(٣) الكوني المتناهي
إن التفلسف بعد كانط أصبح ممكنًا بعد اكتشاف المتعالي مجددًا باعتباره صناعة الكوني، المشتغلة حتمًا ودائمًا على مادة الجزئي نفسه الذي هو المفردة الأولى في لغة المحايثة. بمعنى أن المتعالي لم يعُد تائهًا يبحث عن موضوعه خارج المحايثة من أجل تفسير المحايثة. كما أن المفارقة نفسها لا مكان لها خارج المحايثة؛ فلقد أصبح «التعالي» من الذات إلى الموضوع هو محلها الطبيعي. كما أن الكوني ليس مفهومًا جاهزًا، ولا أقنومًا ساكنًا في جهة ما. فإن هذه المصطلحات من المفارقة إلى المحايثة إلى الكوني، وما بينها من المتعالي والتعالي ليست سوى ترميزات عن حالة الوعي الإنساني ونظرته إلى نفسه والعالم من حوله. فإنه بقدر ما يزداد تلاحم الوعي مع أسرار العالم، وإنارة نقط مضيئة منها هنا وهناك، فقد تتجمع لتشكل أفقًا مضيئًا كاشفًا، يمكنه أن يضاعف من إلفة الإنسان مع محيطه، ويعمق من جذور استيطانه لوطنه الوحيد؛ العالم.
ولقد كان كانط مهمومًا أولًا باستعادة المتعالي إلى وطن الإنسان الحقيقي، وإطلاق فعاليته في المجال الوحيد المؤهل للتعامل معه، وإنماء شبكية علاقات قادرة على تسويغ ذاتها بذاتها، واعتمادًا على منطق هذه العلاقات عينها. فبدلًا من السعي إلى فصل المتعالي عن التعالي، كما كان دأب الميتافيزيقا التجريدية، إلى درجة تفريغ المتعالي من أية فعالية ممارسة إيجابية، بحجة تنزيهه حتى عن أية عالمية داخل العالم، من أجل تأكيد «برانية» الفاعل الأول، وتميز جوهره المطلق عن كل ما عداه، بدلًا من هذا الفصل صار مطلوبًا، بعد النظرية النقدية، البحث عن عمل حقيقي لهذا المتعالي، وتخليصه من وضع العطالة أو السلبية السلطوية المطلقة التي كان اللاهوت يحبسه داخل قفصها الحديدي الشفاف. أصبح للمتعالي أن يمارس علانيةً صناعة الكوني، أو اختراعه في واضحة النهار، وأمام الملأ من العقول والأنظار؛ وهذه الصناعة هي استثنائية حقًّا؛ لأنها تخصُّ الإنسان وحده من دون بقية كائنات الأرض، وهي التي تعني الفكر في حال قيادته للعقل وتعادله، وبدونها ليس ثمَّة عقل، وليس ثمة قوة تعقل العالم ونفسها؛ وقد فرَّط ويفرِّط الإنسان كثيرًا بأهمية هذه الصناعة، وباستثماراتها المتعارضة. وكان أخطر هذه الاستثمارات، ولا شك، اثنان؛ أحدهما قديم ومستمر، وهو توحيد المتعالي بالمفارقة ذات النمذجة اللاهوتية، والآخر مستجد ومنافس للأول، ويقوم على استخدام المتعالي كمسوغ للتشميلية والكليانية. ويستفيد هذا الاستخدام من الخلط المنطقي والمفهومي المقصود بين مصطلحَي: الكوني والكلي؛ فهما مبدئيًّا ملفوظان متقاربان. وفي الفلسفة العربية لم يرد الكوني لا لفظًا ولا مضمونًا إلا من خلال الكلي، ومضمونيًّا على الأقل، لكن الكلي في هذه الفلسفة عنى المقولات المنطقية، وصفات الذات الإلهية معًا. ولا تزال هذه الألفاظ، النازعة دائمًا إلى الامتداد الشمولي، تحظى باستخدامات وتنويعات لا محدودة بحسب الدلالة التي يُراد إبرازها من دون سواها.
فالمتعالي هو المدبر الذكي المنتج للكوني، المشخص في كل عملية معرفية على حدة، ومعرفية أنطولوجية كذلك. وهذا ما دفع بهيغل الذي سبق هيدغر، إلى محاولة تجسيد النظرية النقدية الكانطية، من خلال اشتباك الكوني والحدثي عبر السياق التاريخي، أو التكويني، لكن محاولة هيغل الجبارة، لم تخدم في نهاية المطاف فكرة الكوني المشخص، بقدر ما أعادت الفصل بين شقَّي العبارة، وجعلت المشخص يعود إلى الغرق في الكوني، الذي هو بدوره كذلك لم يستطع مبارحة هم الوحدة الأنطولوجية العليا، وإن كانت على حساب محايثة التاريخ كله. وبعد هيغل حاولت كل فلسفة أن تختلق هذا المعادل للكوني. إنما يرجع إلى هيغل هذا التصور الاحتفالي للتاريخ وكأنه هو صانع الكوني ومسرحه، فارس الكوني وفتوحاته في كل مجال علمي وحضاري وحدثي، من نوع ذلك الكوني/المشخص نفسه. ولقد غصَّت حقبة الحداثة بالفلسفات المجسدة للكوني والمبشرة به. بمعنى أن المتعالي الأصلي كما أوضحته النظرية النقدية عند مؤسسها كانط، راح يخسر تدريجيًّا انتماءه النقدي الأصلي، وينخرط في تبعيات متلاحقة للأقنوم الكوني الذي نأى كثيرًا عن مواصفاته الأولى، أو حدوده المعينة له من داخل جاهزية فَهْم الفهم، وإنتاج المعرفي.
حين يصرُّ هيدغر على شطب المرحلة المدعوة بالمابعد كانطية، وإعادة تأويل مختلفة لأسس البنية النصية المنشئة للنظرية النقدية، فإنه يصب جهده على إعادة تأويل المتعالي، ويرى فيه ما هو أكثر من الشرعنة النقدية؛ إن المتعالي يعيد طرح الكوني تحت طائلة المحايثة عينها، وليس فرارًا منها وامتهانًا لها — على الطريقة اللاهوتية ومن قبلها الأفلاطونية — وليس احتيازًا عليها، واستيعابًا مفهوميًّا وحديثًا لها — على الطريقة الهيغلية، ومن بعدها كل النزعات الفلسفوية الأيديولوجية التي أغرقت القرنَين الأخيرَين في خضم فتوحاتها الأصلية والدونكشوتية معًا، وكوارثها العنيفة المطلقة كذلك. بل إن المتعالي وهو يشرف على عملية ضبط الفهم، وإنارته بفهمه لموضوعه ولذاته في آنٍ واحد، إنما يعيد للمحايثة استقلاليتها الوجودية، وفي الوقت عينه، كونها مرجعية الفهم وأمكنته الواقعية؛ هذا يعني أن تحليل العقل المحض لجاهزياته المعرفية من خلال تلقِّي الحدوس الحسية، لا يطرح فقط المعرفي كسؤال وصفي لموضوعه، بل يسأل كذلك عن كائنه، ولكنه يُثير كذلك سؤال الكينونة التي يشارك كل الموجودات الأخرى في التأشير والاحتياز على كلية ما تؤشر عليه، (أو تؤشره، بدون توسط أداة الجر).
