(١) في البحث عن المتعالي بين المفارقة والمحايثة

كل متناهٍ لا يؤدي إلا إلى متناهٍ. هكذا تُعلِّمنا بداهة المنطق، لكن الفكر، بل الإنسان يصبو إلى لَامتناهٍ، أو إلى اللامتناهي. فمن أين أتت هذه الصبوة. ذلك سؤال يبدو فلسفيًّا أصيلًا، لكنه يأتي مما هو قَبْفلسفي، ومما يتجاوز الفلسفي. وقد احتفل به ديكارت، واستخدمه كأهم دليل مبتكر على وجود اللامتناهي، الذي أعطاه صفة الكمال، وذلك من أجل أن يبرهن على وجود الله، بما أن الفكر الذي يتطلَّع إلى الكمال، وهو لا يملكه أصلًا، لكنه يستشعره كأنه فيه ويماهي معه، فلا بد إذن من وجوده، لكن ديكارت لم يقُل لنا إن كان هدف النزوع إلى الكمال هو نفسه صار من مفردات الفكر. وأنه بالتالي، أي هذا الكمال، إن كان يتمتع بالوجود فلن يكون إلا من سياق وجود الفكر نفسه الذي يكتشفه كنزوع، وفي خارجه معًا، كمرادف للامتناهي الذي لا يمتلكه الفكر منذ الأصل، ولا شيء في التجربة يقدمه له. ومع ذلك فإن للامتناهي ثمَّة وجودًا هناك، سواء تمَّت كسوته بصفة أخلاقية كلية كالكمال، أو اكتسب أقنوم الإله.

إن الإنسان مثلما هو كائن عاقل، فإن عقله دائب البحث عن اللامتناهي، حتى يمكن إطلاق تعريف آخر عليه، إنه هو الكائن وحده الباحث عن اللامتناهي. أو بتعبير أدق فإن الإنسان الذي هو موطن المتناهي، هو وحده الكائن الطامح إلى تجاوز تناهيه دائمًا. وبدلًا من أن يوصله هذا التجاوز إلى هدفه ذاك، فإنه يغدو — هذا التجاوز — هو نفسه كصيغة من اللامتناهي عينه. إن التجاوز — أو التعالي حسب لغة اصطلاحية أدق — هو الطريق إلى المتناهي، وهو موطنه في آنٍ واحد؛ فالتعالي كفعل هو في حدود الإمكان، يصير بديلًا عن المتعالي كاسم ومسمًّى، وهو في حدود الاستحالة التجريبية، وإن لم يكن ذلك في مستوى التصوُّر، أو المعنى.

كأنما ثمة بذرة للكامل، للمطلق، للامتناهي، مزروعة في بنية الفكر، بل في عضوية الكائن الإنساني؛ لأن هذا الكائن الفريد يحسُّ طلب المطلق بكيانه كلِّه، وليس بفكره فحسب. ودون أن نرتدَّ إلى السيكولوجيا، نذكر فحسب بهذا النزاء الذي يصاحب الرغبات من أدناها إلى أعلاها، نحو الاغتراف من موضوعها بأقصى ما تستطيع. فلا حدود للحب للنشوة للسعادة، للسيطرة والغزو والتملُّك من كل شيء. هذا الكائن المفتقر إلى كل شيء إنما يغتني بطلب كل شيء، وحتى بلوغ جوهره في المعنى، وذروته في الشدة. فاللامتناهي ليس هدفًا يقع على مسافة من كائن النقص الدائم هذا، بل اللامتناهي هو صنوه ونظيره، ويكاد يتحد بكيانه كله، من أية جهة التقيته. (دون أن يكون الأمر كذلك تمامًا) كأن اللامتناهي موجود في طلبه، أكثر منه في أقنومه.

واللامتناهي، مبدئيًّا، هو شيء محايد، قبل أن نطلق عليه صفة الكمال. كما لو كان اللامتناهي من «مادة» الأنطولوجيا نفسها، ودون أن يكون كذلك تمامًا. إن حياديته الأصلية تلك تتيح أن يبقى خارج كل نعتٍ يطلق عليه. وإذا كان ديكارت قد اعتمده، من خلال استيعابه تحت صفة الكمال، كأهمِّ دليلٍ نعته بالدليل الوجودي، على وجود الله، فإنه قد يفيد في فَهْم هذه الحاجة، لكنه يبقى سائحًا خارجها في الوقت ذاته؛ فاللامتناهي ليس منذورًا للكمال وحده. والنقلة بين حدِّه وحد الكمال ليسَت ضرورة منطقية، وإن كان الدليل الوجودي الديكارتي قد سكت عن هذا الفارق، واستخدم النقلة — بين الحدَّين: اللامتناهي والكمال — دون أن يعلن عنها. وإذا شئنا الدقَّة المنطقية قلنا إن الكمال محمول على موضوع لا يستوعبه، وإن كان — أي الموضوع — يتقبَّله. وبحسب الفهم الحداثوي فإن الكمال قد يقحم مرتبيات القيم على ما ليس كذلك. فهو يؤسِّس مدار الأخلاق الذي يطمح طيلة تاريخ الفلسفة، أن يصير مناظرًا للأنطولوجيا، وليس وجهًا آخر لها، وإن ادَّعى، في محطات كثيرة من ذلك التاريخ، أنه قادر على تحقيق مثل هذا المطمح، إلى درجة أن صراعًا حقيقيًّا وجذريًّا ساد بين الحدَّين، على الأقل من جانب الأخلاق دون مشاركة فعلية صريحة من قبل الأنطولوجيا المعتصمة بالصمت دائمًا. بينما الآخرون هم الذين يثرثرون بالنيابة عنها وعن أنفسهم؛ فالأخلاق لا تنتظر «بوح» الأنطولوجيا فتتكلم عنها، وتفعل كل الأفعال باسمها، إنها تتوجَّه إلى العمل، والعمل لا يصبر على البطيئين اللائذين بالظل والسكون، كحال «نصوص» الأنطولوجيا في تاريخ الفلسفة.

