(١) هل يمكن سُكنى العالم شعريًّا!

من تَشظِّي الذاتوية إلى «فن» الانهمام بالذات

التمثال المنسي

لماذا يُنظر إلى الفكر عاميًّا كما لو كان نقيضًا للعشق؟ لماذا حالُ التفكير لا تبدو متوافقة مع حال العاطفة؟ بل قد يسلِّم الحس العام بتعارضهما «البدهي». ومع ذلك فالثقافة حافلة بأفكار الحب. بمعنى أن الفكر يمكنه أن يفكر الحب، لكن ألا يمكنه كذلك أن يكون حبًّا، أو على الأقل أن يخالطه بطريقة ما. مثل هذه التساؤلات تذكر سريعًا كيف أن التفكير في الحب، قد يمضي نحو الروحانيات غالبًا، ويهمل الموضوع الأقرب لكل حب، وهو الجسد؛ فهذا الأقنوم الموجود وحده هنا والآن، وكل آنٍ، فإن وجوده منجز وفاعل وفارض بنيته وأعضائه ووجهه. ومع ذلك فالتفكير نأى عنه، وليس «الفكر». كما لو أن حامل الفكر، وحامل الحب ليس هذا الموجود اللحمي الحي الذي أعتبره جسدي، ولا أعتبره ذاتي. فإن الجسد يخضع لحكم الامتلاك. فهو جسدي — الياء هنا تلحقه إلحاقًا بمركز آخر هو أنا — هو ذاتي. فلست كائنًا جسدي، بقدر ما أنا كائن ذاتي. هناك فاصل بين الامتلاك أو الاستتباع وبين فعل الوجود؛ فالجسد قد أمتلكه كما أمتلك متاعًا آخر. وهذه المسافة بيني وبين جسدي، هي التي جعلت الذات ترى نفسها في الفكر، ولا ترى نفسها في أفاعيل الجسد كما هو؛ فهذا المنفصل عن الجسد والمتواجد معه في ذلك، قد يسميه الحس العام الروح والنفس. ويسميه الفلاسفة الفكر والوعي والعقل … إلخ، هذه الثنائية مسلم بها، مفروغ منها. وقد كانت موضوع تفكر بها، ولكن غالبًا بعد التسليم بها، وهو الموقف عينه اليوم الذي يرفض أن يرى الدماغ مقرًّا ومستقرًّا لأفاعيل التفكير؛ بالرغم أن هندسة الجينات تكاد تكتشف لكل وظيفة نفسية محلًّا ماديًّا في برنامج الجينة الإنسانية؛ فالافتراض بأن للفكر استقلالًا، وأن له أصلًا قائمًا بذاته، إنما هو محاولة لمد الاعتقاد بانفصالية الروح وتميزها. وهكذا فإن قيام الذات على مسافة من جسدها، وهي غير قائمة إلا به في الآن عينه، حكم العلاقة به أن تظل علاقة امتلاك، أو تجاورٍ متنافس ومتصارع، لكننا لنسرع في القول كذلك إنه لو لم تعطِ التجربة الحية المباشرة ثمة استشعارات تعزل الذاتي أو النفسي عن الجسدي بطريقة، لما أمكن تعميم هذا الحدس في مختلف مناحي الحضارة. ذلك أنه قد يعمل الجسد كوحدة مع النفس، لكنها تلك الوحدة التي تذكر دائمًا بثنائية الاستقطاب داخلها بين طرفَين. كل فعاليات البشر ترد إلى «ذواتهم» وليس إلى أجسادهم. حتى عندما يهتم العلم والرياضة وفنون الموضة والتجميل بالجسد، فإن ثمة موضوعة صامتة وراء هذا الاهتمام، وهي أن العناية تتوجه إلى جسد الإنسان، كمظهر له أو كمجمع لكل مظاهره؛ فالإنسان هو مظهره، وما يتعداه في آنٍ. وهذا التعدي أو التجاوز التراجعي، إنما يبدأ من المظهر ليعبر إلى ما وراءه.

وفي هذا العصر الذي يحتفي بالجسد أيما احتفاء، لا يفعل ذلك إلا من أجل الاحتفاء بمالكه الأصلي. حتى توصيف الجمال للنساء والقوة للرجال، إنما هو توصيف للأصيل (الذات) عن طريق الوكيل (الجسد). وإذا ما احتفلت الآداب بأوصاف أبطالها، فهي تقدِّم حضورات البشر من خلال مزاياهم الجسدية والمعنوية. والسرد الحركي السينمائي بالصورة أو الكلمة يريد أن يقدم أشكالًا نمذجية، ليست أجسادها إلا نوعًا من زخارف مظاهرها أو ثيابها عينها؛ فالجسدي هو كائن بالواسطة وليس بعلَّته نفسها. وهو لا يفوز إلا بالاعتبار الثانوي وراء الأولي، فإن ماديته المباشرة لا تشفع له إلا بالتقويم غير المباشر. وإن حضوره الفوري لا يؤهله إلا للمجيء متأخرًا. وهكذا فإن الظاهر ليس هو الحقيقي، أو إن الواقعي جدًّا ليس هو الحقيقي تمامًا. ومع ذلك فالجسدي هو الوجه. ولفظة الجسدي هي الوجه بالنسبة للفظة الجسد، رغم أن اللفظة الأولى أقل حضورًا ماديًّا وفوريًّا من الثانية، بل إن هذه الصيغة من الصفة المشبهة (نحويًّا) ليست سوى حيلة تصريفية للتخفُّف قليلًا من مادوية الجسد. إنها صيغة تمتُّ إلى الفعل الذاتوي أكثر من مادوية الجسد عينها؛ فالمواربة النحوية تزيح الشيء، وتخدم رمزيته. ولن يُعرَف الجسد بوجهه فقط، إن لم يكن وجهَ الذات التي تطلُّ من ملامحه وعينه ولسانه.

الجسدي يتمتَّع بوجود وجهي. ويكاد لا يُعلَن للجسد ثمة مثولٌ إلا إذا كان يحمل وجهًا يواجه به بقية الوجوه. والمواجهة هي عيون تتلاقى، وكلمات تتقاطع، وملامح تتجاوب مع ملامح مقابلة، والإنسان، وليس جسده فحسب، يكاد يُختزل كله في وجهه. وها هنا يمكن للذات وجسدها أن تتحدا في اختزالهما، ويُعيدا انبعاثهما معًا من خلال الوجه الذي يصير له اسم يعرف به: وجه فلان أو فلان. أو بالأحرى هذا الحكم المباشر: فلان، هذا هو فلان. يقول لساني ذلك ما إن يراه، لكنني أرى وجهه؛ فالجسد الذي يصير وجهًا، يقدم لي في التو كائنًا. والكائن تعينه الذاكرة فورًا بإطلاق اسمه. فالعرفان وظيفة وجهية، ولكن عندما لا يبدو الوجه، ويغيب جسده، صاحبه، فإن الاسم يصير هو الوجه المنطوق المرموز، المتجول خارج مسافات الجسد، صاحبه، المسمى به. وإن ترداد الاسم، أو المناداة عليه، تستحضر الوجه إلى ذاكرة المنادي، كأنه هو، أو تبعثه من محفوظاتها؛ فالوجه هو الجسدي الأبرز أو الأظهر الذي يختزل الجسد، في الوقت الذي يختزلهما الاسم معًا، لكن الاسم هو الوجه المنطوق أصواتًا، مقابل الوجه المطبوع ملامحَ وأمارات. وأما الجسد الجسدي فهو سجين مظاهره الكسائية الاجتماعية؛ فالإنسان عاش تاريخه كما لو أنه عاشه كيما يتخلَّص من مشهديته الأصلية، ليغدو الوجهَ والاسمَ فحسب، منتهيًا إلى هذا الكائن (اﻟ) بدون جسد.

فكان حريًّا بفرويد أن يخترع مصطلح الجسد اللاجسدي بدلًا من اللاشعور. ذلك أن تغييب الجسد وهو قائم موجود، شكَّل علة ازدواج الشعور بنقيضه، أي اللاشعور؛ فاللاشعور الاصطلاحي — أي التحلينفسي — هو استغياب الجسد رغم واقعيته. وبذلك يمكن أن يُحمل عليه كل ذلك العالم الغامض الذي قد يقف الجسد بمثابة الحاجز أمامه. ولقد يمكن للاشعور أن يصبح بمثابة الروح أو النفس ما دامت تنكر عليه جسديته أي ماديته الأولى. من هنا فإن الطريق المسدود الذي انتهت إليه حقبة التحليل النفسي كان شيئًا محتومًا؛ لأنه يفترض انعدام الموجود الذي هو الجسد، وقيام اللاشعور بديلًا عنه. والعيادة النفسية راهنًا تغلق أبوابها لتنفتح العيادة الفلسفية؛ ذلك أن الفلسفي هو تفكر الموجود أولًا. غير أن الجسدي يستحوذ على الموجود الحي للإنسان، الذي يتبخر معناه إن لم يثبت كل لحظة فورية انتمائه إلى قاعدته الجسدية بالذات؛ فالنص الأصلي للفلسفة هو الملفوظ، هو الحوار بين الأجساد، بين البشر الموجودين. ولم تنتعش الفلسفة انتعاشها الأهم إلا عندما كانت كلمات تتبادلها ألسنةٌ لأوجهٍ متعارفة تحملها أجساد متجاورة، كما كانت بين سقراط وصحبه؛ فالفيلسوف الحواري، هو كائن جسدي يتكلم ويناظر كائنات جسدية أخرى من نوعه. وهذا هو الحضور الذي تقترن حقيقته بواقعه. إنه يقيم حادثته. تغدو جسديته هي مرجعيته الماثلة دائمًا، هنا والآن؛ فالموجود المتكلم هو المتفلسف الأول بامتياز مبدئي وضروري. وكل الكلام إن لم يثبته جسده المتكلم أولًا يصير إلى نص مجرد. أما الجسدي فهو الذي يتمتع بفورية نصيته وتعبيريته الضرورية في آنٍ معًا.

فالجسدي هو البرهان المسبق لكل ما سوف يصدر عنه من فعل حركي أو كلامي أو كتابي. الجسدي هو أصل النص. وما لم يستطع كل سرد مفهومي أن يفرض بيانه أو برهانه كما الجسد يفرض فوريته، فإنه سائر إلى الصمت العدمي. والتعابير الدلالية المشبعة بالمعيارية مثل البيان والعيان، والواقع والحقيقة، كلها توعز بامتثالات تشبه امتثال الجسدي، لكن المعايير العليا تصعد من الجسد لكي تتناساه. كما لو أن كماله الخاص تفتقر إليه كل الكمالات الاعتبارية الأخرى. إن الجسدي مخالط للدلالي والمعياري معًا مهما ابتعدا عنه. وسوف يظل الجسدي هو المعياري الأول المسكوت عنه تحت اسم اللاشعور، والدال الأصلي الذي تتحاشاه الدلالات اللغوية، على طريقة لاكان.١

إن تعريف أرسطو للفن بالمحاكاة يثبت الأصل النموذجي أو الذي يصير النموذج لكل ما يقلده. والفن التصوري أو النحتي كان استعادةً للجسد، وعندما تلاشَت ثقافة الشكل أصبح اللون أو الحركة ترميزًا للأصل المفقود الذي ينبغي إعادة استحضاره. والمسافة بين المحاكاة والاختلاق، أو اللاشكل، ليست سوى حنينٍ مقلوبٍ في الاتجاه: بدلًا من العودة إلى الأصل ومبارحته، هناك حركة تقدم والتحاق بأصل آخر، قد ينتميان إلى المتذوق أكثر منه إلى صاحبه المبدع. وتلك هي لغزية الإبداع؛ فإنها إعادة البحث عن الأصل فيما لم يعُد يملك هذه الواقعة أي «الأصولية»، ولا حتى ترميزها. فالتعريف ما بعد الحداثوي للفن هو على العكس من المحاكاة، يتجاوز الأصل والنسخة، يخفف من الواحد المركزي الأقوى، لحساب واحدات أضعف، يحررها من الارتجاع إليه، ويسمح لها بتقديم مولودها الخاص بدون سلالات، تتعدَّى درجة الأب أو الأم المباشرَين. وذلك على حد قول نيتشه: «هناك الإله كان يريد أن يكون الإله الأوحد، مما جعل بقية الآلهة يغرقون في ضحك جنوني، حتى كادوا يموتون من الضحك!»