فقد وضع هيدغر مع كتابه «كانط ومشكلة الميتافيزيقا» حدًّا لمعظم التيارات ما بعد الكانطية. المأخوذة بالتفسيرات الإبستمولوجية لنقد العقل المحض. فالعمل الرئيسي لهذا النقد، برأي هيدغر، هو أن المعرفي يسبق الميتافيزيقي، لكن هذا السبق الرئيسي لا قيمة له إن لم يؤدِّ إلى الميتافيزيقي؛ بمعنى أن المعرفي، أو النقد المعرفي بالأحرى، هو السبيل إلى اكتشاف أنطولوجيا مختلفة. فاللامتناهي لم يعُد يمكن التفكير فيه إلا بعقل متناهٍ تمامًا. وكما نقول نحن اليوم إن اللامتناهي لا وجود له إلا بإعادة تفكره بطريقة المتناهي. واللامتناهي في المنظور الحداثوي ليس متاعًا خلقًا، ولا لاهوتًا نصيًّا. إنه بالأحرى المكان الصالح والمجهول، الذي يجعل فعل التجسير بين الكائن وسؤاله على كينونته، ممكنًا؛ فالمعرفي لا يستنفذه مضمون المعرفة كمعلومات. إنه لا يتوقَّف عند الأجوبة الجزئية ولا الكلية، ولكنه هو المتلامح دائمًا على مفترق الطرق. إنه محل السؤال الذي لا جواب له إلا تسآله عينه. والتسآل بدوره ليس حالًا ذهنية صرفة. إنه محمول على الكائن المتسائل نفسه؛ ولذلك عندما نعرِّف، مع هيدغر، الحقيقة باعتبارها كشفًا، فليس المقصود ما يقدمه الكشف من معارف جديدة، بقدر ما يعنيه فعل الكشف نفسه داخل معاناة ذلك الكائن المأخوذ بمجهول كينونته، والباحث دائمًا عما يقرِّبها منه أكثر فأكثر.
الرغابي وانتقاص الكمال
إن المتعالي الذي يحقق الثورة الكوبرنيكية بإعادة هيكلة بنية العقل على أساس الاحتياز على المتناهي، بوظيفيات/ أدوات العقل المحض وفعاليتها المعرفية والنقدية معًا، هو عينه الذي يعيد إشكالية الوصل/الفصم بين المتناهي واللامتناهي إلى حيز المحايثة وحدها، جاعلًا منها مسألة كينونة حية، تعود إلى الكائن الفريد الذي يلتحم حده بحد العالم، وهو الإنسان. حتى المفارقة تصير إلى دلالة المغايرة، وحالة من حالات التعالي ضمن سياق المحايثة عينها، ليس خارجًا عنها، ولا صاعدًا فوقها أبدًا.
ومن هذا المدخل الحضاري والاستثنائي الذي قد يقع مرة أو لا يقع في عمر مدنية ما — تغدو الكينونة، كسؤال ذاتها أُسيًّا، قابلة للمعاناة عضويًّا وتاريخيًّا؛ لأنها تقع دائمًا على حد الالتحام داخل الكائن — بالحرف الكبير — الذي ينصُّ على الإنسان والعالم في دلالة واحدة واختلافية في آنٍ. ويصير الدليل على هذه المعاناة هي الرغبة، بما هي مفهمة ضاجة صاخبة، ومنحوتة من عنف الحيوية، وحدها، وكائنة دائمة في حيز التناص من كل لغة علاقة بين الوعي والعالم.
إن المتعالي الذي يتخلَّى عن المفارقة، ويلتقيها داخل المحايثة نفسها، فإنه لا يطرح نفسه هنا — أي داخل المحايثة — كجاهزية عقل محض منشئ للمعرفة فحسب، على طريقة الإبستمولوجيين، المؤولين لما «بعد الكانطية» من وجهة النظرية المعرفية وحدها، لكنه يصير تاريخانيةً للتاريخ، كما عند هيغل، أي نوعًا من مفهمة كليانية باحثة عن الكوني المشخص، أي عما يجعل الكوني يرى نفسه في المشخص، دون أن يفقد كونيته، بل تزداد شمولية كمفهوم يبقى هو نفسه، وما يختلف عن نفسه، وذلك بعد كل الخطابات المقولة عنه؛ فالمتعالي مع هيغل يكتسب فعالية الظهورية. والمعنى هنا يغادر وحدته التأملية ويبحث عن عرضه الخاص في مسرح العالم.
ومع ذلك فإن فيلسوفًا متجهمًا يتمترس وراء منبر آخر في الجامعة مجاور لمنبر هيغل، ومعه حفنة قليلة من التلاميذ والمريدين، مقابل جحافل منهم تملأ قاعة هيغل، إنه شوبنهور الذي يخترع «إرادة الحياة»، ويدخلها لأول مرة إلى المصطلح الفلسفي؛ فهو يعيد المتعالي إلى رَحِمه الأصلية، إلى مجهول الكاوس؛ لكنه يُصيِّره مجهولًا فعالًا وسط كائنات الحياة، من وحوشها ومسوخها وملائكتها المطرودين المطاردين من فضاءاتها العاصفة؛ فإن إرادة الحياة تتجاوز المعرفي والأنطولوجي، ولا عمل لها إلا أن تُعيد مركزية الكاوس في كل ما يحاول أن يبني مفهومًا، أو نظامًا، أو قانونًا، إلى إرادة البقاء نفسها. وهي إرادة أهم وسائلها: التكوين وتدمير التكوين؛ فالتاريخ ليس له من تاريخانية، سوى أنه بدون أية تاريخانية أصلًا.
لقد رأى نيتشه أن انتماءه الفلسفي الحقيقي يرجع إلى شوبنهور، وأن معارضه الأشد هو هيغل؛ فمن هو الفيلسوف الذي يستطيع أن يتعامل مع الكاوس بطريقة الكاوس وحدها، وأن يتكلم لغته هو دون أن يضفي عليها أية أوهام عقلانوية من عنده. لقد رشَّح نيتشه زرادشت أن يكون نبي الكاوس الحداثوي. وضع نفسه مرة واحدة خارج تفاؤلية هيغل بانتظام التاريخ وفق هدفيته التكاملية، وفوق تشاؤمية شوبنهور التي قطعت كل أمل يمكن أن يُبنى خارج «عقلانية» لا عقلانية إرادة الحياة نفسها. نيتشه ألغى هذا الخيار الأخلاقوي. وحاول أن يبعث بزرادشت إلى عالم فقد ثقته بالمتعالي مفارقًا، والتعالي محايثًا، وأعطاه اسمًا آخر هو إرادة القوة أو الاقتدار.
وهكذا، فالمشكلة كانت دائمًا مع أسماء المتعالي التعددية، وليس مع هُويته. ذلك أن أسماءه الشائعة عنه لا تدل عليه بالذات، بقدر ما تنادي على مُطلقي تلك الأسماء أنفسهم. ومن هنا فإن كانط قد أوفى بالمهمة، عندما جلب المتعالي إلى داخل هيكل العقل، وجعله الشريك الأهم، والمجهول دائمًا، لاشتغال العقل على أجهزته، ولاشتغالهما معًا على صنع المفاهيم، فإن الكانطية انتزعت أعظم سرٍّ من مجهول المتعالي، وجعلت منه مكشوفه الأوضح. ألا وهو استشعار الكوني واستثماره على أرض المحايثة، في صناعة المعرفي. وتركت ما يتعدَّى هذا الكشف، وتلك الصناعة إلى وظيفة أخرى للعقل العلمي، وهي «مغامرة» الاعتقاد. ولعل الاسم الأحق بالمتعالي هو الفكر. وعند الحيويين من شوبنهور إلى نيتشه إلى برغسون، يصير له اسم آخر هو الحياة، وإرادتها أو ديمومتها وتدفقها الدائم، أو آلتها الرغابية، كما سوف يدعوها دولوز. لكن «الفكر» يستوعب كل تلك الأسماء في نهاية رحلة التسمية؛ لأن تلك الأسماء، من المتعالي إلى الحياة، وإرادة الحياة والديمومة الخلاقة والآلة الراغبة، إنما هي نعوت على الاسم الواحد، وتغييرات داخل المفهمة الواحدة؛ إنها تعددية أنغام الكونتربوان في الجسم السمفوني عينه. ولا شيء يستوعب كل هذا ويبقى هو سر نفسه، مثل الفكر، لكن الفكر لم يعُد ملزمًا بطرح تنويعاته تلك إلا بما يذكر به، ويرجع إليه وحده. والرجوع إلى الفكر هو بمثابة التقاط سريع لحصة له تخصُّ السؤال في فضاء كل جواب؛ ذلك لأن الفكر لا يمكنه أن يجمد كصنم لذاته أو عن ذاته. وحركية الفكر هي إمكان التقاطه وهو في حال الفعل، وفنه هو تسآله. وهو، أي هذا التسآل، الذي يتيح لنا أن نلتقيه بما هو الفكر المفكر. هذه الصيغة تحرسه من التبدُّد في التجريد. وتجعله يجول في المسافات الفارغة ما بين المفاهيم، والقضايا، والأحكام، حيثما كل أقنوم من هذه المرتبيات المنطقية لا يعود قادرًا على الاكتفاء بمنطوقه فحسب.
