(٣) الكوني المتناهي

إن التفلسف بعد كانط أصبح ممكنًا بعد اكتشاف المتعالي مجددًا باعتباره صناعة الكوني، المشتغلة حتمًا ودائمًا على مادة الجزئي نفسه الذي هو المفردة الأولى في لغة المحايثة. بمعنى أن المتعالي لم يعُد تائهًا يبحث عن موضوعه خارج المحايثة من أجل تفسير المحايثة. كما أن المفارقة نفسها لا مكان لها خارج المحايثة؛ فلقد أصبح «التعالي» من الذات إلى الموضوع هو محلها الطبيعي. كما أن الكوني ليس مفهومًا جاهزًا، ولا أقنومًا ساكنًا في جهة ما. فإن هذه المصطلحات من المفارقة إلى المحايثة إلى الكوني، وما بينها من المتعالي والتعالي ليست سوى ترميزات عن حالة الوعي الإنساني ونظرته إلى نفسه والعالم من حوله. فإنه بقدر ما يزداد تلاحم الوعي مع أسرار العالم، وإنارة نقط مضيئة منها هنا وهناك، فقد تتجمع لتشكل أفقًا مضيئًا كاشفًا، يمكنه أن يضاعف من إلفة الإنسان مع محيطه، ويعمق من جذور استيطانه لوطنه الوحيد؛ العالم.

ولقد كان كانط مهمومًا أولًا باستعادة المتعالي إلى وطن الإنسان الحقيقي، وإطلاق فعاليته في المجال الوحيد المؤهل للتعامل معه، وإنماء شبكية علاقات قادرة على تسويغ ذاتها بذاتها، واعتمادًا على منطق هذه العلاقات عينها. فبدلًا من السعي إلى فصل المتعالي عن التعالي، كما كان دأب الميتافيزيقا التجريدية، إلى درجة تفريغ المتعالي من أية فعالية ممارسة إيجابية، بحجة تنزيهه حتى عن أية عالمية داخل العالم، من أجل تأكيد «برانية» الفاعل الأول، وتميز جوهره المطلق عن كل ما عداه، بدلًا من هذا الفصل صار مطلوبًا، بعد النظرية النقدية، البحث عن عمل حقيقي لهذا المتعالي، وتخليصه من وضع العطالة أو السلبية السلطوية المطلقة التي كان اللاهوت يحبسه داخل قفصها الحديدي الشفاف. أصبح للمتعالي أن يمارس علانيةً صناعة الكوني، أو اختراعه في واضحة النهار، وأمام الملأ من العقول والأنظار؛ وهذه الصناعة هي استثنائية حقًّا؛ لأنها تخصُّ الإنسان وحده من دون بقية كائنات الأرض، وهي التي تعني الفكر في حال قيادته للعقل وتعادله، وبدونها ليس ثمَّة عقل، وليس ثمة قوة تعقل العالم ونفسها؛ وقد فرَّط ويفرِّط الإنسان كثيرًا بأهمية هذه الصناعة، وباستثماراتها المتعارضة. وكان أخطر هذه الاستثمارات، ولا شك، اثنان؛ أحدهما قديم ومستمر، وهو توحيد المتعالي بالمفارقة ذات النمذجة اللاهوتية، والآخر مستجد ومنافس للأول، ويقوم على استخدام المتعالي كمسوغ للتشميلية والكليانية. ويستفيد هذا الاستخدام من الخلط المنطقي والمفهومي المقصود بين مصطلحَي: الكوني والكلي؛ فهما مبدئيًّا ملفوظان متقاربان. وفي الفلسفة العربية لم يرد الكوني لا لفظًا ولا مضمونًا إلا من خلال الكلي، ومضمونيًّا على الأقل، لكن الكلي في هذه الفلسفة عنى المقولات المنطقية، وصفات الذات الإلهية معًا. ولا تزال هذه الألفاظ، النازعة دائمًا إلى الامتداد الشمولي، تحظى باستخدامات وتنويعات لا محدودة بحسب الدلالة التي يُراد إبرازها من دون سواها.

ولسنا الآن في مجال الغرق في طوفان من التمعينات التي حفل بها تاريخ المذاهب الفلسفية لهذه المعاني الشمولية. إلا أنه يهمنا التوقُّف قليلًا عند هذا التمييز شبه المعتمد تقريبًا بين الكلي باعتباره يعني اجتماع الخصائص أو الأفراد تحت اللفظ المقصود بصورة معنوية، أي في ذات اللحظة والمستوى، وبين الكوني الذي يعني التقاء الخصائص فحسب بصورة عضوية، متداخلة ومتفاعلة الحدود فيما بينها، في آنٍ. وهذا ما سمح لبروز الاصطلاح الهيغلي المشهور تحت لفظة: الكوني المشخص l’universel concret. فهو يعيد الرابطة بين المفهوم والخطاب. ويؤكد على دخول الكوني في سياق التاريخي، بحيث إن الحدث أو الشخص المفرد، كالبطل بالمعنى السلبي والإيجابي معًا، يمكن أن يُشَخْصن الكوني، كمفردة نفسه أولًا، بما لها من الخصائص القابلة للمشاركة مع/و للانعكاس عن المفهوم، أو المثل الأفلاطوني.

فالمتعالي هو المدبر الذكي المنتج للكوني، المشخص في كل عملية معرفية على حدة، ومعرفية أنطولوجية كذلك. وهذا ما دفع بهيغل الذي سبق هيدغر، إلى محاولة تجسيد النظرية النقدية الكانطية، من خلال اشتباك الكوني والحدثي عبر السياق التاريخي، أو التكويني، لكن محاولة هيغل الجبارة، لم تخدم في نهاية المطاف فكرة الكوني المشخص، بقدر ما أعادت الفصل بين شقَّي العبارة، وجعلت المشخص يعود إلى الغرق في الكوني، الذي هو بدوره كذلك لم يستطع مبارحة هم الوحدة الأنطولوجية العليا، وإن كانت على حساب محايثة التاريخ كله. وبعد هيغل حاولت كل فلسفة أن تختلق هذا المعادل للكوني. إنما يرجع إلى هيغل هذا التصور الاحتفالي للتاريخ وكأنه هو صانع الكوني ومسرحه، فارس الكوني وفتوحاته في كل مجال علمي وحضاري وحدثي، من نوع ذلك الكوني/المشخص نفسه. ولقد غصَّت حقبة الحداثة بالفلسفات المجسدة للكوني والمبشرة به. بمعنى أن المتعالي الأصلي كما أوضحته النظرية النقدية عند مؤسسها كانط، راح يخسر تدريجيًّا انتماءه النقدي الأصلي، وينخرط في تبعيات متلاحقة للأقنوم الكوني الذي نأى كثيرًا عن مواصفاته الأولى، أو حدوده المعينة له من داخل جاهزية فَهْم الفهم، وإنتاج المعرفي.

حين يصرُّ هيدغر على شطب المرحلة المدعوة بالمابعد كانطية، وإعادة تأويل مختلفة لأسس البنية النصية المنشئة للنظرية النقدية، فإنه يصب جهده على إعادة تأويل المتعالي، ويرى فيه ما هو أكثر من الشرعنة النقدية؛ إن المتعالي يعيد طرح الكوني تحت طائلة المحايثة عينها، وليس فرارًا منها وامتهانًا لها — على الطريقة اللاهوتية ومن قبلها الأفلاطونية — وليس احتيازًا عليها، واستيعابًا مفهوميًّا وحديثًا لها — على الطريقة الهيغلية، ومن بعدها كل النزعات الفلسفوية الأيديولوجية التي أغرقت القرنَين الأخيرَين في خضم فتوحاتها الأصلية والدونكشوتية معًا، وكوارثها العنيفة المطلقة كذلك. بل إن المتعالي وهو يشرف على عملية ضبط الفهم، وإنارته بفهمه لموضوعه ولذاته في آنٍ واحد، إنما يعيد للمحايثة استقلاليتها الوجودية، وفي الوقت عينه، كونها مرجعية الفهم وأمكنته الواقعية؛ هذا يعني أن تحليل العقل المحض لجاهزياته المعرفية من خلال تلقِّي الحدوس الحسية، لا يطرح فقط المعرفي كسؤال وصفي لموضوعه، بل يسأل كذلك عن كائنه، ولكنه يُثير كذلك سؤال الكينونة التي يشارك كل الموجودات الأخرى في التأشير والاحتياز على كلية ما تؤشر عليه، (أو تؤشره، بدون توسط أداة الجر).

إن هيدغر يعتبر أن استرداد الميتافيزيقا الأُسيَّة١ لم يعد ممكنًا إلا من مدخل النظرية النقدية؛ وذلك هو جوهر الانقلاب الكوبرنيكي الذي وصف به كانط نفسه كتابه: نقد العقل المحض. وما نراه نحن أن الكوني الذي صار نقديًّا، كرؤية موضوع، هو المحصلة الرئيسة لهذا الانقلاب (هذا بالرغم أن كانط قد تراجع عن وصف ثورته بالكوبرنيكية في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه ذاك)؛ فالكوني قديم قدم الفكر. وقد جرى التعامل معه دائمًا بصيغ سكونية دائمًا، اعتبارًا من عالم المثل الأفلاطوني، إلى اللاهوت الديني، إلى نظرية الكليات المفارقة أو الفطرية، ومعها فكرة الكمال الديكارتية، أو فيما يتخطاها قليلًا مع ذاتية الكوجيتو. لكن هيغل، ومن بعده المثالية الألمانية والنيوكانطية، عاد فأبدل الكوني النقدي بالكوني المشخص (تاريخيًّا)؛ وأما هيدغر، بعد الثورة النيتشوية العارمة على الهيغلية كأفلاطونية متجددة، فإنه يرى أن النظرية النقدية تتعدى الإبستمولوجيا، وتفتح بوابة جديدة كانت مجهولة دائمًا، نحو الأنطولوجيا الأُسية؛ لم يعُد النقدي مستوعبًا كله في المعرفي، بل يأتي بعدَّته وبمكتسباته من المعرفي إلى حضن الكينونة، ليعيد تذكُّر نسيانها، وهكذا فالكوني، وإن لم يصطلح عليه هيدغر باسمه المباشر ذاك، إنما يتلامح مجددًا عبر تذكُّر الكينونة — حيثما الوطن والأفق الأصليان للكوني — وهي في حال غيابها الدائم قسريًّا أو تلقائيًّا.
وسواء صحَّت تأويلية هيدغر لنقد العقل المحض باعتباره بنى المدخل الحداثوي لإقامة الأنطولوجيا الأُسية مجددًا، أو أن هذه التأويلية يمكن الرد عليها أو دحضها كليًّا أو جزئيًّا — كما فعل جاك ريفيليغ في دروسه القيمة المجموعة في المجلد الثالث،٢ فإن المهم في نظرنا أنه لم يكن ممكنًا استرداد إشكالية الكينونة في لحظة الحداثة البعدية، كما فعل هيدغر، لو لم يعد نقد الكوني بطريقة تشريحية في «العقل المحض»، وشَرْعَنة مفهمة جديدة للمتعالي على أساس من تمفصله مع جاهزيات العقل المتناهي، أو مَلَكاته، من الفاهمة إلى المتخيلة والحدوس الحسية. ذلك أن تحرير الكينونة من كل حمولات المثاليات الذاتوية، أو اختزالها في هوامش الشروحات على النظرية النقدية مع النيو-كانطية، كان يتطلَّب من هيدغر استمداد العون مباشرة من النظرية النقدية، كما هي عند مؤسسها كانط، وتوظيف ثمراتها الأهم في بعث الكينونة، وجعلها من جديد محور التفلسف في لحظة الحداثة البعدية (أي بعد تحرير الحداثة الكلاسيكية من الأفلاطونية المستحدثة).

فقد وضع هيدغر مع كتابه «كانط ومشكلة الميتافيزيقا» حدًّا لمعظم التيارات ما بعد الكانطية. المأخوذة بالتفسيرات الإبستمولوجية لنقد العقل المحض. فالعمل الرئيسي لهذا النقد، برأي هيدغر، هو أن المعرفي يسبق الميتافيزيقي، لكن هذا السبق الرئيسي لا قيمة له إن لم يؤدِّ إلى الميتافيزيقي؛ بمعنى أن المعرفي، أو النقد المعرفي بالأحرى، هو السبيل إلى اكتشاف أنطولوجيا مختلفة. فاللامتناهي لم يعُد يمكن التفكير فيه إلا بعقل متناهٍ تمامًا. وكما نقول نحن اليوم إن اللامتناهي لا وجود له إلا بإعادة تفكره بطريقة المتناهي. واللامتناهي في المنظور الحداثوي ليس متاعًا خلقًا، ولا لاهوتًا نصيًّا. إنه بالأحرى المكان الصالح والمجهول، الذي يجعل فعل التجسير بين الكائن وسؤاله على كينونته، ممكنًا؛ فالمعرفي لا يستنفذه مضمون المعرفة كمعلومات. إنه لا يتوقَّف عند الأجوبة الجزئية ولا الكلية، ولكنه هو المتلامح دائمًا على مفترق الطرق. إنه محل السؤال الذي لا جواب له إلا تسآله عينه. والتسآل بدوره ليس حالًا ذهنية صرفة. إنه محمول على الكائن المتسائل نفسه؛ ولذلك عندما نعرِّف، مع هيدغر، الحقيقة باعتبارها كشفًا، فليس المقصود ما يقدمه الكشف من معارف جديدة، بقدر ما يعنيه فعل الكشف نفسه داخل معاناة ذلك الكائن المأخوذ بمجهول كينونته، والباحث دائمًا عما يقرِّبها منه أكثر فأكثر.