إن المحاور، المنهمك في إيصال فكره إلى الآخرين، يسعى إلى مفهمة كلامه والتدليل على معانيه، وتكرار التعبيرات حول تفاصيله، كما لو كان يريد حضورًا لكلماته يماثل حضور جسده إزاء محاوريه، فإن معيار الوضوح يستمدُّ من «بيان» القامة والوجه وحركات العينَين وسيولة النظرات، وأخيرًا: الأصوات، هذه المادة المرنانة الشفافة التي تجنِّحها كلماتي كيما تصير أصداء لي عند غيري؛ فالكلام لا يوجد بدون الجسد وأعضائه، وخاصة اللسان، لكن الجسد، وخاصة في حال سَعْي الكلام للتعويض عن إباحيته أو استعرائه، إنما يقدم جسدًا آخر عن لحمه الخاص؛ فالوصف الإباحي — كما يقول كلوسوفسكي Klossowski — لا يقصد تقديم الجسد باستقلال عن سرده الخاص. فلا وجود للإباحي قبل اللغة أو خارجها، مفسرًا ذلك دولوز؛٢ مثلما أن النص اللاهوتي، كما بيَّن نيتشه، إنما يقدِّم إلهًا لغويًّا فحسب، بصرف النظر عن وجود عيني أو افتراضي للأقنوم المؤله أو المقدس نفسه، لكن ما نريد نحن أن نبيِّنه هنا، في هذا السياق، هو أن مبدأ الانهمام بالذات لا يمكنه أن ينطلق من فصل في الذات بين «نفسها»، و«جسدها»، لكي يعيد في لحظة تالية [نَفْسنة] الجسد، وتجسيد النفس. فاللقيا الإناسية (الأنتربولوجية) الأولى، لم تلحظ هذا الانقسام؛ ولذلك قد يرى الأخلاقويون في الفصم خطوة حضارية، ملأتها الاعتقادات الثنائية.
والمعرفي الحداثوي يريد أن ينأى بخطاب الجسد عن أيِّ حديث حول الانقسام والتوحيد، سواء سبق أحدهما الآخر أو بالعكس. فإن الانهمام بالذات، ليس له ثمة موضوع سوى هذا الموجود الذي يكون أول ما يحده هو ما يفرضه كيانه اللحمي، هذا القائم أمامي هنا والآن، ولكن ما إن يشرع هذا «الموجود» بالكلام حتى يقال: إنه — هو — المتكلم. والضمير يفترض الارتجاع إلى ذات، واعية متكلمة. هنا تبرز لفظة إنسان، كيما تقدم أوضح تعريف عن أكثر الضمائر غموضًا وإحراجًا. ذلك أن «الإنسان» حاول اختلاق كل أشكال السرد الأخرى، كيما لا يتبقَّى له سرد ما يخص جسده وحده. فليس ثمة لغة لا تحتوي على ضمائر تنوب عن الذات، وليس عن الجسد. لا أحد يقول: جسدي يريد، بدلًا من «أنا»، و«أنت» و«هو». حتى إن الضمير لا ينوب عن الجسد؛ إذ ليس ثمة قول «عاقل» يحيل الأنا إلى الجسد، لكن ليس ثمة لغوي يمكنه أن يحذف، فعلًا وواقعًا، الجسد من المتكلم. قد يمكنه أن يحيد عنه، أن يعلق وجوده، لكنه لا يلغيه. وهنا أصل التعارض بين الجسدي واللغوي. وحول هذا التعارض، قبوله أو رفضه أو «أَسْلَبة» التعامل معه، انبثق تفكر الجسدي في النص الفلسفي المعاصر، كما لو كان تحققًا فجائيًّا مع موعد تاريخي مستحيل. أو كان كذلك — أي مستحيلًا — حتى انطلقت سردياته من قمقمها الضائع والمخفي، ليس في لحظة الحداثة التقليدية، ولكن من تصحيحات الحداثة البعدية، ووثبتها المحورية حول الجسدي كبؤرة تَبْيِئة خارقة لأشكال السرد، المَفْهمي والفني.

وعندما كان التفكُّر الفلسفوي يشتغل على «الفصم» بين الجسد و«الروح»، من أجل قهر الأول، والانتصار للثانية، فإن الفني كان وحده ينشئ ترميزات مناظرة للجسد، ونائبة عنه بدون كيانيته اللحمية المباشرة، لكن الإغريق أنشئوا المدرسة الكلاسيكية الأولى في فن المحاكاة قبل أن يفلسفها أرسطو، ويؤسس عليها نظرية الإبداع التي سادت حتى أواخر عصر النهضة الأوروبية. وقد انتهت المحاكاة الإغريقية إلى إقامة التوازن بين الأصل والشبه. وكان التفوق في إسباغ كمال الشكل على الشبه، نوعًا من رفع مصداقيته الفنية إلى مرتبة النظير للأصل، بما هو مستقلٌّ عما يحاكيه، ويناظره في الوقت عينه؛ إذ إن المحاكاة الفنية تترجم الاعتدالية الأخلاقية والعقلانية السقراطية. وفي الحقيقة لم يجرِ قمع الجسدي إلا مع المسيحية التي وحدت بينه وبين «الخطيئة». وهنا اتبع (الانهمام بالذات) منهج التقشف أو التنسك الذي يبالغ في دونية الجسد وتخطئته قبليًّا؛ ولذلك لم يستطع فن الرسم والنحت أن يسجل انبعاثه مع عصر النهضة، إلا عندما تحقَّقت النقلة النوعية من «لوحات» المماثلة مع الكائنات الملائكية أو اللاهوتية إلى استعادة مركزية الجسد الإنساني في اللوحة النهضوية.

فالمسيحية رفعت مثلًا معارضًا للمثل الإغريقي لتحقق الانهمام بالذات؛ فقد تعتني بالجسدي هادفة إلى تخليصه من ماديته، وذلك بحرمانه من جنسانيته؛ فهو مرصود كمحل للدَّنَس قبليًّا، أي حتى قبل انخراطه في أفعاله الواقعية. وإذا كان له ثمة من واقعية، فهي واقعية الضلال التي ينبغي تحريره منها، بالقضاء على واقعيته نفسها. وهنا فإن سلطة المعرفة — بالمعنى اللاهوتي — تتسلَّح بادعاء الحقيقة ضد باطل الأباطيل: هذا الوجود في العالم. والمقصود منه هو التجسُّد ماديًّا إنسانيًّا. هنالك نوع من الانهمام بالذات معكوس إذن. ويقوم على ترسيخ الفصل بين الواقع والحقيقة. واعتبار الحضور الجسدي مناقضًا للحضور الذاتي، ومانعًا له. فالجسدي هو الغائب، وينبغي له أن يكون كذلك، بالرغم من واقعيته، وأما الذاتي فهو أشبه بالسجين في القفص المادي، ولا بد من تحريره منه.

إن ثقافة الفصل لا تعترف بالتوزُّع بين الحدود. بل إن حدًّا واحدًا لا يقوم إلا بإلغاء الآخر. في حين أن العقل الأفلاطوني اعترف بدوره كموجة لعربة يقودها الفرسانِ الأسود والأبيض. وما دام حسن التوجيه — أو الضبط والقيادة — قائمًا، فإن للفرسَين وجودهما المتوازن. وهكذا فإن انتظام العربة لا يتطلَّب إلغاء الفرس الأسود تخوفًا من لونه وتهوره «القَبْلي»، وإلا فإن العربة ستضلُّ طريقَها المستقيم. ذلك أنه لو تُرك الأمر لجموح أحد الفرسَين لحدث الانحراف عن «الصراط المستقيم»: وهذا يعني أنه ليس ثمة بياض مطلق أو سواد مطلق، وأن الانحراف نحو أحدهما قد يعادل الانحراف نحو الثاني، من حيث إنه يلغي انقياد العربة على الصراط المستقيم. فلا خير مطلق، ولا شر مطلق. وعيش المرء هو الخط الثالث بينهما. وهو وحده الخط الممكن بالرغم من صعوبة تحقُّقه. وهنا تتدخل «الحكمة»؛ فالمرء لا بد له أن يكون فيلسوفًا أصلًا؛ لأنه مطالب في تفكراته وتحركاته أن يفوز بذاته كما لو كانت حكمًا بين الطريقَين. لا بد من تحليل العمل وإخضاعه للنظر. والإنسان هو الفيلسوف والمعاني في الآن ذاته. ووجوده جدلي بكل تأكيد؛ ولذلك فإن «معرفة» الخير محكومة مسبقًا بمعرفة الصواب، ولا وجود للصواب إلا مقابل ضده: الخطأ، و«العقل» هو المحل المؤهل لاحتضان جدلية المعرفة هذه، لكن العقل لا يجلس في المساحة الفارغة بين الفرسَين، بل لا بد له أن يمتطي صهوة الواحد، في عين الوقت الذي يقود فيه الآخر، وهكذا فإن الإغريقية لم تستطع أن تقدم مفهومًا مستقلًّا لملكة عليا تسمى الروح. وبقي الجسد هو مفردة الوجود الأولى والأخيرة. ليس مسرحًا لسواه، ولا مسكنًا موقتًا لكائن أعلى «سقط» إلى هاويته أو سجنه اللحمي؛ فهو الساكن الوحيد للبيت وهو البيت، ولن يكون مأوًى مفروضًا أو اضطراريًّا لغيره؛ فالتسوية بين سطح الجسد وجوفه سمح للإغريقي أن يُنشئ فنًّا قادرًا على جعل «المحاكاة» تكرارًا للأصل، وليس استنساخًا مفصولًا عن الأصل. وهذا ما سمح للتمثال المنحوت أن يحلَّ محل صاحبه. فإن تماثيل الآلهة من جوبيتر إلى أفروديت تصير لدى الإغريقي هي الآلهة عينها.٣

إن أعماق الجسد هو سطوحه وقد عَلَت إلى المستوى الظاهر؛ فالجسد هو البدن حسب اللفظ العربي بمعنى «البادي». ومنه كذلك كلمة البادية، بما هي وساعة الامتداد اللامتناهي البادي للعيان؛ فالبدن هو الجسد في حال من الاستعراء القبلي. إنه عُرْيه الذي ليس له سواه، ولا شيء يختفي داخله إلا هو، ولا شيء وراءه كذلك؛ لأنه كاد يكون شفافًا حقًّا لولا الجوف الفيزيولوجي الوظيفي الذي يملؤه. وكل هذا التوصيف لا هدف له، بعد الفينومينولوجيا، سوى عزل الذات عن الهُوية، وجعل «الداخل»، ليس جوهرًا قائمًا بذاته، وكل ما سواه من الخارج، وفي الخارج، مجرد أعراض له؛ فالداخل لا ينطوي على مبدأ الهُوية، لكنه قد يتحوَّل إلى لغز لا يسبق تأويلاته في الخارج، عبر الأقوال والأفعال والعلاقات بَيْفردية، وبَيْذاتية؛ فالذاتي ليس نقيض الجسدي، ولا حاكمًا أعلى فوقه؛ لكنه، أي الذاتي، هو ما به الجسدي يصير فردًا؛ فالهوية الثابتة هي أضعف من أن تجعل كل تجسيديات الجسد مجرد تعبيرات عنها؛ وبالتالي فإن الفرد يغدو هُويات. وكل إنجاز له يتطلَّب إعادة تعريفه، والتعرُّف عليه. ولا يلتزم بغير ذلك البياض السابق على كل نص أو تنصيص. أي على العكس مما يفهم عادة من مصطلح (التوقيع على بياض)؛ فهو هنا التزام باللون الأبيض أولًا، وليس بالحبر المكتوب، أي بالنص. ذلك أن كل كتابة إنما تفرض استبدادها الخاص، بحروفية النص ودلالاته المحدودة لا مناص من العودة دائمًا إلى البياض الخالص.