يستثمر فرويد فكرة النقص إلى أقصى مداها، لكن بديلًا عن نقص الكينونة لدى أفلاطون، يغدو «اللاشعور» هو بيت النقص من الملذات؛ لأن اللاشعور يغدو عاجزًا عن إعادة إنتاج سكونية الجنين أو متعية النشأة الأولى وهو جنين، في رحم الأم ثم خلال طفولته وهو في أحضانها. ومثلما كان الإنسان الأفلاطوني يسعى إلى ارتقاء سلم المعرفة من مستوى الشائعات إلى الحقائق، كيما يتاح له «تذكر» الماهيات الأولى التي كان عليها اللوغوس (العقل الكلي) قبل اختلاطه بالكاوس (العالم الخام البَدْئي)، فإن اللاشعور يدفع بصاحبه إلى التعويض عن معيقات المجتمع باختراقها، أو بالخروج على نواميسها بأفعال تصعيدية إيجابية في حال الإبداع، أو عبر الانحرافات المرضية، في حال الابتذال وعاديات الحياة اليومية للأفراد الغُفْل من الإمكانيات العالية أو السوية. إن فرويد هو أفلاطوني خالص، والنقلة التي تميزه عنه هي في شَخْصَنة جوقة الرغبة، ونقلها من مسرح التفلسف والأفكار، إلى مسرح تراجيديا العلاقات الإنسانية اليومية. فكما يكون المجتمع مانعًا ومعيقًا لأنه مقر السفسطة أي البلاغة اللفظية، ما دام يحكم الكلام اليومي في توليد المعرفة أو في دحضها، بالنسبة للأفلاطونية، فإن الجماعة، بدءًا من نواة العائلة، (الابن والأم والأب) عند فرويد هي موزَّعة الحاجات وهي القيِّمة على تقنينها؛ وبالتالي تشكل الحاجز الأول في وجه الفرد الحريص على ممارسة تعبيرية رغائبه كما هي، والعثور على موضوعات إروائها دون إعاقة، لكن الجماعة-العائلة تحول بينه ورغائبه من جهة، وموضوعات إشباعها وطرق الإشباع. فيضطر إلى كبتها فيستعيدها اللاشعور إلى قاعه، لتعيش في ظله حنينية جنينية إلى سكونية الرحم الأولى وسعادتها السهلة، المعطاة دائمًا دون تقنين كمي أو كيفي.
الرغبة امتلاء، وليست نقصًا في ذاتها، أو علامة نقص لسواها، أو دالَّة عليه، أو على ما سواها؛ فالانقلاب على الفرويدية المحدثة، كما أعاد إشادتها لاكان، وكأنها ميثولوجيا جديدة للعصر وإنسانه المحبط، هو كذلك بمثابة انقلاب يتناول مرجعية الأفلاطونية ليس للتحليل النفسي وحده، من فرويد إلى لاكان، لكنه يستهدف أيديولوجيا المشروع الثقافي الغربي عينه، ذلك أن مفهمة الرغبة على أساس التباسها بالحاجة، بما هي نقص وطلب للحقيقة (أفلاطون)، والكمال (ديكارت)، والارتواء (فرويد)، قد برَّر الانقسام الحاد بين الذات والآخر (العالم)، واعتبار الآخر بمثابة «الموضوع» الذي يقع عليه احتياج الذات واجتياحها له. وهكذا تمت ترجمة الاستشعار بالكوني، إلى طموح للتملك من الكلي؛ وفي حال تعذر تملُّك الذات للعالم، وذلك قبل اكتشاف «التقانة» فقد جرى تمليكهما معًا — أي الذات والعالم — إلى قوة أعلى منهما، وقادرة على استيعابهما، دون أن يستوعبها أحد، فنَمَت بذلك سلطة المفارقة. وأصبحت للكوني أسماء اللاهوت كلها التي تشخصنه تجريديًّا. ثم جاءت لحظة النظرية النقدية لتضع الكوني من جديد على المفترق بين حدَّي ثنائية مغايرة، بين خيار المعرفي/الأنطولوجي، أو خيار المعرفي/التقاني. وبقدر ما كان لدى كانط شعور حاد وواعٍ بتعارضية الخيارَين، فإنه لم ينج تمامًا من التباسية الحل والقطع بينهما. واحتاج الأمر إلى ما يقرب من قرنَين حتى وضع هيدغر حدًّا لذلك الالتباس. وساعده نيتشه أيما مساعدة على قشع الأطياف المشاغبة الثانوية، فأعاد فيلسوف الدازاين تفسير «العقل المحض» على أساس كونية المتعالي ونسبويته في آنٍ معًا.
على هذا المستوى من جدلية الرغبة والاختلاف يكتسي مفهوم الكوني لحمًا ودمًا؛ فإن المتعالي الذي يتابع حرفيته الكونية في صناعة المفهوم معرفيًّا، حسب طريقة العقل المحض، إنما ينهمك كذلك في استثمار الكوني، بإعادة اكتشافه من خلال الانخراط في المحايثة بما هي وطن للاختلاف، ومعايشتها كينونيًّا — وليس معرفيًّا فحسب — بما هي مغايَرة متواصلة. المتعالي عندما يكون هو الاسم الآخر للعقل المحض، فإنه يكاد أن يوحي بأن الذات هي المطلق الذي يطرح نفسه عبر العقل العملي. وذلك هو أساس المثالية التالية كما طورها فيخته. غير أن هيدغر يعكس الموقف المثالي، فيرى أن حاجة المتعالي إلى جدليته مع مَلَكَات العقل، تدل أساسًا على فراغه من المحتوى، الذي لا يمكن أن يكتسبه إلا عبر هذه الجدلية، التي تعيد اتصاله بمصادر التجربة المحايثة. وقد اعتاد المصطلح الفلسفي على تبسيط هذه الجدلية، تحت أقنوم الشكلانية التي تنفذ وظيفية تركيبية بالنسبة لمعطيات الحساسية المنتظمة بدورها بحدوس الزمكانية؛ فالشكلانية المعرفية لا تسمح بتصور ذاتية كما لو كانت مطلق ذاتها، حسب مفهوم فيخته، والتيار المثالي كله، لكن الزمانية التي تحدد وجود الذات في صميم التناهي، لا تمنحها أفضلية على المحايثة، إلا من حيث إن الدازاين هو الذي يأتي عن طريقه بالزمان إلى العالم. بمعنى أنه هو الذي يكتشف الزمان، بتفكُّره، واعتباره عرضًا دائمًا لتناهي الذات والموضوع معًا، لكن هذا الكلام يوحي أن الدازاين، أو الكائن الإنساني هو شيء والزمانية شيء آخر. في حين أن الكائن هو زماني خالص، وبدونه لا شيء يمكن أن يحتمل الزمانية أو يدل عليها. وبين الزمانية والتناهي تطابقية. كلٌّ منهما يعني نفسه والآخر في آنٍ معًا.