الرغابي وانتقاص الكمال

إن المتعالي الذي يحقق الثورة الكوبرنيكية بإعادة هيكلة بنية العقل على أساس الاحتياز على المتناهي، بوظيفيات/ أدوات العقل المحض وفعاليتها المعرفية والنقدية معًا، هو عينه الذي يعيد إشكالية الوصل/الفصم بين المتناهي واللامتناهي إلى حيز المحايثة وحدها، جاعلًا منها مسألة كينونة حية، تعود إلى الكائن الفريد الذي يلتحم حده بحد العالم، وهو الإنسان. حتى المفارقة تصير إلى دلالة المغايرة، وحالة من حالات التعالي ضمن سياق المحايثة عينها، ليس خارجًا عنها، ولا صاعدًا فوقها أبدًا.

ومن هذا المدخل الحضاري والاستثنائي الذي قد يقع مرة أو لا يقع في عمر مدنية ما — تغدو الكينونة، كسؤال ذاتها أُسيًّا، قابلة للمعاناة عضويًّا وتاريخيًّا؛ لأنها تقع دائمًا على حد الالتحام داخل الكائن — بالحرف الكبير — الذي ينصُّ على الإنسان والعالم في دلالة واحدة واختلافية في آنٍ. ويصير الدليل على هذه المعاناة هي الرغبة، بما هي مفهمة ضاجة صاخبة، ومنحوتة من عنف الحيوية، وحدها، وكائنة دائمة في حيز التناص من كل لغة علاقة بين الوعي والعالم.

إن المتعالي الذي يتخلَّى عن المفارقة، ويلتقيها داخل المحايثة نفسها، فإنه لا يطرح نفسه هنا — أي داخل المحايثة — كجاهزية عقل محض منشئ للمعرفة فحسب، على طريقة الإبستمولوجيين، المؤولين لما «بعد الكانطية» من وجهة النظرية المعرفية وحدها، لكنه يصير تاريخانيةً للتاريخ، كما عند هيغل، أي نوعًا من مفهمة كليانية باحثة عن الكوني المشخص، أي عما يجعل الكوني يرى نفسه في المشخص، دون أن يفقد كونيته، بل تزداد شمولية كمفهوم يبقى هو نفسه، وما يختلف عن نفسه، وذلك بعد كل الخطابات المقولة عنه؛ فالمتعالي مع هيغل يكتسب فعالية الظهورية. والمعنى هنا يغادر وحدته التأملية ويبحث عن عرضه الخاص في مسرح العالم.

ومع ذلك فإن فيلسوفًا متجهمًا يتمترس وراء منبر آخر في الجامعة مجاور لمنبر هيغل، ومعه حفنة قليلة من التلاميذ والمريدين، مقابل جحافل منهم تملأ قاعة هيغل، إنه شوبنهور الذي يخترع «إرادة الحياة»، ويدخلها لأول مرة إلى المصطلح الفلسفي؛ فهو يعيد المتعالي إلى رَحِمه الأصلية، إلى مجهول الكاوس؛ لكنه يُصيِّره مجهولًا فعالًا وسط كائنات الحياة، من وحوشها ومسوخها وملائكتها المطرودين المطاردين من فضاءاتها العاصفة؛ فإن إرادة الحياة تتجاوز المعرفي والأنطولوجي، ولا عمل لها إلا أن تُعيد مركزية الكاوس في كل ما يحاول أن يبني مفهومًا، أو نظامًا، أو قانونًا، إلى إرادة البقاء نفسها. وهي إرادة أهم وسائلها: التكوين وتدمير التكوين؛ فالتاريخ ليس له من تاريخانية، سوى أنه بدون أية تاريخانية أصلًا.

لقد رأى نيتشه أن انتماءه الفلسفي الحقيقي يرجع إلى شوبنهور، وأن معارضه الأشد هو هيغل؛ فمن هو الفيلسوف الذي يستطيع أن يتعامل مع الكاوس بطريقة الكاوس وحدها، وأن يتكلم لغته هو دون أن يضفي عليها أية أوهام عقلانوية من عنده. لقد رشَّح نيتشه زرادشت أن يكون نبي الكاوس الحداثوي. وضع نفسه مرة واحدة خارج تفاؤلية هيغل بانتظام التاريخ وفق هدفيته التكاملية، وفوق تشاؤمية شوبنهور التي قطعت كل أمل يمكن أن يُبنى خارج «عقلانية» لا عقلانية إرادة الحياة نفسها. نيتشه ألغى هذا الخيار الأخلاقوي. وحاول أن يبعث بزرادشت إلى عالم فقد ثقته بالمتعالي مفارقًا، والتعالي محايثًا، وأعطاه اسمًا آخر هو إرادة القوة أو الاقتدار.

وهكذا، فالمشكلة كانت دائمًا مع أسماء المتعالي التعددية، وليس مع هُويته. ذلك أن أسماءه الشائعة عنه لا تدل عليه بالذات، بقدر ما تنادي على مُطلقي تلك الأسماء أنفسهم. ومن هنا فإن كانط قد أوفى بالمهمة، عندما جلب المتعالي إلى داخل هيكل العقل، وجعله الشريك الأهم، والمجهول دائمًا، لاشتغال العقل على أجهزته، ولاشتغالهما معًا على صنع المفاهيم، فإن الكانطية انتزعت أعظم سرٍّ من مجهول المتعالي، وجعلت منه مكشوفه الأوضح. ألا وهو استشعار الكوني واستثماره على أرض المحايثة، في صناعة المعرفي. وتركت ما يتعدَّى هذا الكشف، وتلك الصناعة إلى وظيفة أخرى للعقل العلمي، وهي «مغامرة» الاعتقاد. ولعل الاسم الأحق بالمتعالي هو الفكر. وعند الحيويين من شوبنهور إلى نيتشه إلى برغسون، يصير له اسم آخر هو الحياة، وإرادتها أو ديمومتها وتدفقها الدائم، أو آلتها الرغابية، كما سوف يدعوها دولوز. لكن «الفكر» يستوعب كل تلك الأسماء في نهاية رحلة التسمية؛ لأن تلك الأسماء، من المتعالي إلى الحياة، وإرادة الحياة والديمومة الخلاقة والآلة الراغبة، إنما هي نعوت على الاسم الواحد، وتغييرات داخل المفهمة الواحدة؛ إنها تعددية أنغام الكونتربوان في الجسم السمفوني عينه. ولا شيء يستوعب كل هذا ويبقى هو سر نفسه، مثل الفكر، لكن الفكر لم يعُد ملزمًا بطرح تنويعاته تلك إلا بما يذكر به، ويرجع إليه وحده. والرجوع إلى الفكر هو بمثابة التقاط سريع لحصة له تخصُّ السؤال في فضاء كل جواب؛ ذلك لأن الفكر لا يمكنه أن يجمد كصنم لذاته أو عن ذاته. وحركية الفكر هي إمكان التقاطه وهو في حال الفعل، وفنه هو تسآله. وهو، أي هذا التسآل، الذي يتيح لنا أن نلتقيه بما هو الفكر المفكر. هذه الصيغة تحرسه من التبدُّد في التجريد. وتجعله يجول في المسافات الفارغة ما بين المفاهيم، والقضايا، والأحكام، حيثما كل أقنوم من هذه المرتبيات المنطقية لا يعود قادرًا على الاكتفاء بمنطوقه فحسب.

لكن الفلسفات الحيوية على طريقة نيتشه وبرغسون ودولوز، أكسبت الفكر لغة الحالات. والحالة أقرب إلى إشكالية الطرح، من أجوبة الحلول. فالحالة أشبه بوضع انتقالي بين السؤال والجواب. إلا أن الانتقالي ليس من الضروري أن يؤدي إلى حيثما تنتفي لحظته؛ فالوضع بين الحالة والحل، هو إشكالي، قد يكون مرشحًا لحل لا يبلغه دائمًا. والمهم في المعرفي الحداثوي هو التقاط الحالة. إنها مفردة التفكير أو عملته الجديدة. ذلك أن الحالة تطرح الإشكال والحل وما بينهما من أزمة المتسائل نفسه؛ إذ إن السؤال المعرفي كان في أصله الفلسفي، منذ سقراط، يتطلَّب معرفة الماهية أو الأس من كل شيء، لكن السؤال الأسي ينتقل إلى سؤال — حول — الأسي، ولكن هي التعارضية La contradictoire التي حاولت العقلانية ابتداءً من أفلاطون التستر عليها بإلغاء التسآل نفسه، واعتبار السؤال الأنطولوجي بخاصة قادرًا على الانتهاء إلى جواب؛ وذلك أن الصياغة المنطقية للتصورات، وبناء القضايا، يوحي بإمكان الحصول على معارف جديدة تتجاوز إشكالية السؤال. غير أنه من المعروف أن مؤسس المنطق؛ أرسطو، اهتم بصياغة البناء الشكلي للمفهمة. ولم يحفل بمضمون أو موضوع الفهم بالذات. إنه نوع من تعليم التفكير العقلي المنظم، والذي يمكن أن يدحضه أو يتجاوزه، أو يجاوزه، نمطٌ بل أنماط من التعليم الأخرى. إنه منطق الحالة الأوسع؛ فهو الذي يتيح التسآل الأسي وسواه كذلك؛ فالتسآل عبر الحالة ليس تجريديًّا، بل حاملًا معه لحم الكائن المتسائل ودمه. ولم يخطئ أفلاطون عندما جعل الرغبة ركيزة الأس، لكن أفلاطون والأفلاطونية بعده، والعقلانية الغربية اعتبرت أن الرغبة هي النقص، وليست مجرد دليل عنه أو إشارة إليه، وأن الرغبة بالتالي تتحكَّم في مختلف حالات الكائن فردًا وجماعة. الرغبة هي نقصان الوجود، والحياة هي السعي إلى استكماله. لم يتم التمييز بين الرغبة والحاجة إلا مع الفكر الحداثوي. ولقد ظلَّ الالتباس بينهما سيد العَقْلَنة. ذلك أن الحاجة هي شعور بالنقصان، وبميل إلى موضوع معين، ما إن يحدث الالتقاء به حتى يقع الارتواء، وتنتفي الحاجة. أما الرغبة فهي ترجمة وجودية لطلب الكوني، الذي قد يعبر بطلب الأسي من كل شيء. إنه المتعالي المغروز في نسيج الكائن عينه. وهو ليس دليل نقصانه، ولا عجزه، ولا رخاصته، وإن كانت كل اصطلاحية الضعف والعوز هذه واردة دائمًا في صميم منطق الحالات، ذلك أن المتعالي هو أخصب استثمار للكوني؛ لأنه يستحضره على مستوى المتخيلة التي تعوض عن افتقار التجربة للكلي وآفاقه؛ لأن المتعالي هو الكوني عينه في حال من التفعيل والإنتاجية، على مستوى العقل المحض وجاهزياته. إنه يطرح الفكر مشخصًا ومشتبكًا في حالات أفكاره ومعها. إنه يضيف إلى الحسي، أو يكشف فيه، ما ليس ظاهرًا فيه. وهكذا فالرغبة ليست دليل نقصان وانتقاص بقدر ما هي تفتح الامتلاء والاقتدار. وهي ليست كالحاجة تنطفئ عند اتصالها بأهدافها؛ إذ ليس للرغبة ثمة غايةٌ خارجة عن ارتغابها عينه، كالعين التي هي قدرة على الرؤية قبل أن ترى أشياء محددة. ذلك هو الانقلاب الأنطولوجي بين حدي المتعالي الأفلاطوني، والمتعالي الكانطي مكتملًا مع النيتشوي الهيدغري، مكتوبًا هذه المرة بلغة الفكر وحالاته مع أفكاره حول الفهم والحياة.
قد يمكن أن يُعاد تشخيص هذا الانقلاب حداثويًّا من خلال دخول الفرويدية على مشهدية الفكر المعاصر، وما أنتجته من صراعات التأويلات التحلينفسية التي بلغت أوج مَسْرَحَتها خلال الربع الثالث من القرن العشرين، في فرنسا خاصة وألمانيا إلى حدٍّ ما؛ فالفرويدية انقضت على ثقافة الرغبة مجددًا، وأعادت صياغة مفهمتها الأفلاطونية الأصلية تحت اصطلاحية اللاشعور وآليات تكوُّنه وفعالياته، من القمع إلى التحويل والتصعيد والهذيان. ولقد استثمرت الفرويديةُ الفرنسية مع لاكان ومدرسته، وقصة هذه المدرسة خلال التكوُّن ثم التفرع فالانحلال، استثمرت ذلك الالتباس التقليدي بين مفهومي الرغبة والحاجة، فإن نوعًا من الحاجات المادية، وهي الجنسانية هنا، احتكرت أنواع الحاجات الأخرى، ثم اكتسحت اختلافية الرغبة، وحاولت أن ترشح نفسها بديلًا قهريًّا عن الرغبة، مدعية تعبيرية شمولية عن الكوني، أو حالة الحالات الوجودية كلها.٣