كل نحَّات بارع يتمنى بعد إنجاز تمثاله، أن يتحرك الحجر، ويتكلم ويحضر حضوره الإنساني المغفل؛ فالجسد هو حركته التي تعطيه مع كل لحظة ونبأة، وصفًا دلاليًّا حسيًّا ومعنويًّا مختلفًا. والحركة قبل أن تقترن بأعضاء الجسد، إنما تعدم شيئًا لتقدم شيئًا آخر؛ إنها نقلة في الفراغ. ولغة الجسدي هي حركاته المتقطعة والسائلة معًا، لكنها شلالات مؤلفة من ذرات متفاصلة. فلا يمكن للجسدي الحركي أن يقدم عن ذاته إلا ما هو متقطع ومتمفصل، داخل شلالات الإيماءات واللمحات والنبرات المتدفقة والمتلاحقة من تفاصيل الوجه واللسان والقامة واليدَين. هذا الشلال الحيوي الذي يبدع الترميزات الإيمائية ويبطلها، ما إن تتبدَّى حتى تختفي، ويُمَظْهر بعضها البعض الآخر؛ إلى درجة أن الجسدي لا تبديه تجلياته، بقدر ما أن التجليات تفرط عقده إلى جسديات كثيرة.٤

إذا كان ذلك هو حال الجسدي، فكيف يمكن التقاط النفس أو الروح، وهي عابقة في كل جزئياته؛ ربما لا يقدم عنها إلا إيماءات موقتة وزائلة. ولقد سبق أرسطو جميع الحداثويين، برفض الفصل إقنوميًّا بين جسد ونفس، ورأى أنهما عنصران في جوهر واحد، لكنه لم يعطِ لهذا الجوهر هيئةً ما؛ حتى لا يفقده لا تعيُّنه الأصلي، لكنه أعطى للنفس «وظائف» كثيرة، تتنضَّد فوق بعضها داخل النفس، وفق تراتبية أنطولوجية معيارية معًا؛ اعتبارًا من النفس النباتية، فالنفس الحاسة، إلى النفس الناطقة. وهي كلها موزعة على الأنواع الحية من النبات إلى الحيوان فالإنسان، لكن الإنسان يجمعها كلها ويؤمِّر عليها النطق أو العقل؛ فالنفس صورة للجسد، لكنها دون ماديته، تفقد أية كيانية معنوية أو مادية. فأرسطو يطامن من الفصم الأفلاطوني، ولا يرى قاعدة وجود عقلانية وواقعية معًا، للنفس، إلا على أساس مبدأ التجسيد، الذي يصير — هذا المبدأ — إلى مادية خالصة، لكن يظل فَهْم التجسيد الأرسطي مرتبطًا بثنائية (القوة/الفعل). ذلك أن ما يحقق للموجود ثمة هوية ما هو أنه يعكس صورة كلية معقولة في ذاتها؛ فالموجود المفرد لا يُعرف إلا باندراجه تحت نوعه المعقول: هذا حصان، هذه شجرة. والتعيين فردي لكنه غير معقول إلا على أساس إعادة ربط الفردي أو المفرد بالكلي. وما ينشئ الكلي، أو يعيد ارتباط المفرد به، واندراجه تحت «مفهومه»، يبقى من عمل العقل الفعال، الذي سوف يصطلح عليه كانط بالمتعالي؛ لكن العقل الفعال يأتي من المفارقة إلى الواقع، أما المتعالي فينشط داخل المحايثة عينها؛ فالمعرفة تبدأ من الحس عند أرسطو، ولا تأتي من التوليد، أو تذكر المُثُل؛ لكن ما يعطي للحسي الدلالة، أي ارتباطه بالكلي إنما هو الصورة، أو ربط العقل الفاعل، بالعقل المنفعل؛ وهو هنا المادة، أو خامة المعرفة وموضوعها الأولي؛ فالصورة أو القوة فاعلة، ولا يفعل بها شيء سوى «معقولها» في ذاته. ومن هنا مصدر الإشكالية التي غرق في فض ألغازها، عقلانيو الحداثة. ولم يتوصَّل إلى الحل التركيبي إلا نقد العقل المحض، الذي وضع حدًّا لتفكر المفارقة خارج المحايثة، وتفسير العقل بغير مَلَكاته نفسها، أو جاهزياته المعرفية، وتلقائيته الوجودية عينها. فلن يكون التفكير بعد كانط تعقلًا للمثل أو اكتشافًا للصور الكلية، بقدر ما هو التعرف إلى نظام الشيء بما يبني شيئيته نفسها. وهو القانون العلمي بالنسبة للطبيعة، والدلالة بالنسبة لعلوم الفكر.

نرجع إلى القول إن تقرير واحدية الجسد، والانتهاء من ثنائيته مع ما يغايره ويعاكسه كالروح أو النفس، لا يزال موضوعًا جدليًّا في التفكر الفلسفي، بمعنى أن الانتهاء من شكلانية الثنائية ليس هو إلغاء الطرف الآخر، كالنفس أو الروح؛ فالتسمية الحديثة وهي العقل والأحدث منها وهي الفكر، لا تقيم كيانًا لقطب مفارق، لكنها تطرح دائمًا طرقًا متعددة لتفكر أحوال الإنسان ككائن «مُتَمَفْرِد» دائمًا عبر الجسد، بما يلزم المفكر ألا يتعامَل مع الأفكار إلا تحت طائلة الكائن المتجسِّد الذي يكتشفها، يؤوِّلها، يعتمدها، يلغيها؛ فهي ليست من أحوال الكائن كشخص، بل كشخص مُنهمٍّ بالذات، متورِّط بهمِّ العلاقة مع كائنه هو، كما لو كان كائنًا — للأغيار جميعًا، في آنٍ معًا. بما يعني أن الانهمام بالذات يتضمَّن حُكم قيمة مسكوت عنه. إنه يُنمذج ذاته، ويعتبر أنه يقدم مثالًا عن النفس، كما لو كان مثالًا لكل آخر يسعى إلى الانهمام بذاته على طريقته، لكن ذلك ليس هو الأنانية إلا عندما يتوقف جدل الانهمام في مرتبة القبول بذات العين كما هي. إنه القبول الذي يضع حدًّا لجدل المفارقة والصيرورة. وينتزع الموجة من البحر كيما يفرضها عليه بحرًا أوحديًّا.