وفي رأي هيدغر فإن المخيلة المتعالية هي المحل المميز لتلاقي الزمانية والتناهي عند كانط. ذلك أن المتعالي له دلالتان؛ فهو يتجاوز التجربة، لكنه لا يعمل إلا ضمن حدود التجربة. وهذا ما يسمح لهيدغر أن يؤكد أن تطلع الكائن إلى الكينونة هو حدث زماني يقع داخل العالم المتناهي، حيثما لا آفاق للكينونة إلا داخل هذا العالم نفسه. فالكائن محتاج إلى حضور وسط المتناهيات عينها، لكنه في الوقت ذاته يحاول أن يجعل من حضوره عينه، من تأكيده معرفيًّا ووجودانيًّا معًا، طريقة أنطولوجية قادرة على التقاط الكينونة وهي منسحبة. تلك هي عملية التقاط مستحيلة عمليًّا؛ لأنها تجري دائمًا على حدود المتناهيات، فلا يتبقَّى سوى تأويلات لها تعتمدها لغة الترميز والتلميح. مع ذلك، بما أن المتخيلة المتعالية تضيف شيئًا من كونية المقولات على معطيات الحدوس الحسية كيما تنشئ المعرفة؛ فهذا يعني أن بنية العقل المحض قائمة على أساس إمكانية العلاقة مع التجربة المحض، أي فهم المختلف واستيعابه، بما هو كذلك.
وقد أشاد كانط هرم العقل المحض من أجل تجاوز ذلك التمرين السفسطائي العقيم، الذي شُغلت به الفلسفة حتى الحقبة الديكارتية نفسها، وجاءت النظرية النقدية — عند كانط كيما تعيد طرح التساؤل حول الشروط المحققة لإمكانية المعرفة، بصرف النظر عن المرجعيات ذات القَبْليات المفارقة. وهذه الشروط لا تختصر في قواعد محددة؛ ذلك أنها تضع سؤال الكائن شرطًا ضمنيًّا لكل الأسئلة المعرفية الأخرى. ولا يحتم هذا الوضع نوعًا من الاستباق أو الأولوية لسؤال الكائن، بقدر ما يُظهر حاجته إلى السؤال المعرفي، بما هو حامل (أي المعرفي) لضمانته للمحايثة، من حيث هو مدخل مفهومي لإشاراته غير الجاهزة؛ فالانفتاح على الكينونة يحتمله العالم وحده باعتباره مسرح المحايثة الفريد القائم بذاته. والنظرية النقدية، عند أستاذها ومبدعها الأول كانط، استطاعت أن تجهز هذا الانفتاح بعدة المعرفية الأنطولوجية الخاصة، بالعقل المحض، بما هو تمفصل المتعالي مع التعالي، بما هو تجسير الفكر على الواقع، بتوسيط العقل العارف الفاهم، المنظِّم لعملية التجسير الخارقة تلك، والمشتغل على كنوز المحايثة نفسها، وله أن يتجاوزها إلى ما هو أشدُّ محايثة، ولكن داخل خضمها العظيم عينه دائمًا، محاذرًا الخروج منها إلى أي فراغ خادع يحسبه واقعًا وراء حدودها، وهي بلا حدود أصلًا.
المتعالي: من التأويلي إلى الإبداعي
الكائن (الإنسان) في العالم هو كائن المغايرة أساسًا. إنه في كل لحظة، هو في حال مختلفة من المغايرة وسط عالم لا تحتويه معرفة جزئية أو مطلقة؛ وبالتالي فإن المتخيَّل يسبق الفاهمة أو يمتاز عليها كموقف من العالم، كانفتاح على حدثيته اللامحدودة؛ ذلك أن الفهم لا يتناول إلا ظاهرات معينة، في حين أن الانفتاح يستثمر الكوني من جديد في أرضية من المحايثة، تتجاوز حدودها المرئية دائمًا. والانفتاح يفترض أن هناك خارجانية تفيض عن أشيائها، وأن هذه الخارجانية ليست موضوعَ معرفة فحسب، بقدر ما هي محل عروض تأويلية؛ فالتأويلي يتقدَّم على المعرفي هنا؛ لكنه لا يلغيه، وإنما يدعمه ويزوِّده بآفاق المغايرة كلما احتبس نفسه في معطيات جاهزة أو منجزة؛ فالتأويلي يحرِّر المعرفي من سلطة الحقيقة، بما هي مطلق ذاتها، ويصله بلونيات احتمالية لا تتناهى.
ومثل هذا التطور في المعرفي الحداثوي، هو نمو طبيعي لجذر أُسيه؛ ووعاه تمامًا كانط عندما جعل المتخيلة في مركزية العقل المحض (في الطبعة الأولى خاصة)، ولم يجد هيدغر محلًّا مناسبًا للمتعالي إلا في هذه الموهبة. إنها مَلَكة الملكات العقلانية. فدعاها بالمتخيلة المتعالية. إنها فضلًا عن مركزيتها بالنسبة لمختلف جاهزيات العقل المحض، التي أبدعت النظرية النقدية في تحليل تمفصلاتها، فإنها المؤهلة وحدها كذلك لتحقيق الانفتاح، وإطلاق مغامراته الأفهومية في كل اتجاه، وهذا ما يسمح للانفتاح، أن يعيد استثمار الكوني بما يغني الكوني نفسه من حادثات العالم، ويمفرد لغته الشمولية، مبتكرًا تصالحاتٍ فورية بين الخاص والعام، الجزئي والكلي، بين مفرداته تلك، وآفاقها المحجوبة؛ فالانفتاح يضيف على حاجة الفهم الحضورَ، سواء كان الحضور انهماكًا من قبل الذات في الشأن العالمي، أو تطفلًا وغزوًا للعالمي، على الشأن الذاتي والشخصي؛ وبذلك يعيد العقل المحض تجسير الحميمية بين الكائن الذي يحمله، والمحيط الذي يسكنه؛ فالكائن هو المهموم أساسًا باستطلاع العالم والتواجد فيه. وكل معرفة يجنيها منه لا تهمه حقيقتها بالذات بقدر ما توفر له من تأويلات جديدة لأحواله من ذاته ومن الغير؛ فالتأويل ليس إضعافًا للحقيقة، ولكنه يمنحها إمكانية حياة أو زوال كحقيقة كذلك. ومع ذلك فإن التأويل هو أضعف من حقيقة، وأكثر من معرفة. إنه فكر يتعامل مع المتناهي، دون أن يستبعد اللامتناهي من حقول مقارباتها، شرط أن يغدو اللامتناهي نوعًا من المتناهي، متميزًا عنه كونه لا ينجز حدوده، ولا يحسمها مرة واحدة.
والواقع فإن التأويل لا يختصر انفتاح الكائن أو يختزله. قد يقدم له جاهزية جديدة لتنظيم علاقته بالعالم، لكنه ليس وحده المنوط به مثل هذا الهدف. كل الجدة هنا أن التأويل يقبل بتعددية العلاقات، مما يسمح للكائن ألَّا يقع أسيرًا لاستقطاب وحيد الاتجاه. فكما أن المتخيلة تضيف إلى المعطيات الحسية ما ليس فيها، تمنحها إطار العام والكلية، كذلك فإن العالم مقابل الذات الحاملة للمتخيلة، يفتح إمكانيات لا تتوقعها تلك الذات، ولا تستبقها مخيلتها المتعالية نفسها. ومع ذلك يتبقَّى للكائن نفسه أن يقدر لا تناهي تلك الإمكانيات؛ فهو الذي يسميها كذلك، وهو الذي عليه أن يثبتها بطرق لا محدودة من التعامل معها. ها هنا يغدو التأويل تجسيرًا متناهيًا بين لا متناهيَين؛ المتخيلة والعالم. وإن إعادة صياغة مثل هذا النص ليست ممكنة حقًّا إلا لأن الكوني ارتد إلى داخل الكون، وانهمك في الاشتغال على جزئياته. والعمل على اكتشاف نفسه فيها، وما ليس في نفسه كذلك؛ فالكوني هو حالة صميمية، لكنها لا تُرى إلا خارجانية عن ذاتها دائمًا. وبدون هذا الواقع الذي يشبه الاشتراط الوجودي، فإن الكوني لن يبرح شرطه المنطقي التجريدي الأول.