ومع ذلك ليس اللامتناهي، لغويًّا، سوى اسم مصدر أو صفة مشبهة. وأنه اسم بدون مسمى. وكل دليل على «وجوده» ثمة وجودًا ما، هو أن الفكر طامح إليه، ومفتوح عليه ومنفتح نحوه، وأنه لا يمكن أن يكون فكرًا حقًّا دون أن يفوز بحافة ما على ضفافه، وأنه كان يمكن للفكر أن ينتهي مع كل فكرة أنتجها واحتكرته وادعته كليًّا لها. ومع ذلك فهو باقٍ حتى ما بعد تاريخ الأفكار كلها. وليس الأمر كذلك إلا لأن الفكر ينجح نادرًا بالفوز بعتبة ما خارج كل القصور المذهبية الهائلة المشيدة أمامه، عتبة تعيد إليه براءة الخارج. كل ذلك لأن الفكر أصيب منذ البدء بما يشبه لوثة العلاقة باللامتناهي، وليس تاريخه من الأفكار ومعها إلا محاولات لبناء العلاقة معه، لبناء الجِسْر عليه. ولقد كان اختراع اسم الحقيقة واحدًا من أهم حادثات الفكر في محاولته؛ لبناء العلاقة مع هذا اللامتناهي، الذي إن بانت له ضفة فلن تبين منه وله، ضفة ثانية أبدًا. إن اختراع اسم الحقيقة يعلن عن نجوع منطق العلاقة. إنه اسم يُمَدْيِن اللامتناهي، يأتي به من وحشته، ووحشيته اللامعقولة، ويدخله حيز التعامل العقلاني. فإن اسم الحقيقة يعني نجاح الفكر في إنتاج استراتيجية لعمله لا تغامر دائمًا بقطع العلاقة مع سميها الأصلي، اللامتناهي القابع هناك بما هو قبل المفكر به، وما بعده. الحقيقة لا تتنازل عن اللامتناهي، باعتباره يمنحها ما هو ذاتي الاستحقاق في تسميتها عينها. وما يعنيه «ذاتي الاستحقاق» هذا هو شكل عملي واعتباري معًا للتحاور مع اللامتناهي، أو استدعائه، أو الاحتكاك به، بما هو قريب من طريقته. فأن تحوز الحقيقة على ذاتي استحقاقها كحقيقة هذا يجعلها قابضة على معياريتها بصورة قبلية. فهي تقيس غيرها، وكل الأغيار، ولا أحد، سوى ذاتها، يقيسها. ومع ذلك فلقد تم تأهيلها وتمدينها على هذه الشاكلة في قصة الحضارة؛ ذلك أن مولد الحقيقة كان أول أحابيل العقل للإتيان باللامتناهي من بريته النائية، وإدراجه كمفردة من مفرداته اليومية، وإن كان لها تميزها النوعي عن مثيلاتها، والتعامل باسم الحقيقة كبديل عن المنسي الأصلي، المتروك تحت لفظة اللامتناهي.

غير أن الحقيقة قد لا تقنع بذاتها. وهنا يقع الاستنجاد باللامتناهي الذي تنساه أو تتناساه أو تحجبه. تتذكر الحقيقة فجأة، وعند الحشرة، أنها ليست هي اللامتناهي وإن كانت تدَّعي تمثيله. وأنها تحتاج إلى إعادة المسافة بينهما. لكن عودة المسافة بين الحقيقة واللامتناهي قد لا تئول إلى صالح أيٍّ منهما؛ فالحقيقة بذلك قد تفقد إطلاقيتها. تتنازل عن مرجعيتها إلى اللامتناهي. وبالمقابل لا يكتسب اللامتناهي من ذلك التنازل شيئًا لم يكن يملكه من قبل. وبدلًا من تحقيق شيء من التقارب مع طلابه ومريديه، فإنه، وقد أصبح حيزًا مشتركًا لذاته وللحقيقة في آنٍ، ينأى أكثر عن عالم النسبيات، محدثًا أو مدعيًا الفصل مع الذات الإلهية.

بدلًا من الأخذ بفكرة الكمال كمسلمة والانطلاق منها، والبناء عليها، أو بالأحرى استخراج أحد مضامينها كفكرة الوجود، فإن فكر السؤال يكتشف أنه ليس ديكارت وحده، بل تاريخ الفلسفة، قد تعاملا مع الكمال ناقصًا منه سؤاله الخاص، المتعلق به وحده، ولقد أراد ديكارت ألَّا يرى في الإنسان بذرة النقص الدائم، بل ما يغطي هذا النقص أي يبرره، وهو النزوع نحو الكمال. وأكثر من ذلك فإن الدليل الوجودي (الأنطولوجي) تعامل مع الكمال كفكرة منجزة؛ وبالتالي شرع في تحليلها، فعثر على هذه البداهة الجديدة وهي أنه لا يمكن التفكير بالكمال دون أن يكون حاويًا على الوجود. فإذا كان وعي الإنسان قد نعم منذ البَدْء بتوفره على مفهوم للكمال، فلا بد أن الموصوف الأعلى بالكمال وحده، أن يكون هو عينه متوفرًا على الوجود. وذلك هو جوهر الدليل الأنطولوجي الذي يذهب من المفهوم إلى الوجود.