إن الانهمام بالذات هو فن ليس كالفنون، وقد يكون أصعبها، وأبعدها عن التداول.٥ لأنه يتضمَّن إنتاج الإنسان لإنسانيته على طريقة تمفرده. وما إن يشرع المرء في ممارسة هذا الفن حتى ينخرط في معايشة جدل حي سرِّي، يخصه وحده، بين الخاص والعام، بين المفرد والكلي. فحين تصير الذات هي إنتاج عينها، لا يمكنها أن تحقق انفصالها عن بقية الذوات، وتحولها إلى مجرد سديم، إلا بجَعْل تفردها مقبولًا من الآخر ومفهومًا، ليصير متفوقًا بطريقة ما؛ فالانهمام بالذات لا يتحقق بمعزل عن الآخر. ذلك أن تذوُّق تفرُّد الذات كذات لي وحدي، لا يتم إلا بنوع من اعتراف الآخر بذلك، وإقراره لي، لكن التفرُّد عينه ليس إلا تميزًا يعكس الكلي الذي يتطلع إليه كل الآخرين. أما الانهمام الأناني، فهو يضاد الانهمام الإني (والتعبير العربي هنا يشمل اتحاد الأونطي بالأنطولوجي). فلا يزال الانهمام بالذات مضطرًّا لاستخدام تعبيرات من مفردات الكلي، كيما ينتزع تقدير الذوات الأخرى. أما الأناني فهو الذي يضع الحواجز القَبْلية بين تقديره لنفسه، وتقدير الناس له، بما يعني التعارض بين التقديرَين. بقدر ما يتمظهر الأناني، يزور الآخرون عنه ويتباعدون؛ فالأناني يمثل انقطاع الفردي عن الكلي. ومن هنا جاء تضاده الوجودي مع شرعة الانهمام بالذات، باعتبارها تمنح ممارسها نوعًا من كليٍّ يخصُّه وحده.
كذلك، فإن الفردية كالأنانية، ليست سوى تحريفٍ آخر للانهمام الذاتي.٦ فالفردية قد لا تكون هي الأنانية بالتطابق التام بينهما، لكنها قد تحتملها وتزيد عليها بإضفاء ما يشبه الشَّرْعَنة على الفردية، تحت طائلة الاستقلالية بديلًا عن عزلة الأناني؛ لذلك تبدو الأنانية كتهديد يُداهم الفردي الذي قد يفرُّ من أعباء الاستقلالية، إلى هامشية الانعزالية وبدائيتها، أو مباشريتها الخام. وهو ما يتعارض تمامًا مع ما يفترضه الانهمام الذاتي من الجهد الإرادوي والواعي الذي يشتغل على تبيئة الانهمام وتفعيله، كسلوك إزاء الذات وبالذات. وهذا ما يميز كذلك الفعل الانهمامي عن السلوك الأخلاقي أو الإتيقي، كما عن الإنتاج الفني. ذلك أنه فعل يظل مسرحه حدود الذات عينها، لا ينفصل عن تذوق صاحبه له، ليصبح عرضة للتقييم؛ ليس قابلًا للاندراج تحت أحكام الآخرين. كما أنه لا ينأى عن منتجه كما العمل الفني. فإن السلوك الانهمامي يظل لصيقًا بالبدن كأنه بدن آخر شفاف؛ فهو يضاعف البدن الفطري بالبدن الآخر المكتسب، الذي يمتلك شفافية فعالة تنسى مصدرها، بقدر ما تلتصق بهدفها أو موضوعها، وهو إعادة إنتاج الجسد كبدن إبداعي، أو على الأقل كبدن أعادَت الذات خلقه وتكوينه على مثالها.
لم يُترَك الإنسان لشأنه؛ فهو كان كذلك الموضوع الأهم للتفكير وللتغيير. ولم ينشأ نوعٌ من الوعي الخاص بالجسد كحامل للنفس، أو كإطار واقعي ومادي للفرد إلا في الحقبات المتأخرة من أعمار الحضارات، أما التفكُّر في «طريقة الحياة» فقد يعتبر ترفًا زائدًا عن اللزوم. ولم يثر وعيًا خاصًّا بمبادئه ومظاهره ونماذجه، إلا مع نشوء الفردية، أي حين اندمجت الظاهرة الأخلاقية بالظاهرة الدينية بصفة عامة. ذلك أنه ما دام الفرد هو انعكاس الجماعة، فلن يكون له اهتمامٌ بنفسه إلا بما يرضي النظم العامة الشائعة؛ وبالتالي فإن «طريقة للحياة» تخص هذا الفرد دون الآخر ليست سوى خروجٍ عن المألوف. في حين أن مولد الفرد بالمعنى الحداثوي لا ينبني على كسر المألوف فحسب؛ إذ لا بد أن يغدوَ المعيار العام، هو قدرة الأفراد على إعادة إنتاج ذواتهم اختلافيًّا؛ فالتشابه ينقلب إلى تكرار المختلف؛ وقبل أن يصبح تنوع الثقافات شعارًا حداثويًّا، فإن القبول بتنوُّع الفرديات داخل المجتمع الواحد كان أمرًا مسلمًا به، بل مطلوبًا. غير أن الانهمام الذاتي ليس مجرد تأدية للعام بطريقة الخاص، بل إنه ذاتي الانهمام. فإن لم يكن كذلك، لن يخرج عن كونه من عادات المغايرة والطرافة العارضة المنتمية إلى مباحث السلوكيات واللياقات الأدباتية. أما ذاتي الانهمام فهو ما يتبقَّى بعد طرح العاديات والأخلاقويات العمومية، وأنماط السلوكيات، والأطرزة والموضات، فيتأسَّس شيء آخر. يتأسس الانهمام بما هو ذاتي موضوعه، أو — إن شئنا لسانيًّا أنطولوجيًّا — بما هو ذاتي نصه وقراءته.٧
مثل هذا التعريف إنما يلتقي مع كل ما هو جوهري، ويشكل همًّا واقعيًّا للتفكُّر الفلسفي؛ ذلك لأن الغاية القصوى والعظمي لكل تفكر، أو تحضر، هي فوز الإنسان بالجوهري من إنسانيته. ومنذ أن أعلن سقراط شعارًا للفلسفة معرفة الإنسان لنفسه بنفسه، فقد أرسى قاعدة السعي إلى ذاتي الانهمام. إنه نوع من التدبُّر الوجودي ما فوق الأخلاقي والاجتماعي والمعياري عامة، لما يعنيه وجود هو بدون معنًى دائمًا، أي بدون حد. إنه تدبُّر ما لا يُتدبَّر، أي ما لا يُنتهى من استطلاعه وإغرائه؛ فهو أكثر من الشوق إلى المعرفي. إنه هم، وإنه انهمام بما يفرض ذاته كهمٍّ حقيقي، يكاد يغدو بدون علة؛ وبالتالي بدون حل واحد وحيد، لكنه همٌّ لا يتعرَّفه العقل فحسب، بل يتذوَّقه القلب، إذا صح التعبير. ذلك هو اختلاف ذاتي الانهمام عن ذاتي المعرفي. إنه يستعيد حضور البدن.٨ فالمتخيلة الصانعة لكلية التصورات مع نقد العقل المحض، تعود لتتفشَّى جسديًّا، باعتباره حساسية تستقبل مؤثرات العالم، متدامجةً متآخذة؛ غير متوزِّعة بين ذات وموضوع، بل جارفة الجسد نفسه داخل عاصفة المؤثرات نفسها، كأنه أحد أقطاب التأثير الخارجية عنه؛ فالبدن يلعب دور العالم ونفسه في آنٍ معًا بالنسبة للذات. إنه ينضاف إلى، ويندمج في سيالة الألوان والأصوات والأضواء والأحجام المداهمة للنفس؛ فهو خارجيُّ الداخل، وداخليُّ الخارج معًا؛ ولهذا السبب لا تحس النفس تطابقًا كاملًا مع البدن؛ فهو اختلافي عنها من حيث إنه يتماثل معها. وهي تماثلية معه من حيث اختلافيتهما عنه. كأن الجسدي هو وكيل العالمي لدى ذات النفس. ومهمته ألَّا يمدَّ تجسيرًا بينهما — أي بين العالم وذات النفس — بقدر ما يؤكد الخارجانية في الوقت الذي يتيح لذات النفس حضورًا لدى ما هو خارج النفس تلك.
من هنا كان أساس اللاهوت يقوم على مصادرة أن الجسد سر وحد، وأنه عائق بين النفس والكون؛ ذلك أن ملكوت النفس الأرضي يقع ما وراء الجسد، وكأن الجسد خارج أصلًا عن ماهية النفس؛ وبالتالي مغاير لوجودها، وأما الواقع ما بعد الجسدي فليس هو العالم المباشر، لكنه هو الطريق إلى المفارقة العلوية. ثمَّة حرب معلنة أو كامنة بين النفس الروح، والجسد. والثاني عائق وحائل دون التحاق الأولى بعالمها الأبدي، ما فوق العالم اليومي، والمنفتح على الكوني الكوسمولوجي. تلك هي خارطة طوبوغرافية حقيقية، شكلت أرضيةَ بدهيات مفروغ منها لثقافة لاهوتية دينية، وعامية شائعة. حتى النظرية النقدية الكانطية لم تستطع أن تتخلَّص من هذه «البداهة»، الكامنة العنيدة، فحاولت أن تُقيم تجسيرًا بين إقليم للعقل المحض يقع ما فوق إقليم الحساسية، الذي تتنامى حدوده بدءًا من متلقيات الحواس، إلى التصعيد التصوري والمفهومي؛ فالجسدي هو طريق عبور بين خارج يقع أمامه، وداخل يقع وراءه وفوقه، لكن ليس معنى هذا أن النظرية النقدية تبعثر العقل، وتوزعه بين وظائف ومرتبيات داخله، وتفتح له كوًى وجسورًا على الخارج الاختلافي؛ وذلك كيما يتزوَّد بالمواد الأولية من المحسوسات حتى يقلبها إلى معارف، ثم يتعامل معها باستقلال عن موادها الخاصة وجذورها المادية، بل ينبغي القول إن الجسدي كان هو الماثل الدائم لكنه المحذوف المستمر من أركيولوجيا النظرية المعرفية؛ يقدم لها أسرار حفرياته، لكن دون حفرياته نفسها، فكان الكلام عن الحدوس الحسية، ولم يكن ثمَّة كلامٌ فلسفيٌّ عن الحس؛٩ وبالتالي فإن موطن الحسِّ لا حسَّ له، لكن «النقدية» أرست اعتبارًا أسيًّا لخارجانية كل مضمون، تلتقطه الوظيفة الحدسية؛ وبالتالي فقد استحق الجسدي أولى مكافآته الاعترافية، وإنْ بطرقٍ غير مباشرة؛ وذلك بتأكيد خارجانية العالم ومغايرتها الجوهرية كقطب آخر؛ فإذا كانت «النقدية» دشنت اعترافًا حقيقيًّا بأن مضمون المعرفي يتوقَّف على الجدة والمغايرة الآتيتَين حتمًا من العالم، إلا أنها حصرت همها في الشكل المعرفي، الذي هو من عمل العقل ومن حصيلة التعامل القائم ما بين جاهزياته، كعقل محض خالص، وتحويلها إلى وظيفيات صانعة للخاصية التصورية والمفهومية والبرهانية؛ وكل ذلك تحت طائلة ذاتية المفهمة، التي يوفِّرها العقل المحض نفسه، باعتباره هو المتعالي المنشغل بتأدية التعالي، كنظامٍ للأنظمة المعرفية لذاته وللعالم في آنٍ معًا.
هذا الاعتراف يتمفصل حول الأهمية الصريحة المعطاة للحساسية، بما أنها تحتلُّ وظيفية التجسير بين الوعي والعالم، وما يتواصل فوق هذا التجسير، وبواسطته كذلك. أي إن الحساسية ليست جهاز التقاط للمؤثرات الخارجية فحسب، لكنها قائمة وجوديًّا أنطولوجيًّا كذلك في طريقة الالتقاط، وفيما تلتقطه معًا. ومع ذلك، فالحساسية مسحوبة جهة الخاصية المحض للعقل أكثر منها مغروسة في ذلك الكائن الآخر، الذي لا يسمَّى بعد، الذي هو الحس بل الجسد؛ فقد كانت حدود النقدية الكانطية تتوقف عند الجسد كتخوم، وليس ككيان. وكان جهد الخاصية المحضية للعقل ينحصر في الإسراع بتخليص الحدوس من حملها من المواد الحسوية الخام، واستلامها منها، ثم تسليمها إلى ورشة المفهمة؛ وهي عملية تخصُّ العقل المحض وحده. إنها صناعة التصور ومركباته العليا.١٠

الجسد، والدماغ منه بخاصة، هو حامل الإنسان، الذي بدوره يحمل العقل، ويكاد يُوطِّنه في الدماغ أو الرأس، كليًّا. ما عدا أن للقلب ثمَّة حكمة لا يدركها العقل. والقلب هو مقرُّ العاطفة التي ليست هي بالحسية تمامًا، ولا بالعقلية قطعيًّا، لكنها ترد مورد الجسدي إلى حدٍّ ما، أو هو الذي يرد موردها. فإذا عُدنا إلى الهندسة التراتبية الأفلاطونية، رأينا الحسَّ مركزًا للشهوات، ويقبع في الطابق الأدنى، ثم يعلوه القلب وهو مركز العواطف والمشاعر، ويأتي في الطابق الثالث الأعلى مستوى العقل. وبالطبع فإن البناء الكلي الذي يحوي كل هذه المراتب الثلاث هو الجسد، منظورًا إليه دائمًا نظرة جوانية. والجسدي الجواني هو غير الجسدي البراني. والأول مقرُّ السر واللغز من وجود الإنسان. أما البراني فهو مسرح الأطياف والظواهر؛ فالمعيارية لا تصنف جوانية الجسد فحسب بين المرتبيات الثلاث «الأفلاطونية»، بل تفصل كذلك، تفاضليًّا، بين الوجه والقفا للجسد نفسه. (وجهه نحو العالم، وقفاه نحو اللغز أو الروح!)؛ فالجسد الجسدي لا يزال غير ملفوظ ولا مرموز؛ فهو المسرح التجريدي، الذي جُرِّدت منه خشبته قبل النص والأدوار والأشخاص. وقد بقيَ كلُّ هؤلاء معلقين في الهواء، ويمثلون في الفراغ.

يمكن الإيجاز بالقول إن تطور التفكيريات حاول في البدء أن ينأى ما استطاع عن الجسدي، كيما يلتقي بالأقانيم المصنفة قبليًّا بالأنقى والأعلى والأفعل، من مثال النفس والروح والعقل والوعي … والفكر. وقد قطع هذا التطور رحلة التصريحات الفوقية والمفارقة، حتى يعود في نهاية المطاف إلى لحظة استعادة الجسدي. وكأنه اللقيا الأصعب والأكثر اختفاءً وإخفاء، لكن هذا الموجود كله دفعة واحدة في كل هنا، وكل آنٍ، لا يزال الأخفى من كل الخفايا الأسطرية والطقسنية والأيديولوجيات الأخرى. إنه حقًّا الحاضر المغيب، المضحى به، والمصلوب على كل ظواهره وبواطنه؛ فالجسد الذي يحجب جوانيته، هو موضوع الحجب «الحضاري» الأصلي طيلة عصور البحث عن المخفي المطلق، باعتباره علةً لكل ظاهر محدود. كل ذنب الجسدي أنه الظاهر الذي لا يمكن الخلاص من ظهوره، حتى لو حجبَته كل عباءات الرهبنات المنقضية والمستحدثة. والجسد ليس منتج إشارات وإيماءات — حسب تعبير ميرلوبونتي — فقط.١١ فإن كان هو كذلك فحسب، فإنه ينسى إشارته الخاصة، عبر إنتاجه لمؤشرات مغايرة. وليست إشارته تلك إلى ظهوره.