تلك هي فضيلة كانط الأساسية التي حدَّدها هيدغر، من خلال أطروحته الهامة حول ثورة «العقل المحض» الكوبرنيكية حقًّا، كما يراها هيدغر نفسه؛ إذ إنه أعاد إلى مركز التفكير الذات والعالم؛ لم يعودا أقنومَين تجريديَّين، بل يؤلفان معًا علاقة وجودانية (أونطية – أنطولوجية) في سياق الزمانية. والعلاقة هي مركب حالات معيوشة، ليس من سبيل إلى فهمها إلا عن طريق التأويل الذي وحده يلحق بالحالة، ويفكك إشكاليتها. والعلاقة حركية، مسرحها هي الزمانية. هناك حدٌّ في العلاقة، باحثٌ عن حدِّه الآخر الذي يومئ إلى حد ثالث … وهكذا. هناك تجسير تنقصه الضفة الأخرى؛ فالزمانية فضلًا عن كونها مسرح العرض الأولي البَدئي لما تعنيه حالة انْوِجَاد الذات في العالم، فإنها ترهن علاقة تعالٍ دائم مع المستقبلية، باعتبارها الأفق الظاهر الخافي، الوحيد، الذي تتوجَّه نحوه كل علاقة، أو تعقد عليه تجسيرها غير المكتمل إنجازه أبدًا.
فالتحليل الوجوداني، وليس النفسي، هو كاشف لغة التأويلات؛ ذلك لأن الكائن هو في حالات من تلك العلاقة البَدْئية واللغزية معًا، من انشباك الذات بالعالم المحيط منه (المجتمع اليومي) والمقصي (عالمية الزمكانية). وخصوصية الحالة أنها تجمع دائمًا بين السؤال والجواب معًا، ولا تنحاز لأحدهما مقابل الآخر. وفي «الحالة» يستمر السؤال في انقضاء/عدم انقضاء جوابه.
لكن الفلسفة التأويلية لم تصبر على مفردة «الحالة» طويلًا. لا بد أن ينتابها همُّ الجواب، حتى يطغى على قلق السؤال. وصار التأويل يطمح إلى تخطِّي منطق الحالة إلى ما يشبه عودة إلى فلسفة الحدِّ. كما لو أنه لا مناص من الحد، ليس في المنطق وحده، ولكن في إغلاق الحالة كذلك. فلا يكفي اعتبار أن الذات هي في أحوال من الانفتاح الدائم على العالم. وأن الانفتاح هو دليل امتلاء وفيض. إنه ما يضفيه المتخيل من ذاته على ما ليس تعطيه التجربة، وما ليس في المعطى قبلًا. والمهم أن الانفتاح لا يمكنه أن يكون معيارًا لغير ذاته. يجيء مع المنفتح عينه، ويتعرَّف على ملامحه من خلال ممارسته. وليس معنى هذا أن المنفتح لا حد له، بل إنه يتميَّز بكونه يتعامل مع الحد، ومع ما ليس كذلك أيضًا. لأن الحد بقدر ما يعرف المعروف ويعزله، فإنه يرمز إلى ما يتخطاه ويتعداه إلى المجهول ما وراء الحد عينه. أي إن الحد ليس بما يعرضه أمامه، ولكن بما يسده خلفه. وبالطبع لن يبقى مثل هذا الحد تعريفًا أرسطيًّا، ولا وظيفة علمية. إنه مفردة تعتزل ذاكرتها الاصطلاحية كيما تنتمي إلى لغة المشروع المعرفي الحداثوي، إلى التأويل الذي لا يميز بين خطاباته بحسب فواصل الحدود الحاسمة فيما بينها، بقدر ما يتنبه إلى انسراعية كل خطاب منها، إلى شدة توترها، وكثافة دوامتها. يصير الحد هنا مؤشرًا على مدى انفتاحية الكائن على العالم، بما يسوغ له أن يعتبرها بمثابة التقاط لحقيقته، أو انغلاقيته على ذاته، قبل أن تكون انغلاقية على مسافات الشمس والرياح أمامه.
إن المتخيل المتعالي، على العكس مما توحيه لفظتاه تلكما من لا محدودية وإطلاقية، إنما يشتغل على المتناهي فحسب؛ لأنه في أصله مشروع معرفي يتوخَّى القبض على «إمكان كل» موضوع معين، لكن عملية القبض هذه هي التي تتضمن التأطير المفهومي؛ وبالتالي فإنه لا مناص من أن تشتمل على التلقائية والاستقبالية معًا. تلقائية المتخيل عينه كقدرة على منح الجزئي كلية لا يمتلكها أصلًا، واستقبالية الفاهمة، عن طريق الحدسية الزمكانية، التي تقتصر مهمتها — عند كانط خاصة — على إعداد ذلك الجزئي بما هو كذلك، أي بشروطه الواقعية الخام، كيما تسبغ عليه تلقائية المتخيل صيغته كمفردة عقلية، كمعنًى أو دلالة، كمادة لمفهمة معينة، لقضية أو حكم؛ فالمتخيل يبقى ذلك المجهول الذي بدونه يتحوَّل العقل المحض إلى مجموعة جاهزيات شبه آلية تعمل على مادة الفراغ.
ذلك هو الجانب الكانطي من الموضوع، الذي يخص العقل المحض وعلاقته التحليلية التركيبية مع أجهزته الإدراكية. أما الجانب الهيدغري الآخر، فهو ما يعنيه وجود العقل المحض نفسه في العالم، ما يتعدَّى حدَّي الذات الموضوع كطرفَي عملية واحدة، عنوانها تشكيل المعرفة، إلى تلك العلاقة اللغزية الأشد عمقًا والتباسًا بين الكائن والكينونة. وهي العلاقة الأخرى التي يشتغل عليها المتخيل المتعالي، بما يتجاوز كثيرًا مسألة فَهْم الفَهْم، إلى مسألة الكون واللاكون. وهما ليستا وجهَين لسؤال واحد، بل إنهما السؤال عينه الذي لا يُفهَم دون أن يُوجَد، ولا يُوجَد دون أن يُفهَم. وبمثل هذه الصراحة البسيطة يقارب السؤال الفلسفي، الراهن عصريًّا دائمًا، أصعب أسئلة العصر في ذاتها، وأكثرها فُجائيةً في أجوبتها.