يستثمر فرويد فكرة النقص إلى أقصى مداها، لكن بديلًا عن نقص الكينونة لدى أفلاطون، يغدو «اللاشعور» هو بيت النقص من الملذات؛ لأن اللاشعور يغدو عاجزًا عن إعادة إنتاج سكونية الجنين أو متعية النشأة الأولى وهو جنين، في رحم الأم ثم خلال طفولته وهو في أحضانها. ومثلما كان الإنسان الأفلاطوني يسعى إلى ارتقاء سلم المعرفة من مستوى الشائعات إلى الحقائق، كيما يتاح له «تذكر» الماهيات الأولى التي كان عليها اللوغوس (العقل الكلي) قبل اختلاطه بالكاوس (العالم الخام البَدْئي)، فإن اللاشعور يدفع بصاحبه إلى التعويض عن معيقات المجتمع باختراقها، أو بالخروج على نواميسها بأفعال تصعيدية إيجابية في حال الإبداع، أو عبر الانحرافات المرضية، في حال الابتذال وعاديات الحياة اليومية للأفراد الغُفْل من الإمكانيات العالية أو السوية. إن فرويد هو أفلاطوني خالص، والنقلة التي تميزه عنه هي في شَخْصَنة جوقة الرغبة، ونقلها من مسرح التفلسف والأفكار، إلى مسرح تراجيديا العلاقات الإنسانية اليومية. فكما يكون المجتمع مانعًا ومعيقًا لأنه مقر السفسطة أي البلاغة اللفظية، ما دام يحكم الكلام اليومي في توليد المعرفة أو في دحضها، بالنسبة للأفلاطونية، فإن الجماعة، بدءًا من نواة العائلة، (الابن والأم والأب) عند فرويد هي موزَّعة الحاجات وهي القيِّمة على تقنينها؛ وبالتالي تشكل الحاجز الأول في وجه الفرد الحريص على ممارسة تعبيرية رغائبه كما هي، والعثور على موضوعات إروائها دون إعاقة، لكن الجماعة-العائلة تحول بينه ورغائبه من جهة، وموضوعات إشباعها وطرق الإشباع. فيضطر إلى كبتها فيستعيدها اللاشعور إلى قاعه، لتعيش في ظله حنينية جنينية إلى سكونية الرحم الأولى وسعادتها السهلة، المعطاة دائمًا دون تقنين كمي أو كيفي.

هنالك تصور دائمًا للحالة البدئية لدى أفلاطون وفرويد، وجدلية معينة لفقدانها، وحنينية درامية لمعاناتها؛ ومن ثم لآليات معينة لاستردادها. أفلاطون يريد من الإنسان أن يتذكر ملأ أعلى تستوطنه المُثُل أو الماهيات. وتجعل حياة المرء توترًا دائمًا بين معاناة النقص والضمور، وبين الشعور بالقدرة على تحقيق الرغبة وانتزاع السعادة. وهما الوجهان التقليديان اللذان يميزان مفهوم الرغبة الأفلاطونية عينها. غير أن اللاشعور الفرويدي يُمَسْرحها بعد أن ينجز مَوْدَنة الرغبة كليًّا (أي جعلها مادية). ويتم اختراع فكرة اللاشعور كمصنع ثانٍ للرغبة بعد رحم الأم، وكسجن لها أصغر، يناظر المجتمع خارجيًّا كسجن أكبر أو كقاعة تعذيب. وجاء لاكان كيما يُمَسْرح تراجيدية الرغبة أكثر عن طريق اللغة، فيغدو للغة قاموس ثانٍ إلى جانب معانيها المتداولة. إنه قاموس الترميزات التحلينفسية؛ فالكلمة هي معنًى موضوعي، لكنها مشحونة بدالٍّ ترميزي، بحيث إن الكلام يصير كلامه هو. يفارق الكلام التجريد والعمومية. ويتلبَّس لبوس الشخص الآخر الثاوي في عمق المتكلم والمخاطب. ﻓ «الهو» الفرويدي يتطوَّر مع لسانية لاكان إلى «الأنا» الشخصي الأعمق الذي هو مضطرٌّ أبدًا لعرض ذاته عبر الكلام؛ فالذاتي المصمَّت يفعل الآخر، يعاود انتزاع وجوده بقدر ما ينطلق لسانه محدثًا نفسه أولًا عبر حديثه مع الآخر، بل بدونه غالبًا؛ فالكلام هو عرض للذات وخصوصيتها، وفي الوقت عينه هو سلسلة أفخاخ للمتكلم. إنه يحكي بلسانه، و«عمَّا» تحت لسانه في وقت واحد؛ فاللغوي مزروع بالدال، وهكذا يرتدُّ المحلل النفسي إلى فيلسوف يحتفل بالدال كشيفرة وجودية. لا يعود ثمة مكان للاشعور هندسي يقع ما تحت الشعور أو وراءه؛ لكن يأتي دولوز فجأة فيلغي كل هذه الخرافة من الخفاء والظهور. وحتى الترميز فإنه عطاء الجسد كليًّا. هنالك الظهور وحده؛ لأن الجسد كآلة راغبة ليس له إلا أن يطفح برغباته، أن يظهر ويفرض ظهوره.٤

الرغبة امتلاء، وليست نقصًا في ذاتها، أو علامة نقص لسواها، أو دالَّة عليه، أو على ما سواها؛ فالانقلاب على الفرويدية المحدثة، كما أعاد إشادتها لاكان، وكأنها ميثولوجيا جديدة للعصر وإنسانه المحبط، هو كذلك بمثابة انقلاب يتناول مرجعية الأفلاطونية ليس للتحليل النفسي وحده، من فرويد إلى لاكان، لكنه يستهدف أيديولوجيا المشروع الثقافي الغربي عينه، ذلك أن مفهمة الرغبة على أساس التباسها بالحاجة، بما هي نقص وطلب للحقيقة (أفلاطون)، والكمال (ديكارت)، والارتواء (فرويد)، قد برَّر الانقسام الحاد بين الذات والآخر (العالم)، واعتبار الآخر بمثابة «الموضوع» الذي يقع عليه احتياج الذات واجتياحها له. وهكذا تمت ترجمة الاستشعار بالكوني، إلى طموح للتملك من الكلي؛ وفي حال تعذر تملُّك الذات للعالم، وذلك قبل اكتشاف «التقانة» فقد جرى تمليكهما معًا — أي الذات والعالم — إلى قوة أعلى منهما، وقادرة على استيعابهما، دون أن يستوعبها أحد، فنَمَت بذلك سلطة المفارقة. وأصبحت للكوني أسماء اللاهوت كلها التي تشخصنه تجريديًّا. ثم جاءت لحظة النظرية النقدية لتضع الكوني من جديد على المفترق بين حدَّي ثنائية مغايرة، بين خيار المعرفي/الأنطولوجي، أو خيار المعرفي/التقاني. وبقدر ما كان لدى كانط شعور حاد وواعٍ بتعارضية الخيارَين، فإنه لم ينج تمامًا من التباسية الحل والقطع بينهما. واحتاج الأمر إلى ما يقرب من قرنَين حتى وضع هيدغر حدًّا لذلك الالتباس. وساعده نيتشه أيما مساعدة على قشع الأطياف المشاغبة الثانوية، فأعاد فيلسوف الدازاين تفسير «العقل المحض» على أساس كونية المتعالي ونسبويته في آنٍ معًا.

ذلك أن المتعالي النقدي-الكانطي، يقدم عملًا يوميًّا للكوني، ينتزعه من علوه التجريدي والسكوني، ويشبكه بقوى العقل العارف كلها، يُمَفْصلها فيما بينها ويبرمجها مع إيقاع السيالة الحسية القادمة من عالم التجربة، بما ليس في العقل من قبل إلا العقل نفسه، أي ذلك المتعالي المشتغل دائمًا مع جاهزيات الزمكانية والفاهمة والمتخيلة من ناحية، ومقولات الشكلانية المنطقية من ناحية أخرى، لكن كل هذا الجهاز لا قيمة له، اسمية أو فعلية، إن لم ينتج ما لم يعرفه من قبل؛ وهكذا تغدو كونية المتعالي شكلانية خالصة (العقل المحض) بانتظار ما ليس مضمونها بعد. والانتظار هنا ليس زمنيًّا، بل أنطولوجيًّا ومحايثًا معًا؛ فالمتعالي ليس منظمًا للتجربة، بل مؤسسًا لها. وهنا يعني أن العملية المعرفية واقعة أصلًا تحت طائلة المتعالي. وتلك هي وظيفة المتخيلة المتعالية. بما يجعل انبناء الذات كذات، وانبناء الموضوع كموضوع، كأنما يأتيان انطلاقًا من لا مكان لأي منهما.٥ فإن انبناء الذات ذاتويًّا، والموضوع موضوعيًّا، يقع تحت طائلة هذه الوظيفة، أو بالأحرى، الجاهزية المتميزة للمتخيلة المتعالية التي هي بمثابة قبلية العقل المحض متورطة دائمًا في حمأة المحايثة نفسها. قبلية غير سبَّاقة للتجربة ولا متصاعدة فوقها. لا تشبه العقلانية المبنية بشكل سابق على الواقع، ثم المنقلبة إلى عَقْلَنة لفوضى العالم. بل هي قبلية صانعة للزمكانية ومصنوعة بها، بحيث لا يمكن التقاطها إلا بعديًّا، عبر المحايثة.
وهذا ما يدفع بهيدغر إلى اعتبار النظرية النقدية ليست ممهدة بالضرورة لإعادة الأنطولوجيا إلى مركز الفكر الحداثوي فحسب، بل إن «العقل المحض» يغدو سؤالَ المعرفي الأنطولوجي معًا؛ لأنه لا يمكنه أن يشيد عمارته إلا على أرضية هذا السؤال. وفي هذا السياق لا بد من التعامل مع المتعالي بطريقةٍ مختلفةٍ تمامًا عن كامل تراث العقلانية الكلاسيكية. فلا يعود العقل محتاجًا إلى متعالٍ مغيوب يرجع إليه كمستنَد خارج عن قوانينه (أي العقل) بالذات، بالرغم من كل طابع اللاعقلانية، هذا الذي ينحلُّ إليه كل ما يوضع خارج العقل، ويُراد له أن يفسر العقل. إذ يوضع العقل الآن أمام المجهول، ويصير المتعالي تعاليًا نحو هذا المجهول؛ لأن المقابل الحقيقي للعقل هو المجهول، أي بما هو قابل للمعلوم، وليس المغيوب الذي يضع نفسه خارج المعلوم والمجهول معًا، أو فوقهما. والعقل هو انشغال بجدلية المعلوم المجهول، ومحل هذا الانشغال هو العالم؛ فالعقل لا يقف قبالة العالم، لكنه ينخرط في حدثانه. هذا الانخراط إنما يتناول الكائن الإنساني كليته، وليس عقله فحسب. فيعود الحديث الفلسفي متركزًا حول الكائن المنخرط في الزمانية. وتلك هي إشارة نحو الأس نفسه الأنطولوجي كقاعدة للمعرفي؛ فالاشتباك مع حدثية العالم يعيد تشكيل الكائن كل لحظة باعتباره كائنًا رغابيًّا؛ إذ إن الرغبة هي إشارة الاهتمام الأولى، والاشتباك مع حدثان الاختلاف الكائن في ذاته وفيما حوله؛ ولذلك لا يمكن للرغبة إلا أن تكون فيضًا لحيوية وجودانية، وانفتاحًا على الاختلاف، تقود الحاجات ولا تنقاد بها، وعند ذلك لا تتجاوز الرغبة ميكانيات التحليل النفسي، وتنفلت إلى فضاء كينوني؛ إذ تغدو فيه الرغبة حاجةً وهدفًا لذاتها فحسب. لا شيء يُطامن من عنفها، أو يرويها فينهيها، إلا اضمحلال كينونة الكائن، وتهددها بالعدم. وهو السبب الكافي لاعتماد الرغبة على حيويتها فقط.٦

على هذا المستوى من جدلية الرغبة والاختلاف يكتسي مفهوم الكوني لحمًا ودمًا؛ فإن المتعالي الذي يتابع حرفيته الكونية في صناعة المفهوم معرفيًّا، حسب طريقة العقل المحض، إنما ينهمك كذلك في استثمار الكوني، بإعادة اكتشافه من خلال الانخراط في المحايثة بما هي وطن للاختلاف، ومعايشتها كينونيًّا — وليس معرفيًّا فحسب — بما هي مغايَرة متواصلة. المتعالي عندما يكون هو الاسم الآخر للعقل المحض، فإنه يكاد أن يوحي بأن الذات هي المطلق الذي يطرح نفسه عبر العقل العملي. وذلك هو أساس المثالية التالية كما طورها فيخته. غير أن هيدغر يعكس الموقف المثالي، فيرى أن حاجة المتعالي إلى جدليته مع مَلَكَات العقل، تدل أساسًا على فراغه من المحتوى، الذي لا يمكن أن يكتسبه إلا عبر هذه الجدلية، التي تعيد اتصاله بمصادر التجربة المحايثة. وقد اعتاد المصطلح الفلسفي على تبسيط هذه الجدلية، تحت أقنوم الشكلانية التي تنفذ وظيفية تركيبية بالنسبة لمعطيات الحساسية المنتظمة بدورها بحدوس الزمكانية؛ فالشكلانية المعرفية لا تسمح بتصور ذاتية كما لو كانت مطلق ذاتها، حسب مفهوم فيخته، والتيار المثالي كله، لكن الزمانية التي تحدد وجود الذات في صميم التناهي، لا تمنحها أفضلية على المحايثة، إلا من حيث إن الدازاين هو الذي يأتي عن طريقه بالزمان إلى العالم. بمعنى أنه هو الذي يكتشف الزمان، بتفكُّره، واعتباره عرضًا دائمًا لتناهي الذات والموضوع معًا، لكن هذا الكلام يوحي أن الدازاين، أو الكائن الإنساني هو شيء والزمانية شيء آخر. في حين أن الكائن هو زماني خالص، وبدونه لا شيء يمكن أن يحتمل الزمانية أو يدل عليها. وبين الزمانية والتناهي تطابقية. كلٌّ منهما يعني نفسه والآخر في آنٍ معًا.