والواقع فإن الميتافيزيقا التقليدية لا يمكنها أن تتعاطى مع المفهوم كصيرورة، بل كمعرفة ناجزة. لا تستطيع الصبر على تكوينية المفهوم ونشوئيته. إنها متعجلة للاحتياز على المفهوم ذاتي الإنجاز، كيما تستخدمه في تعليل أو توضيح أفكار أخرى، لا تزال قيد الإنجاز بعد، ذلك أنه منوط بالمفاهيم وحدها تحقيق عمليات الإنجاز. كل هذا لا يدفعنا إلى دفن أو إلغاء الدليل الوجودي على الطريقة الديكارتية. ذلك أننا لا نعامله هنا من سياق المنطق الصوري الذي هو عماده المعرفي والبرهاني. بل إننا نتأمل هذا السياق «المنطقي»، وكأنه تحفة نموذجية لما هو من طبيعة التحليل الفكروي الخالص. وذلك كما يأتي: إن «تأمل» الكمال يفضي بالضرورة إلى استنتاج الوجود. فالإنسان ليس كاملًا، لكنه يطمح إلى الكمال، وليس ذاك هو المهم، بل إن الميتافيزيقا الديكارتية لا تستطيع أن تستنتج فكرة الكمال من فكرة النقص. فكيف أتيح للإنسان، كائن النقص هذا بامتياز، أن «يفكر الكمال»، لو لم يكن قد أسقطت عليه، أو هبطت «فكرته» إليه، من مرتبة أنطولوجية عليا! فالدليل الأنطولوجي يقع في «الدور الفاسد» — حسب المصطلح الصوري — لأنه يفترض ذلك الكائن الأعلى الذي وهب الإنسان فكرة الكمال، وإذا ما استعملها منطقيًّا استطاع أن يستنتج أن لهذا الكائن ثمة وجودًا ضروريًّا، يثبته فحسب تعريف الكمال. فالجهد البرهاني المبذول من خلال سياق الدليل الأنطولوجي لا يعني أنه يفضي حتمًا إلى إنتاج وجود الكائن الأعلى واقعًا، لكنه يأتي فقط بالصيغة المنطقية الخالصة الموازية، فكرويًّا فحسب، لوجود الكامل نفسه الذي هو الكمال فكرويًّا وأنطولوجيًّا معًا كذلك.

بالمقابل لا يتعاطى المعرفي الحداثوي مع هذا البناء الفكروي الجميل من موقف القابل أو الرافض، لا منطقيًّا ولا واقعيًّا، بل يتأمَّله كتحفة نفسه فقط. ينظر إليه باعتباره أحد روائع تمرين الفكر على تعاطيه مع مفرداته التي تخصُّه وحده؛ فالبرهان الأنطولوجي ليس هو كذلك إلا بالنسبة للمسلَّمات الأولية لنسق المعرفة «بالعلم» الأنطولوجي، أو بالأنطولوجيا كعلم تابع لذات مسلَّماتها الأولية المسكوت عنها. إن هذا التمرين الفكروي الخالص هو متخيل إبداعي آخر، يفاجئ بنوع من معقولية افتراضية virtuel. وينبغي ألَّا نطالبه بأكثر من ذلك، أي بأكثر مما هو عليه؛ فهو حرٌّ إن ادَّعى أنه يمتلك البرهان «الواقعي» على وجود — الكامل انطلاقًا من «تعريف» الكمال فحسب، لكننا نحن الآخرين، ومن جهتنا، إنما نأتي به ونظامه المعرفي معه، أي إننا نعلم فيه حدوده. وخلاصة الموضوع أن الدليل الأنطولوجيَّ على وجود الله لا يريد أن يطلعنا على سبب وجود الكمال نفسه. بل يفضل التعامل معه كجوهر يمتلك علَّته في ذاته. وتلك هي إمكانية افتراضية يمكن أن تندرج إلى جانب افتراضيات أخرى. وبدلًا من أن تدخل فيما بينها حروب الإلغاء المتبادل، فإن المعرفي الحداثوي يتيح لكلٍّ منها أن تقدم «عرضها الخاص»، شرط ألَّا تعيق أو تبدِّد عروض الآخرين.
ومن ناحية أخرى فإن المعرفي الحداثوي لا يريد أن يفرط بأقنوم الكمال، وما يمتلكه من طاقات إيحائية ودلالية غنية، لمجرد أن التعامل معه كجوهر، يضعنا أو يسقطنا في فخ المفهمة الميتافيزيقية؛ فالكمال في حد ذاته هو تحفة نفسه، وهو يمثل حقًّا لُقيا رائعة، للإنسان بما يميزه، بها وحدها، عن بقية الكائنات التي تسكن أرضنا. والكمال حافز وجودي، ووجوداني في آنٍ معًا Ento-ontologique؛ إنه يعمر جسدي بالاشتهاء والارتغاب — من الرغبة — والاستقواء والاستعلاء. إنه يجعلني، أنا الكائن الأضعف والمستضعف بين أندادي من الكائنات، أستحث قواي القليلة، وأنقلب بها إلى فتوحات العالم كله من حولي. إن الكمال مشروع لن يتم، لأنني، وأنا كائن النقص الأصلي، أجعله كمالًا ناقصًا، دائمًا، ما إن أضعه هدفًا لي. ومن هنا، فإن «الإناسة» وعلومًا إنسانية أخرى، فضَّلت أن تعترف بالكمال عن طريق الاعتراف بالنقص أساسًا. وهي بذلك تثبت أسطورة الإله اليوناني الصغير «إبيميتيه» الذي أنزل الإنسان إلى الأرض، و«نسي» — هكذا! — أن يزوده بأي كساء أو دفاع. تركه جسدًا وحيدًا وعاريًا، ولكن حرًّا؛ فالأساس هو هذا الجسد المتروك لكل اختراعاته الآتية من جسديات الأشياء؛ إنه ينبثق في جسد العالم جسدًا اختراقيًّا اختلافيًّا. ولا يمكنه أن ينفكَّ أبدًا في التعامل معه، عن هذه العلاقة الجسدية البَدْئية.