التأويل يراهن على عطاء المجهول بما يمكن أن يقدمه المجهول من بعض المعلوم عن ذاته، أو بما يمكن للتأويل نفسه أن ينتزعه منه انتزاعًا؛ ولذلك يحتاط التأويل من محاولة المعرفي احتواءه كليًّا؛ إذ إن التأويلي يسمح لنفسه باختراق تسويرات المعرفي وتجاوز شكلانية منطقيتها الصارمة. فلا يجد التأويلي نفسه ملزمًا دائمًا بتقديم تبريرات لأطروحاته. من هنا كانت نقطة القوة والضعف في تلك الأطروحات. ومع ذلك فإن التأويلي لم يُعفِ نفسه من تقاليد البرهنة تمامًا، وهو لا يزال مواليًا لقداسة الحقيقة، إلى درجة أن بعض التأويل قد ينجح إلى حدود ادِّعاء الفرادة في معاودة التواصل أقانيم إطلاقية يُلصِقها بالحقيقية. وهكذا جنحت المذهبيات الفكروية الكبرى إلى إقامة ديانات أيديولوجية حديثة؛ هذا، رغم أن المذهبية في الفلسفة عادة تنفر من توصيفها بالتأويل. لا تصبر على تصنيفها ﮐ «طريقة» في رؤية الحقيقة، وتطلب دائمًا أن تكون هي الناطق الوحيد باسم الحقيقة. ولا شك عانى تاريخ الفكر أشق معاركه الحداثوية من أجل إعادة تجريد التأويل من حاكمية التبرير، ذلك أن التبرير يجتهد في تقديم «التسويغ» في النظام المعرفي، بديلًا عن التعليل في البحث العلمي. والتسويغ هو ما يجعل فكرة ما مقبولة لدرجة اعتبارها صنو الحقيقة. غير أنه ما دامت المنطوقات الفكروية عامة عاجزة عن إثبات نصوصها عن طريق التجربة الاختبارية، فإنها تجنح إلى الاستنجاد بمختلف وسائل الإقناع اللسانية، العفوية منها، أو الممنهجة. فإن ألفاظًا من مثل الصلاح والمصلحة، الخير والسلام، واحترام القيم، قادرة على إسناد التسويغ بقوًى لا علاقة لها بمنطوق المعنى في النص الأصلي. والمجتمع ضالع باستمرار في ابتكار أنظمة الإسناد هذه، فليس ثمة معنًى يخلو من هالات اللامعنى التي تحوطه وتمازجه، وتتدخَّل في منطوقه وتأثيراته، لكن هذا لا يضطرُّنا إلى طلب المعنى الخالص؛ فإن تخليصه من كل شوائبه، قد لا يُبقي على شيء منه؛ لأنه ما هو الفاصل حقًّا بين الخاصية الأصلية، وغيرها في هذه التحفة غير المنجزة المسمَّاة المعنى وتخومها الالتباسية مع اللامعنى. فالتأويل الذي قد يعتبر تقدمًا على الدغمائية لا ينجو من التنميط إلا بمزيد من تأويلات، أو بابتكار طرق أخرى في التعامل مع مفردات التفكير. هنا فالتأويل يداهمه حنين التسويغ، وعند ذلك يعيد إنتاج نفسه من خلال الصيغة عينها التي يعترض عليها. وهي اعتماد التسويغ نفسه كآلية شكلانية، بديلًا عما يسوغه، أي عن موضوعه الأصلي سواء كان معنًى آخر أو دلالة هامشية.
في حين أن التأويل يتعارَض مع التسويغ جذريًّا. فهذا الأخير «التسويغ» هو بمثابة برهنة متأخرة على مفردة تفكيرية جرى تصديقها مسبقًا. أما التأويل فهو ارتحال عبر الممكنات التفسيرية غير ملتزمة مسبقًا إلا بنزوع الاستطلاع وإرادة البحث والكشف؛ فالتأويل لا يخرج عن ذاتي هدفه. أي إنه لا يرى نفسه خارج تساؤله الذي يخصه وحده. وهكذا فالفلسفة التأويلية أعفت نفسها، بصورة عامة، من أعباء البرهنة وفق أساليب التجريب العلمي الشائعة؛ فهي ليس لديها من الحقائق النهائية التي تقسرها على برهنتها وتثبيت تصديقها؛ ذلك أن التأويل جاء في أصله يأسًا من استراتيجية مكرسة بكل طقوسها للنطق بالحقائق المطلقة، و«تسويغ» منطقها. ومنذ أن أخذ العلم على عاتقه إنتاج «المعارف»، فإن الفلسفي تحرَّر من ازدواجيته مع ادعاءات «اليقيني». وما إن تحقق فهم هذه المزدوجة، حتى أصبح من السهل على الفلسفي أن يحرِّر الحقيقة بدورها من إلزام اليقينيات. لا يعود التعريف التقليدي للحقيقة بما هي حصول اليقين، إلا إحدى طرق المحاورة مع الحقيقة، وليس طريقها أو معيارها الأوحد. إن التأويلي لا يرفض اليقين، ولكن عندما يتعذَّر حصوله، فليست الأدلجة البديل، ولا المماحكة أو المواربة بدائل أخرى، بل هو تحقيق المزيد من الانفتاح على العالم بما يكشف فيه عن تعدديات الآفاق، التي تستثير لدى المتسائل ممكناتٍ تفكيريةً لم يكن داريًا بها أو متوقعًا لها. وهكذا لا يضع الفكر التأويلي نفسه أبدًا ما بعد الحقيقة، بل ما قبلها، دائمًا، مع هذا الاحتياط، وهو أنه لا يعترض سلفًا على اليقين، وكذلك على الريب. فهما من صدف التسآل نفسه، ومن لُقيا الترحال عينه. والمهم أن التأويلي يرفض استعباده من قبل باب وحيد مفضٍ إلى الحقيقة، وجهه اليقين وقفاه الريب.
التأويلي يتجرَّأ على «طرق» الحقيقة كما على «أقنومها»، وليس ذلك إنكارًا لوسائلها، وتجنيًا على قداستها. بل لأن أعظم ما يميز قداسة الحقيقة، عن سواها من القداسات الأخرى المحايثة أو المفارقة، هو أنها وحدها قابلة للانتهاك، بهذا المعنى، وهو أن قدسي الحقيقية يجذب ولا ينبذ، يصل ولا يقطع. يدفع إلى المزيد من التورط أكثر فأكثر، وأعمق فأعمق في دهاليزه وغرفه المظللة؛ بحثًا عن أقباس من أنوار تكافح أشباح الأنوار، ولا تبلغ مرة نصرًا محسومًا عليها. فإن قداسة الحقيقة الحقيقية هي التي تنمِّي «ثقافة» انتهاكها. وتبني جاهزيات الانتهاك؛ فالحقيقة تصاب بالتحنيط مع التصديق، وتولد مختلفة عن نفسها كل لحظة مع الإنكار. ومن هنا يأتي تواضع التأويل، يكف عن إصدار الأحكام، ويكتفي بنسج خطابات، ولا يشتغل مصطلحه على خطاب معياري مسكوت عنه، همه إثارة الفروق بين «عفوية» الرأي، دوكسا، و«إطلاقية» الفكرة/المثل، أوردوكسا. بل يفضل التأويل التقاطهما معًا، باعتبارهما من أحوال الفكر وهو يحيا حياته اليومية لا بين الرءوس فحسب، بل بين الناس وأجساد الناس. وهكذا فإن تصنيفات من نوع الكوني والنسبوي، وما بينهما من صراعات الكليات، تزيل ما بينها من أسوار التحدي التجريدية. وتفتح ممرات سردية بين خلاياها المغلقة. ذلك أن أهم ما يرد التأويل إلى الفكر من مفقوداته المنسية، هو السرد. والسرد هو سيولة اللغوي قبل أي تمفصل مفهومي أو اصطلاحي في سياق النص. وكل ما يفعله التأويلي هو أنه يرد المفهومي والمصطلحي إلى أصله السردي، أو أنه يمنح المفهومي فرصة مجيئه، ونظامه السردي معه.
الفكر المفكر ينقذنا من الاختيارات المستحيلة، فكل خيار هو انحياز لواحد، وإعدام للكل المتبقي. وليس صحيحًا في لغة التأويل، أن كل خيار هو انحياز لأنه هو إكراه في حقيقته. بل إن هناك مبدئيًّا حالًا عامة هي خيار الخيارات، والخطوة التالية ناجمة عن توفر دافع لاجتياز تلك الحالة العامة من خيار الخيارات، نحو الدخول إلى فضاء الخيارات والتيه بين إغواءاتها ومحظوراتها، هذا الدافع الأول هو الانضمام إلى صف الحياة، والقول نعم لخضمِّها الهائل؛ فالوقوف على الشاطئ ليس كالاندياح مع أمواج اليم، لكن التأويلي يتلاطم مع الموج العارم، وعيناه على الشاطئ والخضم معًا. تلك هي صناعة حداثوية للكوني. إنه يتكلم لغة البر والبحر معًا، الساكن والمتحرك. يعطي السردي تمفصل الخطابي. وينشر التمفصلات الخطابية حكايا سردية جديدة. لا يسقط التأويلي ممارسته بين حدَّي الوصف أو التوصيف، بين استنساخ «الصفة» أو اختلاق تحضير «الوصفة»؛ ذلك لأن المؤول أشبه ما يكون بكاتب روائي. يهمه أولًا حدوث الكلام أو الكتابة قبل كل تصنيف أو توصيف. وبالنسبة للتأويلي فإن حدوث الفكرة في نصه هو بمثابة نقلها من وجود النص، إلى نص الوجود.
