواحدة منها على حساب الأخريات.
واليوم أي مفهوم أفهوم للفرد الحر؟
لا يبدو غريبًا اليوم أن يُقال إن الحرية تعني تعيينَ الذات لذاتها. إنها تلك العفوية التي هي فورية حضور الذات بالنسبة إلى نفسها، من خلال ما تخلفه من حالة معينة تعود إليها وحدها، وإن كانت تنسج ثمَّة تغييرًا ما قد يقع على مسافة منها داخل هذا العالم؛ إذ يغدو مع الفعل الحر فجأة، كعالم محيط تشارك في بنائه الذات الحرة بأفعال تنبئ عن خصوصيتها، وتلقى تجاوبها مع هذا الخارج الذي يحيط بها.
هنالك تحوُّل حقيقي في صميم الخطاب الفلسفي المعاصر من أقنوم الذاتوية المتمركزة والفاتحة، والتي لا تستطيع أن تعين ذاتها إلا بتعيين كلية العالم من حولها على شاكلتها، أو وَفْق مطامحها، إلى ذلك الفرد الذي يقنع بفرده، ويعتبره أغلى ما يمتلكه مقابل العالم وعبر عوالمه اللامتناهية. إن الفوز بالفرد على أطلال الذاتوية، صار شأنًا فلسفيًّا، بل همًّا حقيقيًّا للفكر؛ فالفرد كمفردة ذاته ليس مضطرًّا إلى التورُّط بمشاريع الذاتويات الكلية حتى يفوز أخيرًا بتلك الحرية الشمولية التي تمنحه السيادة على العالم.
أن يكون الفرد فُجاءةَ ذاته، ذلك ما يحوِّله إلى نتاج إبداعي؛ فالفرد ليس صانعًا للفن، إن لم يكن هو تحفته الناقصة دائمًا، وأوليًّا. وليس هذا الاحتفال باستعادة الذوق الإغريقي الذي يشغل أعلام الفلسفة المعاصرة منذ نيتشه إلى هيدغر، فوكو، دولوز، وأجيال أخرى من الشباب الفلاسفة الصاعدين، سوى علامةٍ على استرداد فردية إبداعية، تحفة فنية، مقابل كل التنميط الذي انتهت إليه حضارة الاستهلاك، وتسطيح المرآوية الإعلامية والمعلوماتية، كما لو أن هذه الفردية لم تعُد تنتظر تحرُّر التاريخ كليًّا حتى تفوز بتذويتها الخاص. ذلك أن الفرد الحداثوي هو حيز حريته، أو إن شئنا عزلته. صار للحرية أفاهيم حياتية ومزاجية لا تخضع لأية منهجيةٍ أو نَمْذَجة أو حتى قَدْسَنة، وهي أقرب إلى لذَّة التذوق، المحرضة على ابتكار مناسبات الفرح بالجدَّة والطرافة، والاختلاف مهما كان ضعيفًا وعابرًا. فإن ليبوفتكي سمَّى العصر نفسه بعنوان «عصر الفراغ»، أو النافل، ورمزه الموضة وتقلباتها العابرة.
ذلك أن هناك نوعًا من البربرية الناعمة التي تغشى المجتمعاتِ الديمقراطية الغربية؛ فالفرد المتحلِّل من كل أعبائه المتوارثة لا يلبث حتى يأخذ هذا التحرُّر على محمل الخفة عينها، التي يتجاوز من خلالها مختلفَ هموم الوجود التقليدية والمستجدة. وقد يمكنه أن يتصوَّر مع انتهاء الحرب الباردة، أنه أنجز آخر معارك التاريخ. وأنه أصبح قاب قوسَين أو أدنى من ممارسة الحرية، وهي أقرب إلى الأُلْهية واللعب، كأنها متعة بين المتع، أو متعة المتع. كما لو أن الحرية افتقدَت طابعها السلبي ضد إكراهات الخارج، عندما تضاءلت — هذه — إلى أدنى حد، وأصبحت سيادة الفرد على ذاته تعبيرًا إيجابيًّا عن تحقق استقلاليته. غير أن هذا الحلم الباهر باستعادة أسلوب العيش في المدينة الإغريقية السقراطية، في نهاية القرن العشرين كانت له ضمانةٌ واحدةٌ وهي استمرار تفوُّق المجتمع على فروقاته الطبقية تحت تعميم رفاه يريد أن يشمل الجميع، ولكن باعتبار أن أشكال اللامساواة عادَت من جديد إلى صميم ما يُسمَّى بمجتمعات الرفاه، فإن الفردية تجنح أكثر فأكثر إلى أن تغدوَ مشكلة أخلاقية تجدد الصراعات الأيديولوجية داخل بنيتها بالذات — فإن ظهور العولمة يحاول إشاعة أيديولوجيا جديدة، ليست في جذرها الأصلي سوى الليبرالية التي تطلق لنفسها عنان التحرُّر من مختلف الاعتبارات التي كانت تحاول تسويغ مفاهيمها، تحت أطرٍ من المرجعيات البيولوجية (نظرية التطور) تارة، وتارة أخرى تدَّعي التصاقًا بمفهوم مطلق لحرية الفرد.