وفي مصطلح السيكولوجيا فإن الجسد هو بركان اجتياج كلي، يصير اجتياحًا لكل ما يرويه. علاقته بمحيطه دفاعية في شكل هجومات من كل شكل ولون. إنه باعث الاضطراب في توازنات البيئة حوله إلى درجة تغييرها، وإبدالها بيئات أخرى من صنعه وحده. وليست بالضرورة بيئات كاملة.

لكن مصطلح السيكولوجيا هو مادة مصطلح الإناسة «الأنتربولوجيا». والإناسة أعادت كتابة تاريخ الفرد والنوع بدءًا من دبيبه على أربع، ثم انفصالًا لليدَين عن القدمَين. فإن انتصاب الإنسان كقامة على قدمَين، حقَّق له كيانًا جوهريًّا لا شبيه له. لقد استقام ظهره وارتفع بصره عن الأرض، وتوجه نحو الأفق. تحرر الجسد من انحصاره في دائرة حواسه المشغولة بالمحيط العضوي والطبيعي الأضيق، وانطلقت العينان تكشفان «ظهور» العالم. إن تحرر اليدَين من وظيفة الوطء وإسناد الجسد، كان بمثابة أهم طفرة انقلابية في سلوك الإنسان الأول، وضعت حدًّا بين مرحلته كحيوان يدبُّ على أربع، ومرحلة الإنسان الذي يستعمل يدَيه في وظائف غير مقررة ومستقرة مقدمًا في عضويته. إنه الإيذان بالمنعطف من حال التلاؤم الحسي مع معطيات البيئة كما هي، إلى كسر التلاؤم الفطري السابق، والتدخل في أنساق البيئة. والبَدْء في العمل، في التغيير؛ فالحيوان المتناهي الذي قام على قاعدته الإنسان، يشرع في تخطي حدود الأشياء والمسافات حوله. إنه المتناهي الذي يكشف اللامتناهي المادي حوله. ثم يكتشف ينبوع اللاتناهي، أو الرغاب اللامتناهي في أسس كيانه. فكل إرواءٍ للاحتياج موقت. والأصل هو عدم الارتواء. عدم الاكتفاء؛ وبالتالي فإن المعطى الأولي لكيان جسد هو الحراك في كل اتجاه، بحثًا عما لا يعرفه بعد.

بحث المتعين عن اللامتعين

ذلك بعض ما يُنبئنا به المصطلح النفساني، ثم المصطلح الإناسي، ولكن يأتي السؤال الفلسفي ليبحث عن معنى النقص في تاريخانية التكويني الإنسي. هل هو النقص الذي لا يلقى ذاته إلا بتجديد انتقاصه بعد كل احتياج. إن اختراع الكمال، كمفهوم، ليس مرحلة متأخرة من التاريخانية التكوينية. ليس تتويجًا فجائيًّا لتطور سحيق ينأى عن جيولوجيا العضواني، ويدنو من اسكاتولوجيا الروحاني. فقد تم اختراع الكمال في لحظة استثنائية من نشوئية الكلام الذي سمى النقص المتجدد كمالًا. والغائية كذلك ليست صيغة منطقية متأخرة. لقد كانت تسآلًا جسديًّا عضويًّا مبهمًا، تسآلًا وحشيًّا عما يسدُّ نداء، بل صراخ الحاجة. ويبدو الكمال وكأنه غاية الغايات. وكل هذه المعاني تقع تحت طائلة اللامتناهي. فهو المكرَّس لإلغاء الحدود. وهو الحد المستثنى الذي تغدو بقية الحدود بالنسبة إليه عرضة للإلغاء. ذلك هو تناقضه «المنطقي»؛ إذ إن تصوره يقوم على إلغاء كل تصور له؛ فهو والعدم سواء. ومع ذلك فتارةً يتلبَّس اللامتناهي حلَّة الدعوة إلى الكمال، وتارةً يفرض نفسه كأنه غاية الغايات. وهو رغم استحالته التصورية والعملية معًا، إلا أنه ملاصق للروح، وهو أقرب ما يكون إلى حميمية الإنسان، إلى رغباته وآفاقها اللامحدودة، وطموحاته اللاغية للأهداف النهائية لحساب هدف الهدف غير المتعين «والمستحيل».

إن اللامتناهي إنسانيًّا يعادل الحرية؛ فهي كذلك مهووسة بإلغاء الحدود، لكن الحرية بلا حدود تغدو طاقة تدميرية مخيفة؛ ولذلك جرى تعقيلها وتربيتها مدنيًّا حتى تألف التعامل مع الحدود. وأصبحت هذه المؤالفة بحثًا دءوبًا عمَّا يبقى من الحرية بالرغم من تكبيلها بقيود الالتزامات، وإحاطتها بالإكراهات من كل جانب، لكن اللامتناهي بدوي في أعماق الكائن. وهو يمتطي صهوة كل رغبة لديه كيما تأخذ مداها الكامل، وعندما يعجز عن تلبية نداءاته الملحة المتصاعدة من خلايا وجوده كله، فإنه يتصوَّر إمكانية أن يوجد كائن آخر يمكنه أن يتمتَّع بتلك الإرادة المطلقة. وعند ذلك فإن هذا الكائن لا بد أن يمتلك القدرة على فعل كل شيء من دون إكراه أو معارضة من أي شيء؛ فإن الكمال هو تورية عن إرادة المطلق هذه، ولكن الكائن العادي، هذا الإنسان اليومي، وإنسان كل زمان ومكان، إنما ينوء تحت مثل هذه الأحمال. لا طاقة له بأعباء الحرية بلا حدود، ولا قدرة له على استجابة نداءات المطلق في أعماقه، بما قد يُعادل هذا المطلق يومًا ما.