مثلما برهنت الكانطية أن الكوني هو العقل المحض نفسه، باعتباره يحمل إمكان التجربة: «فإن شروط التجربة هي كذلك شروط موضوعات (أو أشياء) التجربة»، وهو ما يسميه هيدغر المبدأ الأعلى، الذي يُمكِّن من إشادة الميتافيزيقيا النقدية الجديدة؛ نقول مثلما كان الأمر كذلك بالنسبة لمفهوم الكوني عند كانط، مؤولًا من قبل هيدغر، فإن التأويل يريد أن يحيط بمعطيات التجربة، من حيث اتصالها الفوري بالسؤال المركزي للكائن، وهو: كيف يمكنه أن يعيد ربط كائنه بما لا يعرفه بعد من الكينونة؟ فإن الموضوع لا يولد محمولُه من تعريفه، حسب النموذج المنطقي الأرسطي، بل يتلقاه من سواه، وهو هنا هذا السِّوَى، الآخر الراهن دائمًا، تلك الكينونة القادمة المنسحبة. لحظة انتظار الراهن من خلال الفوري تحدد الصيغة الأنطولوجية للتأويل باعتباره حادثًا أونطيًّا أصلًا، عابرًا من زمن إلى زمن. فما يتيح هذا التآخذ الأونطي الأنطولوجي هو المتعالي، أو المتخيل المتعالي، الذي يعلن عن انبناء كلٍّ من الذات والموضوع عن طريق هذا التآخذ المتنامي عبر اندراجهما معًا في سياق الزمانية. فما يحدد التجربة، كبنية أونطية أنطولوجية، هو المتعالي. كما أنه بدون التجربة لا عمل للمتعالي، مرتدًّا عندئذٍ إلى مجرد معنًى ذهني خالص، أو قابلية معرفية فطرية على طريقة عقلانية القرن الثامن عشر وما قبله؛ أو يغدو مرتدًّا إلى أبعد، نحو الكوسمولوجيا اللاهوتية للقرون الوسطى.
وهكذا وجدت الفينومينولوجيا الطريق معبدًا أمام تحقيق النقلة النهائية من مفهوم للمتعالي قاطرًا وراءه كل تلك الذاكرة الخاصة بتعارضية المفارقة والمحايثة، إلى مفهوم التعالي المحسوم لصالح العلاقة الأفقية بين الوعي والعالم. فأصبحت مفردة «الظاهرة» في حد ذاتها قَيْمَنةً وحدها بتجاوز التراث المثالي الألماني الذي استأثر بالتفسير الذاتوي الإطلاقي للكانطية، وكاد أن يمحو ثورتها النقدية، محرفًا نتائجها نحو نوع من الدغمائية المتعالية المأخوذة كليًّا بمشروع عَقْلَنة كليانية للعالم، تُشرعن ألهنة الإنسان أسطوريًّا واستعباده للآخر، لكل ما عداه، الطبيعة، العالم، الكون اللامتناهي.
غير أن الأَلْهَنة الإنسانوية الاستبدادية تبدأ أولًا، وضمنًا، من تحديد هُوية خصوصية لإنسان فارقي، ممعن بتمييز تفوقه على الهويات الأخرى لبقية الإنسانية. وهو الإنسان المميز، الذي يُخَوصِن الكوني الإنساني والميتافيزيقي لصالح خصوصيته المفترضة، والمصنَّمة جوانيًّا باعتبارها مبدأ المبادئ الذي يعلل كل ما عداه، ولا يدع أحدًا يطالبه بسؤال ذاته.
مولد العالم فلسفيًّا
ينتقل المتعالي في اللحظة الثالثة بعد الكانطية والهيغلية، من الذات العارفة إلى الموضوع: العالم. صار الذاتي يطمح إلى العالمي باعتبار هذا الثاني هو موطن الكونية. والفلسفات التأويلية المعاصرة، بدءًا من مؤسس الفينومينولوجيا المعاصرة: إدموند هوسرل، أطلقت أغنية العالم، شرط أن تغنيها كل ذات، كل نموذج ذاتوي بحسب حاجته/قراءته لهذا العالم. ها هنا ليس المهم الاعتراف بمَبْدئية العالم أو أولويته، على ما لهذا الاعتراف من دلالة انعطافية كبرى في تاريخانية المعرفي الحداثوي. بل الأهم هي طريقة التعامل مع كونية العالم؛ فالمشروع الثقافي الغربي لم يحتفل بالعالم إلا باعتبار أن كونية العالم هي المعادل الطبيعي للرغبة، بما هي مطلق ذاتها؛ فالرغبة ليس لديها حاجة ما إلا أن تكون ذاتها في كل ما هو عداها. ولا شيء يتسع لمثل هذه الحاجة إلا العالم. وبدلًا من إنكار العالم في هنيهة من أجل إعادة إثباته عن طريق إثبات الذات، حسب الجدلية المثالية في هنيهة تالية، فإن التأويلية تقترح الانطلاق أولًا من إثبات العالم وإنكاره في آنٍ معًا؛ لأن وجود العالم كواقع مضاعف بوجوده كلغز؛ فهو من نوع المبذول والممتنع في وقت واحد. والإنكار هنا قد يعتبر متقدمًا بالنسبة إلى النفي الذاتوي؛ إذ إن الإنكار هو توتر بين النفي والإثبات. إنه ينصبُّ في الأقل على موضوع قائم بطريقة حيادية نسبة إلى الذات. غير أن الإقبال عليه يصطدم بالامتناع؛ فالعالمي لا يعطي نفسه إلا مداورة. كونه يتمتَّع بوجود اللغز أولًا. واللغز هو مزيج من المجهول والمغيوب معًا. يمتلك ما يدفع إلى الفهم، إلى التفكير أكثر، وفي الوقت عينه يوفر ثمة حضورًا للمغيوب، من حيث إنه يحف بالمجهول وتتماوج ظلاله المبهمة على ضواحيه.
سؤال الفكر: كيف يكون العالم عينَ ذاتِه؟ ليس هو أسهل الأسئلة إلا لأنه أصعبها على الإطلاق.
إن صيغة: الفكر المفكر، تستحضر تراث النظرية النقدية، تعصرن البناء الفذ للعقل المحض في طبعته الكانطية الأصلية. تسترد ذاكرة التحليلات التركيبية للمتعالي، باعتبارها رسَّخت لأول مرة مركزيةَ المتخيل في صميم عمل العقل. أصبح المتخيل يغذي الكوني، ويمنح المتناهي تواصلًا طبيعيًّا مع اللامتناهي دون أن يفقد الأول شيئًا من تجوهره، تحت طائلة تناهيه بالذات. وفي حين تكتفي الحدوس الحسية بإنشاء الصور عن الأشياء، فإن المتخيل المتعالي يُنشئ من الصورة «مادة» للتصورات التي ليست هي أشياء، بل ممكنات. وكذلك فإن المفاهيم هي حزمة ممكنات؛ وبالتالي كل اللغة المفهمية ليست سوى أبنيةٍ متعالية. أو بالأحرى ليس لها ما يعادلها من «أشياء» التجربة. كل لغة الصور والتصورات والمفاهيم والأحكام والمحاكمات … إلخ، هي عينها منوط بها بناء عالم موازٍ للعالم الشيئي، ومتدخل في شئونه، حتى العلوم المادية فهي تركيبية، بمعنى أنها تفعِّل المعدوم عن الموجود، أي تأتي بالمتخيل إلى صميم المتحقق، وتفككه وتعيد بناءه، بما يختلف فيه عما كان عليه قبل صدمة المتخيل للواقع، وتفجيره على طريقة العلم أو الفن أو الفكر.