الجسدي فعلٌ نقدي

النظرية النقدية عند مؤسسها كانط اكتشفت الحساسية، وأهملت الحس. ذلك أن الحساسية تظل تنتمي إلى شكلانية العقل المحض أكثر مما تنتمي إلى الحس، باعتبارها العتبة الأولى من هذه الشكلانية المهتمة أصلًا بتوريد مادة التصورات. أما الحس فهو وحدة أو مفردة ما فوق الشكل والمضمون؛ بمعنى أنها ليست مجرد تركيب منهما (الشكل والمضمون). غير أنه يمكن الترميز إليه بمثل هذه الاصطلاحية بصورة موقتة، وبهدف تجاوزها سريعًا إلى الحس، الجسد، باعتباره كيان نفسه أوليًّا. والواقع فإن الحساسية الكانطية عينَها لم تستطع أن تخرج عن اصطلاحها العقلانوي للقرن السابع عشر، وهي أنها قابلية أصلًا، وليست فاعلية. إنها أداة للتلقي، وجسر عبور بين الخارج والداخل، وليست حافة تأثر وتأثير تدمج ما بين البرانية والجوانية. فالحافة ليست حدًّا للعالم عند الجسد، ولا للجسد عند العالم، لكنها هي «الحس» الذي يُعَوْلم الجسد، ويُجَسْدن العالم، في لحظة واحدة؛ فالحس مشارك أصيل لكل ما يرد «النفس» من خارجها. كما أن الحسَّ إضافة كلية على وظيفة كل حاسة على حدة؛ فالعين وحدها لا تنظر، والأذن وحدها لا تسمع، ولكنه هو الجسد الذي يرتعش لرؤية الجمال، ويتمايل لإيقاع الموسيقى؛ فالحس ليس مجموعًا عدديًّا للحواس، ولا تركيبًا منطقيًّا لعباراتها، إنه ما به يتعولم الجسد، ويَتَجَسْدن العالم، لكنه هو الحس الذي لا يتلقَّى ولا ينقل، بل يفعل ويؤثر، ويبحث عن أشيائه في العالم، متدخلًا في شئون الناس والأشياء كذلك.
الحساسية هي عتبة الفهم، أما الحس فهو الذي يشمل الحساسية والفهم معًا، مؤكدًا كل لحظة وجود الاثنَين؛ الذات والعالم، في الواحد عبر الأنا، التي هي أنوات لا تُعدُّ ولا تحصى؛ لأنها في كل لحظة تحوز على جديد من الشيئي واللاشيئي، من الحاضر والغائب، من الإرادوي والعبثي معًا. وقد اعتاد السؤال الفلسفي أن يعبر عن كل ذلك بالحضور في المختلف. فما يهمني من ذاتي ليست الهوية السكونية؛ ألَّا ألقى نفسي كما أعرفها دائمًا، بل كما أجهلها، وألتقيها غريبة عني. وقد أكتشفها وأفتقدها في عين الفعل والآن. و«أنا» الذي اكتشف قد أصير مرئيًّا لنفسي، وغير ذلك في الآن عينها؛ فأنا لست الحاضر المراقب لأحوالي؛ لأنني لا أملك ثمة حضورًا منفصلًا عن تلك الأحوال أو خارجيًّا عنها. بل هو الملتحم بها، والراهن في فوريتها. لست مستودعًا للأحاسيس، بل حصيلة ودائع تخلَّت عنها أحداثها؛ وتركتني باحثًا عن حدثي «الآخر» الذي أنتظره ولا أعرفه؛ فالأنا كأنها، أحد من أفعال الماضي، وما أريده الآن، حتى لو كان تكرارًا وحنينًا لعشق ما، فإنني أرتقب خلاله الأنا التي لم أصنعها بعد، لا أعرف كيف أعشقها وألتصق بها.
فالهُوية هي الهُوية وانكسارها الدائم. وما أنا منهمٌّ له ليس هو بقائي وحفظه، بل هو انفصالي عنه؛ فالاستمرارية تعني الوجود في المنقطع. واسترداد الوجود بين منقطع وآخر لن يكون إلا اختلافيًّا في التكرار. ذلك هو الجسد الذي بالرغم من هيكله العضوي وكيانه شبه المستقر، فإن أحاسيسه لا تستقر على حال. والخارج يستودع نفسه فيه وداخله؛ فالعزلة ليست سوى وجود الجسد على حدة، ولا تكون في الذات أو النفس؛ لأنني أنا مسكون بالعالم دائمًا، ولا فكاك لي منه أبدًا. فانهمامي بالذات هو في واقع الأمر انهمام بكل ما يغايرها. لست جوهرًا فردًا حاملًا لأحوالي، بقدر ما أنا «حال» منها، وعرض من أعراضها. والانهمام هوية في الحد الأدنى، تحاول لملمة هُوية عظمى، مجردة أو متخيلة، لكنها متشظية أبدًا؛١٢ فهي مستحيلة على مستوى الدلالة النهائية؛ فالحس، وليس التعريف، هو المفردة الوحيدة المؤسسة للغة الانهمام؛ لأنه هو موضوع الأحوال، ومحمولها. بمعنى أن العلاقة بين المفهومي (العقلي) والحسي الجسدي، لا تقوم كعلاقة علة بمعلول. ليس أحد القطبَين سببًا للآخر أو مسببًا عنه. وليس أحدهما إضافيًّا على الآخر، لا يمكنني أن أتكلم: عن-جسدي؛ فليس هو الذي يحسُّ من دوني أنا، بل إن تصريف فعل الحسِّ مرتبط بأحوال الأنا، وليس باللحم وحده؛ فأنا الذي أتألم، وهو الذي يفرح، وأنت الذي تحب. والضائر ليست مراجع ولا حوامل لأفعالها أو أحاسيسها. والكوجيتو الديكارتي، رغم صياغته الفكروية التي تبدو خالصة، فإنه لا يُطرح منه وجود الأنا، ككيان مادي عضوي؛ لأن اﻟ-أفكر، في العربية، تدمج دائمًا بين الفاعل وفعله. فالهمزة ليست طارئةً كضمير على فعل التفكير، لكنها مؤسسة له، وطرحها منه، يعادل طرحه من نفسه. والأفكر ليست بداهة، إلا لأن قيامي عينه هو بداهة. وما القيام بدون البدن؟ ولأن الكلام عن البداهة فلسفيًّا هو علة الإضمار وإخفاء المضمر؛ فإن الجسدي، لبداهة وجوده، يتعرَّض للاوجود. إنه ما يُحمَل عليه الإنكار، وليس النفي؛ أي إنه يستمر قائمًا من حيث إنكار قيامه، أو نسيانه، أو إهماله، أو العبث بإشاراته، كبتًا أو قمعًا، تحويلًا واختزالًا، إلى درجة أن الفرويدية استطاعت أن تعطيه اسمًا آخر هو اللاشعور، من أجل التخلص من مباشريته. أي إنها سلمت بالشائعة اللاهوتية، فغيَّبته تحت لحمه عينه. وجعلته يشتغل عبر لغة الترميز، رافضة التحاور مع حروفه الناتئة من وجهه وأعضائه وقامته وحركته الدائمة. وفضَّلت على ظهوره العياني غيابه الافتراضي.١٣

بدلًا من الإقرار للجسدي ألَّا يعطي إلا تجسُّدَه الخاص، فإن الثقافَوَة اختارت الفرار إلى كل ما ينقص منه فعل التجسُّد؛ طالبة العميق تحت ستار الخبيء، لكن ما هو ذلك العمق إن لم يكن قادرًا أن يطفوَ على السطح، ويُغرقك في سطحه. وهكذا فإن استعراء الجسدي هو حقيقته. والاستعراء ليس ضد الإخفاء، لكنه يجعل الإخفاء من تنويعاته ذاتها، أي من تقاطيع أعضائه، ومن ملامح وجهه. الإخفاء والاختفاء بعض من إشارات الجسدي، وتصب في استعرائه عينه. ولأن الهوية مبنية، أنطو-أنطولوجيًّا في الأصل، جسدانيًّا، فإنها موكولة للظهور والإظهار: فاعليتها استعرائية، كجسديتها؛ فهي لا يمكنها أن تكون إلا الوجه الفرداوي، المقول والمقبول ثقافويًّا-اجتماعيًّا، ويناظر وجه الجسد ويكمله أو يعارضه، أو ينأى عنه، لكنه لا يمكنه أن يتقوم إلا بالنسبة إليه؛ ذلك الوجه العضواني الناظر من العينَين، والمقطب الحاجبَين، والمتكلم باللسان والشفتَين. وتفرض الثقافوة ألَّا يبدو من لحم الهوية إلا الاسم، ومن لحم الجسد إلا الوجه واليدان أو الكفان بالأحرى؛ ولذلك فإن استعراء الجسدي الخبيء ينقلب إلى استعراء الأشياء، واستكشاف العالم. فبقيت علوم الإنسان، أو علوم الفكر، أقرب إلى شاعرية الإخفاء، مقابل فتوحات العلم والسياسة والتاريخ ملء مساحات الزمكانية، التي أطلقت نشاط الكشف والإظهار.

في المرحلة القطيعية ليس ثمة انهمامٌ بالذات، ما دام جسدُ الخاص مغطًّى بجسد القطيع كله، وفي الحقبة اللاهوتية تنبثق الفردانية ملوثة قبليًّا بدنس الجسدي؛ فالهوية موضوع حكم خارجي علوي بالعقاب أو الثواب، بناءً على العلاقة التطهرية الإقصائية التي تبنيها مع جسدها. وفي حقبة الحداثة تتحقَّق تجربة الهوية ثانية بالذاتوية الكليانية، وتغدو العلاقة مع الجسدي استغلالية وسائطية؛ فالذاتوية الكليانية تنطلق من توسيط الجسدي كيما توسط الشيئي والعالمي لإنتاجية الوفرة في كل شيء.

وأما في الحقبة المأمولة والمدعوة بالديمقراطية، فمن المفترض أن تزدهر الفردانية، وأن يستعاد استعراء الجسدي تحت طائلة انهمام ذاتي بدون ذاتوية، يبني إتيقا للفرد بدون فرداوية.١٤ يصير الجسدي لا حاملًا للفردي، ولا قاعدة أو قطبًا مقابلًا ومغايرًا له في ثنائية أخلاقوية معه. وعندئذٍ فقط قد يصبح الانهمام الذاتي إتيقا أقرب إلى الفن منها إلى الأخلاق، تمارس اعترافًا إبداعيًّا بالجسدي وتعيد خلقه كنتاج فني، وعندئذٍ كذلك لن يبقى الفن محاكاة لجسدي يسبقه كأصل ثابت، ولكن كنتاج آخر، اختلافي حقًّا، يعاصره ويسابقه، ويدخل معه في منافسةٍ خلاقةٍ غير مسبوقة.