ومع ذلك فالإنسان محكوم بكل هذه الكلمات الكليانية، بتوصيفاتها الطاغية، من الحرية إلى الكمال، ومن المطلق إلى اللاتناهي. وهي كلمات مشحونة بطاقات من بَدْئية الكائن، وجوهره الاستباقي، غير المتجوهر بعد، وماهيته الجيولوجية العضوانية، غير المتعضية تمامًا؛ لأنه كائن النقص الحقيقي؛ لأنه يحس نقصه الأزلي، ويعيش حياته ويبني حضارته، من أجل تعويض هذا النقص، الذي يولد جديدًا ومختلفًا بعد كل محاولة لتغطيته وإشباعه، لكن الإنسان هو الكائن «الحيواني» الوحيد الذي سمَّى جاهزيته البدئية بالنقص، ولم يتقبَّلها كما هي كيما ينقاد بها كما هي. وإن فعل التسمية هذا هو الذي فصله عن سواه من الكائنات، وإنه لو لم يكن مزودًا، بطريقة ما، بحس المفارقة، بالحال الراهنة التي ينبغي له أن يتخلص منها، و«بصورة ما»، ونحو حال أخرى يسعى وراءها، لما استطاع أن يعين وجوده كنقص ونقصان. إن حسَّ المفارقة بين الحالي والمتغير، هو أساس النزوع نحو الاختلاف؛ لهذا فليست ماهية الإنسان نقصانًا، إلا لأن من ماهيته كذلك هو إدراك حاله على أنها كذلك؛ أي نقصان.

وتستطيع علوم «الإناسة» أن تقدم لنا لوحات واقعية مؤثرة عن تاريخية هذه الماهية الملتبسة، وتحققات إدراكاتها لذاتها من خلال شبكيات حيوية عضوانية، وجودانية كثيفة، شكَّلت عمقَ وشريطَ التاريخ الجيولوجي لكينونة الإنسان.١ لكن السؤال الفلسفي هو الذي يلاحق تجوهر المفارقة، واستمرارية الإحساس بها، وجذرية هذا الإحساس، بما يعادل تجوهر الكائن الحيواني كإنسان، وعلى هيئة وقدر الإنسان. فمن حق ديكارت أن يتشبَّث بفكرة الكمال، ويراها مزروعة في فطرة الكائن الإنساني، ولكن ديكارت من جهة أخرى لم يستفد من اكتشافه الأنطولوجي الخارق هذا إلا من أجل أن يقيم أقنوم الإله، منفصلًا ومتعاليًا ومفارقًا، وأن يمنحه، وهو على كل صفاته تلك، صفةً أخرى هي «الوجود» التي بدونها تقوم بقية الصفات في الفراغ.

إن إحساس المفارقة بين الناقص والكامل يتعلق بنوع من وجود الكامل الذي يقاس نقصان كل شيء آخر بالنسبة له؛ فالناقص لا يتعيَّن على هذه الشاكلة إلا إذا توفر نقيضه الكامل بصورة ما. كل هذه البرهنة تستند إلى حدس مبهم، لكنه عميق عمق التكوينية الأنتربولوجية للكائن الإنسان المولود من الكائن الحيوان، والحامل لأسراره معه في كل تاريخيته المستقبلية القادمة.

غير أنه يمكن بكل سهولة قلبُ موضوعة ديكارت؛ فالنقص هو الموجود، هو المتوفر وحده. وقد أحسَّه الإنسي من داخل عضوانيته المحتاجة إلى كل شيء. ثم وعاه في المراحل العليا من تكوينيته الإناسية. هذا الوعي أو الحدس البديء بالناقص على أنه ناقص هو أساس البحث عما يعوضه؛ فالنقص هو المتوافر، والكامل هو موضوع البحث، والحافز على السعي إليه. وإذا كانت السيكولوجيا سمَّت جدلية الحاجة وإرضائها بالتلاؤم مع الواقع كلما اختلَّت تلك الجدلية سواء بتغير الحاجة كمًّا ونوعًا، أو بتغير البيئة من شكلها الطبيعي الأول إلى شكلها الاصطناعي الراهن؛ فالتلاؤم وإعادة التلاؤم عنوان واسع لجدلية الفعل والانفعال، التي يمكن أن تطبع نشاط الإنسان أفرادًا أو جماعة، وتغدو موضوعات لمعارف العلوم بشقَّيها الطبيعي والإنساني.

لكن الفلسفي يرى، وراء كل هذا النشاط، جدلية أعمق هي علاقة المتناهي باللامتناهي. شرط أن تتغير مضامين هذه الألفاظ الثلاثة باستمرار، أي المتناهي واللامتناهي والعلاقة بينهما. وفاعل التغيير الأساسي هو الحد الثالث، أي العلاقة. فحين تقوم علاقة الانفصال بين المتناهي واللامتناهي تسود التصورات المفارقة. وفي هذه الحالة يمكن أن تغدق على اللامتناهي كل الصفات من الكمال ومشتقاته، التي لا يمتلكها المتناهي. وعندئذٍ يحتكر اللامتناهي القدرات كلها باعتبارها كمالاتٍ لا محدودة. وعندئذٍ تحدث تلك النقلة التاريخانية الكبرى من الناسوت إلى اللاهوت؛ فإن معرفة المتناهي لذاته كنقص وافتقار، وعوَز وحاجة، يجعله يفكر في ذلك الكائن الآخر الذي يتحلَّى بكل الكمالات. وهذه المعرفة ليس من الضروري أن تصل إلى حدود الوعي المجرد، بل تصحبه كمعاناة وجودية، تدخل تحت ترميزات من نوع الخوف والجوع والافتقار إلى وسائل الدفاع أو القوة والمناعة؛ فهو الكائن الرخص الهش، المعطوب والسريع العطب من كل ناحية وفي كل آنٍ. إنه كائن الضعف أوليًّا ومبدئيًّا؛ ومن ثم فإن ملازمة الإحساس بالهشاشة والرخاصة، لا تلبث أن يصحبها فعل تقييم للذات باعتبارها مرصودة للضعف والعوز طيلة حياتها، وللعدم في مآلها ومصيرها. فالكائن الذي ليس له مَن يحميه من ضعفه الأزلي يستحيل عليه أن يتصوَّر نفسه موئلًا للكمال، وموطنًا للخير المطلق، والحق المطلق، والجمال المطلق. مثل هذه الآيات الكبرى العظيمة يستحقها ويمتلكها كائن آخر أعلى وأعظم من كائن النقص والموت هذا، في كل شيء.