إن الفكر المفكر يقف دائمًا على هذا الحد من صدم الواقع بما ليس فيه كيما يغدو واقعًا مختلفًا؛ ولذلك ليس الفكر المفكر موقفًا تأمليًّا، إنه متورط بهم الصدم، صدم الواقع. إنه ليس فارسًا معرفيًّا فحسب، بل هو كذلك مَن يضع الحد أمام فروسية المعرفة من أجل إنقاذ المجهول نفسه من غرور الاختزال وترف السيطرة المجانية. ولقد حاول كانط أن يؤسِّس الأخلاق، في «نقد العقل العملي» على النظرية النقدية بوساطة المتخيل نفسه، لكننا في هذا العصر الذي يدفع إلى التفكير أكثر من سواه، دون أن نتفكَّره كفاية، نحتاج إلى قلب المعادلة الكانطية دون التخلِّي عن وساطة المتخيل. أي إننا مضطرون حقًّا إلى تأسيس النظرية النقدية نفسها على نقدية الفعل الأخلاقي، بالمعنى الأتيكي هنا، فليس «الواجب» هو الكلي لكونه مفهومًا أولًا لدى كل العقول، ومقبولًا ثانيًا لدى كل الناس الطيبين الأحرار؛ وبالتالي ليس الواجب كذلك فعلًا معرفيًّا ينقلب إلى سلوك ومواقف قيمية؛ فالقيمة لا تترجم كليًّا متعاليًا، لكنها تؤذن بدنوِّ الكوني. والانصياع للواجب قد يكون تهربًا من تحمُّل أعباء الفردية، يدفع إلى انضواء حمائي تحت عباءة الكل. إنه استنقاذ للذرة المنعزلة من الاستفراد والانفراد، واندراج طوعي قسري معًا، تحت الادِّعاءات الشمولية.
فالمتعالي، مثلما لم يعُد يمكن ترجمته إلى المفارق اللاهوتي والغيبي بعد كانط، كذلك فإن الواجب الأخلاقي يصير إلى تحرُّر إتيقي؛ والالتزام بأوامر الكلي، يتحوَّل إلى سيرورة انعتاقات كحوارات ناقصة مع الكوني. وما إن نقول حوار مع الكوني حتى نفهم أن الكوني هو في المحاور نفسه؛ إذ إنه هو الذي يطلبه، ويستشعره ويبحث عنه، ثم لن يلقاه إلا في طلبه عينه. فما يزيد به الكائن الإنساني عن سواه من كائنات الأرض، هو أنه حامل لعبء الكوني، ومضطر للبحث عنه خارج كيانه، في حين أن ليس له — أي الكوني — من إقامة إلا داخل هذا الكيان، لكنها من نوع إقامة المترحل، الذي لا يستقر له مقام إلا في نفيه وإنكاره على ذاته. وهذا أصل إحساس الكائن كما لو كان غريبًا عند نفسه. والغربة عند النفس تفصل ما بين ذات النفس، ما بين حدَّي هذا النسق الكلامي الذي يكرر عينه اختلافيًّا؛ فالذات تصير هي غيرها في ذات النفس، كما النفس كذلك. فالمغايرة حركة ثابتة داخل الهُوية عينها، وليست نقيضة خارجية عنها. والنسق التكراري الاختلافي: (ذات النفس)، يقدم الترميز اللفظي ولا يستوعب الدلالة كلها، ولكنه يشكل العتبة ويقف عندها، فينقلب إلى حالٍ من التسآل.
إن عزبة ذات النفس عن عينها أو ذاتها، بما يجعل تكرار اللفظ اختلافيًّا في نسقه، هي محل التسآل. والتسآل هو سلوك الهُوية مع نفسها اختلافيًّا. وهذا «السلوك» هو الذي يصفي الأخلاق إلى إتيقا؛ لأنه في الفرد المتبقي، والمغادر كل مرة من حال توترات التوازنات المستعصية بين الحقوق والواجبات داخل «العقد الاجتماعي»، من وضع الاغتراب «العمومي» اللاشخصي بين الأنداد داخل العمومية العامة التي هي حيادية هجومية، تستهدف تحييد الخاص من خصوصيته، والفرد من فرديته … والعائد إلى وضع الحميمية، التي لا تخلو من مقاربة السر مع سر نفسه، المعبَّر عنها بالهُوية الاختلافية … ذلك الفارق، باستحالته الدقيقة، بين النفس وذات النفس، مبعث الغربة والغرابة الصميمية، هو حد الانكسار «الإبداعي» للحميمي على الكوني، بما يقلب الحميمي، أخص الخاص، إلى حافة الكوني. في تلك اللحظة النادرة ينبثق استشعار الكوني كأنه قدرة واقتدار على تحمُّل الحرية بدون تقنين.
الإتيقا ليست أخلاقيةً فردوية، لكنها هي تصفية «الأخلاق» إلى صَفْوتها، بما يساعد الكائن على استعادة اتصاله بالكوني الكامن في ذاته والمفارق لها في آنٍ معًا، وهو غير العمومي الذي يكرر صنع الذات شيئًا شائعًا بين عاميين آخرين، وإذا كان الإتيقي هو الفوز بصفوة الخلقي — بعد تصفيته من سائر أخلاقوياته العاموية — فليس ذلك إلا لأن الإتيقي يفتح باب المجازفة كلها مجددًا أمام اللامتعين، كما لو كان هو العدم، لكنك تحس نداءه يخترق عروقك الوجودية من أقصاها إلى أقصاها، كما لو كان هو أقصى الوجود. تلك هي من فورية الكوني، ومن فُجائيته غير المنتظرة؛ فالكوني يأتي أو لا يأتي أخيرًا. والمهم أن الكوني هو ما يؤذن بدخول لسعة الفكر على الأشياء والألفاظ والأقانيم والأصنام من كل نوع. ينتزعها من حياديتها اللاشيئية، وينقلها دفعة واحدة إلى منطقة الشيء القائم هناك، على مسافة من الفهم والتعامل. ويتحقَّق المثل القديم «ما يتحداك هو ما تجهله»، و«العلم نور»؛ لذلك فالفهم إبداعي أصلًا، إنه خالق المعرفة؛ لأنه قادر على تلبية الكوني الكامن فيه، والاستجابة لتحدي المجهول أمامه؛ فالفهم يعيد خلق الأشياء على مستوى التصورات والمفاهيم والأحكام. كل ما يعيق الفهم إنما يفتئت على الكوني؛ ولذلك إن كل المختزلات والتصنيفات والتشبيحات الناطقة باسم الكوني إنما هي افتئات عليه، عندما تختصر ربيع كل سنة، بموسم سنة واحدة. ذلك أن من يحاول احتكار الشهادة على الكوني، فلن يشهد هو ذاته، إلا على نسبيته الزائلة. والزوال هنا هو في منع الفهم، أو امتناعه، وليس في معاناة عجزه. فلا سبيل للتعاطي مع الكوني إلا بوساطة النسبي، شرط اعترافه بنسبيته دائمًا، تلك التي تمنحه شرعية في نظر نفسه أولًا؛ إذ إنه بقدر ما يؤكد محدوديته، فإنه يذكر بلامحدودية الكوني على حوافيه المنفتحة. وهذا عكس السائد في التفكر الاجتماعي، والسياسي منه بخاصة.
غير أن ما نسمِّيه هو الذي لا يلبث حتى ينفصل عنا، ثم نجعله يمارس علينا سطوته أو سحره الخاص، كما لو أنه لم يعُد مصنوعًا بأسمائنا. وفارق عظيم بين أن يكون المتعالي صانعًا للفهم أو مانعًا له. وهو الخيط النحيل الذي يميز الفكر الذي لا يرجع إلا إلى نفسه، والفكر الآخر الذي يتخثر في بعض مصنوعاته، معوضًا بها عن إعادة اكتشاف العالم وفُجائيته المبدعة.
Ibid., pp. 9–50.
P. L. Assoun: Freud, la philosophie et les philosophes, PUF.