وفي رأي هيدغر فإن المخيلة المتعالية هي المحل المميز لتلاقي الزمانية والتناهي عند كانط. ذلك أن المتعالي له دلالتان؛ فهو يتجاوز التجربة، لكنه لا يعمل إلا ضمن حدود التجربة. وهذا ما يسمح لهيدغر أن يؤكد أن تطلع الكائن إلى الكينونة هو حدث زماني يقع داخل العالم المتناهي، حيثما لا آفاق للكينونة إلا داخل هذا العالم نفسه. فالكائن محتاج إلى حضور وسط المتناهيات عينها، لكنه في الوقت ذاته يحاول أن يجعل من حضوره عينه، من تأكيده معرفيًّا ووجودانيًّا معًا، طريقة أنطولوجية قادرة على التقاط الكينونة وهي منسحبة. تلك هي عملية التقاط مستحيلة عمليًّا؛ لأنها تجري دائمًا على حدود المتناهيات، فلا يتبقَّى سوى تأويلات لها تعتمدها لغة الترميز والتلميح. مع ذلك، بما أن المتخيلة المتعالية تضيف شيئًا من كونية المقولات على معطيات الحدوس الحسية كيما تنشئ المعرفة؛ فهذا يعني أن بنية العقل المحض قائمة على أساس إمكانية العلاقة مع التجربة المحض، أي فهم المختلف واستيعابه، بما هو كذلك.

ولذلك، فإن المتعالي لا يتضاد مع المتناهي، بل إن المتعالي يتراكب مع التعالي، أي مع طريقة الوصول الوحيدة إلى المتناهي. وليس الأمر هنا أن المعرفة الأنطولوجية تسبق المعرفة الأونطية — أو الواقعية — كما يقول أحد دارسي العلاقة بين هيدغر وكانط (J. Rivelaygue). ذلك أن العقل المحض إنما يمثل في حقيقته جهازًا يُمَفْصل القَبْلية التي يعتبرها هيدغر نوعًا من سبق الفهم، الذي يكون سبقًا زمانيًّا ولا تقييميًّا، بقدر ما هو استعداد لانفتاح الذات على العالم. وهو انفتاح مجهز بطريقة تسمح بتشغيل حالة سبق الفهم، كما لو كانت هي من تنفيذية الفهم عينه؛ فالتأويلي لا يحتاج إلى منهج للبحث عن الحقيقة، كما عند ديكارت. بل هو في صدد إبداع طرق تعددية في كيفية الانفتاح. وليس لهذه الطرق من معيارية سوى مدى قدرتها على منح الكائن حضورًا أشدَّ يُقرِّبه أكثر من عالمية العالم، أي زمانيته الواقعية، وهو ما يعبَّر عنه في المصطلح الهيدغري عادة من خلال عملية تزمين العالم، المنتجة لتأويلية الفهم. فالفاصل بين الأنطولوجي والأونطي ليس زمانيًّا ولا معياريًّا. وقصة التسابق بينهما نحو المحل الأعلى أو الأول هي من إشكاليات العقلانية الكلاسيكية السابقة على كانط نفسه.

وقد أشاد كانط هرم العقل المحض من أجل تجاوز ذلك التمرين السفسطائي العقيم، الذي شُغلت به الفلسفة حتى الحقبة الديكارتية نفسها، وجاءت النظرية النقدية — عند كانط كيما تعيد طرح التساؤل حول الشروط المحققة لإمكانية المعرفة، بصرف النظر عن المرجعيات ذات القَبْليات المفارقة. وهذه الشروط لا تختصر في قواعد محددة؛ ذلك أنها تضع سؤال الكائن شرطًا ضمنيًّا لكل الأسئلة المعرفية الأخرى. ولا يحتم هذا الوضع نوعًا من الاستباق أو الأولوية لسؤال الكائن، بقدر ما يُظهر حاجته إلى السؤال المعرفي، بما هو حامل (أي المعرفي) لضمانته للمحايثة، من حيث هو مدخل مفهومي لإشاراته غير الجاهزة؛ فالانفتاح على الكينونة يحتمله العالم وحده باعتباره مسرح المحايثة الفريد القائم بذاته. والنظرية النقدية، عند أستاذها ومبدعها الأول كانط، استطاعت أن تجهز هذا الانفتاح بعدة المعرفية الأنطولوجية الخاصة، بالعقل المحض، بما هو تمفصل المتعالي مع التعالي، بما هو تجسير الفكر على الواقع، بتوسيط العقل العارف الفاهم، المنظِّم لعملية التجسير الخارقة تلك، والمشتغل على كنوز المحايثة نفسها، وله أن يتجاوزها إلى ما هو أشدُّ محايثة، ولكن داخل خضمها العظيم عينه دائمًا، محاذرًا الخروج منها إلى أي فراغ خادع يحسبه واقعًا وراء حدودها، وهي بلا حدود أصلًا.

المتعالي: من التأويلي إلى الإبداعي

هل نقول أخيرًا إن الكوني التقى أرضيته المفقودة، وإنه فارق عزلته التجريدية، عندما اعترفت له النظرية النقدية بنجاعته الأُسية في ابتكار صيغة المتعالي وتوظيفها في صناعة المفاهيم، وتشغيلها بين قطبَي المحايثة الوحيدَين؛ الذات والموضوع. فإن النظرية النقدية قطعت النصف الأول من مسافة الحداثة، وذلك باسترداد العقلانية من ميتافيزيقا المفارقة، فقامت بتفكيك جهازها المركزي، ودعته العقل المحض، وأعادت تركيبه بلحمة المتعالي؛ وصلته بينبوعه الأول في مركزية كل عملية معرفية، التي هي «المتخيلة»، أو مجهول الإبداع، كآخر جوهر للعقل المفكر، للفكر بما هو كذلك. وأما النصف الثاني من مسافة الحداثة، الموصوفة بالكلاسيكية، الذي تشغله الحداثة البعدية أو التصحيحية، فقد كان يعتمد تحقيقه على استكمال تجسير المتعالي بالتعالي؛ فالكانطية ردَّت للعقل المحض حقوقه المغتصبة منذ أيام الأفلاطونية وامتداداتها اللاهوتية والغيبية، لكن نصف التجسير ليس تجسيرًا كاملًا أو حقيقيًّا؛ فسريعًا ما أغرى بناء العقل المحض الشاهق بنحت تماثيل هائلة لذاتية مضخمة حتى المطلق، ورأينا أن فيخته، رائدًا أول لهذا الاتجاه، قد منح الذاتية حق الوجود المطلق لقطبها، مما يجعل كل ما عداها مساحة لتمارين القوة والتفوق. سريعًا ما يقبض على المبادرة، في هذا السياق، فعل التملك Avoir، ويطرد منها فعل الكون Etre. وهنا يأخذ هوسرل على عاتقه إنقاذ المتعالي من إعادة ألهنته إنسانويًّا، وإشغاله كليًّا بما كان عليه أن ينشغل به دائمًا، بالمجهول الآخر الأعظم الذي يمتد أمام الوعي إلى ما لا نهاية، أي العالم؛ فالوعي لا يعي نفسه عن طريق توسط العالم، أي بإلغاء العالم كقطب مختلف، وضمه إلى ممتلكات الذاتوية، بقدر ما يصير الوعي من مفردات العالم، وحالة من حالاته التي قد تحظى بالتميز عن سواها، أو لا تحظى به إلا نادرًا أو أبدًا، لكن مثل هذا الاعتراف الصريح لن يستكمل خطواته الحاسمة مع فينومينولوجيا هوسرل، مؤسسها العصري بعد هيغل، بل لا بد من منعطف هيدغر؛ ومن ثم ولادة فلسفة الاختلاف بمعقولها ولا معقولها، كما عند جيل «العلوم الإنسانية» وأساطيرها الأسلوبية الأخاذة في فرنسا خاصة.

الكائن (الإنسان) في العالم هو كائن المغايرة أساسًا. إنه في كل لحظة، هو في حال مختلفة من المغايرة وسط عالم لا تحتويه معرفة جزئية أو مطلقة؛ وبالتالي فإن المتخيَّل يسبق الفاهمة أو يمتاز عليها كموقف من العالم، كانفتاح على حدثيته اللامحدودة؛ ذلك أن الفهم لا يتناول إلا ظاهرات معينة، في حين أن الانفتاح يستثمر الكوني من جديد في أرضية من المحايثة، تتجاوز حدودها المرئية دائمًا. والانفتاح يفترض أن هناك خارجانية تفيض عن أشيائها، وأن هذه الخارجانية ليست موضوعَ معرفة فحسب، بقدر ما هي محل عروض تأويلية؛ فالتأويلي يتقدَّم على المعرفي هنا؛ لكنه لا يلغيه، وإنما يدعمه ويزوِّده بآفاق المغايرة كلما احتبس نفسه في معطيات جاهزة أو منجزة؛ فالتأويلي يحرِّر المعرفي من سلطة الحقيقة، بما هي مطلق ذاتها، ويصله بلونيات احتمالية لا تتناهى.

ومثل هذا التطور في المعرفي الحداثوي، هو نمو طبيعي لجذر أُسيه؛ ووعاه تمامًا كانط عندما جعل المتخيلة في مركزية العقل المحض (في الطبعة الأولى خاصة)، ولم يجد هيدغر محلًّا مناسبًا للمتعالي إلا في هذه الموهبة. إنها مَلَكة الملكات العقلانية. فدعاها بالمتخيلة المتعالية. إنها فضلًا عن مركزيتها بالنسبة لمختلف جاهزيات العقل المحض، التي أبدعت النظرية النقدية في تحليل تمفصلاتها، فإنها المؤهلة وحدها كذلك لتحقيق الانفتاح، وإطلاق مغامراته الأفهومية في كل اتجاه، وهذا ما يسمح للانفتاح، أن يعيد استثمار الكوني بما يغني الكوني نفسه من حادثات العالم، ويمفرد لغته الشمولية، مبتكرًا تصالحاتٍ فورية بين الخاص والعام، الجزئي والكلي، بين مفرداته تلك، وآفاقها المحجوبة؛ فالانفتاح يضيف على حاجة الفهم الحضورَ، سواء كان الحضور انهماكًا من قبل الذات في الشأن العالمي، أو تطفلًا وغزوًا للعالمي، على الشأن الذاتي والشخصي؛ وبذلك يعيد العقل المحض تجسير الحميمية بين الكائن الذي يحمله، والمحيط الذي يسكنه؛ فالكائن هو المهموم أساسًا باستطلاع العالم والتواجد فيه. وكل معرفة يجنيها منه لا تهمه حقيقتها بالذات بقدر ما توفر له من تأويلات جديدة لأحواله من ذاته ومن الغير؛ فالتأويل ليس إضعافًا للحقيقة، ولكنه يمنحها إمكانية حياة أو زوال كحقيقة كذلك. ومع ذلك فإن التأويل هو أضعف من حقيقة، وأكثر من معرفة. إنه فكر يتعامل مع المتناهي، دون أن يستبعد اللامتناهي من حقول مقارباتها، شرط أن يغدو اللامتناهي نوعًا من المتناهي، متميزًا عنه كونه لا ينجز حدوده، ولا يحسمها مرة واحدة.