فالانقطاع بين الناسوت واللاهوت قبل أن يغدو ضرورة منطقية، كان معاناة قاسية وشديدة على مستوى التجربة الموصوفة بتجربة الزوال، وتهديده المستمر في كل لحظات البقاء. فإن بقاء الكائن الزائل مخالط لفورية أو فجائية الموت، أو كل ما يحمل إشاراته، من معاني الحياة السلبية وأرزائها وشرورها المتتالية. والناسوت الذي ينتهي إلى الحكم على ذاته بالمصير العدمي المحتوم، يربأ بكائن اللاهوت أن يصيبه شيء من أمارات النقص والزوال هذه. فيرفعه إلى أعلى المراتب، ويصل به الأمر إلى أن يعلوَ به فوق العالم نفسه، ويخرجه من دنياه المنحطة؛ فالكائن الأعلى ذاك هو على النقيض من كل ما في هذه الدنيا من قبح ونقص وشر وضلال. إن وطن الهداية والمعرفة والسعادة الحقيقية ليس من هذا العالم. وذلك حكم وجوداني قبل أن يكون الفصل بين الناسوت واللاهوت ضرورة منطقية أو قضية إيمانية اعتقادية. فإن حلم السماء هو أمل مقلوب عن اليأس من الأرض. ومع ذلك فإن الإنسان حاول أن يملأ الأرض بملكوت السماء، فاخترع من أجل ذلك واسطة الفكر المطلق، التي دلَّته بدورها على الوسائط الأكثر عملية، من مثل العقائد الغيبية والأديان والأيديولوجيات، وحتى الحضارة اعتبرها بعض المفكرين تعويضًا عن ملكوت السماء بملكوت الإنسان يقوم على الأرض.

فالتفكير بالمفارق الانفصالي، ليس دائمًا نوعًا من الفرار والالتحاق بالغائب أو المغيوب. ذلك أنه حتى هذا المغيوب ليس هو تمامًا دلالته اللغوية، إذ إنه موجود أولًا في الحضور، وله حضوره ملء الوجود؛ فالغائب الحاضر هو تنويع يومي في معايشة الغائب حضوريًّا؛ ولهذا فقد انتهت رحلة الحضارة مع مفهوم المفارق وطقوسه إلى إعادة تأهيله وتوطينه في محايثتها عينها، لكن عمليات نزع الطَّقْسَنة عن المفارق ليست محسومة، ولا يحتكرها عصر تم تنميطه كزمن معين للأنوار مثلًا. ذلك أنه مثلما لا يظل المفارق مفارقًا ويستمر على تصاد وترجيع مع المحايثة، نقيضه الدائم، فإن الطَّقْسَنة قد يليه ويرد عليه استرداد متناوب لأشكال أخرى من الطَّقْسَنة. هناك «عمليات» متناوبة ومتداخلة من النزع والاسترداد. وفي كل مرة يجيء تركيز الصيغة، مطابقًا ومختلفًا عن نفسه في آنٍ معًا.٢ فالزمن الثقافي، كما اتفقنا، لا يسير بحسب اتجاه واحد. وهو لا ينجز حقبة كيما ينتهي منها تمامًا، والقطيعة مهما بدت حادة وحازمة، فليست قاطعة تمامًا. والمحايثة والمفارقة ليستا ثنائية انشقاقية دائمًا. وهي ليست ذات قطبَين حقًّا. بل إنها وحيدة القطب الذي هو كونها محايثة فقط. والمحايثة ترى نفسها على صورتها تلك، وترى نفسها من خلال نقيضتها، المفارقة، تارة أخرى، والتناوب في الحضور والتشخيص على هيئة محايثة أو هيئة مفارقة، ليس عملية استبدال بين قطبَين، ولا حركة نواسية لرقاص واحد؛ فالمحايث لا يفارق نفسه حتى يتقنَّع بكل مفاهيم وجاهزيات المفارق. ففي هذه الحالة ينتصب المفارق وهو محايث تمامًا؛ لذلك يعفُّ الفكر عن الحكم على جريان تاريخه من الأفكار، لا بالقطائع الكبرى، ولا بالقطائع الصغرى. وهو يرى إلى تاريخه ليس متزامنًا معه فحسب، بل «و» متماكنًا معه كذلك. إنه كالنقطة المعلقة في الفراغ. عالمها هو كل ما حولها وإن كانت ضائعة فيه؛ ولأن الفكر من المفترض أن يرى ما حوله دائمًا؛ فهو في كل زمان يرى، أو يحاول أن يرى ما حوله دائمًا. يصير زمانه ليس بعده ولا قبله، ولكنه حاضر معه مثلما هو فضاؤه ومكانه. وهذا لا يعني شمولية للفكر بقدر ما هو ترميز لوضعه بالنسبة لنزعات التحقيب الحضاري والأنتربولوجي؛ فهو الموجود داخل أزمان وأزمات التحقيب، والمنطلق خارجها باستمرار.