وقد ينتهي ذلك النقاش العتيق المتجدد، منذ أفلاطون حتى هيدغر، حول المضاهاة بين الحقيقي والجمالي؛ إذ يصير للحقيقة تجسيد جمالي في الجسد. فبدلًا من القول مع هيغل إن الفن يجسد الروح المطلق في الحسي النسبي المبدع، أو مع هيدغر، إن الفن ينتج الحقيقة (كعمل إبداعي)، فإن الجسدي يمفصل بين الحقيقي والجمالي، يجسدهما معًا في لحمه ككيان يستبق أحكام المعايير من حق وخير وجمال. ويشكِّل الواقع الحي المتخارج مع المعيار، أو القيمة. فهو الواقع، الأول الذي يكتشف كل واقع آخر ويتعداه. ينحت منه مواد أحاسيسه، ويضاعفها بخصوصية حساسيته، ومنها يزود أحكام القيم بموضوعاتها؛ فالحقيقي يود أن يكون واقعيًّا كالجسدي، والجمالي يود أن يكون إبداعيًّا كالجسدي. وأما الانهمام بالذات، فهو تلك الإتيقا التي تريد أن تصنع من كل هذا ممارسة إمكانية، ومنهجًا إمكانيًّا، دون أن تسمى أخلاقًا أخلاقوية.

وكما لم تعُد أعمال المبدعين الطليعيين تنتمي إلى مدارس ممنهجة قبليًّا، ولا تعرف لها هوية مدرسة أو مذهب إلا من خلال لوحاتها وكتاباتها وموسيقاها نفسها؛ فإن «فن» الانهمام الذاتي لا يمكنه أن يؤسس شَرْعَنة عمومية، تستبق فورية الفرد المنهمك بممارسة انهمامه. ذلك أنه هو المتورط في همِّه الخاص كطريقة ذاتية في استلهام ومضاتٍ من الحق والخير والجمال، كوقائع من إشكالية انوجاده في تجسُّده والعالم معًا، قبل التعرض من قبل نفسه أو الآخر، لإصدار تلك الأيقونات كأحكام معيارية تفاضلية. فإن نقود (جمع نقد) كانط الثلاثة: المفهومي والأخلاقي والجمالي، إنما اشتغلت على معطياتها كمواد تختص بصناعة الأحكام؛ فالعقل الكانطي مُنهمٌّ أولًا بما يتيح له أن يشكل قيمة ترتفع فوق مادتها؛ فالمعرفي كحق، والمعرفي كواجب، والمعرفي كجمال يتحوَّل إلى تحكم المنطقي وحده؛ وبالتالي يختزل العقل نفسه من وساعته الأنطولوجية إلى مهمة تحويل العبارة، كل عبارة، إلى مجرد قضية منطقية،١٥ لكننا نحن بدورنا نعتبر أن هذا العقل الكانطي بفعالياته الثلاث تلك إنما هو، وفعاليته، مجرد حالات من الفكر، يتم فيها تركيز قوته على إخضاع الأفكار إلى عمليتها الأخيرة، أي التصفية المعيارية. غير أن الفكر ليس مصنعًا لإنتاج أحكام القيمة فحسب. والمفهمة ليست موكولة للبرهنة وحدها، والأفكار أو المفاهيم التي لا تبلغ مرحلة التصفية المعيارية، أي لا تحظى بالصياغة المنطقية أو البرهانية، قد يمارس عليها «إنكارها» كحقائق، دون أن «ينتفي» وجودها. ومن هنا كان الظهور أوسع من المعقول. وكان المعقول نفسه يطمح إلى البيان والوضوح. يريد أن يثبت أن مَلَكَته، أي العقل، هي البصيرة التي هي امتداد معنوي للبصر. وقد يرى المعقول بعض الظهور، لكن الجسدي يسبح في عالم الظهور، ويشكل فيه شاهده الأصلي ومشهوده الدائم؛ فالقول إني أفكر الجسدي، وإن جسدي يفكرني، ليس صياغة عابثة. ذلك أن الفكر يسع الظهور ويضاعفه بظهور الجسدي.
وقديمًا اعتبر الرواقيون كل ما يعتري الجسد «يصير» كذلك أجسادًا؛ فالخواص التي يتبدى منها، أو تطرأ عليه، هي أبدان منظورة أو غير منظورة، كالأنفاس وأحاسيس الألم والفرح، الحب والكره. إنها تصدر أبدانًا، وتتوق إلى أبدان أخرى، تتخلَّلها، أو تغوص فيها؛ كالمحب الذي يغوص في لحم محبوبه، كالنار التي تخترق الحديد، تذوب فيه وتذيبه؛ فأحوال الأبدان أبدان [ذرات] حركية انسراعية لا تتناهي. وحتى الموت فهو بدن خارجي شفاف ينقضُّ على الجسد الموكول للفناء، يستل منه الحياة، كنفس يتلاشى. ولقد أبدع دولوز في إعطاء صورة أخرى عن مادوية الرواقيين، تظهرها وكأنها حركية بدنية لا تكفُّ عن صراع أحوالها فيما بينها، وتلقاء أبدان أخرى؛ فالبدنية تفتح مجالات تكامل، ولكن تَتْرى في حلقات من الصراعات الرهيبة. «هناك لحم (بدن) في الخبز، وخبز في الأعشاب. هذه الأبدان وسواها من الأبدان تلج أبدانًا أخرى، من مسالك مختلفة، وتتبخر كلها سوية.»١٦ فالعالم أبدان تخالط أبدانًا، تتجاذب وتتنافر، ولكنها في الكل تتناغم وتنسجم. إنه خلائط الأبدان هذا العالم العلوي السفلي، الحي والمادي والجامد، هذه الطبيعة-الكون … عالم بدني يتعاطف بين وحداته وأجزائه بدنيًّا. هذا التجسيد الكوسمولوجي، يتجاوز نقائضه وأشكاله التنافرية، ويحول كل فعل مصرف إلى فعل مصدر يعانق مصدرًا آخر؛ فالجسدي تصريف فعل ينتهي إلى صيغة المصدر نحويًّا: الحب، الموت، الحركة، الضحك. ذلك أن كل صيغة «مصدر» Infinitif إنما تتحقق حادثة لا ينتهي حدوثها. هنالك دائمًا شيء من «المصدر» لا يلقى حده، تصريفه النهائي.

فالجسدي رغم حجمه ومظاهره، سطوحه اللامحدودة، فإنه باعث أبدانًا لا حصر لها. كل شيء بدني، لكنه بدني باحث عن حادثته التي لا تتم. والحادثة مهما كانت جوانية فإنها تتجسم طارئًا برانيًّا. كالموت الذي ينبجس مني، لكنه غريب عني. يهاجمني من جهة ما برانية لا أفقه لها سببًا. ذلك أتقبَّل موتي، كما أتقبل فرحي. سواء فعلت أو انفعلت بشيء، على أن أستحق فعلي وانفعالي، وكأنهما من إرادتي. «جرحي كان موجودًا من قبلي، وقد وُلدت لأجسده.» تلك الأخلاق الرواقية المبنية على تجسيد العقل بدنيًّا تريد استعادة حرية الكائن باستحقاقه لأفعاله، وكأنها أبدان أخرى من صنعه.

البدن حادثة حسية، وكل أحاسيسه تنوعه أبدانًا حديثة على حادثته عينها. وإذا صح ذلك، فإن الانهمام بالذات، يغدو ميتافيزيقا درامية، تسعى إلى انتزاع السعادة من صميم العنف الذي يجيء به كل حدث. ذلك هو بعض غرور الفيلسوف الرواقي تأكيدًا لاستقلاليته؛ فالفرد ليس مجرد صدفة معزولة، بل حادثة كونية. والجرح «القديم» يصير حادثة، يتقبل صراع الجسد معه ضده. وذلك هو معنى خضوع قدري لا قدري معًا. غير أنني لست ذلك الفرد «التاريخي» الذي أخترع لذاتي كل لحظة معارك كبرى حاسمة بالنيابة عن جنسي الإنساني كله. وإن كنت أفضل ذلك أحيانًا نادرة، فليس ذلك إلا لأني أخوض كل لحظة معارك صغرى، ومتناهية في الصغر، مع أبسط وقائعي اليومية، حادثاتي غير المنظورة، وغير المرسومة على أية لوحات عمومية أو إطلاقية بدون أطر؛ فالرواقي الحداثوي، والعصري، لا يمارس انهمامه الذاتي في طلب الانسجام مع الكوسموس، في التماهي معه، في أن يكون، مثلًا محبوبًا من الكل، بل أن يطلب ويطالب بالحب، وأن يحقق حادثة اللقاء بمن يختاره من الكل، ليكون محبًّا له ومحبوبًا من قبله. ومع ذلك عندما تقع حادثة الحب، تحل الواقعات على غير ما كانت عليه التوقعات.

والرواقي عندما اعتبر خواص الجسد وطوارئه أبدانًا أخرى، كان يقصد، حسب المصطلح العصري، أن الجسد حدثي. وانفعالاته وأفعاله تصدره لنفسه وللآخر كحادثات، أي كأجساد أخرى غير مرئية كليًّا، شفافة في بعض منها ووقائعية ومادوية في بعض آخر. يبقى أن مسألة تكامل السلبي والإيجابي في الكل، ليست سوى تعلةٍ رواقيةٍ طريفة لممارسة الانصياع، وكأنه قرار ذاتي؛ فالبدن لن ينتظر تبخُّره النهائي في الكل كيما يفوز بحصته من فرح جُزَيئيَّته المحدودة، وليس احتفال دولوز بالرواقية، وتجديد تأويلها عصريًّا أو راهنيًّا، إلا تأصيلًا لحدثية البدن ومادويته الحركية الاختلافية. وبدلًا من اعتبار أحوال البدن أبدانًا أخرى، فإن لغة دولوز تصطلح بلفظة السطح أو المسطح … بمعنى أن للبدن سطوحه المرئية وغير المرئية؛١٧ فهو كائن ظهوري، لا يثبت ظهوره على حال من خلال كتلته اللحمية عينها. والكتلة ذاتُ قوام. والقوام يعطي الهيئة، وهي بدورها تعطيه. فتتناوب عبر تشكيلاته الفورية، كفورية أخرى لا تنقضي لحظتها.

التذويت فكر جسداني

أفكر الجسد، ويفكرني جسدي: عبارة تعارضية آنية، تفرخ الاثنَين بولادة الواحد وتعبيريته الطارئة. ذلك هو الفارق النظري بين الحساسية كمَلَكة عقلانية، والحس باعتباره يشتمل على الإحساس والمعنى معًا، ومنه كانت اللفظة اليونانية التي اشتقَّت منها دلالة الإستطيقا، أي الجمالية حسب المصطلح؛ فالجمالي هو الحسُّ مبدعًا بما يناظر إبداع الجسدي. والعمل الفني لا يثير الأحاسيس فحسب، بل يتوجه إلى الحس كلية. وإذا لم يتعدَّ عتبة الأحاسيس، فإنه يسقط في النافل والعادي؛ ذلك أن الحسَّ غايته في ذاته أصلًا. وهو لا يهدف إلا إلى المزيد من حسه إن كان إيجابيًّا، أو المزيد من انتقاصه إن كان سلبيًّا. فالشدة والتوتر مقياسه الأصلي سواء كان في استجلاء معنًى تحت شمس الوضوح والبداهة فجاءة، أو كان في حال تماسٍّ مع الجميل والرائع من مشاهد العالم، أو من إبداعات إنسانه، في الفن والثقافة والمدنية عامة.