والواقع فإن التأويل لا يختصر انفتاح الكائن أو يختزله. قد يقدم له جاهزية جديدة لتنظيم علاقته بالعالم، لكنه ليس وحده المنوط به مثل هذا الهدف. كل الجدة هنا أن التأويل يقبل بتعددية العلاقات، مما يسمح للكائن ألَّا يقع أسيرًا لاستقطاب وحيد الاتجاه. فكما أن المتخيلة تضيف إلى المعطيات الحسية ما ليس فيها، تمنحها إطار العام والكلية، كذلك فإن العالم مقابل الذات الحاملة للمتخيلة، يفتح إمكانيات لا تتوقعها تلك الذات، ولا تستبقها مخيلتها المتعالية نفسها. ومع ذلك يتبقَّى للكائن نفسه أن يقدر لا تناهي تلك الإمكانيات؛ فهو الذي يسميها كذلك، وهو الذي عليه أن يثبتها بطرق لا محدودة من التعامل معها. ها هنا يغدو التأويل تجسيرًا متناهيًا بين لا متناهيَين؛ المتخيلة والعالم. وإن إعادة صياغة مثل هذا النص ليست ممكنة حقًّا إلا لأن الكوني ارتد إلى داخل الكون، وانهمك في الاشتغال على جزئياته. والعمل على اكتشاف نفسه فيها، وما ليس في نفسه كذلك؛ فالكوني هو حالة صميمية، لكنها لا تُرى إلا خارجانية عن ذاتها دائمًا. وبدون هذا الواقع الذي يشبه الاشتراط الوجودي، فإن الكوني لن يبرح شرطه المنطقي التجريدي الأول.

تلك هي فضيلة كانط الأساسية التي حدَّدها هيدغر، من خلال أطروحته الهامة حول ثورة «العقل المحض» الكوبرنيكية حقًّا، كما يراها هيدغر نفسه؛ إذ إنه أعاد إلى مركز التفكير الذات والعالم؛ لم يعودا أقنومَين تجريديَّين، بل يؤلفان معًا علاقة وجودانية (أونطية – أنطولوجية) في سياق الزمانية. والعلاقة هي مركب حالات معيوشة، ليس من سبيل إلى فهمها إلا عن طريق التأويل الذي وحده يلحق بالحالة، ويفكك إشكاليتها. والعلاقة حركية، مسرحها هي الزمانية. هناك حدٌّ في العلاقة، باحثٌ عن حدِّه الآخر الذي يومئ إلى حد ثالث … وهكذا. هناك تجسير تنقصه الضفة الأخرى؛ فالزمانية فضلًا عن كونها مسرح العرض الأولي البَدئي لما تعنيه حالة انْوِجَاد الذات في العالم، فإنها ترهن علاقة تعالٍ دائم مع المستقبلية، باعتبارها الأفق الظاهر الخافي، الوحيد، الذي تتوجَّه نحوه كل علاقة، أو تعقد عليه تجسيرها غير المكتمل إنجازه أبدًا.

فالتحليل الوجوداني، وليس النفسي، هو كاشف لغة التأويلات؛ ذلك لأن الكائن هو في حالات من تلك العلاقة البَدْئية واللغزية معًا، من انشباك الذات بالعالم المحيط منه (المجتمع اليومي) والمقصي (عالمية الزمكانية). وخصوصية الحالة أنها تجمع دائمًا بين السؤال والجواب معًا، ولا تنحاز لأحدهما مقابل الآخر. وفي «الحالة» يستمر السؤال في انقضاء/عدم انقضاء جوابه.

لكن الفلسفة التأويلية لم تصبر على مفردة «الحالة» طويلًا. لا بد أن ينتابها همُّ الجواب، حتى يطغى على قلق السؤال. وصار التأويل يطمح إلى تخطِّي منطق الحالة إلى ما يشبه عودة إلى فلسفة الحدِّ. كما لو أنه لا مناص من الحد، ليس في المنطق وحده، ولكن في إغلاق الحالة كذلك. فلا يكفي اعتبار أن الذات هي في أحوال من الانفتاح الدائم على العالم. وأن الانفتاح هو دليل امتلاء وفيض. إنه ما يضفيه المتخيل من ذاته على ما ليس تعطيه التجربة، وما ليس في المعطى قبلًا. والمهم أن الانفتاح لا يمكنه أن يكون معيارًا لغير ذاته. يجيء مع المنفتح عينه، ويتعرَّف على ملامحه من خلال ممارسته. وليس معنى هذا أن المنفتح لا حد له، بل إنه يتميَّز بكونه يتعامل مع الحد، ومع ما ليس كذلك أيضًا. لأن الحد بقدر ما يعرف المعروف ويعزله، فإنه يرمز إلى ما يتخطاه ويتعداه إلى المجهول ما وراء الحد عينه. أي إن الحد ليس بما يعرضه أمامه، ولكن بما يسده خلفه. وبالطبع لن يبقى مثل هذا الحد تعريفًا أرسطيًّا، ولا وظيفة علمية. إنه مفردة تعتزل ذاكرتها الاصطلاحية كيما تنتمي إلى لغة المشروع المعرفي الحداثوي، إلى التأويل الذي لا يميز بين خطاباته بحسب فواصل الحدود الحاسمة فيما بينها، بقدر ما يتنبه إلى انسراعية كل خطاب منها، إلى شدة توترها، وكثافة دوامتها. يصير الحد هنا مؤشرًا على مدى انفتاحية الكائن على العالم، بما يسوغ له أن يعتبرها بمثابة التقاط لحقيقته، أو انغلاقيته على ذاته، قبل أن تكون انغلاقية على مسافات الشمس والرياح أمامه.

إن المتخيل المتعالي، على العكس مما توحيه لفظتاه تلكما من لا محدودية وإطلاقية، إنما يشتغل على المتناهي فحسب؛ لأنه في أصله مشروع معرفي يتوخَّى القبض على «إمكان كل» موضوع معين، لكن عملية القبض هذه هي التي تتضمن التأطير المفهومي؛ وبالتالي فإنه لا مناص من أن تشتمل على التلقائية والاستقبالية معًا. تلقائية المتخيل عينه كقدرة على منح الجزئي كلية لا يمتلكها أصلًا، واستقبالية الفاهمة، عن طريق الحدسية الزمكانية، التي تقتصر مهمتها — عند كانط خاصة — على إعداد ذلك الجزئي بما هو كذلك، أي بشروطه الواقعية الخام، كيما تسبغ عليه تلقائية المتخيل صيغته كمفردة عقلية، كمعنًى أو دلالة، كمادة لمفهمة معينة، لقضية أو حكم؛ فالمتخيل يبقى ذلك المجهول الذي بدونه يتحوَّل العقل المحض إلى مجموعة جاهزيات شبه آلية تعمل على مادة الفراغ.

ذلك هو الجانب الكانطي من الموضوع، الذي يخص العقل المحض وعلاقته التحليلية التركيبية مع أجهزته الإدراكية. أما الجانب الهيدغري الآخر، فهو ما يعنيه وجود العقل المحض نفسه في العالم، ما يتعدَّى حدَّي الذات الموضوع كطرفَي عملية واحدة، عنوانها تشكيل المعرفة، إلى تلك العلاقة اللغزية الأشد عمقًا والتباسًا بين الكائن والكينونة. وهي العلاقة الأخرى التي يشتغل عليها المتخيل المتعالي، بما يتجاوز كثيرًا مسألة فَهْم الفَهْم، إلى مسألة الكون واللاكون. وهما ليستا وجهَين لسؤال واحد، بل إنهما السؤال عينه الذي لا يُفهَم دون أن يُوجَد، ولا يُوجَد دون أن يُفهَم. وبمثل هذه الصراحة البسيطة يقارب السؤال الفلسفي، الراهن عصريًّا دائمًا، أصعب أسئلة العصر في ذاتها، وأكثرها فُجائيةً في أجوبتها.

ربما، يمكن القول إن التأويلية كانت آخرَ محاولةٍ لاستنقاذ الكوني، وتجديد تشغيل المتعالي ضمن حدود المحايثة، وفيما يخص مسافة الالتباس بين الذات والعالم؛ فلم يفُز مصطلح الكينونة بالمحل الفلسفي الأول من جديد، وبعد غيبوبة طويلة، ترجع بدايتها إلى ما قبل الحداثة الكلاسيكية نفسها، إلا بعد أن أخذ «الموضوع» كامل حقوقه مع العلم، وكاد أن يأخذ معها حقوق الذات كذلك، ويخلفها هكذا مجرد شبح هائم، يعبر بأطراف «ذاتوية» مطلقة، فاتحة على حسابها الجاري، عالمًا خاضعًا كليًّا لسيطرة ألهنتها المادية المستعارة من عصر الألهنة التيولوجية؛ فمن مرحلة إهمال وإدانة مطلقة للمحايثة باعتبارها مقر النقص والشر والعبثية، إلى مرحلة الارتداد عليها، والإقبال على عالمها غزوًا وفتحًا باسم إنسانوية إطلاقية من حيث هدف استيعاب الآخر كليًّا، وخَوْصَنته — أي تملكه مركزيًّا وخصوصيًّا — من قبل تلك الإنسانوية الإطلاقية عينها، التي لا تجد مركزيتها إلا في ذاتوية التحدي والغزو والاستملاك؛ فقد كانت النقلة بين المرحلتَين، أو السرعتَين، تمتطي دائمًا وحشًا مدنيًّا، دُعي فكر التبرير. وكانت أداته الأولى هو المعرفي، الرافض مقدمًا أي نعت أو صيغة لا تنبع إلا من ذاته. بمعنى أن مفهمة المعرفي لنفسه هي أصل وحيد لمفهمة كل آخر. وما دام الأنطولوجي الذي لا يمكن للمعرفي أن يقارب مجهوله إلا بوسائله التي تخصُّه — أي المعرفية وحدها — فإن مجهول الأنطولوجي الآخر، ينتهي إلى مجرد فئة فارغة — على حد تعبير كارناب Carnapp. ونعني بمجهول الأنطولوجي الآخر تلك المساحة الشاسعة، مما لا تنفع معها حراثتها بأدوات المعرفي كما يحددها، ويستخدمها العقل المرتبط بحدوس التجربة، وهي المساحة التي يختلط فيها عادة المجهول برديفه الآخر المضاد: المغيوب.

التأويل يراهن على عطاء المجهول بما يمكن أن يقدمه المجهول من بعض المعلوم عن ذاته، أو بما يمكن للتأويل نفسه أن ينتزعه منه انتزاعًا؛ ولذلك يحتاط التأويل من محاولة المعرفي احتواءه كليًّا؛ إذ إن التأويلي يسمح لنفسه باختراق تسويرات المعرفي وتجاوز شكلانية منطقيتها الصارمة. فلا يجد التأويلي نفسه ملزمًا دائمًا بتقديم تبريرات لأطروحاته. من هنا كانت نقطة القوة والضعف في تلك الأطروحات. ومع ذلك فإن التأويلي لم يُعفِ نفسه من تقاليد البرهنة تمامًا، وهو لا يزال مواليًا لقداسة الحقيقة، إلى درجة أن بعض التأويل قد ينجح إلى حدود ادِّعاء الفرادة في معاودة التواصل أقانيم إطلاقية يُلصِقها بالحقيقية. وهكذا جنحت المذهبيات الفكروية الكبرى إلى إقامة ديانات أيديولوجية حديثة؛ هذا، رغم أن المذهبية في الفلسفة عادة تنفر من توصيفها بالتأويل. لا تصبر على تصنيفها ﮐ «طريقة» في رؤية الحقيقة، وتطلب دائمًا أن تكون هي الناطق الوحيد باسم الحقيقة. ولا شك عانى تاريخ الفكر أشق معاركه الحداثوية من أجل إعادة تجريد التأويل من حاكمية التبرير، ذلك أن التبرير يجتهد في تقديم «التسويغ» في النظام المعرفي، بديلًا عن التعليل في البحث العلمي. والتسويغ هو ما يجعل فكرة ما مقبولة لدرجة اعتبارها صنو الحقيقة. غير أنه ما دامت المنطوقات الفكروية عامة عاجزة عن إثبات نصوصها عن طريق التجربة الاختبارية، فإنها تجنح إلى الاستنجاد بمختلف وسائل الإقناع اللسانية، العفوية منها، أو الممنهجة. فإن ألفاظًا من مثل الصلاح والمصلحة، الخير والسلام، واحترام القيم، قادرة على إسناد التسويغ بقوًى لا علاقة لها بمنطوق المعنى في النص الأصلي. والمجتمع ضالع باستمرار في ابتكار أنظمة الإسناد هذه، فليس ثمة معنًى يخلو من هالات اللامعنى التي تحوطه وتمازجه، وتتدخَّل في منطوقه وتأثيراته، لكن هذا لا يضطرُّنا إلى طلب المعنى الخالص؛ فإن تخليصه من كل شوائبه، قد لا يُبقي على شيء منه؛ لأنه ما هو الفاصل حقًّا بين الخاصية الأصلية، وغيرها في هذه التحفة غير المنجزة المسمَّاة المعنى وتخومها الالتباسية مع اللامعنى. فالتأويل الذي قد يعتبر تقدمًا على الدغمائية لا ينجو من التنميط إلا بمزيد من تأويلات، أو بابتكار طرق أخرى في التعامل مع مفردات التفكير. هنا فالتأويل يداهمه حنين التسويغ، وعند ذلك يعيد إنتاج نفسه من خلال الصيغة عينها التي يعترض عليها. وهي اعتماد التسويغ نفسه كآلية شكلانية، بديلًا عما يسوغه، أي عن موضوعه الأصلي سواء كان معنًى آخر أو دلالة هامشية.