إن انبعاث هذه الوحوش التاريخانية القديمة من أشكال العصبيات، هي والاستبداد العولمي، يشتركان في كونهما تنويعات على البربرية القادمة، وتسميات أركيولوجية للجمعانية الوحيدة بعد أن لم تعُد عالمثالثية، أو مقتصرة على مجتمعات أو مراحل تاريخية معينة، لكنها تأخذ حقًّا شكل نظام الأنظمة المعرفية الشامل للجميع. إنها جمعانية عولمية تختلف عن كل نماذجها السابقة بكونها أولًا، لا تحتاج إلى التبرير، وتهزأ من كل تبرير؛ وبالتالي جمعانية لا تتقي سلطانها المطلق بأية معيارية خارجية عنها؛ فالبربري الجديد ليس هو كذلك إلا لأنه «حر» في ممارسة بربريته ضد كل الحدود والأعراف. وهو بالمقابل لا يريد، ولا يدَّعي أنه يحقِّق أية رسالة فعلية. فإن جمعانيته لا تتحدث باسم الكل، إلا لأن الكل أصبح مباحًا، كموضوع خَوْصنة من قبل الفئة المتغلبة الجديدة الصاعدة دفعةً واحدة عولميًّا.
أبلغ نموذج عن هذه الإشكالية هي المحنة اليومية لما يُسمَّى بحقوق الإنسان. فإنه في حين لا يجوز التعاطي مع حقوق الإنسان، إلا بطريقةٍ تكافئ موضوعه، أي بما هو صيغة كونية ملائمة للصيغة الجوهرية الكونية لمفهوم حق الإنسان، منذ مشروعيته الأولى مع الثورة الفرنسية — إذ إن هذه العبارة تتضمَّن أهم لفظَين ينفتحان على الجوهرية الكونية: الحق والإنسان — فإن واقع الحال أن هذه العبارة هي الموضوع الأول للخوصنة، بمعنى استيلاء أو استخدام فئة فردية، جماعة أو سلطة أو دولة، على هذه الصيغة الكونية بما ينفع مصالح تلك الفئة وحدها.
لعلَّ حزمة هذه الحقوق الإنسانية، تشكِّل آخر تبرير يمتُّ إلى الثقافة المنقرضة، أو الموشكة على الانقراض السابقة على البربرية المعاصرة، غير أن هذه الحزمة الجديدة للمعيارية السابقة إنما تعلن عن أن الزمن الثقافي قد بلغ ساعة الحقيقة، وأنه لم يَعُد ثمَّة مناص من استكمال الحرية السلبية بشرطها الآخر الإيجابي. وأن سقوط الأدلجة كمفهمة وممارسة، يعني مواجهة هذه المعيارية عارية من كلِّ ما يحجبها أو يشوهها، أو يؤجلها، وأن تاريخية العقلانية مضطرةٌ أخيرًا إلى الاتحاد بتاريخانية الفكر. وأنه لم يَعُد ثمة من حاجز حقيقي يجعل الواقع في حال تعجيز دائم عن التصالح مع الفكر، وأن الزمن الثقافي هو حقًّا زمن القطيعة الحاسم مع البربرية؛ إذ فقدت البربرية قدرتها على التبرير. استهلكت كامل عدة التبرير عندما انهارت مدارسها، وتبددت مفهمتها، واستهلكت اختراعاتها التاريخية واحدة بعد الأخرى (عبر الأدلجات التي تقنَّعت بها)، ومع ذلك بقيَت البربرية وحدها مقابل الإنسانية، دون حاجب أو قناع، لكن الزمن الواقعي هو الذي يحاول أن يشيع عكس هذا الخطاب. إنه يقدم البربرية عارية هذه المرة. ومع ذلك فإن هذه البربرية لا يبدو أنها خائفة أو مترددة. إنها الآن لم يتبقَّ لها إلا أن تفرض نفسها كما هي، وعلى أسيادها، قبل ضحاياها. كما لو أنه عندما لم يعُد للشر ما يمتلكه من أدوات سواه، فقد أصبح الشر المحض، الذي لم يعُد يمكن اختيار سواه. بما يعني أنه حتى الدفاع ضده، لن يكون إلا ببعض وسائله عينها.