ومنذ أن جعل اليونان من الكمال مثالًا للانسجام، فإن امتزاج قيم الحق والخير والجمال، أصبح يطالب الإنسان بإنتاج أفعاله على مستوى هذه القيم، كما لو كانت إنتاجات إبداعية. غير أن ثمة تاريخًا متشعبًا للتعامل مع هذه القيم، ومليئًا بالمتعارضات المفهومية والسلوكية. ولا شك أن أصل الإشكال إنما يرجع إلى سؤال الفرد عما يجعل معاناته اليومية كوقائع تتفق مع تلك القيم، أو تتعارض معها. فالفارق بين الحس والفهم، عبر أحوال الفرد كأحاسيس ومعارف أو تصورات، جعل الثقافة تقبل بتلك التمييزات بين العقل والقلب، السائدة في كلاسيكيات الحضارات الإنسانية على اختلافها. ومن هنا فإن الانهمام بالذات فُهم دائمًا على أساس كل ما من شأنه ضبط النفس كوسيلة للتحكم في «غرائز» الجسد، وصولًا إلى إخضاع تصرفات الفرد إجمالًا لأنظمة المقبول والمرفوض من السلوك إزاء الذات والآخر. وبالطبع فقد تقاسمت الأخلاق والتربية بالنسبة للنفس، والصحة والرياضة بالنسبة للجسد، مجموعة «التوجيهات» التي يخضع لها الأفراد في كل مجتمع؛ ولكن دون أن يتكوَّن ثمة وعي خاص بأقنومة الانهمام بذات النفس؛ تلك الأقنومة التي كانت تقع خارج مساحات كل تلك العلوم التقييمية، ولكنها تستخدمها لصالح مفهمتها الخاصة، دون أن تتحد بجملة أو مفردة منها بصورة نهائية.

وقد يمكن تشبيه الانهمام الذاتي باللحظة النقدية التي تستيقظ فجأة على هامش الأنظمة المعرفية والسلوكية السائدة؛ لتعيد النظر في ثوابتها ودلالاتها على ضوء المحصلة الأخيرة لمؤثراتها لدى الفرد والجماعة. فتظهر المفاهيم المختلفة، وتتعالى أهداف وقيم مغايرة، ويدخل الناس في حالة من الاختلاف مع أنفسهم وواقعهم. فجأة قد يشعر المجتمع أنه ليس معنيًّا بذات القيم والأفكار التي توجهه، وأن حالات من عدم القناعة بالبداهات المرسلة قد تدفع بالفرد للانفكاك عن نمذجة معينة، كانت مستبدة بشخصه، وناظمة لشخصيته. هنا تحدث القطائع الصغرى على مستوى سلوك الأفراد، بينهم وبين أنفسهم. وقد يرى المرء ذاته يسأل عما يعنيه من حياته، وكيف له الفوز حقًّا بسعادته الخاصة. وقديمًا قيل لدى اليونان إن أصل التفلسف هو الحصول على السعادة.١٨

لكن الانهمام الذاتي هو غير الاستغراق في الهموم اليومية، أو الانصراف إلى تأمل الأهداف العظمى. إنه قد يكون لحظة نقدية، أو لحظة توقف ووعي ملحقة بالأخلاق والسياسة والمعتقدات، تريد القطع الفجائي أو البطيء أو المتردد مع المألوف والمعتاد، وكل ما هو عام وشائع ومقبول. ومع ذلك ليس الانهمام الذاتي مطروحًا على مستوى التسآل الوجودي دائمًا، بل نادرًا، وعلى مستوى القلة من أهل المعاناة والخبرة النظرية؛ فهو سؤال من الواقع اليومي البسيط الذي قد يتحول صدفة، تسآلًا وجوديًّا شاملًا، إزاء لغز العالم، ونتيجة التعارض بين الفردي والعمومي. فما إن يتجاوز الكائن صيغة الفعل ورد الفعل مع العالم حتى يصبح له شأن آخر يعبر عنه باستقلالية الفرد، وسيادة إرادته.

ولقد حاول فوكو تتبع مولد الفرد، واكتشاف نوع من تاريخانية متواقتة مع جينالوجيا هذه الاستقلالية، تلتقط من خلال تحولات علاقة الكائن مع ذاته التي تناظر الانقلاب الذي يحققه نقد العقل المحض، من علاقة الذات مع الموضوع الخارجي، إلى علاقة العقل مع حصيلة التماس بالخارج، أي ما يحصِّله من التصورات. وفي تكوينية الانهمام الذاتي يغدو الجسد هو مئونة الكائن الأولى، ليس كوسيط أو كتجسير للهوي على اللاهوي، بل كأساس ذاتي التكوين كذلك؛ فالكائن هو الحي بجسده. وقد تتلاقى وتنداح على الجسد، وفيه وحوله، توصيفاتُ الحياة والحس والوجود والثقافة. بالرغم من مركزية الجسد، فإن الاصطلاح عليه بمثل تلك التوصيفات، تجعله ثانويًّا وهامشيًّا، في حين يتشبث كل توصيف بنفسه، جاعلًا منها مرجعيةً لمفردات وسرديات تُقيمه في النهاية أيقونة معلقة لوحدها كعنوان لنص مغلق. وهكذا أصبح المطلوب هو إعادة استحضار الموصوف بعد كل توصيفاته، مختلفًا عنها ومتجاوزًا لتحديداتها؛ ذلك أن تاريخانية الجسدي قد تقدم أنظمة تحقيق اجتماعي ثقافوي، وكل منها يدَّعي استيعابًا لتكوينيته «الجينالوجية»، أو على الأقل يقدم تأويلًا يناظرها ولا يتحد معها تمامًا. ولقد ارتأى فوكو ليس أنه، الجنس، بل تاريخ الحمولات المعرفية على الجنس، كمادة لتأويل تاريخانية العلاقة الذاتية مع الجسد. صار لدينا مصطلح جديد هو الجنسانية الذي يعني الجنس عبر تأويلاته المعرفية. كذلك فإن هذه التأويلات لا تكتفي بالصياغات الثقافوية، لكنها تعكس نماذج السلوكيات المصنفة معياريًّا إلى المحظور والمسموح به، المكروه والمستحسن … إلخ.١٩
ما يصدره الوعي العام عن موجبات السلوك لا يفترض الممارسة النسخية؛ فإن للفرد طريقته الخاصة في تنفيذ الأوامر الأخلاقية. وهو ما يعنيه فوكو من عبارة الجوهر الأخلاقي: «أي الطريقة التي يتعيَّن بها على الفرد أن يكون هذا الجزء أو ذاك من نفسه كمادة أساسية لسلوكه الأخلاقي.» ذلك أن الفعل الأخلاقي ليس سلوكًا آليًّا متطابقًا بصورة تلقائية مع الهدف. فإن الإخلاص الزوجي يتطلَّب كفاحًا مستمرًّا ضد الإغراءات، والرغبات التي تدفع أحد طرفَي العلاقة للخروج أو الشذوذ عن أخلاقيات البيت الزوجي. هنالك صراع ذاتي صامت قد يتفجَّر من حين إلى آخر تحت ضروب من التوترات والانحرافات. وكذلك إن الاختلافات حول الممارسة قد ترسم كذلك «طريقة الخضوع» أي الطريقة التي يقيم الفرد بها علاقته مع هذه القاعدة، ويعتبر نفسه مقيدًا بواجب تنفيذها … فقد يمارس الفرد تلك القاعدة لأنه ينتمي إلى جماعة تتقيد بها، أو أننا «نعتبر أنفسنا ورثةَ تقليد روحي، وتقع علينا مسئولية الحفاظ عليه أو إحيائه، كما يمكننا ممارسة هذا الوفاء [الزوجي] تلبية لنداء ما، أو رغبة في طرح أنفسنا كقدوة، أو سعيًا وراء إعطاء حياتنا الشخصية شكلًا يتفق مع معايير الإبهار والجمال، والنبل أو الكمال.» وهنالك كذلك إلى جانب «طريقة الخضوع»، ذلك الجهد الأخلاقي الذي يدفع إلى ممارسة التقشف الجنسي مثلًا، والتزهد في تعاطيه، أو اتباع الوصفات الصحية، وأشكال من التصرفات والعادات في ممارسته حسب أصول صحية وطبية معينة. ذلك أن الفعل الأخلاقي ليس من الضروري أن يصوغ تأديات متماثلة بين الأفراد إلى درجة التناسخ التطابقي بينهم؛ فالأفعال الأخلاقية ليست متفقة لدى الفرد الواحد حول الموضوع الواحد في مختلف الظروف. هنالك «عيشة» وحياة خاصة بالفرد تندرج فيها تلك الأفعال، وتتباين تحت كلية المتغيرات التي تأتي بها تلك الحياة الشخصية. وقد يدعوها فوكو بغائية الذات الأخلاقية: «صحيح أن كل فعل أخلاقي ينطوي على علاقة بالواقع الذي يتم فيه، وعلى علاقة بالقانون الذي يستند إليه، لكنه ينطوي على علاقة معينة بالذات، ليست هذه العلاقة مجرد «إحساس بالذات» بل هي تكوين للنفس «كذات أخلاقية» … ليس هناك فعل أخلاقي مستقل لا يستند إلى وحدة سلوك أخلاقي معين، وليس هناك تكوين للذات الأخلاقية بلا أشكال من «التذويت»، وبلا «تزهدية» أو «مران ذاتي» يدعمه. لا يمكن فصل الفعل الأخلاقي عن هذه الأشكال من التأثير على النفس التي لا تقلُّ اختلافًا بين أخلاق وأخرى عن نظام القيم والقواعد والمحظورات.»٢٠ فما يقترحه الفيلسوف ليس تحليلًا مجردًا للعلاقة مع الجسد، بل إنشاء لتاريخ يخص الممارسة الأخلاقية. وسوف يكون أشمل من العروض الأنتربولوجية للعادات؛ لأن المسرح الحقيقي للفعل الأخلاقي إنما يجري في كل تلك المساحة الغامضة من الذات وعلاقتها مع نفسها. إن التذويت ليس استبطانًا نفسيًّا لكنه «تاريخ القوانين [أو المدونات القانونية] فهو الذي يحلل مختلف أنظمة القواعد والقيم السارية المفعول في مجتمع أو جماعة معينة، والمراتب، أو أجهزة الإكراه التي تروج لها، والأشكال التي يتخذها تعددها وتبايناتها، أو تناقضاتها. وأخيرًا تاريخ الطريقة التي يدعى فيها الأفراد إلى تكوين أنفسهم كذوات للسلوك الأخلاقي: هذا التاريخ هو تاريخ النماذج المقترحة لإقامة العلاقات مع النفس، وتنميتها، وللتأمل في النفس، ولمعرفة النفس وامتحانها، وكشف خباياها ذاتيًّا، وللتغيرات التي يحاول المرء إحداثها في نفسه. هو ذا ما يمكن تسميته تاريخًا ﻟ: الأخلاق والتزهدية، مفهومًا كتاريخ لأشكال التذويب الأخلاقي، والمران الذاتي المخصص لتأمينها.»٢١ والحقيقة فإن مثل هذه النوعية من التاريخ إنما تقدِّم سردًا واقعيًّا وتحليلًا موضوعيًّا لأخصِّ أسرار الحياة الفردية التي جرت العادة على إهمالها، وإدراجها تحت الأنماط البارزة لتطور السلوكيات العامة.