في حين أن التأويل يتعارَض مع التسويغ جذريًّا. فهذا الأخير «التسويغ» هو بمثابة برهنة متأخرة على مفردة تفكيرية جرى تصديقها مسبقًا. أما التأويل فهو ارتحال عبر الممكنات التفسيرية غير ملتزمة مسبقًا إلا بنزوع الاستطلاع وإرادة البحث والكشف؛ فالتأويل لا يخرج عن ذاتي هدفه. أي إنه لا يرى نفسه خارج تساؤله الذي يخصه وحده. وهكذا فالفلسفة التأويلية أعفت نفسها، بصورة عامة، من أعباء البرهنة وفق أساليب التجريب العلمي الشائعة؛ فهي ليس لديها من الحقائق النهائية التي تقسرها على برهنتها وتثبيت تصديقها؛ ذلك أن التأويل جاء في أصله يأسًا من استراتيجية مكرسة بكل طقوسها للنطق بالحقائق المطلقة، و«تسويغ» منطقها. ومنذ أن أخذ العلم على عاتقه إنتاج «المعارف»، فإن الفلسفي تحرَّر من ازدواجيته مع ادعاءات «اليقيني». وما إن تحقق فهم هذه المزدوجة، حتى أصبح من السهل على الفلسفي أن يحرِّر الحقيقة بدورها من إلزام اليقينيات. لا يعود التعريف التقليدي للحقيقة بما هي حصول اليقين، إلا إحدى طرق المحاورة مع الحقيقة، وليس طريقها أو معيارها الأوحد. إن التأويلي لا يرفض اليقين، ولكن عندما يتعذَّر حصوله، فليست الأدلجة البديل، ولا المماحكة أو المواربة بدائل أخرى، بل هو تحقيق المزيد من الانفتاح على العالم بما يكشف فيه عن تعدديات الآفاق، التي تستثير لدى المتسائل ممكناتٍ تفكيريةً لم يكن داريًا بها أو متوقعًا لها. وهكذا لا يضع الفكر التأويلي نفسه أبدًا ما بعد الحقيقة، بل ما قبلها، دائمًا، مع هذا الاحتياط، وهو أنه لا يعترض سلفًا على اليقين، وكذلك على الريب. فهما من صدف التسآل نفسه، ومن لُقيا الترحال عينه. والمهم أن التأويلي يرفض استعباده من قبل باب وحيد مفضٍ إلى الحقيقة، وجهه اليقين وقفاه الريب.

التأويلي يتجرَّأ على «طرق» الحقيقة كما على «أقنومها»، وليس ذلك إنكارًا لوسائلها، وتجنيًا على قداستها. بل لأن أعظم ما يميز قداسة الحقيقة، عن سواها من القداسات الأخرى المحايثة أو المفارقة، هو أنها وحدها قابلة للانتهاك، بهذا المعنى، وهو أن قدسي الحقيقية يجذب ولا ينبذ، يصل ولا يقطع. يدفع إلى المزيد من التورط أكثر فأكثر، وأعمق فأعمق في دهاليزه وغرفه المظللة؛ بحثًا عن أقباس من أنوار تكافح أشباح الأنوار، ولا تبلغ مرة نصرًا محسومًا عليها. فإن قداسة الحقيقة الحقيقية هي التي تنمِّي «ثقافة» انتهاكها. وتبني جاهزيات الانتهاك؛ فالحقيقة تصاب بالتحنيط مع التصديق، وتولد مختلفة عن نفسها كل لحظة مع الإنكار. ومن هنا يأتي تواضع التأويل، يكف عن إصدار الأحكام، ويكتفي بنسج خطابات، ولا يشتغل مصطلحه على خطاب معياري مسكوت عنه، همه إثارة الفروق بين «عفوية» الرأي، دوكسا، و«إطلاقية» الفكرة/المثل، أوردوكسا. بل يفضل التأويل التقاطهما معًا، باعتبارهما من أحوال الفكر وهو يحيا حياته اليومية لا بين الرءوس فحسب، بل بين الناس وأجساد الناس. وهكذا فإن تصنيفات من نوع الكوني والنسبوي، وما بينهما من صراعات الكليات، تزيل ما بينها من أسوار التحدي التجريدية. وتفتح ممرات سردية بين خلاياها المغلقة. ذلك أن أهم ما يرد التأويل إلى الفكر من مفقوداته المنسية، هو السرد. والسرد هو سيولة اللغوي قبل أي تمفصل مفهومي أو اصطلاحي في سياق النص. وكل ما يفعله التأويلي هو أنه يرد المفهومي والمصطلحي إلى أصله السردي، أو أنه يمنح المفهومي فرصة مجيئه، ونظامه السردي معه.

الفكر المفكر ينقذنا من الاختيارات المستحيلة، فكل خيار هو انحياز لواحد، وإعدام للكل المتبقي. وليس صحيحًا في لغة التأويل، أن كل خيار هو انحياز لأنه هو إكراه في حقيقته. بل إن هناك مبدئيًّا حالًا عامة هي خيار الخيارات، والخطوة التالية ناجمة عن توفر دافع لاجتياز تلك الحالة العامة من خيار الخيارات، نحو الدخول إلى فضاء الخيارات والتيه بين إغواءاتها ومحظوراتها، هذا الدافع الأول هو الانضمام إلى صف الحياة، والقول نعم لخضمِّها الهائل؛ فالوقوف على الشاطئ ليس كالاندياح مع أمواج اليم، لكن التأويلي يتلاطم مع الموج العارم، وعيناه على الشاطئ والخضم معًا. تلك هي صناعة حداثوية للكوني. إنه يتكلم لغة البر والبحر معًا، الساكن والمتحرك. يعطي السردي تمفصل الخطابي. وينشر التمفصلات الخطابية حكايا سردية جديدة. لا يسقط التأويلي ممارسته بين حدَّي الوصف أو التوصيف، بين استنساخ «الصفة» أو اختلاق تحضير «الوصفة»؛ ذلك لأن المؤول أشبه ما يكون بكاتب روائي. يهمه أولًا حدوث الكلام أو الكتابة قبل كل تصنيف أو توصيف. وبالنسبة للتأويلي فإن حدوث الفكرة في نصه هو بمثابة نقلها من وجود النص، إلى نص الوجود.

مثلما برهنت الكانطية أن الكوني هو العقل المحض نفسه، باعتباره يحمل إمكان التجربة: «فإن شروط التجربة هي كذلك شروط موضوعات (أو أشياء) التجربة»، وهو ما يسميه هيدغر المبدأ الأعلى، الذي يُمكِّن من إشادة الميتافيزيقيا النقدية الجديدة؛ نقول مثلما كان الأمر كذلك بالنسبة لمفهوم الكوني عند كانط، مؤولًا من قبل هيدغر، فإن التأويل يريد أن يحيط بمعطيات التجربة، من حيث اتصالها الفوري بالسؤال المركزي للكائن، وهو: كيف يمكنه أن يعيد ربط كائنه بما لا يعرفه بعد من الكينونة؟ فإن الموضوع لا يولد محمولُه من تعريفه، حسب النموذج المنطقي الأرسطي، بل يتلقاه من سواه، وهو هنا هذا السِّوَى، الآخر الراهن دائمًا، تلك الكينونة القادمة المنسحبة. لحظة انتظار الراهن من خلال الفوري تحدد الصيغة الأنطولوجية للتأويل باعتباره حادثًا أونطيًّا أصلًا، عابرًا من زمن إلى زمن. فما يتيح هذا التآخذ الأونطي الأنطولوجي هو المتعالي، أو المتخيل المتعالي، الذي يعلن عن انبناء كلٍّ من الذات والموضوع عن طريق هذا التآخذ المتنامي عبر اندراجهما معًا في سياق الزمانية. فما يحدد التجربة، كبنية أونطية أنطولوجية، هو المتعالي. كما أنه بدون التجربة لا عمل للمتعالي، مرتدًّا عندئذٍ إلى مجرد معنًى ذهني خالص، أو قابلية معرفية فطرية على طريقة عقلانية القرن الثامن عشر وما قبله؛ أو يغدو مرتدًّا إلى أبعد، نحو الكوسمولوجيا اللاهوتية للقرون الوسطى.

وهكذا وجدت الفينومينولوجيا الطريق معبدًا أمام تحقيق النقلة النهائية من مفهوم للمتعالي قاطرًا وراءه كل تلك الذاكرة الخاصة بتعارضية المفارقة والمحايثة، إلى مفهوم التعالي المحسوم لصالح العلاقة الأفقية بين الوعي والعالم. فأصبحت مفردة «الظاهرة» في حد ذاتها قَيْمَنةً وحدها بتجاوز التراث المثالي الألماني الذي استأثر بالتفسير الذاتوي الإطلاقي للكانطية، وكاد أن يمحو ثورتها النقدية، محرفًا نتائجها نحو نوع من الدغمائية المتعالية المأخوذة كليًّا بمشروع عَقْلَنة كليانية للعالم، تُشرعن ألهنة الإنسان أسطوريًّا واستعباده للآخر، لكل ما عداه، الطبيعة، العالم، الكون اللامتناهي.

غير أن الأَلْهَنة الإنسانوية الاستبدادية تبدأ أولًا، وضمنًا، من تحديد هُوية خصوصية لإنسان فارقي، ممعن بتمييز تفوقه على الهويات الأخرى لبقية الإنسانية. وهو الإنسان المميز، الذي يُخَوصِن الكوني الإنساني والميتافيزيقي لصالح خصوصيته المفترضة، والمصنَّمة جوانيًّا باعتبارها مبدأ المبادئ الذي يعلل كل ما عداه، ولا يدع أحدًا يطالبه بسؤال ذاته.

مولد العالم فلسفيًّا

ينتقل المتعالي في اللحظة الثالثة بعد الكانطية والهيغلية، من الذات العارفة إلى الموضوع: العالم. صار الذاتي يطمح إلى العالمي باعتبار هذا الثاني هو موطن الكونية. والفلسفات التأويلية المعاصرة، بدءًا من مؤسس الفينومينولوجيا المعاصرة: إدموند هوسرل، أطلقت أغنية العالم، شرط أن تغنيها كل ذات، كل نموذج ذاتوي بحسب حاجته/قراءته لهذا العالم. ها هنا ليس المهم الاعتراف بمَبْدئية العالم أو أولويته، على ما لهذا الاعتراف من دلالة انعطافية كبرى في تاريخانية المعرفي الحداثوي. بل الأهم هي طريقة التعامل مع كونية العالم؛ فالمشروع الثقافي الغربي لم يحتفل بالعالم إلا باعتبار أن كونية العالم هي المعادل الطبيعي للرغبة، بما هي مطلق ذاتها؛ فالرغبة ليس لديها حاجة ما إلا أن تكون ذاتها في كل ما هو عداها. ولا شيء يتسع لمثل هذه الحاجة إلا العالم. وبدلًا من إنكار العالم في هنيهة من أجل إعادة إثباته عن طريق إثبات الذات، حسب الجدلية المثالية في هنيهة تالية، فإن التأويلية تقترح الانطلاق أولًا من إثبات العالم وإنكاره في آنٍ معًا؛ لأن وجود العالم كواقع مضاعف بوجوده كلغز؛ فهو من نوع المبذول والممتنع في وقت واحد. والإنكار هنا قد يعتبر متقدمًا بالنسبة إلى النفي الذاتوي؛ إذ إن الإنكار هو توتر بين النفي والإثبات. إنه ينصبُّ في الأقل على موضوع قائم بطريقة حيادية نسبة إلى الذات. غير أن الإقبال عليه يصطدم بالامتناع؛ فالعالمي لا يعطي نفسه إلا مداورة. كونه يتمتَّع بوجود اللغز أولًا. واللغز هو مزيج من المجهول والمغيوب معًا. يمتلك ما يدفع إلى الفهم، إلى التفكير أكثر، وفي الوقت عينه يوفر ثمة حضورًا للمغيوب، من حيث إنه يحف بالمجهول وتتماوج ظلاله المبهمة على ضواحيه.