إذا كانت البربرية «الحداثوية»، لا تزال تصر على إمكانية تصالحها مع حقوق الإنسان، فتسيران معًا في كل شوارع مدن العالم الكبرى، وتطلان معًا دائمًا من كل شاشات المرئيات، تتجاوزان في كل مكان، تتعانقان في كل خطاب، فأيهما يعني حقًّا أنه هو صاحب الخطاب الأصلي، وأنه هو صانع الواقع وممثِّله الفعلي!
إن الجمعانية اللاهوتية لا تستطيع أن تتصوَّر الفرد إلا باعتباره أصلًا، ذرة من الجماعة، وأن مصير الجماعة خاصة تجاه الجماعة المضادة بالعقيدة أو المصلحة، هو الذي يحدد مصير الفرد؛ وبالتالي فإن الجمعانية بقدر ما يهمها تثبيت علاقة الطاعة والانضواء تجاه الكائن الأعلى خارج العالم، فإنها لا تقبل من المجتمعات الأخرى المتواجدة معها داخل العالم، سوى اختيار التماثل معها، والاندماج في ذات كيانها التراتبي عينه، وتبنِّي عقيدتها المفارقة نفسها، وإلا حق على الجماعة الأخرى الزوال.
في ظل الجمعانية لا يمكن الحديث عن حرية الفرد بشطرَيها السلبي والإيجابي؛ إذ ليس للفرد ما يدفع عنه من إكراهات الخارج، ما دام هذا الخارج منظمًا سلفًا ومقدمًا بتراتبية القيم المحروسة بالقوى المفارقة اعتبارًا من «الرحمن» إلى «السلطان». فكل الأفعال التي تنتظر الفرد المولود حديثًا إنما هي أفعال الجماعة. ولا يُنتظر من الفرد أن يأتيَ بالموقف المخالف؛ إذ تغدو الفردية هنا أقرب تمامًا إلى الأنانية المكروهة أخلاقيًّا. إن فعل الوجود لكائن فرد، مصادر سلفًا كفعل للكائن الجماعي، وبدلًا من أن يحقق الفرد جوهره ككائن إنساني، فإنه مدعو مقدمًا إلى أن يصنِّف مفردات سلوكه ما بين خانة للمحرم، وخانة أخرى للمحلل؛ لذلك لا يمكن للجمعانية اللاهوتية أن تعطيَ للفرد تصورًا خاصًّا خارج دائرة الطَّقْسَنة. والانخراط الفردي تحت أقانيم الطَّقْسَنة وشعائرها يجعل الفرد يستبطن نظامها، ويغدو الرقيب الأول الذي يحاسب نفسه على تصرفاته قبل محاسبة الجماعة له. وهذا ما يفرِّق تكوينية الفرد الجمعاني عن الفرد الحداثوي؛ إذ إن كونية الأول مفارقة له كينونويًّا ومشروعية، في حين أن المفارقة لدى الفرد الحداثوي تغدو من جوهر إمكانيته الخاصة، تندرج في زمانيته، وترصده لمستقبله الذي يخصُّه وحده.
ما يمكن قوله أخيرًا في هذه العجالة إن إنسان العصر، في هذا المنعطف من الألف الثالث من عمر الثقافة والسياسة، لا يواجه تراكم الاستبداد من تجارب الماضي فحسب، بل هو على شفا انقلاب لم يسبق أن مرَّ بمثله في أشدِّ منعطفات تلك التجارب؛ فلقد كان الفرد يمتلك دائمًا هامشًا معينًا مهما كان ضئيلًا، في ظل القوى المتحكمة في طريقة فهمه لذاته وللعالم، وفي مخططات مستقبله الذاتي. كان لديه ثمة خيارٌ ما في وجه مختلف أنظمة القمع على أصعدة القيم، جميعها، من مفارقة ومحايثة. كان قادرًا على اختراع هذا الخيار حتى ولو لم يلتقِه في أي مكان، وذلك كان جوهر حريته؛ لأنه هو الكائن المتروك مقدمًا لمصيره الخاص. وعليه أن يتصوَّره، وعليه أن ينازع كل العقبات التي تعترضه. غير أن معطيات المشكلة في هذا العصر تغدو مختلفة إلى أبعد حد. فإن خيار الفرد مهدد بالكليانية المجردة، التي نصفها بالمرآوية. هذا الشكل الأخير من الاستبداد لا يبدو أن أحدًا مسئول عنه. قد يتمثل بسلطة أو دولة أو فعالية أو بالتكنولوجيا، والإعلام الفوري، والعولمة … كل هذه المفردات التي تشكِّل اليوم بنية خطاب الخوف العالمي من المصير القادم؛ يكشف عن اللايقين الذي أخذ يلفُّ كل شيء، ولا شيء أخطر من اللاتعيُّن الذي يمكن أن يولد فرطًا في أشكال الاستبداد، بحيث يصوغ لكل مجتمع، طابعه الاستبدادي الخاص، النابع من ظروفه.