بالرغم من أن لفظ التذويت يتضمَّن شيئًا من الجهد الواعي أو الإرادوي، فإن الملاحظ أن الفرد يلقى نفسه متورطًا بذات لا يعرفها تمامًا، وما اختارها، ولا عمل جاهدًا على صياغتها؛ فالجانب الأهم من الذات قد لا يكون من مسئولية صاحبها. ولهذا السبب فإن كتابة تاريخ للتذويت إنما تعني كذلك اكتشافًا موضوعيًّا لنماذج من التعامل مع مجهول الذات؛ فهو تاريخ فلسفي إن صح القول، بالرغم من أن مبتكره الأصلي، فوكو، لم يطلق عليه مثل هذه التسمية؛ فالتاريخ الفلسفي بالنسبة للمعرفي الحداثوي، لا يقتصر على عرض زماني للأفكار فحسب، ولا بد من ابتكار الأحوال التي تعيشها الأفكار أو استعادتها حديثًا. وفي هذا المجال من استعراض ما يعنيه نوع من تاريخ الانهمام بالذات، فإن بوتقة الحدث، أو التجربة إنما يشكلها الجسدي. وأوضح وأخفى تجسيداته إنما تلتقطها الترميزيات الجنسانية، لكنها تجسيديات كانت منضبطة دائمًا بالأجهزة التقشفية أو التزهدية بالأحرى، من حيث إنها تهدف إلى عَقْلَنة ممارستها بتنظيم أشكال تحقُّقها، وتحديد المقبول والمرفوض في معاناتها والمران عليها في وقتٍ واحد؛ فالجسدي والانضباط توءما الثنائية التي اشتغلت عليها الأخلاقويات، والانتظامات الاجتماعية، وحتى القانونية. والخلاصة لم يكن ليترك الجسدي وشأنه أبدًا في ظل أية حياة اجتماعية لأية فئة إنسانية، من بداية التمدُّن وما قبله.

هنالك حيز جد واقعي يسمى أداء اللذات واستعمالها. وهو في حد ذاته لا يدعو إلى إنشاء علم خاص به فحسب، لكنه يشكل تحديًا يوميًّا للسؤال الفلسفي. فليس ثمة انهمام بالذات لا تحركه إغراءات اللذات، ولا تحدد إداءَه طرقُ تنفيذ هذه اللذات وتحققها النفسي والعياني، بل إن الانهمام هو ذروة تمتُّع الذات بنفسها، وذلك في مآل كل تعاطٍ لذيٍّ تنقضي آنيته، وهذا التعاطي هو ما يخلف أصداءه في الحس بعد انمحاء الأحاسيس. على أن يفهم الحس، كما بيَّنا، معادلًا مادويًّا لاستشعار الوجود الذاتي. إنه ما يطلق إشارات النفس نحو ذاتها، وليس إشارات الجسد فحسب نحو الآخر؛ فالأحاسيس تصلني بالعالم، أما الحس فإنه يصلني بنفسي. والانهمام الذاتي لا ينصبُّ فقط على تلذيذ الجسد ذاتيًّا، وتخليقه اجتماعيًّا، أو ابتكار المعادلة الصعبة دائمًا بين الجهدَين هذَين. ذلك هو عمل الإرادة التي تمنع وتقبل، تختار وتقصي. فإن تصنيف اللذات بين عقلية وجسدية، فردية وجماعية، عالية ومنحطة، دائمة المدى أو قصيرة، باعثة على آلام نفسية بعدها (كالإرهاق أو الندم والتحسر والقنوط … إلخ.) أو إنها موقظة لأحلام يقظة جديدة، وفاتحة على آفاق تخييلية غنية، أو باعثة على التصدع الداخلي، والتصادم مع القيم والمؤسسات … كل ذلك يدخل في معيارية الجنسانية، ويخصبها بما لا يحد من أدبيات المعرفة، وروائع الفن، كما أن لها محركاتٍ تتخطَّى الحصائل الآنية والفردية، وقد تتداخل مع العوامل الأخرى الموضوعية في صناعة الحدث العام والاختلاف التاريخي.

١  الدال لغوي Le signifiant يميل إلى دوال لغوية، قلما تنكسر سلسلتها على انبثاقة جسدية — مطمورة. تلك هي استحالة تحليل نفسي يثير مخيالًا أدبيًّا أكثر مما يجترح شفاءً للنفوس المعذبة، كما هي أسطورة لاكان نفسه المنطفئة بانطفاءة جسده.
٢  G. Deleuze: La logique du sens, p. 236.
٣  لعل ذلك هو السبب في اعتبار الوثنية تجسيدًا يخل أو ينتقص من الجوهر الإلهي الخالي من المادة والمترفع عن الشخصنة.
٤  المقصود هنا هو أن الجسدي رغم ثبات صفاته المادية والعضوية نسبيًّا، إلا أنه يتناسخ عن نفسه صورًا وملامح كثيرة مختلفة، حسب أحوال الفرد الذي يحمله، ويتبدَّى من خلاله. فكما أن النفسي في حال من المتغيرات الدائمة، كذلك الجسدي. والممثل البارع يستطيع أن يلصق بنفسه شخوصًا لا تتناهي، وأجسادًا تغدو من «هويات» جسديته الأصلية. وقد أبدع دولوز في مفهمة السينما عبر الصورة الحركية التي توحد بين الجسدي والتعبيري المتغير: G. Deleuze: L’image-Mouvement, Cinéma.
٥  يعود إلى ميشيل فوكو اصطلاح الانهمام بالذات كفن بشَّر به في كتابه الثالث المدرج مع الكتابَين الأول والثاني المدرج تحت العنوان المشترك تاريخ الجنسانية، وقد جرت ترجمته ضمن الأعمال الكاملة من قبل م. إ. ق.
M. Faucault: L’histoire de la séxualité, la souci de soi III.
٦  لوي ديمون يعتبر الفردية نتاج الحداثة، وهي تزدهر بقدر ما تتضاءل جماعية الكتلة، غير أنه لا يفصل بوضوح بين الأنانية والفردية، كأنها نتاج طبيعي للتفردن.
Louis Dumont: Essais sur l’individualisme, une perspective anthropologique sur l’idéologie moderne, Seuil.
٧  يحاول آلان رينو أن يُنشئ نظرية استقلالية الفرد على مفهوم للذات متجدد، متحرِّر من أقنوم الذاتوية كما سعى هيدغر إلى تفكيكه. وينطلق رينو من هيدغر وديمون معًا.
Alain Renaut: L’ère de l’individu, N.R.F.
٨  قد يرجع الفضل في إبراز حضور الجسدي في النص الفلسفي المعاصر إلى الفينومينولوجيا بصورة عامة، وإلى ميرلوبونتي بشكل خاص في كتابه الكلاسيكي المعروف حول: فينومينولوجيا الإدراك.
Merleau-Ponti: Phénoménologie de la perception, N.R.F., Gallimard.
٩  الحس هو غير الحساسية La sensibilité؛ لأنها قد تعني في «نقد العقل المحض» الحصيلة الوظيفية للحواس، المتأتية عن الحدوس الحسية المرتبطة بمعطيات الأشياء في العالم الخارجي، لكن الحس في العربية، وهو قريب من لفظه الإغريقي كذلك، قد يشمل حصيلة العقل المحض بوظائفه المعرفية، وتوجهه حسب الآمر الأخلاقي، وتحسسه الجمالي. إنه الوعي بصورة كلية، الرابط بين طرفَي العملية المعرفية أي الأنطو-لوجي. ولقد دأب ألان باديو على التلميح إلى نقص الحس من مفهوم العقل عند كانط عامة المشتغل فقط على بناء الأحكام. انظر كتابه الأخير: Alain Badiou: Court traité d’ontologie transitoire, pp. 152–164, Seuil.
١٠  الحس هو غير الحساسية La sensibilité؛ لأنها قد تعني في «نقد العقل المحض» الحصيلة الوظيفية للحواس، المتأتية عن الحدوس الحسية المرتبطة بمعطيات الأشياء في العالم الخارجي، لكن الحس في العربية، وهو قريب من لفظه الإغريقي كذلك، قد يشمل حصيلة العقل المحض بوظائفه المعرفية، وتوجهه حسب الآمر الأخلاقي، وتحسسه الجمالي. إنه الوعي بصورة كلية، الرابط بين طرفَي العملية المعرفية أي الأنطو-لوجي. ولقد دأب ألان باديو على التلميح إلى نقص الحس من مفهوم العقل عند كانط عامة المشتغل فقط على بناء الأحكام. انظر كتابه الأخير: Alain Badiou: Court traité d’ontologie transitoire, pp. 152–164, Seuil.
١١  Merleau-Ponty: Le visible et l’invisible, pp. 300–316, Tel-Gallimard.
١٢  إن الكلام عن تشظِّي الذات شغل محورًا رئيسيًّا في فكر ما بعد الحداثة، لكن بول ريكور سعى إلى الخروج من سلبية هذه الموضوعة، كما هي شائعة في أصداء التفكيك، وخاصة عند دريدا، والشروع في تلمح معالم إيجابيتها، وخاصة في واحد من أهم كتبه، وهو:
Paul Ricœur: Soi-même comme un autre, Seuil.
١٣  تعتبر تأويلية لاكان للفرويدية، ومحوريتها حول مسألة اللاشعور، قائمة خاصة على إيجاد الصيغة الحركية التي تستعيد الجسدية المغيبة أو المريضة؛ وذلك باكتشاف الدال. وهي اللغة التي عبر دوالها، إنما تنشر عروضًا لفظية، مليئة بالرموز؛ فاللغوي لا يناظر الجسدي فحسب، ولكنه يعيد فعل التجسيد ترميزيًّا، بما يجعل خطاب اللاشعور أقرب إلى نوع من التفكر الافتراضي virtuel فحسب.
١٤  تعتبر تأويلية لاكان للفرويدية، ومحوريتها حول مسألة اللاشعور، قائمة خاصة على إيجاد الصيغة الحركية التي تستعيد الجسدية المغيبة أو المريضة؛ وذلك باكتشاف الدال. وهي اللغة التي عبر دوالها، إنما تنشر عروضًا لفظية، مليئة بالرموز؛ فاللغوي لا يناظر الجسدي فحسب، ولكنه يعيد فعل التجسيد ترميزيًّا، بما يجعل خطاب اللاشعور أقرب إلى نوع من التفكر الافتراضي virtuel فحسب.
١٥  كان أمل هيدغر منذ كتابه التاريخي «كانط ومشكلة الميتافيزيقا» ألَّا يختلف مع الثورة النقدية الكبرى التي حققها كانط، بقدر ما يعيد تأويلها ويتجاوزها إلى تأسيس العلاقة مجددًا بين الحياة والوجود، أو بين الكائن الفعلي والكينونة؛ فالنقدية تسمح بفصل الميتافيزيقا التقليدية، وإنشاء أنطولوجيا لا تهمل المتناهي، بل تستمد منه صفاتها الواقعة. راجع بحثنا السابق: الكوني ذلك المجهول.
١٦  G. Deleuze: La logique du sens, ibid..
١٧  G. Deleuze: Mille Plateaux, pp. 1–159.
١٨  إن ارتباط الحكمة بالسعادة لدى الإغريق لم يمنع من جعل الحكمة كمعرفةٍ هدفًا لذاتها. وتلك هي فضيلة «الاعتدال» في التعاطي مع لذائذ العيش ودفع الآلام والشرور، كما حاولت أن تؤكده الأفلاطونية أبدًا.
١٩  M. Foucault: Histoire de la sexualité, 3 Le souci de soi.
انظر الترجمة العربية: الأعمال الكاملة لميشيل فوكو - مركز الإنماء القومي - بيروت/باريس.
٢٠  الترجمة العربية: M. Foucault: L’usage des plaisirs.
٢١  الترجمة العربية: M. Foucault: L’usage des plaisirs.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