إن إنكار العالم كما هو يكرر رفضًا قديمًا للمتعالي المنفصل، لكنه اليوم يسلِّط عليه العلم لكي يقتحم معاقل مجهوله، وفي الوقت عينه ينكر عليه حقَّ التعامل مع مغيوبه كما لو كان يؤلف «خصوصية كونيته» العائدة إليه وحده، وعلى الرغم من التعارض الذي يحتضن هذه العبارة: خصوصية كونيته، فإن الذاتوية، الفاتحة على حسابها فقط، تجدد اعتصامها بالإنكار الذي يثبت من حيث هو ينفي، وبالعكس. وما تنكره هذه الذاتوية، عبر مختلف أحوال الأَلْهَنة والأَنْسَنة التي ملأت بها مضامين الرغبة الإطلاقية لديها، هو استقلالية العالم، أي ما يشكل صميم تعاليه، أو ما يعطي العالم كما هو. فمع حقبة المتعالي المفارق كان يتم قديمًا إلغاء العالم أنطولوجيًّا ومعياريًّا معًا. ومع حقبة المتعالي المتذوت معرفيًّا — بأداتيه — استبيح العالم كساحات تجليات وفتوحات لغزوات الذاتوية الانتصارية. وصار المتعالي متلبسًا كاشفًا لتلك الساحات، وقائدًا لتجليات وفتوحات لغزوات الذاتوية الانتصارية. وصار المتعالي متلبسًا لأفعال التعالي، مسوغًا لاعتباطيتها، مُعَقلِنًا لعبثيتها، مخترعًا لنفسه في كل حالة تسويغية، نمذجة مشبعة بكليانية أدلجية بديلة عن كونية زائفة مستعارة. فإن صراع الكونيات الكونية مع بدائلها من الكليانيات الأدلجية والانتصارية؛ لم يكن مجرد صراع الأصول مع الفروع الزائفة، بقدر ما كان ناجمًا دائمًا عن عجز الإرادويات عن تظهير الكوني بأسلوب عينه، وليس بطريقة أدعيائه. الأمر الذي يمكن أن يعبر عنه اصطلاحيًّا بالفارق المفهومي بين التعالي والمتعالي. وهذا الفارق ليس إبستمولوجيًّا فحسب، لكنه يعود إلى ذلك الإشكال الأصلي الذي يدور دائمًا، منذ فجر الفكر، حول طريقة التمفصل بين الأونطي والأنطولوجي.٧

سؤال الفكر: كيف يكون العالم عينَ ذاتِه؟ ليس هو أسهل الأسئلة إلا لأنه أصعبها على الإطلاق.

يقدم تاريخ المتعالي عروضًا متتابعة لأحوال الذات من سؤال العالم، وقد تفرعت هذه الأحوال إلى ثلاثة حزم أو أبعاد. فإما أن يكون سؤال العالم باحثًا عنه فيما هو خارج عنه أو مفارق له، أو أنه يتجه إلى محايثته داخل نسيجه عينه، أو أنه يرتدُّ به إلى مصدر السؤال نفسه. أي إلى الذات. والأبعاد الثلاثة هذه مثلما ضمَّت «أحوالًا» من الذات، كذلك كانت تقترح بدائل عن السؤال الأصلي؛ فالإشكال ليس خيارًا بين المفارقة أو المحايثة، ولكنه يرجع دائمًا إلى الحد الثالث المسكوت عنه، وهو الذات التي تتعامل معهما أصلًا. تخترعهما وتوظفهما، وتحركهما جهة العلو والخروج، أو جهة الشَّخْصَنة والمقاربة. ومن هنا فالكوني يُعرَف بنسبياته، كما أن المتعالي يُلمس من خلال مقارباته. والمسألة لا تتوقف على دراسة هذه الأوضاع الفكروية في حدِّ ذاتها، ولكن على التقاط «الذات» وحالات أفكارها معها، وعند ذلك يغدو الكوني كونيات، والمتعالي تعاليات، لكن هذا لا يقودنا إلى الانحباس داخل برغماتية تجهل نفسها. فإن إثبات كون المتعالي تسمية أخرى للرغبة كمطلق ذاتها، قد يساعد على تقديم نسق حركي للكوني. فكما أن المتخيل المتعالي يضفي على المعطى الحسي الخام، ما ليس فيه، وما يجعله معرفيًّا، فإن الرغابي، كتعبير عن الذاتي بما هو تحرك أونطي نحو الأنطولوجي المختلف، هذا الرغابي يحقِّق كذلك تعاليًا يضيف إلى موضوعه ما ليس فيه، كيما يجعله هدفًا لحاجة، لا يلبث الرغابي أن يتجاوزها من حيث هو يطلبها. هذه الإضافة إلى المحسوس الخام، والموضوع الرغابي الناقص دائمًا، تقرِّب المسافة بين المتخيل والمتعالي. يغدوان متضايفَين فيما بينهما. والفضل هو للعقل المحض على الطريقة الكانطية التي أكدت الأصل الإبداعي لكل معرفي. فإن الفهم هو الإبداع في جوهره، وليس درجة في سلمه. وإن العقل هو على طريق الإبداع ما دام يخترع عالمًا من الصور والمفاهيم والأحكام موازيًا ومتخطيًا لعالم الأشياء الخام، لكن المتخيل مسكون بالكوني، متضايف مع المتعالي؛ لأنه مدفوع إلى تحرير الجزئي من جزئيته، وإعانتنا على فَهْم الموجود بما هو غير موجود. أي بما يمكن أن يضيفه العقل المحض بفضل مَلَكاته المعرفية، على الموضوع، من هيكلة قَبْلية Le schématisme apriorique تنقل المحسوس الخام من قابلية الحدس الزمكاني إلى تفعيل المعرفي. فالمتخيل ليس هو الوعي الظاهري ما دام مرتبطًا بمَلَكات العقل المحض تلك؛ ذلك أنه لا يمكن تخيل شيءٍ دون أن يكون متحدًا بشكل بنيوي مع ملكتَي الحدس والفاهمة. كما أن المتخيل هنا معطوف على المتعالي. فليس هو ذلك الخيالي بالمعنى النفسوي الإجرائي. إن له نزوعًا نحو آفاق الموضوعية، أو الشمول الذي يهيمن من خلاله معنى الكينونة، فالمتخيل المتعالي. وتلك هي صلاحيته الأساسية، يضع العقل المحض، بمختلف مَلَكاته المعرفية، تحت طائلة الاستشعار بالكوني، الذي هو الضامن لتحقق الجَسْر على العدمي نحو الكينوني، أو على الأقل الهاجس بلقاء الضفتَين، وكما يقول هيدغر: «إن المتخيل المتعالي لا يتخيل الحدس المحض، ولكنه يجعله ممكنًا في جوهره الحقيقي.»٨ وذلك بمعنى أن الحدس حتى يتمكَّن من أن يغدو جسرًا موصلًا بين المحسوس الخام والمعرفي؛ لا بد له من التحرُّك في آنٍ واحد وسط محورَين أحدهما هو إمكانية أن يمسي الحدس حدسًا محضًا، والآخر هو إمكانية أن يصير المحسوس محسوسًا محضًا. ها هنا إبداع المتخيل المتعالي، ذلك المجهول الحقيقي الذي بدونه لن تقوم لأي معلوم قائمة.
فالمتعالي، إذا ما انقطع عن التعالي — أي الحدوس الزمكانية — يتحوَّل إلى تجريد، ويدفع إلى تصور ذاتية مغلقة على نفسها، كما هي لدى النزعة الأوحدية (le monisme). ولا بد أن يتحول العالم عندئذٍ إلى امتداد لجوهر الذاتوية، وإلا سقط خارج الفهم والاعتبار. فالأوحدية رقم أصم لا ينضاف إلى غيره، لكنه يمنع كل عملية ريضنة إن لم تتسلسل من جوهره، وتتحرَّك داخل إطاره المغلق. ومن هنا لا يمكن للمتخيل المتعالي أن يشتغل إلا على مادة ليست له أو منه، ويوفرها له عمل العقل «العادي»، واشتغاله على المتناهيات، التعدديات الوافدة إليه من العالم، باعتباره هو عينه الذي يتلقَّى المتناهيات ويتعامل معها على أنها كذلك، لكن التلقِّي ليست وظيفة محض نفسية أو أنتروبولوجية، ليس انفعالًا بالشيء، بل مشاركة بناءة لشيئية الشيء، إن لم تكن صانعةً لها. وبذلك يصير انفعال التلقي فاعلًا للتلقي. وعند هذه النقلة الانسراعية، يومض حدث ما فوق تجريبي، اختلافي عن كل معطيات التجربة، ويسمى: الفهم؛ فهو من مجهول العقل «العادي» الذي يصير عقلًا محضًا قارئًا لدلالات الأشياء، وليس لمفرداتها اللفظية فقط، منشئًا منها جاهزيات أولية من الأفاهيم المفتوحة دائمًا التي تغزو، مع ذلك، عوالم المجاهيل حولها، وفي ذاتها أيضًا، معمقة نقصانها بمزيد من غموض المجاهيل تلك؛ فالنقلة من العقل العادي، إلى العقل «المحض» أي إلى الفكر، ليست ارتحالًا هندسيًّا من الدائرة الأضيق إلى الأوسع، ولا تصاعدًا تراتبيًّا بين طبقات هرمية، إنها بالأحرى ما يشكل حادثة الفكر المفكر الذي لا يكتفي بالفهم، وإنما بفهم الفهم، أي ما يبني المفردة ويفكِّكها في ذات اللحظة؛ والتفكيك في أصله — قبل ابتذاله أميًّا وعاميًّا — كان يعني تمرينًا على التعاطي مع الفكر المفكر كحادثة نفسه أولًا.
إن فَهْم الفَهْم يعني رده إلى أصله في المتخيل المتعالي، وهنا لا يرد «الأصل» بمعنى السبب، ولكن بما يفيد المشاركة في مُركَّبه synthèse. ذلك أن الفهم عملية تركيبية زائدة على موادها الخام من المعطيات الحسية. وهي تشتغل على مفردات تخصها وحدها، اعتبارًا من الصور والمفاهيم والأحكام. وما إن نقول صورة — وهي المفردة الأولى للفهم — حتى تحضر المتخيلة. وتصير المتخيلة متعالية ما إن تستثمر الكلي في الصورة. ذلك أن وظيفة الكلي في تفكيك بنية الصورة هنالك بذرة أولية تتصاعد من خاصية الكلي هذا، المحمول في نسيج الصورة نفسها. والكلية حتى تتحوَّل إلى كونية وشمولية لا بد من إعادة إنتاجها كمفهوم يصنعه المتخيل المتعالي. ولقد بيَّن كانط نفسه هذا الفارق بين الكلي والكوني بدءًا من تحليله لمهمة الحدس، بقول مباشر: «إن المكان والزمان هما في حدس الأشكال قبل تشكيليَّين pré-formatrices.» وسوف يدعوهما هيدغر أو يلحُّ على طابعهما الحدسي الخالص٩ أو المحض. فهما يجعلان الموضوعية البعدية، ممكنة قبليًّا كيما تكون موضوعية بعدية في هنيهة تالية، بل في ذات هنيهة البعدية. وهذا التوصيف لعبارة «المحض»، ليس سوى إثبات إجرائي للمتخيل المتعالي في كل العمليات ذات الطابع التركيبي التي يحققها العقل المحض، بدءًا من الحدس الذي ليس هو جسر عبور حيادي للمعطي الحسي نحو الفاهمة. فهو لا يعكس كمرآة حيادية. إنه يتلقى، ويفعل فعل التلقي عينه. ومن لحظته تلك يشرع في ممارسة المهمة التركيبية للمتخيل المتعالي، المتصاعدة من الصورة التي لا توجد عقلانيًّا، إلا في تصور، الذي لا يوجد بدوره إلا في مفهوم. وهو لا يوجد إلا في حكم أو عبارة؛ فالقول «العادي» هو ذاكرة مفاهيمية هائلة، والعقل «المحض»، الفكر، هو ذاكرة الذاكرة، شكلانية التشكيل وتركيبية التركيب؛ ولهذا لا يمكن للعقل المحض، للفكر، إلا أن يكون في أُسِّه الأنطولوجي تفكيكيًّا. إنه يصنع ما يشكل الشكل؛ وبالتالي فإن متخيله هو متخيل الأصول به، شرط أن تفهم الأصول كطريقة في صياغة الوحدة التركيبية للعقل المحض إزاء تعددية التجربة. وما المقصود بالوحدة التركيبية هذه في المصطلح الحديث سوى تلك القدرة الإضافية للفكر على إعادة صياغة التجربة بمعطياتها الاختلافية، وما يزيد عليها كذلك. أي بما ليس فيها أصلًا، وهو المعقول نفسه، أو المبدع الجديد.

إن صيغة: الفكر المفكر، تستحضر تراث النظرية النقدية، تعصرن البناء الفذ للعقل المحض في طبعته الكانطية الأصلية. تسترد ذاكرة التحليلات التركيبية للمتعالي، باعتبارها رسَّخت لأول مرة مركزيةَ المتخيل في صميم عمل العقل. أصبح المتخيل يغذي الكوني، ويمنح المتناهي تواصلًا طبيعيًّا مع اللامتناهي دون أن يفقد الأول شيئًا من تجوهره، تحت طائلة تناهيه بالذات. وفي حين تكتفي الحدوس الحسية بإنشاء الصور عن الأشياء، فإن المتخيل المتعالي يُنشئ من الصورة «مادة» للتصورات التي ليست هي أشياء، بل ممكنات. وكذلك فإن المفاهيم هي حزمة ممكنات؛ وبالتالي كل اللغة المفهمية ليست سوى أبنيةٍ متعالية. أو بالأحرى ليس لها ما يعادلها من «أشياء» التجربة. كل لغة الصور والتصورات والمفاهيم والأحكام والمحاكمات … إلخ، هي عينها منوط بها بناء عالم موازٍ للعالم الشيئي، ومتدخل في شئونه، حتى العلوم المادية فهي تركيبية، بمعنى أنها تفعِّل المعدوم عن الموجود، أي تأتي بالمتخيل إلى صميم المتحقق، وتفككه وتعيد بناءه، بما يختلف فيه عما كان عليه قبل صدمة المتخيل للواقع، وتفجيره على طريقة العلم أو الفن أو الفكر.