لكن اللاتعيين هذا يكاد يخسره الإنسان، يفلت من يده، وينتقل إلى أهم صنائعه وأخطرها، وهي التكنولوجيا، كان هيدغر يحذِّر دائمًا أن على الإنسان أن يفكِّر في التقنية بطريقة غير تقنية، وذلك من أجل أن يبقى زمام الأمر في يده، لكن أفدح ما يتحول إليه سلوك بعض الإنسان المعاصر تجاه التكنولوجيا، هو أنه لا يتركها تصنع ذاتها بذاتها فحسب، بل ستفكر كذلك بالنيابة عنه مبدئيًّا، ثم تتجاوزه نهائيًّا. وعند ذلك يغدو الإنسان اللامتعين جوهريًّا، متعينًا، والتكنولوجيا هي اللامتعين الذي سيُقَوْلِب الإنسان على منوال صنائع التكنولوجيا الأخرى.
كيف يمكن أن تفكر التكنولوجيا نيابةً عن الإنسان؟ عندما تنتزع منه ذاكرته الأنطولوجية. وتصبح قادرةً على صياغة برامجها الخاصة بذاتها؛ وبالتالي يمكن أن تبرمج الإنسان عينه، تفقده بذلك كونيته الخاصة. تتحوَّل مختلف شئون العالم إلى برامج تقنية أصلًا، ولأهداف تقنية كليًّا. هامشية الإرادة الإنسانية تفتح الباب مجددًا أمام الأنظمة الاجتماعية العقائدية السياسية ذات الخاصية الكليانية، تغدو اللعبة الاقتصادية وحدها سيدة المبادرات والتغييرات، والانقلابات. والأثمان مهما كانت فادحة، لن تكون فاضحة: المجازر والكوارث الجماعية وعودة مختلف أشكال الصراعات والحروب ذات التقنيات العالية ستغدو حالات «تقنوية» كذلك؛ أي ممنوعة على سؤال الفكر، محايدة تجاه الحرية وهمومها.
سوف يصبح القبول بالعولمة بديلًا عن العالمية ولحظتها الثقافية الراهنة، مبررًا لإطلاق التنافسية بأبعد أشكالها عن الانضباط الإنساني، وفي الوقت الذي لا يعود ممكنًا التحاور مع التقني إلا بلغته التقنية وحدها، سوف تفقد كل الخيارات الأخرى مرجعياتها من الأفكار والقيم والدلالات، أمام فقدان الذاكرة الأنطولوجية، كخاصية الإنسان بالإنسانية، سوف تتساوى كل الأفعال، كل الأحداث. والتكنولوجيا التي كان من المفترض أن تُكمل يدَ الإنسان، أن تصنع زوائده وأدواته الجديدة، لن يضيرها أن تعيد تكوينه هو بالذات، ولكن على طريقتها.
إن فقدان الذاكرة، والتنازل عنها إلى أخطر صنائعها، سوف يُنسي الإنسان خياره (الاختلافي)؛ وعند ذلك يغدو الاستبداد هو نظام اللاتعين الوحيد الذي يحدد بقية الأنظمة جميعها. والأخطر من كل هذا: ألَّا يسميه أحد باسمه الأصلي؛ بعد أن تفقد اللغة حروفها، وتصير إلى اللغة الرقمية في حياديتها المطلقة: الشر المحض!
ومع ذلك يبقى سؤال، ماذا يعني أن نفكر اليوم؟ معلقًا فوق كل الأسئلة الأخرى، التي لا تلبث حتى تأكلها أجوبتها، إلا هو وحده، الذي يكتسح الأجوبة، ويستمر بعدها؛ لأنه سوف يذكرنا، من دون سواه، أننا لم نفكر بما يكفي بعد.