والفكر عندما يقترن بالمحايثة من خلال صيغة: فكر المحايثة، فإنه لا يختصُّ بشيء متخارج معه. كما أن هذه الحالة لا تفترض إلغاء نقيضها أي فكر المفارقة. ذلك أن الفكر في الحالتَين ليس حسمًا نهائيًّا. أو أقنومًا كيانيًّا لا يمكنه أن يتعامل مع النقيضَين في آنٍ معًا. وليس هو قوة القوى التجريدية كلها، بل إنه على العكس قد يبدو أقرب إلى سلطة في التعيين، هي في حال نفي مستمر لذاتها كسلطة؛ من أجل أن تكون ليس قوة على التعيين، بقدر ما هي قوة — على — التمعين. والتمعين هو سؤال المعنى، الذي لا يصير كذلك أبدًا، أي معنًى بدون سؤال. فحين يوصف الفكر بالمحايثة، فإنه في ذات اللحظة قابل لأن يوصف بالمفارقة؛ والواقع فإن فُعلاء المعتقد أو الدين، المدَّعين أنهم أكثر الناس مطابقةً وتطابقًا مع المفارق، وذلك في صميم المحايثة وليس خارجها أبدًا، فإنهم هم الأقدر، في نظر أنفسهم، في السيطرة على المتناهي وتسخيره في مطابقة وقائعه لأوامر اللامتناهي وترميزاته. وفي حين أن الفلسفي الإغريقي اعتبر أنه حقق معجزته عند إقراره للفكر بمرجعيته لذاته دون سواه، فأقام لذلك استحقاق مرتبية المفارق للفكر ما فوق المحايثة، وما يقطع معها نهائيًّا، على طريقة أفلاطون (عالم المثل «الأعلى» وعالم الأشباه «الأدنى»)، فإن التبسيط الديني فيما بعد (التلمودي فالنصراني فالإسلامي) جسَّد هذه القطيعة ومَسْرَحَها دراميًّا، جاعلًا منها نظام حياة جماعية لجماهير الإنسانية، حافلةً بتجارب من الاستقطابات الصراعية العمودية بين الأعلى والأدنى لدى النُّخَب الحضارية لهذه الجماهير. حتى أخيرًا، تنشق المفارقة عن المحايثة وتخترع لذاتها سلطة القيمة فوق حيادية المعنى.

نعلم أنه قد جَرَت العادة في مواجهة الدليل الأنطولوجي، أن يتهم في تاريخ الفلسفة بالدور المنطقي، ذلك أن المضي من فكرة الكمال إلى ضرورة «وجود» الكامل يرتكب تلك المعصية الكبرى وهي أن فكرة أي شيء، وإن كان الكمال، لا تفترض ضرورة وجوده إلا على الصعيد التجريدي فقط. غير أننا لا نهتمُّ نحن هنا بهذا المنحى من تناول الدليل. لسنا معنيين بالتطابق الصوري أو الاستقراء التجريبي، لكن المثير حقًّا بالنسبة للفكر الذي لم يفكر بما فيه الكفاية، هو السؤال الذي يسكت عنه الدليل الوجودي، وكل عقلانية القرن الثامن عشر، وهو تفكيك فكرة الكمال نفسها، أي ما تعنيه هذه الفكرة قبل أن يتم تعيينها؛ فهي ليست مسلَّمة حتى نتقبلها ونتعامل معها كما هي. إنها فكرة قد تدهشني. وأود أن أعيدها إلى موقعها الأصلي ذاك، باعتبارها قادرةً على إدهاش كل من يتمعن فيها خارج عادات التداول اليومي معها.

ولم يكن ممكنًا أن يتوقف عندها ديكارت ولا العقلانيون من بعده، أن يتفحصوها في ذاتها، بل يتلقفوها جميعًا كأنها لُقيا. كأنما هي لا تستحق التأمل بذاتها، بقدر ما تفيد في مفهمة سواها؛ فالكمال، عندهم، فكرة مزروعة في العقل أو الروح، أو «الطبيعة الإنسانية»، وهي أفضل طريقة لاشتقاق الوجود وليس فكرته فحسب، وجود الكائن الأعلى. ومن أجل هذا الكمال المتصور فإنه يجري تحييد كل النقائص الأخرى من دلالاتها. بل أن الناقص لا يعود يستحق أية دلالة. سوى الانتهاء السريع من همه و«وهمه» معًا.

كان من السهل على العقلانويين اعتبار فكرة الكمال فطرية، وبذلك يريحون أنفسهم من همِّ البحث عن تكوينها الأنتربولوجي، الذي لم يَحِن أوانه الثقافي، أو أوان كشفه وفهمه إلا في وقت متأخر، ومع ازدهار العلوم الإنسانية الجديدة. والوهم الفطري، أو وهم الفطرية إجمالًا يصبُّ الفكرة في قوامها النهائي؛ فالكمال تام ولا يصيبه عدوى النقصان في أي جانب من جوانبه. وهو بالتالي يفترض التعامل به بصيغ من جنسه، أو ما يسمح به جوهره؛ فلم يكن مقبولًا ولا معقولًا في تقاليد الفطرية أن يجري تعقل الجوهري بذات مفهمة العرضي. فالجوهري يفسِّر ولا يفسَّر (بكسر السين الأولى وفتح الثانية). ولم يجرِ مثل هذا القطع والبت بين طرفَيْ ثنائية واحدة إلا لحساب تنزيه أحدهما عن أن تلحق به أية عدوى نقص أو انتقاص، من توءمة الآخر المجاور له، والمناظر له، لكن مع فصل الاحتكاك، وقطع الاتصال بين توءمي الثنائية الواحدة، والعلاقة الثابتة بينهما القائمة على اللاعلاقة أصلًا، فإن الجوهري ينزاح تدريجيًّا من أفق الفهم والتفاهم معه بأية لغة كانت. وفي الوقت عينه فإن طرف النقص أو العرض لا يستحقُّ مفهوميًّا أية مساءلة عقلانية حول طبيعته و«وقائعه التافهة». وهكذا نصل إلى هذه النتيجة الفاجعية؛ فالجوهر يمتنع على التفكير حتى لا يكون عرضة لسين وجيم، والعرض ليس مؤهلًا للمعرفة وجلال الحقيقة … إذن ماذا يتبقَّى من العقلانويات في آخر المطاف سوى تأمُّل الفراغ وحده، أو بالأحرى يولد العقل ويشتغل في مثل هذه الحالة على ما يبرر له عطالته العملية أي في التجربة، مما يؤدي إلى تحصينها وراء مصطلح: ما قبل التجربة.