إن الفكر المفكر يقف دائمًا على هذا الحد من صدم الواقع بما ليس فيه كيما يغدو واقعًا مختلفًا؛ ولذلك ليس الفكر المفكر موقفًا تأمليًّا، إنه متورط بهم الصدم، صدم الواقع. إنه ليس فارسًا معرفيًّا فحسب، بل هو كذلك مَن يضع الحد أمام فروسية المعرفة من أجل إنقاذ المجهول نفسه من غرور الاختزال وترف السيطرة المجانية. ولقد حاول كانط أن يؤسِّس الأخلاق، في «نقد العقل العملي» على النظرية النقدية بوساطة المتخيل نفسه، لكننا في هذا العصر الذي يدفع إلى التفكير أكثر من سواه، دون أن نتفكَّره كفاية، نحتاج إلى قلب المعادلة الكانطية دون التخلِّي عن وساطة المتخيل. أي إننا مضطرون حقًّا إلى تأسيس النظرية النقدية نفسها على نقدية الفعل الأخلاقي، بالمعنى الأتيكي هنا، فليس «الواجب» هو الكلي لكونه مفهومًا أولًا لدى كل العقول، ومقبولًا ثانيًا لدى كل الناس الطيبين الأحرار؛ وبالتالي ليس الواجب كذلك فعلًا معرفيًّا ينقلب إلى سلوك ومواقف قيمية؛ فالقيمة لا تترجم كليًّا متعاليًا، لكنها تؤذن بدنوِّ الكوني. والانصياع للواجب قد يكون تهربًا من تحمُّل أعباء الفردية، يدفع إلى انضواء حمائي تحت عباءة الكل. إنه استنقاذ للذرة المنعزلة من الاستفراد والانفراد، واندراج طوعي قسري معًا، تحت الادِّعاءات الشمولية.

فالمتعالي، مثلما لم يعُد يمكن ترجمته إلى المفارق اللاهوتي والغيبي بعد كانط، كذلك فإن الواجب الأخلاقي يصير إلى تحرُّر إتيقي؛ والالتزام بأوامر الكلي، يتحوَّل إلى سيرورة انعتاقات كحوارات ناقصة مع الكوني. وما إن نقول حوار مع الكوني حتى نفهم أن الكوني هو في المحاور نفسه؛ إذ إنه هو الذي يطلبه، ويستشعره ويبحث عنه، ثم لن يلقاه إلا في طلبه عينه. فما يزيد به الكائن الإنساني عن سواه من كائنات الأرض، هو أنه حامل لعبء الكوني، ومضطر للبحث عنه خارج كيانه، في حين أن ليس له — أي الكوني — من إقامة إلا داخل هذا الكيان، لكنها من نوع إقامة المترحل، الذي لا يستقر له مقام إلا في نفيه وإنكاره على ذاته. وهذا أصل إحساس الكائن كما لو كان غريبًا عند نفسه. والغربة عند النفس تفصل ما بين ذات النفس، ما بين حدَّي هذا النسق الكلامي الذي يكرر عينه اختلافيًّا؛ فالذات تصير هي غيرها في ذات النفس، كما النفس كذلك. فالمغايرة حركة ثابتة داخل الهُوية عينها، وليست نقيضة خارجية عنها. والنسق التكراري الاختلافي: (ذات النفس)، يقدم الترميز اللفظي ولا يستوعب الدلالة كلها، ولكنه يشكل العتبة ويقف عندها، فينقلب إلى حالٍ من التسآل.

إن عزبة ذات النفس عن عينها أو ذاتها، بما يجعل تكرار اللفظ اختلافيًّا في نسقه، هي محل التسآل. والتسآل هو سلوك الهُوية مع نفسها اختلافيًّا. وهذا «السلوك» هو الذي يصفي الأخلاق إلى إتيقا؛ لأنه في الفرد المتبقي، والمغادر كل مرة من حال توترات التوازنات المستعصية بين الحقوق والواجبات داخل «العقد الاجتماعي»، من وضع الاغتراب «العمومي» اللاشخصي بين الأنداد داخل العمومية العامة التي هي حيادية هجومية، تستهدف تحييد الخاص من خصوصيته، والفرد من فرديته … والعائد إلى وضع الحميمية، التي لا تخلو من مقاربة السر مع سر نفسه، المعبَّر عنها بالهُوية الاختلافية … ذلك الفارق، باستحالته الدقيقة، بين النفس وذات النفس، مبعث الغربة والغرابة الصميمية، هو حد الانكسار «الإبداعي» للحميمي على الكوني، بما يقلب الحميمي، أخص الخاص، إلى حافة الكوني. في تلك اللحظة النادرة ينبثق استشعار الكوني كأنه قدرة واقتدار على تحمُّل الحرية بدون تقنين.

الإتيقا ليست أخلاقيةً فردوية، لكنها هي تصفية «الأخلاق» إلى صَفْوتها، بما يساعد الكائن على استعادة اتصاله بالكوني الكامن في ذاته والمفارق لها في آنٍ معًا، وهو غير العمومي الذي يكرر صنع الذات شيئًا شائعًا بين عاميين آخرين، وإذا كان الإتيقي هو الفوز بصفوة الخلقي — بعد تصفيته من سائر أخلاقوياته العاموية — فليس ذلك إلا لأن الإتيقي يفتح باب المجازفة كلها مجددًا أمام اللامتعين، كما لو كان هو العدم، لكنك تحس نداءه يخترق عروقك الوجودية من أقصاها إلى أقصاها، كما لو كان هو أقصى الوجود. تلك هي من فورية الكوني، ومن فُجائيته غير المنتظرة؛ فالكوني يأتي أو لا يأتي أخيرًا. والمهم أن الكوني هو ما يؤذن بدخول لسعة الفكر على الأشياء والألفاظ والأقانيم والأصنام من كل نوع. ينتزعها من حياديتها اللاشيئية، وينقلها دفعة واحدة إلى منطقة الشيء القائم هناك، على مسافة من الفهم والتعامل. ويتحقَّق المثل القديم «ما يتحداك هو ما تجهله»، و«العلم نور»؛ لذلك فالفهم إبداعي أصلًا، إنه خالق المعرفة؛ لأنه قادر على تلبية الكوني الكامن فيه، والاستجابة لتحدي المجهول أمامه؛ فالفهم يعيد خلق الأشياء على مستوى التصورات والمفاهيم والأحكام. كل ما يعيق الفهم إنما يفتئت على الكوني؛ ولذلك إن كل المختزلات والتصنيفات والتشبيحات الناطقة باسم الكوني إنما هي افتئات عليه، عندما تختصر ربيع كل سنة، بموسم سنة واحدة. ذلك أن من يحاول احتكار الشهادة على الكوني، فلن يشهد هو ذاته، إلا على نسبيته الزائلة. والزوال هنا هو في منع الفهم، أو امتناعه، وليس في معاناة عجزه. فلا سبيل للتعاطي مع الكوني إلا بوساطة النسبي، شرط اعترافه بنسبيته دائمًا، تلك التي تمنحه شرعية في نظر نفسه أولًا؛ إذ إنه بقدر ما يؤكد محدوديته، فإنه يذكر بلامحدودية الكوني على حوافيه المنفتحة. وهذا عكس السائد في التفكر الاجتماعي، والسياسي منه بخاصة.

الكوني هو أقرب ما يلقاه الفكر عند ذاته وقبل أية فكرة كانت. والفكرة التي لا تحمل لسعة الكوني في جسدها، فإنها لن تثير أفكارًا أخرى باحثة عن أجسادها غير الملسوعة بعدُ بفُجائية الكوني. والفكرة التي لا تتحمَّل لسعة الكوني ولا تحملها لسواها، قد تحاول التعويضَ إما بادعاء تملك الكوني في ذاتها، أو احتكار علاقة به تخصها وحدها. وبهذا ينقلب الكوني إلى وساطة لسواه؛ بمعنى أنه يصير إلى موضوع استثمار لا يفيد إلا في إنتاج القداسات والتحريمات؛ بما يبعده أكثر إلى ما وراء صيغة المغيوب؛ وبالتالي تنشط مؤسسة «الوكالات» المُمَنْطِقة١٠ لغيابه، والمُقَدْسَنة لتواريه، ثم المدعية للنطق باسمه وحدها، والمشرعة لمعاييره. هكذا تسيطر تعارضات الوكالات ثم حروبها، و«ثقافتها» على مجمل العالم القديم. ثم تمتدُّ منه إلى عالم الحداثة التي تحوِّل الكوني بدورها إلى أخطر سلاح حضاري. تتعدَّد المرجعيات الأحادية الطاردة والمطاردة لبعضها، وكلها تدَّعي صلةً استثنائيةً وأوحدية بالكوني المحايث الجديد. فالمفارقة تنتقل من الاستقطاب العمودي إلى استقطابات أفقية نحو كل جهة؛ بحيث تتمتَّع جميعها بمركزيات طاردة لبعضها.
يغدو الكوني في الحَراك التاريخي مطيةً لكل صيغ التعميم والأدلجة والمذهبة والتطويف الانغلاقي، وصولًا إلى التشميل السياسي والسلطوي أخيرًا، لكن الحداثة التي تفوز بوعي متزايد لممكناتها بقدر ما تكتشف من سقطاتها الذاتية، وعقباتها الموضوعية، لا يمكنها إلا أن تطوِّر من فعالية العقل النقدي. وذلك من أجل إنقاذ المتعالي من التباساته مع الكليانية، سواء التحقت بالمفارقة الغيبية، أو تخثَّرت في تجسيدات الفعالية الاجتماعية والسياسية، كما يقول هابرماس «إن نقد العقل هو من إنجاز العقل نفسه. ونحن مدينون لهذه العناوين الكانطية المتداخلة، بذلك الكشف المضاد للأفلاطونية جذريًّا، وهو أنه لا يوجد شيء على الإطلاق يعلو أو يدنو عمَّا يمكننا أن نسميه، نحن الذين نلقى أنفسنا منخرطين فيما لنا من أشكال الحياة المُنْبَنِية بواسطة اللغة.»١١

غير أن ما نسمِّيه هو الذي لا يلبث حتى ينفصل عنا، ثم نجعله يمارس علينا سطوته أو سحره الخاص، كما لو أنه لم يعُد مصنوعًا بأسمائنا. وفارق عظيم بين أن يكون المتعالي صانعًا للفهم أو مانعًا له. وهو الخيط النحيل الذي يميز الفكر الذي لا يرجع إلا إلى نفسه، والفكر الآخر الذي يتخثر في بعض مصنوعاته، معوضًا بها عن إعادة اكتشاف العالم وفُجائيته المبدعة.

١  من الملاحظ أن اهتمام هيدغر ﺑ «تأويل» كانط ينصب على إيجاد الأس الحداثوي للميتافيزيقا بعد استهلاكها لتراث المفارقة الذي ملأ كل آفاقها الكلاسيكية. وقد تنبه مترجمًا كتابه إلى هذه الملاحظة، وبنيا عليها مقدمة الكتاب المعمقة.
Ibid., pp. 9–50.
٢  انظر الكتاب المشار إليه سابقًا حول دروس الفلسفة الألمانية.
٣  يمكن مراجعة التأثيرات المتبادلة بين فرويد والفلاسفة في كتاب:
P. L. Assoun: Freud, la philosophie et les philosophes, PUF.
٤  G. Deleuze et F. Guattari: l’Anti-Oedipe, Minuit.
٥  J. Rivelaygue: Leçons de la philosophie allemande, p. 349.
٦  يعتبر كتاب دولوز: أوديب مضادًّا ذروة التحول من نهاية الحقبة التحلينفسية التي تزعمها لاكان ومدرسته شبه الصوفية، نحو الحقبة النيتشوية الهيدغرية. وقد يكون لانقلاب مفهوم الرغبة من النقص إلى الفيض، الأثر الأهم في الانفتاح على مفهوم الاختلاف، باعتباره الصيغة المحددة لعلاقة الذات بالعالم.
٧  الأونطي: نسبة إلى الوجود في ذاته. والأنطولوجي نسبة إلى «علم» الوجود كما تتداوله نظريات فلسفية أو عقائدية.
٨  Heidegger: Kant, p. 197.
٩  Ibid., pp. 228–237.
١٠  أي المُضْفية صياغةً عقلانية على سرديته.
١١  Y. Habermas: Droit et démocratie, p. 11.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