غير أن العقل يبتكر حيلته في التهرُّب من هذا المصير العقيم. ينتقل من تأمُّل الكمال كجوهر مفارق إلى تفعيله كرغبة في الكمال في أرض الواقع تحت أشكال التحضُّر والتمدين. وفي بداية الوعي كانت الطَّقْسَنة أقرب وسيلة إلى جعل الأعلى يتدخَّل في شئون الأدنى دون ممانعة؛ فالأضعف يحتمي بالأقوى، وإن كان هو مصدر البطش به. وذلك هو معنى أول للقدسنة الذي يمكن اعتباره بمثابة أصل تكويني لها. وهو أن يعمد الإنسان إلى إضفاء طابع الإعجاز على ذلك الكائن الآخر الذي لا يملك — أي الإنسان — تجاهه إلا علاقة الخضوع؛ لأنه الأقوى والأخفى معًا. ومن المهم أن يكون الأقوى هو الأخفى، ما دامت ممارسة القوة لا تُرى إلا من خلال أفاعيلها في الموضوع، أي لدى الكائن الأضعف؛ فالإنسان كائن الضعف هذا بامتياز، يختلق القوي الذي يخشاه، ويبعده، ويدفعه عنه وفوقه أعلى فأعلى. ثم قد يعيده إلى قلب الحدثان اليومي لأنه يحتاجه كيما يحقق بالنيابة عنه ما ليس يمكنه أن يفعله هو بنفسه مباشرة؛ فهذا البعد والقرب للمقدس عن أتباعه ومريديه في وقت واحد، هو أصل التقليد الذي سوف يعرف بالخفاء والظهور، ويدخل في علاقة نواسية من الرفض والجذب. وحتى يمكن لوعي التقديسيين أن يبرر هذه النُّواسية، فإنه يبدو على استعداد لينزع عن ذاته كل مزاياه غير المكتملة ويضفيها على ذلك الآخر. وهكذا ينقلب التقديس من الخوف إزاء المغيوب القادر القاهر، إلى الإعجاب بحامل الكمالات كلها.

كأنما الإنسان، هو من دون بقية الأحياء، ذلك الكائن الذي يتميَّز باختراع تناهيه ولا تناهيه، نقصانه وكماله، في وقت واحد. فليس اللامتناهي هو من اختصاص وشيم هذا المتناهي — الإنسان، فحسب، بل هو تناهيه كذلك، لكن تاريخ الأفكار — باستقلال دائمًا عن المعطيات الإنتربولوجية (الإناسية) — هو الذي حكم على نفسه بنفسه، أن يحتفل باللامتناهي وحده، والحط من التناهي. والتنكر له، وأن يقلب العلاقة بين الحدَّين. والمدهش حقًّا في هذا القلب هو أن الصانع ينقلب إلى أداة لمصنوعه. ينزع عن نفسه كل صفات ناسوته ويسقطها على الآخر بعد أن ينفي عن كل صفة حدَّها المتناهي. وفي هذه الحالة وقعت حادثة أَنْسَنة الإله. أو أن الصانع يستردُّ الآخر، اللاهوت، ويستبطنه في ذاته، مُعيدًا بذلك أَلْهَنة إنسانه.٣
١  تراجع خاصة أعمال لوروا غوران المتميزة في موضوع تأسيس علم أنتربولوجي يتقصَّى دلالات الجدلية الحية بين نشوئية الكائن الإنساني المفكر مع البيئة، في كتابه الكلاسيكي:
Leroi-Gourhan: Le geste et la parole, tome I, pp. 41, 75, 97.
يميز هذا المؤلف نظرية التطور بالانقطاعات أو القفزات العضوانية المترافقة مع نشأة القوى العليا للإنسان، ومؤثرات البيئة. والنظرة اللافتة هنا هي دلالة نشأة اليد كلسان سابق على اللسان، وصامت، ولكنها هي اليد الفاعلة والمغيرة للأشياء. ذلك من خلال تحليل اليد كأداة، التي سوف تخترع الأدوات وصولًا إلى التقانة، التي هي تقانة اليد أولًا في أصلها، وتحريرها للجسد. وهو موضوع سنرجع إليه بالتفصيل في أبحاث قادمة.
٢  مارسيل غوشيه، فيلسوف (نزع الانسحار عن العالم) في كتابه الشهير الذي يحمل هذا العنوان، قد يكون أعلن عن انقضاء التدين كأنظمة سياسية واجتماعية، لكنه لم يؤكد نزع المغيوب من الإنسان. وقد عاد هو نفسه ليثبته في كتاب حديث له حول: الدين في الديمقراطية.
Marcele Gauchet: le désenchantement du monde, ed. Gallimard.
La religion dans la democratie.
٣  الحركات الصوفية الإسلامية، والرومانسية الغربية حاولت أن تُغلِّب صورة «الرحمن الرحيم» على صورة «الواحد القهار»، حتى لا تشتبك مع الصفات الأخرى المتعارضة في سرديات «المقدس» الأعلى خاصة. فيتم تنزيهها عن كونها من صنع فاعل التقديس وإسقاطه ما فيه من الإنسانويات على الإلهيات. وقد كان ذلك هو أساس البراهين الإنكارية الموجهة ضد المفارقة التجسيدية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